إنما كنت أحاول أن تنفذ عيني من هذه المسافة البعيدة والأمد المنفسح إلى هذه القرية المطمئنة التي أخرجت منها إخراجا، لعلي أرى دارنا، ولعلي أرى هذا الفناء المنبسط أمامها، والذي كنت ألعب فيه مع أترابي من الغلمان والصبيان، ولكني لم أكن أرى القرية ولم أكن أرى الدار، وإنما كنت أرى هذه الهضاب المرتفعة في السماء بعض الشيء، وأقدر أن قريتنا تقوم هناك على هضبة من هذه الهضاب، وكنت أرى هذا الخط من الماء يحول بيننا وبين هذا السهل الجميل الذي ينبسط من دون هذه الهضاب، والذي كنت لا أمضي فيه قليلا حين نفينا من قريتنا إلا أحسست كأني أترك فيه قطعا من نفسي أنثرها في أرضه الخضراء نثرا.
نعم! عرفت خالي ناصرا وهو قائم بإزاء جمليه بعد أن وضع أثقاله كأنه الشيطان، وما تصورته قط إلا شيطانا، ومنذ هذه اللحظة التي رأيته فيها يضع أثقاله وسمعته فيها يسأل عن صاحب الدار، لم أزدد إلا يقينا بأنه شيطان. سأل خالنا عن صاحب الدار، وكان رجال العمدة قد دخلوا عليه فأنبئوه بأن رجلا أعرابيا عليه مظاهر القوة والبأس والوقار والثراء، قد أقبل يسأل عنه، فخف العمدة لاستقبال ضيفه، وما زلت أراه يستقبل الأعرابي باسما وادعا، والأعرابي يحييه في غلظة وجفوة، ثم يقول له متعاليا: إن النبي قبل الهدية يا عمدة، يقول ذلك ويشير إلى أثقاله التي حطها عن جمليه إشارة المكبر لها الدال بها، والعمدة يدعو بعض رجاله ويشير إليهم أن احملوا هذه الأثقال وأريحوا هذين الجملين، ثم يدعو ضيفه الأعرابي، رفيقا به شاكرا له، إلى الراحة والدخول معه إلى الدار.
وقد اطمأنت الدار بالأعرابي، ولقي من كرم مضيفه وبشاشته ما أرضاه، فلما مضت ساعة أو ساعات والناس مجتمعون حول عمدتهم يخوضون فيما تعودوا أن يخوضوا فيه من الحديث، قال فجأة: إن لنا عندك ودائع يا عمدة، فاردد علينا ودائعنا! فالله يأمر أن تؤدى الأمانات إلى أهلها، قال العمدة: ودائعك محفوظة لك، مردودة عليك يا شيخ العرب، فما ذاك؟ قال الأعرابي: امرأة أقبلت منذ أيام ومعها فتاتان، سألتك الضيافة فآويتها وآويت ابنتيها وأحسنت لقاءهن وأكرمت مثواهن، ونحن أعرف الناس بحق الكرام. قال العمدة: وما أنت وهذه المرأة وابنتاها؟ قال الأعرابي: هي أختي. قال العمدة: فقد نزلن على الرحب والسعة، وما فعلت إلا ما كان يجب علي، وما نفع هذه الدور إذا لم تفتح لإيواء الغرباء! ولكن ودائعك يا شيخ العرب لن ترد عليك حتى تقيم بيننا حينا فتسمع منا ونسمع منك؛ فإن حديث الأعراب يلذنا ويرضينا، وقد بعد عهدنا به منذ رحل عنا سعيد وأصحابه، وكانوا قد خيموا في ظاهر القرية أشهرا، ثم ارتحلوا لا عن قلى ولكن عن رغبة في الرحيل. واتصل الحديث بين العمدة وأصحابه وبين هذا الأعرابي حتى انقضت ساعات السمر.
الفصل التاسع
أما أنا فلم أطعم النوم في هذا الليل الطويل الثقيل؛ لأن أختي لم تطعم فيه النوم، ولم يحتج طائري العزيز إلى أن يوقظني بندائه السريع البعيد، ولم أسمع منه هذا النداء كأنه عرف أني ساهرة مؤرقة فلم يحتج إلى تنبيهي، فانطلق في الجو الفسيح ينبه غيري من الذين لم تؤرقهم الهموم والأحزان.
عدت إلى أختي كئيبة ضيقة الصدر متكلفة مع ذلك أن أخفي ما أجد من الكآبة وضيق الصدر، فأنبأتها بمقدم خالنا وبأننا مرتحلات في أكبر الظن إذا أسفر الصبح، وجعلت أزين لها الرحيل وركوب الإبل واجتياز القرى والنظر إلى هذه الحقول المنبثة بيننا وبين البحر، والنظر إلى هذا الخط من الماء الذي يفصل بيننا وبين بلادنا في الغرب، ننظر إليه مقبلات عليه بعد أن نظرنا إليه مدبرات عنه، ثم نعبر هذا البحر ونمشي على هذا السهل الجميل النضر الذي تلتقي فيه أرض الصحراء المجدبة وأرض الريف المخصبة؛ ثم نصعد تصعيدا هينا كأنما نرقى في الدرج إلى هذه الهضبة الجميلة التي تقوم من ورائها قريتنا وادعة هادئة كأنها تحتمي بها من كل طارق يأتيها من الشرق. أنا أزين لها هذا كله بلساني، وأتكلف لها مظهر المرتاحة له المغتبطة به المقبلة عليه في سرور ولذة وشوق، والله يعلم إن كنت لمحزونة أشد الحزن مبتئسة أشد الابتئاس، تنازعني نفسي إلى ما وراءنا نحو الشرق من هذه المدينة الكبيرة التي ترامت أطرافها، وامتدت على ضفة النيل هادئة وادعة ناعمة بما فيها من حضارة وترف وثراء، والله يعلم أني لم أكن مقبلة على هذا الغرب الذي سأدفع إليه إذا أسفر الصبح إلا برغمي وعلى أشد الكره مني، ما كنت أحفل بالحقول المنبثة، ولا أجد شوقا إلى هذا الخط من الماء، ولا أجد كلفا بهذا السهل الجميل النضر، ولا أجد رغبة في التصعيد الهين إلى هذه الهضبة المهيبة، ولا أجد حنينا إلى هذه القرية الوادعة التي درجت فيها. إن هناك لحقولا أخرى منبثة نحو الشرق تنحدر إلى المدينة في دعة وفتور وتكسر جميل، وإن هناك لخطا عريضا من الماء أشد روعة وجمالا وإثارة للسحر في القلوب من هذا الخط الضئيل النحيل يسمونه بحرا وما هو بالبحر، وإنما هي قناة لا يصح أن تذكر مع النيل، وإن هناك لدورا شاهقة واسعة مترفة تحيط بها الحدائق البديعة، وتلذ الإقامة فيها والحياة بين غرفاتها وحجراتها واللهو بين ما يحيط بها من الأشجار والأزهار، وإن هناك لفتاة جميلة وسيمة رقيقة هي التي أحن إلى لقائها وأتحرق على تجديد العهد بها. وماذا أصنع في تلك القرية، وأي حياة تهيأ لي فيها! كلها شظف وخشونة، وكلها جهل وغفلة، وكلها رجوع إلى ذلك الطور الأبله الذي جعلت أخرج منه قليلا قليلا حتى امتزت من أمي وأختي أشعر بأني أحسن منهما فهما للحياة، وأصدق منهما حكما على الأشياء، وأشد منهما صبرا على الخطوب، وأمهر منهما في التخلص من الشدائد والكارثات. ألست أدنى منهما إلى الطفولة، وأجدر منهما أن أكون غرة غافلة؟ ومع ذلك فإني أنظر إليهما كما تنظر الأم إلى صبيتين ضعيفتين تحتاجان إلى الحماية والحب وإلى العطف والعون!
كذلك كنت متناقضة أشد التناقض، مختلفة أشد الاختلاف، أزين لأختي ما أبغضه أشد البغض، وأمني نفسي بما ليس إليه من سبيل، وكثيرا ما خطر لي خاطر فلم أقف عنده لأنه كان يظهر لي سخيفا مستحيلا؛ كثيرا ما خطر لي أن أتغفل من حولي إذا تقدم الليل، وأن أنسل من الدار وأن أهيم على وجهي نحو الشرق منسابة بين المزارع والحقول والقرى كما تنساب الحية الدقيقة، حتى أبلغ المدينة مع الصبح أو مع الضحى، وإذا أنا حيث أحب أن أكون.
لم أقف عند هذا الخاطر الذي كان يمر بنفسي من حين إلى حين مرا سريعا فينفذ منها كما ينفذ السهم من الهدف؛ لأن الاستجابة له لم تكن ميسورة، وكيف الانسلال من الدار والأحراس عليها قيام! وكيف الانسياب في الريف؟! وماذا تصنع فتاة وحيدة في ضوء النهار فضلا عن ظلمة الليل! وكيف لي بترك هاتين البائستين تحملان وحدهما ثقل الأحداث والخطوب؟
أقيمي، أقيمي يا آمنة! وانسي نفسك ولذتك وراحتك، وانظري إلى هذه الفتاة الجالسة أمامك، إن ذهولها ليمزق القلب، وإن شحوب وجهها ليذيب النفس، وإن هذه الدموع التي أخذت تنحدر من عينيها في سكون وصمت لخليقة أن تصرفك عن كل تفكير إلا فيها، وعن كل عناية إلا بها، ألحي ألحي يا آمنة في تزيين الرحيل، وفي التحدث عما سنجد في القرية من أمن، وبما سنستقبل فيها من هدوء واستمتاع بالحياة الراضية، لا نخدم أحدا وقد يخدمنا الناس.
ولكن أختي لا تسمع لي أو هي تسمع ولا تفهم عني، هي مثلي لا تحب الرحيل ولا تحن إلى الغرب، وإنما تحن إلى هذا الشرق الذي تركت قلبها فيه: هنالك في ذلك البيت الجميل الذي تحيط به هذه الحديقة الواسعة ويقوم عليه ذلك العامل من أهل الريف، ويعيش فيه ذلك الشاب المترف الذي يسمونه الباشمهندس.
अज्ञात पृष्ठ