ومنذ ذلك الوقت أخذت أستيقن بأن حياتي موصولة بحياة هذا الشاب، وبأن مقامي في بيت المأمور موقوت، وبأن انتقالي منه إلى بيت هذا الشاب محتوم إن لم يتم اليوم فسيتم غدا.
الفصل الخامس عشر
ولزمت النافذة أرقب منها الدار أثناء النهار وأوائل الليل، كأنما وكلت بحراستها أو تتبع ما يجري فيها. وما هي إلا أن أعرف مواعيد غدو الفتى ورواحه، وخروجه من داره للسمر إذا أقبل الليل، ورجوعه للنوم إذا انقضى من الليل أكثر من ثلثيه، وإذا أنا قائمة إلى النافذة في هذه المواعيد أراه حين يخرج، وأراه حين يدخل، ولا تطمئن نفسي لأمر من الأمور أو عمل من الأعمال إلا إذا رأيته غاديا ورائحا بعد الظهر، فإن حيل بيني وبين ذلك لطارئ من قبله أو من قبلي فهي الحياة المضطربة، والنفس المفرقة، والفكر المشرد، والقلب الذي لا يهدأ ولا يستقر.
ثم يشتد الأمر بي وتلح الرغبة في هذه المراقبة علي، وإذا أنا أتلمس الأيام التي لا يخرج فيها من داره مع الصبح فأبقى فيها أمام النافذة أترقب ما أرجح أنه لن يكون، ولكنني أترقبه على كل حال لأني لا أريد أن يفوتني مخرجه من الدار، كأنما اتصلت به حياتي اتصالا، ومدت الأسباب المتينة بين هذه الدار وبين قلبي ونفسي وعيني، فهي لا تبرح خاطري مهما تكن الظروف، وهي تجذبني إلى النافذة جذبا، وأنا أحس مع ذلك أن هذا ليس إلا أول الشر، وأن يوما قريبا أو بعيدا سيأتي من غير شك لا تجذبني الدار فيه إلى النافذة لأراها ولأرى هذا الشاب خارجا منها أو عائدا إليها، بل تجذبني الدار إلى نفسها لألج بابها وأعرف أصحابها، وأتحدث إلى من فيها، ولو أني أرسلت نفسي على سجيتها وخليت بينها وبين ما كانت تريد لما تأخر مقدم هذا اليوم، ولكني دافعت نفسي عن هذه الدار دفاعا شديدا، وجادلت نفسي في الاتصال بها جدالا طويلا، وظفرت من هذا الجدال وذلك الدفاع بتأخير اليوم المحتوم أسابيع بل أشهرا لست أدري أكانت طوالا أم قصارا، ولكني أعلم أن احتمالها كان ثقيلا، وأني كنت لا أستقبل النهار حتى أستيقن أن الهزيمة ستتم فيه، ولا أستقبل الليل حتى أثق بأنه لن يتقدم حتى يكون التسليم والإذعان، وأمضي مع ذلك في جهاد نفسي ومدافعتها، حتى إذا استقر كل شيء وغلقت الأبواب، وانقطعت سبيلي إلى الدار، اضطررت إلى أن آوي إلى مضجعي، وسجلت لنفسي يوما من أيام النصر وأمدا من آماد الفوز، وأجلت الهزيمة والتسليم إلى غد.
وإني لأرى نفسي ذات يوم وقد تقدم النهار حتى كاد ينقضي وأخذت طلائع الليل الشاحبة تغزو الأرض، وإني لأراني خارجة كالمنسلة من دار المأمور، ساعية كالهاربة التي تحرص على الاستخفاء، أدور حول الدار مجاورة أسوار الحديقة حتى لأكاد أمسحها مسحا، ثم منعطفة بعد قليل، ثم منطلقة كالسهم حتى أقطع ما بين الدارين من طريق. وألج حديقة المهندس، ثم أسعى هادئة مضطربة معا نحو البستاني كأنما أريد أن أسأله عن شيء، حتى إذا بلغته لم أستطع أن أقول له شيئا، وإنما وقفت أمامه ذاهلة غافلة بلهاء يملكني الخوف ويغمرني الحياء، أريد أن أمضي أمامي حتى أدخل الدار وأبلغ غرفة «هنادي» فأقضي فيها لحظة أو لحظات، ولكني لا أستطيع أن أتقدم، والبستاني يسألني من أنا، ومن أين أقبلت، وماذا أريد؟ فإذا ألح علي في السؤال وأحسست أن صمتي يطول وأن الرجل سينتهي إلى الضيق بي وبما أعرض عليه من غفلة وبله وذهول، وليت مدبرة، وانصرفت نافرة لا ألوي على شيء، كأنني أخشى أن يتبعني تابع أو يتعقبني متعقب، وما أزال أشتد في العدو حتى أبلغ دارنا فأنسل إليها لم يشعر بخروجي منها ولا بعودتي إليها أحد، ثم أمضي متجاهلة متغافلة حتى أبلغ غرفتي وآخذ موقفي من النافذة وقد سجلت على نفسي بعض الهزيمة وإن لم أنته بها إلى الغاية.
على أني ألفت الطريق بين هاتين الدارين، وألفت البستاني والاختلاف إليه، والأخذ معه في أطراف من الحديث، وتبادل الإشارات معه من النافذة ومسارقته بعض الكلام.
ثم لم تتصل الأيام بيني وبين هذا البستاني حتى كان الظاهر من أمر هذا المهندس الشاب عندي واضحا معروفا، أعرف من عاداته وأطواره ومن ذهابه وإيابه ومن جده وهزله ما يمكن لمثلي أن يعرفه حين يتصل بخدمه والمقربين إليه.
على أن المعرفة لم تقتصر على البستاني وإنما تجاوزته إلى الخادم؛ فقد كان هذا المهندس لا يستطيع أن يكتفي ببستانيه، وإنما هو في حاجة إلى خادم تصلح من أمره وتشرف له على نظام الدار، وقد علمت أن أختي لم تكد تفارقه حتى تعجل البحث عمن يخلفها، واهتدى بعد قليل من الوقت إلى هذه الفتاة الجميلة الوادعة ذات الوجه المشرق والجسم البض والعقل الضيق القصير. اهتدى إلى «سكينة» هذه التي أقامت عنده خليفة لأختي، والتي كنت أتحدث إليها فلا أرى عندها غناء، ولا أجد في الاستماع إلى أحاديثها لذة، ولا أجد نشاطا إلى أن أشاركها فيما تخوض فيه من لغو، ولكني مع ذلك حريصة كل الحرص على أن تشتد الصلة بيني وبينها وتزول الكلفة، ولم يكن في هذا مشقة ولا عسر، فما أسرع ما اتصل الحديث، وما أسرع ما انتهينا به إلى الدخائل والأسرار! وما أسرع ما أحسست في نفسي عداوة آثمة تشتد كل يوم وتنمو حتى تملأ قلبي وتملك علي كل أمري وتكاد تخرجني عن طوري وتدفعني إلى ما لا خير فيه. فقد فهمت - وليتني لم أفهم - أن سكينة لم تخلف هنادي على الإصلاح من أمر الدار والقيام بما تحتاج إليه من خدمة فحسب، وإنما خلفتها على قلب هذا الشاب إن كان لهذا الشاب قلب، بل خلفتها على هواه ومجونه وعلى إثمه وغوايته، وما أكثر ما لهذا الشاب من الهوى والمجون، ومن الإثم والغواية! إنما هو صائد يحتبل الفتيات احتبالا ويختلبهن اختلابا، يصرفهن عن الجادة وينحرف بهن عن القصد، حتى إذا بلغ منهن ما يزهده فيهن خلى بينهن وبين ما ينتظرهن من الموت أو من حياة هي شر من الموت.
وإذن فقد خان هنادي ولم يحفظ لها عهدا ولم يستبق لها مودة، ولم يكد يفارقها حتى انصرف عنها وزهد فيها، والتمس لذته وهواه حيث استطاع، لم يحفل بما قدم من سوء، ولم يحفل بما قدمت إليه من تضحية، ولم ينظر إلى هذا كله إلا على أنه لعب ينفق فيه الوقت ويستعان به على احتمال الحياة وتسلى به الغربة في مدن الأقاليم.
هو خائن إذن، وهو يضيف إثم الخيانة إلى إثم الغواية، وهو خليق أن يلقى جزاء هذين الإثمين كأشنع ما يكون الجزاء، وهو لاق حظه من هذا الجزاء في يوم من الأيام، ولاقيه من يد آمنة هذه التي شهدت الموت مرتين: شهدته حين عدي على أختها من يد ذلك الخال الأثيم في ذلك الفضاء العريض، وشهدته حين عدي على ذكرى أختها من يد هذا المهندس الشاب الغاوي وفي هذه الدار الصغيرة الأنيقة التي يقوم عليها البستاني وتضطرب فيها سكينة كما كانت تضطرب فيها هنادي.
अज्ञात पृष्ठ