إن كلماته وصوته ولهجته أصابتها بشل حقيقي لا مجازي، فلم تقو على الدنو منه إذ كانت لا تستطيع حراكا، واعتقل لسانها، ونضب الكلام من شفتيها كما يمسح عنهما الريق بمنديل.
فترنو إليه خرساء متشنجة الأعصاب بما قد تملكها من الرغبة في الانطراح تحت قدميه، وما كان يحجزها عن ذلك من تلك القوة الخفية التي لم تكن تدرك من سرها إلا كما تدرك من سر ما يبهر النائم، ويأخذ بكظمه عند غشيان ما يسمونه «الكابوس».
هذه الحال التي عرتها إذ ذاك لم تكن إلا النتيجة الطبيعية لغرائزها وشيمها وأخلاقها وأسلوب تربيتها وعيشتها، وسجية حيائها وحشمتها وضبطها لنفسها، لقد كانت أشد حياء وحشمة من أن تطرح نفسها على قدمي رجل زاهد فيها غير حافل بها، وكانت عاصفة شهوتها الثائرة تحاول أن تنسف حصن هيبتها الحصين فتعجز، وطوفان ولوعها الطامي يريد أن يحطم صخرة جبنها الصلدة فلا يقوى.
فهي ترنو إليه ونفسها مغمورة في لجة أجاج من الألم المر، وكأن جملة قواها الحيوية تسحق في رحى العذاب والألم. ففي غمرة هذا العذاب الأليم حيث كانت تحس أن كل عصب من أعصابها يرض ويحطم، لاحت على شفتيها الراجفتين ابتسامة ضعيفة، ثم قالت: «ما أمهرك بتشريح الأجسام الحية! أي مشرح حاذق كنت تكون لو اتخذت الطب مهنة!»
يتمشى إصطفيان في الحجرة إقبالا وإدبارا، وصدى جملة الفتاة الأخيرة يرن في أذنيه، ولا يكاد يفهم له معنى من شدة الهياج والانفعال، ثم يناجي نفسه سرا: «ما أعجب شأن هذه الفتاة المدهشة! ماذا تريد مني؟ وماذا أستطيع أن أصنع لها؟ إنها لتعلم أني لا أستطيع الآن أن أعدها شيئا؟ ولكن ما أطمح خيالها وما أبعد مرمى أمانيها! على أني لا أحفل ولا أبالي، فسأنالها يوما ما، ولكن لا ثمرة في إطالة الكلام عن هذا الشأن الآن.»
انطلقت إيزابلا من دار إصطفيان، وما هي بتلك المخلوقة العاقلة المسئولة عن أعمالها؛ فإن جهازها العصبي الذي أوهنه طول محاربة الشهوات ومكافحة الأميال والنزعات الشهور العديدة، وإدمان الأرق والسهاد الليالي المتوالية الطوال، تحطم الآن وتهدم حتى لا يرجى صلاحه.
وإن عبء غرامها الفداح لما ارتد الآن مقذوفا به على روح الفتاة صدم عقلها صدمة أخلت ميزانه وقوضت أركانه، لقد كان ذهنها وقادا وإن رقة شعوره وحدة إحساسه التي هي مصدر ذلك التوقد قد عادت الآن شر آفة له ومصيبة عليه.
لقد كان مبهم الظن وملتبس الحدس والتخمين عن نية الفتى وقصده نحوها يقطع نفسها حسرة ولهفا، فما بالك باليقين وقد بدا لها الآن ساطعا مشرقا! لقد أيقنت الآن أنه يرفضها رفضا، فجعلت تقول لنفسها وتردد: «إنه لا يعني بي ولا يحفل.» وفي أذنيها يرن صدى ضحكاته القاسية الأليمة.
لقد مات غرامه بها، إن إيزابلا لا تشك في أن ذلك الغرام قد كان مرة - كما دلها على ذلك ما كان يرشقها به من تلك النظرات الحارة، وضغطات يده على يدها كلما وجد السبيل إلى التلامس، وأصيبت الفرصة - أم كان ذلك كله حلم حالم؟
وعلى أية حال فسواء كان يحبها أو لا يحبها قبل اليوم، فلقد علمت أنه الآن لا يحفل بها ولا يعنى، إنها لا تجد غير ذلك تأويلا لكلماته القاسية ونظراته النابية.
अज्ञात पृष्ठ