شَدِيدَة الْبرد، فَجعلت الرّيح تقلب أبنيتهم١، وتكفأ٢ قدورهم.
فَلَمَّا اتَّصل برَسُول اللَّه ﷺ اخْتِلَاف أَمرهم بعث حُذَيْفَة بْن الْيَمَان ليَأْتِيه بخبرهم، فَأَتَاهُم واستتر فِي غمارهم، وَسمع أَبَا سُفْيَان يَقُول: يَا معشر قُرَيْش ليتعرف كل امريء مِنْكُم جليسه. قَالَ حُذَيْفَة: فَأخذت بيد جليسي وَقلت: من أَنْت؟ فَقَالَ: أَنا فلَان. ثمَّ قَالَ أَبُو سُفْيَان: يَا معشر قُرَيْش إِنَّكُم وَالله مَا أَصْبَحْتُم بدار مقَام، وَلَقَد هلك الكراع٣ والخف وأخلفتنا بَنو قُرَيْظَة ولقينا من هَذِه الرّيح مَا ترَوْنَ، مَا يسْتَمْسك لنا بِنَاء وَلَا تثبت لنا قدر وَلَا تقوم [لنا] ٤ نَار، فارتحلوا، فَإِنِّي مرتحل. ووثب على جمله، فَمَا حل عقال يَده٥ إِلَّا وَهُوَ قَائِم*. قَالَ حُذَيْفَة: وَلَوْلَا عهد رَسُول اللَّه ﷺ إِلَى إِذْ بَعَثَنِي، وَقَالَ لي: "مر إِلَى الْقَوْم فَاعْلَم مَا هم عَلَيْهِ وَلَا تُحْدِثْ شَيْئا" -لقتلته بِسَهْم. ثمَّ أتيت رَسُول اللَّه ﷺ عِنْد رحيلهم فَوَجَدته قَائِما يُصَلِّي، فَأَخْبَرته، فَحَمدَ اللَّه.
وَلما أصبح رَسُول اللَّهِ ﷺ وَقد ذهب الْأَحْزَاب رَجَعَ٦ إِلَى الْمَدِينَة وَوضع الْمُسلمُونَ سِلَاحهمْ، فَأَتَاهُ جِبْرِيل ﷺ فِي صُورَة دحْيَة بن خَليفَة الْكَلْبِيّ على بغلة عَلَيْهِ قطيفة ديباج فَقَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّد إِن كُنْتُم قد وضعتم سلاحكم فَمَا وضعت الْمَلَائِكَة سلاحها، إِن اللَّه يَأْمُرك أَن تخرج إِلَى بني قُرَيْظَة وَإِنِّي مُتَقَدم إِلَيْهِم فَمُزَلْزِل بهم.
فَأمر رَسُول اللَّهِ ﷺ مناديا يُنَادي فِي النَّاس: "لَا يصلين أحدكُم الْعَصْر إِلَّا فِي بني قُرَيْظَة". وَكَانَ سعد بْن معَاذ إِذْ أَصَابَهُ السهْم دَعَا ربه، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِن كنت أبقيت من حَرْب قُرَيْش شَيْئا فأبقني لَهَا، فَإِنَّهُ لَا قوم أحب إِلَيّ أَن أجاهدهم من قوم كذبُوا رَسُولك وأخرجوه، اللَّهُمَّ إِن كنت وضعت الْحَرْب بَيْننَا وَبينهمْ فاجعلها لي شَهَادَة وَلَا تمتني حَتَّى تقر عَيْني من بني قُرَيْظَة.