أدر ذكر من أهوى ولو بملامي
فإن أحاديث الحبيب مدامي
وعلى جمال اللحن والغناء تابعته بقلب غافل مكدود. ولما فرغ من الأداء قال: لحنت هذه القصيدة في ليلة واحدة، وأذكر أنها كانت ليلة عيد الفطر. وكان هو ضيفي طوالها، وهو الذي اختار لي القصيدة، وكان يجلس حينا بمجلسك هذا، وحينا يلاعب أولادي كأنه أحدهم، وكلما غلبني الفتور أو استعصى علي الإلهام لكمني مداعبا في صدري وضاحكني، فيجيش قلبي بالنغم وأواصل العمل حتى اكتمل لي أجمل لحن صنعته.
فتساءلت في دهش: أله في الطرب؟ - هو الطرب نفسه، وصوته عند الكلام جميل جدا، ما إن تسمعه حتى ترغب في الغناء، وتهيج أريحية الخلق في صدرك. - وكيف يشفي من المتاعب التي يعجز عنها البشر؟ - هذا سره، ولعلك تظفر به عند اللقاء.
لكن متى يجيء اللقاء؟! ولذنا بالصمت، فعادت ضوضاء الصغار تملأ الحجرة. ومضى الشيخ في الغناء مرة أخرى، وجعل يردد: «ولي ذكرها» في ألوان من طبقات النغم ومحاسنه حتى رقصت الجدران من سكرة الطرب. وأعربت عن إعجابي بكل جوارحي، فشكرني بابتسامته العذبة، ثم قمت مستأذنا فأوصلني إلى الباب الخارجي، وعندما صافحته قال لي: سمعت أنه يتردد هذه الأيام على الحاج ونس الدمنهوري، ألا تعرفه؟
فهززت رأسي بالنفي، وانتفاضة أمل جديد تدب في قلبي، فقال: هو من الوارثين، ويزور القاهرة من حين لآخر، فينزل في فندق ما، ولكنه يسهر كل ليلة في حانة النجمة بشارع الألفي.
وانتظرت الليل ثم ذهبت إلى حانة النجمة. سألت نادلا عن الحاج ونس، فأشار إلى ركن شبه منعزل لموقعه وراء عامود مربع ضخم تقوم بأضلعه المرايا في كل جانب، وهنالك رأيت رجلا يجلس إلى مائدة وحيدا، وأمامه فوق المائدة زجاجة فارغة إلى ثلثها، وأخرى فارغة تماما، وعدا ذلك لا يوجد شيء من مزة أو طعام، فأيقنت أنني حيال سكير خطير. وكان يرتدي جلبابا فضفاضا حريريا وعمامة مقلوظة، ويمد ساقيه حتى أصل العامود ناظرا إلى المرآة في ارتياح وانسجام. وقد توردت صفحة وجهه المستدير الوسيم - رغم دنوه من الشيخوخة - بحمرة الخمر. اقتربت منه في خفة حتى توقفت على مبعدة ذراعين من مجلسه، ولكنه لم يلتفت نحوي ولم يبد عليه أنه شعر بوجودي، فقلت برقة متوددة: مساء الخير يا سيد ونس!
فالتفت نحوي بشدة كأنما أيقظه صوتي من سبات، وحدجني بنظرة إنكار، فقدمت إليه شخصي معتذرا عن إزعاجه، وهممت توضيح السبب الذي جاء بي إليه لكنه قاطعني قائلا بلهجة شبه آمرة وإن لم تخل من لطف عجيب: تفضل بالجلوس أولا، واسكر ثانيا!
ففتحت فمي لأعتذر لكنه وضع إصبعيه في أذنيه، وقال: ولا كلمة حتى تفعل ما قلت.
أدركت أنني حيال سكران ذي نزوات، فقلت أسايره حتى منتصف الطريق، فجلست وابتسمت وقلت: أرجو أن تسمح لي بسؤال واحد.
अज्ञात पृष्ठ