لم يتحمل محسن الطعنات فانفجر هاتفا: لسنا سحرة! .. ألا تفهم؟!
وسرعان ما ندم على ما بدر منه. وعاد إلى القسم وهو يقول لنفسه: «الحق أني أول ضحية للمجرم!» وود لو يستطيع أن يعلن عجزه. هذا المجرم كالهواء، وحتى الهواء يترك في البيوت أثره، أو إنه مثل حرارة الجو، ولكنها أيضا تترك أثرها. وحتام تقيد الجرائم ضد مجهول؟! وطوق العباسية الفزع، وزادته الصحافة اشتعالا. ولم يعد للمقاهي من حديث غيره، جرائم الخنق ومرتكبها الرهيب المجهول، إنه خطر داهم وليس أحد بمأمن منه، وتبددت الثقة برجال الأمن، وانحصرت الشبهة في المنحرفين والمجانين باعتبارها موضة هذه الأيام. وتبين من البحث أن أحدا من نزلاء مصحة الأمراض العقلية لم يهرب. ووردت على القسم رسائل من مجهولين، ففتشت بسببها بيوت كثيرة، ولكن لم يعثر فيها على أحد ذي خطورة، وكان أكثر المصابين من الطاعنين في السن. أبلغ البعض عن شاب معروف بالهوس والشذوذ من سكان شارع السرايات، فألقي القبض عليه وسيق إلى التحقيق، ولكن ثبت أنه في ليلة مقتل اللواء كان مقبوضا عليه في قسم الأزبكية لتحرشه بفتاة في الطريق، فأطلق سراحه. ضاع كل مجهود هباء، وقال محسن في أسى: المتهم الوحيد في هذه القضية هو أنا!
هكذا كان أمام نفسه، وأمام أهل العباسية، وأمام قراء الصحف. وتطايرت إشاعات لا يدري أحد كيف تطايرت. قيل إن المتهم معروف لدى رجال الأمن ولكنهم يتسترون عليه؛ لصلته القريبة بشخصية هامة. وقيل أيضا إنه لا يوجد متهم في الحق والواقع، ولا جريمة، ولكنه مرض خطير مجهول، وأن معامل وزارة الصحة تعمل ليل نهار في الكشف عن سره. وتفشت الحيرة والبلبلة بين الناس.
ويوما - وكان قد مضى على مقتل السيدة شهر أو نحوه - أبلغ الشرطي الديدبان بقسم الوايلي أنه عثر على جثة في العطفة الملاصقة للقسم. خبر لم يسمع عن مثله من قبل. وهرع الضابط محسن عبد الباري إلى مكان الجثة، وكان بوسعه - لو أراد - أن يعاينها من نافذة حجرته، وجد جثة رجل شبه عار، متسولا عن يقين، ملقى لصق جدار القسم، وكاد يصرخ من شدة الانزعاج حين وقعت عيناه على أثر حبل الخنق حول الرقبة! رباه! .. حتى هذا الشحاذ؟! وتفحص جلبابه كأنما ثمة أمل في العثور على شيء. ودعي شيخ الحارة للتعرف عليه فقرر أنه متسول من الوايلية الصغرى، بلا مأوى، ويعرفه الكثيرون. وجرى التحقيق مجراه لا سعيا وراء أمل، ولكن تغطية للهزيمة المزرية. وسئل سكان البيوت القريبة من مكان الجريمة، ولكن أي جديد ينتظر؟ .. ولم لا يسأل المقيمين في القسم أيضا وهو الملاصق للجريمة؟! وانتشر المخبرون في مواطن الشبهات، ولكنهم كانوا يبحثون عن لا شيء، عن خيال، عن روح. وكرد فعل للحنق الذي غمر النفوس سيق المشبوهون والمنحرفون بالعشرات إلى الحجز، حتى خلت منهم العباسية جميعا، ولكن ما الفائدة؟ وزيد عدد الشرطة بالشوارع وتضاعف عددهم بالليل. ورصدت الداخلية ألفا من الجنيهات مكافأة لمن يرشد إلى القاتل الخفي. وتناولت الصحافة الموضوع بقوة مثيرة في صفحاتها الأولى. وتضخم هذا كله في نفوس أهل العباسية، حتى استحال إلى أزمة مروعة. ركبهم الفزع، وعذبتهم الأوهام، وانقلبت أحاديثهم إلى هذيان، وهجر القادر منهم حيه، ولولا أزمة المساكن وظروف المعيشة القاسية لخلت العباسية من أهلها. ولكن لعل أحدا لم يتعذب كما تعذب الضابط محسن عبد الباري أو زوجته الحبلى السيئة الحظ. وقد قالت له على سبيل العزاء والتشجيع: لا لوم عليك، هذا شيء يعجز خيال البشر! - لم يعد لبقائي في وظيفتي معنى!
فقالت بجزع: دلني على تقصيرك! - يستوي المجهود الضائع والتقصير، ما دام لا يحفظ روحا ولا يدفع أذى! - ستنتصرون في النهاية كالعادة. - أشك في ذلك، فهذا شيء خارق للعادة.
ولم ينهم تلك الليلة. ظل ساهرا يفكر، ونازعته رغبة في الهرب إلى عالم شعره الصوفي. حيث الهدوء والحقيقة الأبدية .. حيث تذوب الأضواء في وحدة الوجود العليا، حيث العزاء عن متاعب الحياة وفشلها وعبثها. أليس عجيبا أن ينتسب إلى حياة واحدة عابد الحق وهذا المجرم الضاري؟ إننا نموت؛ لأننا نفقد حياتنا في الاهتمامات السخيفة. ولا حياة ولا نجاة لنا إلا بالتوجه إلى الحق وحده!
ولم يكد يمضي أسبوعان حتى وقع حادث لا يقل غرابة عن سابقة؛ إذ سقط جسم من آخر عربة للترام رقم 33 أمام شارع عشرة آخر الليل. وأوقف الكمساري الترام، ومضى نحو مصدر الصوت، ولحق به السائق، فرأيا أفنديا ممددا على الأرض. ظنا أنه سكران أو مسطول أو عثرت به القدم، وسدد السائق نحوه بطاريته اليدوية، وسرعان ما ندت عنه صرخة، ثم صاح وهو يشير إلى عنق الرجل: انظر ...
فنظر الكمساري فرأى أثر الحبل المشهور. وارتفع صوتاهما فهرع إليهما عدد من الشرطة والمخبرين المنتشرين في الزوايا والأركان. وفي الحال تم القبض على شخصين تصادف مرورهما قريبا من مكان الحادث وسيق الجميع إلى القسم. وكان للحادث رجة فظيعة، وكان على محسن أن يبذل مجهودا عنيفا يائسا آخر للضياع. وأفرج عن أحد المقبوض عليهما؛ إذ تبين أنه ضابط جيش بملابس ملكية، وجرى التحقيق مع الثلاثة الآخرين دون أن ينتهي إلى شيء. وذاق محسن مرارة الهزيمة والخيبة للمرة الخامسة، حتى خيل إليه أن المجرم يتقصده هو بالذات بألاعيبه الجهنمية. وذكرته شخصية المجرم برجل الروايات الخفي، أو مخلوقات الأفلام السينمائية التي تهبط إلى الأرض من الكواكب الأخرى. وقال لزوجته وهو يغلي بأحزانه: من الحكمة أن تذهبي إلى بيت والدك بالهرم، بعيدا عن هذا الجو المشحون بالعذاب والرعب.
لكنها تساءلت في احتجاج: أليس من المخجل أن أتركك على هذه الحال؟
فقال وهو يتأوه: ليتني أجد سببا وجيها لإلقاء اللوم على نفسي، أو على أي من معاوني!
अज्ञात पृष्ठ