باختصار، كل ما يتجه بأي شكل إلى الرغبة أو النفور فهو صالح للتدريب. أما إذا كان متجها إلى مجرد التظاهر والادعاء فهو إنما يكشف عن إنسان يهفو إلى الأشياء الخارجية ولا يرمي إلا إلى انتزاع إعجاب المشاهدين. لذا فقد حق لأبولونيوس أن يقول: «إذا كنت تريد أن تدرب نفسك من أجل مصلحتك الحقيقية وجف حلقك من الحر، فاستف قبضة من الماء البارد ثم اتفله ولا تقل (لأحد) شيئا» (المحادثات، 3-12). (17) العرافة (الكهانة) «من خلال الاهتمام المفرط بالعرافة يتخلى كثير منا عن كثير من الواجبات.
فأي شيء يمكن للعراف أن يراه غير الموت أو الخطر أو المرض أو أشياء من هذا القبيل؟ فإذا كان من واجبي أن أعرض نفسي للخطر من أجل صديقي، أو حتى أموت من أجله، فما حاجتي إذن إلى العرافة؟ أليس لدي في داخلي عراف أنبأني بطبيعة الخير والشر وبين لي أمارات الاثنين؟ ما حاجتي إذن إلى استشارة أحشاء الضحايا أو زجر الطير؟ ولماذا أستسلم حين يقول لي: «الطالع في صالحك»؟ فهل هو يعرف ما هو في صالحي؟ هل يعرف ما هو الخير؟ وإذا كان قد عرف أمارات الأحشاء تراه أيضا عرف أمارات الخير والشر؟
أنبئني أيها العراف ما طالعي، حياة أم موت، فقر أم غنى؟! أما هل هذه في صالحي أو في غير صالحي فلا أنوي أن أسألك ، لماذا لا تعطينا رأيك في مسائل النحو، لماذا تقصره على المسائل الخلافية؟ لذا فقد كان وجيها رد تلك المرأة التي اعتزمت أن ترسل في سفينة مئونة شهر إلى جراتيلا في منفاها فقيل لها: إن دوميتيان سوف يصادر ما أرسلته، فما كان جوابها إلا أن قالت: «لخير لي أن يصادر دوميتيان كل شيء من أن أتخلى عن إرساله.»
ما الذي يلجئنا إذن إلى العرافة؟ إنه الجبن، الرعب مما سوف يحدث؛ لذا نتملق العراف كما لو كان هو مصرف الأمور؛ ومن ثم نتيح للعرافين أن يتلاعبوا بنا.
وماذا ينبغي علينا أن نفعل إذن؟ أن نذهب إلى العراف دون رغبة أو نفور، مثلما يسأل عابر السبيل عن الطريق الصحيح إلى وجهته لكي يمشي فيه، سواء كان الطريق الأيمن أو الأيسر، فبحسبه أنه الطريق الصحيح، ومثلما نفتح أعيننا لنتلقى انطباعات الأشياء كما تتمثل لنا لا كما نتمنى أن تتمثل، فلنقنع بما اختاره الله لنا، فليس ثم ما هو أفضل مما أراده الله» (المحادثات، 2-7). (18) دفع الثمن «هل فضل عليك غيرك في دعوة إلى وليمة أو في تكريم أو في اجتماع مجلس؟ إذا كانت هذه الأشياء خيرا فإن عليك أن تغبط من نالها. أما إذا كانت شرا فلا تحزن لأنك لم تنلها. واعلم أنك لا يمكن أن يسمح لك بمنافسة الآخرين في الأشياء الخارجية دون أن تستخدم نفس الوسائل للحصول عليها. وإلا فكيف يمكن لامرئ لا يتردد على أبواب أي كان ولا يلازمه ولا يتملقه أن يحظى منه بما يحظى به من يفعل هذه الأشياء؟ إنه لمجحف وجشع إذا كنت تتخلى عن دفع الثمن الذي تباع به هذه الأشياء وتريد أن تحصل عليها بالمجان ... أتظن أنك لم تفز بشيء في مقابل العشاء الذي فاتك؟ بل فزت حقا؛ فزت بإعفائك من تملقك من لا تريد أن تتملقه، وإعفائك من تحمل فظاظة الحجاب على بابه» (المختصر، 25). «كلما عن لك أي مأخذ على «العناية» تأمل الأمر وسوف تجد أنه جرى وفقا للعقل. - «حسن، ولكن الآثم له أفضلية.» - فيم؟ - «في المال.» - ها هنا ينبغي أن يفوقك؛ لأنه مداهن وقح متيقظ. أي عجب في ذلك؟ ولكن انظر هل تراه يفوقك في الأمانة والشرف؟ ... ذات يوم قلت لرجل كان ينفس على فيلوستورجوس ثروته الكبيرة: «أترضى أن تنام مع سورا؟» فقال: «معاذ الله، ولا أراني الله هذا اليوم.» فقلت: «لماذا إذن يغضبك أن يتلقى ثمن ما يبيعه؟ وكيف تدعوه سعيدا باكتساب تلك الأشياء بطريقة ممقوتة ومغثية لك؟ وماذا ارتكبت العناية إذا تعطي ما هو أفضل لمن هو أفضل؟ أليس أفضل لك أن تكون شريفا من أن تكون غنيا؟» - «بلى.» - لماذا أنت غاضب إذن أيها الرجل ما دمت تحظى بالأفضل؟ تذكر دائما حقيقة أن للأعلى ميزة على الأدنى في ذلك الشأن الذي فيه علا، تذكر ذلك ولن تجد في نفسك غلا أبدا. - «ولكن زوجتي تسيء معاملتي.» - حسن. إذا سئلت ما الخطب فأجب: «زوجتي تسيء معاملتي.» هل ثمة أي شيء آخر؟ - «لا شيء.» - «والدي لا يعطيني شيئا.» ولكن أن تسمي هذا شرا فثمة إضافة خارجية وزائفة قد تم إقحامها. لهذا السبب ليس علينا أن نتخلص من الفقر، بل علينا أن نتخلص من فكرتنا عن الفقر ولسوف نكون بخير حال» (المحادثات، 3-17). (19) الغرور مرحلة على طريق النضج «قليل من الفلسفة يؤدي إلى الغرور ... كثير من الفلسفة يؤدي إلى التواضع.
ثمة دائما خطر بأن يمر طالب الفلسفة خلال رحلة التلقي بمرحلة من المراهقة الفلسفية تعلوه فيها سيماء التكبر والغرور، فيتصعر خده ويعلو حاجبه! إنها أزمة نمو، وعكة من تعسر النضج. إنه «احتباس أفكار غير مهضومة»، لا سبيل إلى التعافي منه إلا بمزيد من الفهم ... مزيد من الفلسفة.
يعبر إبكتيتوس عن هذه الأزمة فيتحدث بلسان طالب يمر بها قائلا: «لعل البعض قائل: من أين أتى هذا الزميل بكل هذا الكبر وهذه الغطرسة.» أصغ، إنني لم أكتسب بعد تلك الرصانة اللائقة بفيلسوف؛ وذلك لأني لم أتمكن بعد مما تلقيته، ولم يطمئن قلبي لما تعلمته وتقبلته، ما زلت خائفا من ضعفي، أمهلني أكتسب الثقة ولسوف ترى مني المظهر والسيماء اللائقين. سترى التمثال بعد أن يكتمل ويتم صقله، ماذا تظن بي؟ عجرفة وعتوا؟ حاشا لله! وهل تأنس في تمثال زيوس في الأولمب غطرسة وعلو حاجب؟ كلا، إن نظرته ثابتة كأنه يهم بقوله: «نافذة هي كلمتي ولا معقب لها.» هكذا سأريك نفسي: مخلصا متواضعا نبيلا نقيا من الرنق، ماذا، ومخلدا بعد، ومحصنا من السن والمرض؟ كلا، غير أني أمرض وأموت مثلما يليق بالألوهة التي بداخلي. هذا بقدرتي وذاك بوسعي، وغير هذا ليس بقدرتي ولا بوسعي، سأريك عضلات فلسفية مفتولة: إرادة لا تخيب، ومكاره لا تقع، سعيا حميدا، وعزما صادقا، وحكما حصيفا، هذا ما سوف تراه» (المحادثات، 2-8).
अज्ञात पृष्ठ