डुमुक बिलयात्शु
دموع البلياتشو: مجموعة قصصية تنشر لأول مرة
शैलियों
وتحرك في سرعة الفهد المتوثب نحو الباب بينما تتخايل صورة بازيكليس أمام عيني وتراودني العبارة التي طالما رددتها وسمعها مني الناس وإن لم أقو على النطق بها أمامه: وطني هو الفقر والاستغناء، وطني هو احتقار الشهرة والثروة والقوة والجاه، وطني هو كل بيت وكل ...
انتزعت نفسي بقسوة وعنف من الخواطر والصور التي تزاحمت عليها، وبدأت أفيق على أصوات الأقدام التي تصعد الدرب الحجري الصغير، والسيوف والدروع والأسلحة التي تصلصل كصوصوة عصافير مشتبكة في قتال، ولم أكد أتحرك كالملهوف نحو هيبارخيا المتكومة في الركن الكثيف الظلال حتى وجدته يقبل مسرعا ويندفع نحوي ويضمني بقوة إلى صدره، هجم علي فجأة فلم أجد أنفاسي ولم أستطع التلفظ بكلمة واحدة: سامحني يا أبي، سامحني! لم أجد أستطع أن أقبلك أمامه! معذرة، معذرة يا أمي، أين أنت يا هيبارخيا الحكيمة؟ وقبل أن ترفع وجهها أو تفتح عينيها المحمرتين ألقى نفسه على صدرها وأخذ يغمرها بالقبل وهو يهتف في لهفة: لا وقت للبكاء يا أمي، سوف أعود، سوف أعود.
وقبل أن نفيق على المعجزة كان قد غادرنا ولحق بالموكب الصغير، آه يا ولدي بازيكليس! هل شعرت بكل الأحزان تتجمع في شهقة واحدة؟ هل فكرت فينا يا ولدي؟ يا ولدي الضائع المسكين! •••
تعال، تعال ولا تتردد، ها أنت قد استمعت إلي طويلا ولم تتكلم، وتكلمت أنا كثيرا ولم أترك لك فرصة للكلام، أم تراك تحب الفعل أكثر من تحريك اللسان؟ هيا إذن للقيام بمهمتك، ستجدني كما قلت لك على أتم استعداد. وصيتي؟! نعم نعم، كنت أكتبها قبل أن أحس بخطواتك، هيبارخيا الحبيبة أوصتني وألحت علي، وكل شيء بعد زيارة البطل الرائع المخيف يحرك يدي بالقلم الذي هجرته وهجرني من زمن بعيد، لماذا لا تظهر من خلف الباب أو النافذة أو الشجر أو السحب أو الضباب؟ أتريد أن تعرف ما حدث؟ •••
عاودتني آلام الصدر والأمعاء والساقين بعد ذهاب بازيكليس. كنت لا أكف ليل نهار عن السؤال الذي استعصى على أي جواب: لم تخليت عنا يا ولدي؟ هل خجلت أن تنسب إلينا؟ أصدقت أننا كلاب كما ينعتنا الصبية والأثرياء والأقوياء والبلهاء والثرثارون؟ لماذا لم تحس بنفسك أننا نمثل دور الكلاب لنخرج إخوتنا في البشرية من حظائر الكلاب الكبيرة والصغيرة التي يتمرغون داخلها في وحل اللذة والترف والصلف والغرور؟ أكان عسيرا عليك أن تشعر بخفق قلوبنا التي ترتعش بنبض قلوب الأشياء؟
وواصلت هيبارخيا جولاتها اليومية وبدأت أواصل جولاتي. كان الإعصار يعلن عن نفسه في ضجيج المدينة وعجيج المواكب وزعيق الأبواق والطبول وصيحات البشر التي أدرت لها ظهري كما أدرته لكل شيء، وخجلت أن أبقى قعيد الكوخ بينما تقوم هيبارخيا بتقديم العون والنصح والفهم في الشوارع والحارات البائسة والقرى والتجمعات القريبة والبعيدة.
ومضيت إلى الأيكة وأنا أقول لنفسي: لا بد أنهم يفتقدونني، وبنظرة واحدة من عيني الكليلة أدركت أنها خاوية كالخرابة التي تحيط بها، وما هي إلا لحظات لم تتسع لرياضتي الروحية حتى رأيت شبحا يتدحرج نحوي، وعندما اقتربت عرفت فيه أحد الفاضيين الوقورين اللذين خلعا مسوح القضاء ودخلا في رقع الزهاد والنساك. قال وهو يغالب اليأس والضجر ويتلفت حوله ممتقع الوجه كابي النظرات: جئت أودعك وأحمل لك توديع رفاقي، هذا زمن آخر. قلت وأنا أداعب عصاي وأنكث بها التراب: سمعت هذا من قبل، قال وهو ينقل خطواته وينبهني لأصداء الضجيج المتصاعد مع سحب الغبار من المدينة: زمن الإعصار، هيا يا صاحبي فعظامنا لا تتحمل عصف الريح وبردها القارص. أطرقت برأسي وسكت، ورأيته وهو ينحدر على الطريق الهابط إلى المدينة ويغيب ظله في ظلال الغروب الزاحفة، وأخذت أقلب طرفي في السماء والنجوم التي بدأت تعتلي سمت الأفق الساكن الصافي وقلت لنفسي وأنا أفكر في هيبارخيا الحبيبة: ليكن البشر قد تغيروا فهل يتغير الزمان والمكان؟ وإذا كان الإعصار يجرف كل شيء ويأتي بجيل غير هذا الجيل فهل سيستغني البشر أبدا عن التغيير؟
ونهضت كأني كومة أنقاض تتعثر وسط حطام وخراب، ولم أكد أبلغ منعطف الطريق المؤدي إلى الدرب الحجري الهابط نحو الكوخ حتى ظهر كذئب جائع انشقت عنه جدران البيوت الصامتة في الحارة الصامتة، قال كأنه كان ينتظرني: ألم أقل لك؟! هذا زمن آخر غير زمانك وزماني! مددت الخطى وأنا أهتف بامتعاض: سمعت هذا منك، اذهب الآن إلى الجحيم! ضحك طويلا وصاح بصوت لا يقل قبحا عن وجهه القميء الذي بدأت تبرز معالمه من أكفان الظلام: أذهب للجحيم الذي أعيش فيه ؟ وأين أجد النعيم الخالي من الذئاب والأفاعي والقرود والكلاب والحشرات؟ أي مكان بقي بعيدا عن إعصار الإسكندر وجيوشه؟ في قارة أطلنطس أم في الإيلزيوم أم في دولة أفلاطون الثرثار؟ لا يا كراتيس، لن تجدي شيئا أخلاقك وعظاتك وطوافك كالشحاذين المخبولين، لم تغير شيئا ولن تغير، لم يبق لمثلك أو مثلي. صرخت غاضبا: لست مثلك ولا أنت مثلي، اذهب ولا تلوثني، ضحك حتى استلقى على الأرض كحمار سعيد بالتمرغ في التراب وقال: مرحى! مرحى! لم أكن أعرف أنني أكلم أدونيس أو نرسيس، نسيت أنك تغيرت يا كراتيس الخسيس، يا زوج هيبارخيا التعس، تراجعت أريد أن أنقض عليه وأعضه ككلب حقيقي، وقف أمامي جاحظ العينين غائب النظرات أشعث الشعر ورائحة السكر والعفن تخرج منه كأبخرة تخرج من قبر، فارت الدماء في عروقي واشتعلت براكين الغضب والاحتقار، زمجرت ككلب مسعور: قلت لك اذهب عن طريقي. تحشرج صوته وهو يرفع القنينة اللعينة إلى فمه ويصب نيرانها في جوفه: لا تتعجل، سنذهب جميعا يا كراتيس، لم يبق لي أو لك إلا أن نكتم أنفاسنا بأيدينا، لم يبق سوى أن تعلن إفلاسك على مرأى من كل الناس في «الأجورا» ونشعل النار في جسدك وأخلاقك اللعينة لتسلية الأطفال والعجزة والقطط والكلاب في المدينة التي هجرها الشباب وجرفها الإعصار، لم يبق إلا أن نشرب ونشرب حتى نقتل أنفسنا سكرا ونعود سراعا للعدم كما قالت أنتيجونا. قلت في غيظ وأنا أدير له ظهري وأجر جسدي المنتفض غضبا وكمدا: اذهب إلى الجحيم أيها الشيطان اللعين! اذهب ولا تجعلني أتحول من ناسك إلى قاتل! ولكنه لم يذهب ولم يكف عن رفع القنينة إلى فمه النجس، وسمعته يتأوه ويدمدم وأنا أحث الخطى إلى الكوخ: اذهب أنت وكلبتك الحلوة مع باقي الكلبيين، راح زمانك وزماني يا مسكين. •••
أحقا ذهب زماني وزمان الزهاد الكلبيين؟ هل داستنا عجلاته قبل أن نغير العالم أو نتغير؟ أرقني هذا الخاطر وظل يؤرقني حتى دخلت من الباب المفتوح، كان بتروكليس يتجادل مع هيبارخيا ويحتدم الأخذ والرد بينهما، فأكاد أسمع ضربات المطرقة على السندان. أسرع بتروكليس نحوي وهو يمد إلي يديه وذراعيه، غامت صورته في عيني عندما شيعنا على باب القصر وبصق وراء ظهورنا، وأفقت على صوته يقول: يا زوج شقيقتي، كن القاضي بيني وبينها. قالت لي نفسي: حتى القضاة تراجعوا وذهبوا. ترى أين هما الآن؟ لزمت الصمت فاستطرد بتروكليس قائلا: باختصار يا كراتيس الحكيم، أبونا مات وأوصى لابنته بنصيبها من الميراث. قلت شارد الذهن: حقا؟ من الواجب ألا يهمل المرء كتابة وصيته. أكد بتروكليس كلامه بقبضة يده: ووجدت من الواجب أن أبلغها حتى تكمل إعلام التركة وتتسلم القصر والحديقة. قلت: القصر والحديقة؟! همت هيبارخيا بالكلام فأسرع بمقاطعتها: أو تتنازل عنهما. سألت بهدوء: لك بالطبع؟ تدخلت هيبارخيا وصوبت سبابتها إلى صدره: لولا هذا ما جاء، إنه يعلم أننا لا نملك شيئا حتى لا يملكنا شيء، حتى هذا الكوخ رفضنا أن نحتفظ بمفتاحه وسلمناه لصاحبه الوفي، وأنت يا شقيقي الوفي لم تتذكرني إلا لكي تأخذ حقي، خذه إذن فلا حق للطائر الحر إلا في الهواء والفضاء، خذه ولا ترني وجهك بعد الآن.
ربت على رأسها وكتفها قبل أن تنفجر بالبكاء، وسألت بتروكليس: وما هي مشروعاتك بعد تنفيذ الوصية أيها الفيلسوف؟ قال بغضب من يريد أن يغلق الباب: لم يعد لي شأن بالفلسفة، أغلقت المدرسة وحولتها إلى متجر كبير. سألت متعجبا: وفيم يتاجر الحكيم الشهير؟ رفع صوته إلى حد الصراخ: تركت لكما الحكمة والسخرية أيضا، واتفقت مع ديوكليس على إنشاء متجر كبير للتصدير. قلت متعجبا: ديوكليس؟ ألم يلق ثروته في البحر أمام عيني؟ ألم يتفق معي على لبس الهلاهيل واتباع الطريق؟ قال منهيا الحديث بإشارة من نفد صبره: ورجع إلى عقله بعد أن تغير الزمن، غدا أحضر لك الأوراق من المحكمة للتوقيع. صاحت هيبارخيا قبل أن يقترب من الباب: أرسلها مع أحد عبيدك لأتنازل عنها. صفع الباب بعنف وهو يقول بامتعاض: ومن قال إنني أريد أن أرى وجهك أو وجه كلبك الحزين؟ •••
अज्ञात पृष्ठ