قلت: وكيف يستقيم لنا هذا؟ قالت: علمت منذ أصبحت أن اليوم في القرية سوق يجتمع فيه الناس من أطراف الريف، فلأسعين بين الناس والبائعات، فلن أعدم بينهم رجلا أو امرأة من أهل قريتنا أو من أهل قرية مجاورة، فلأحملنه رسالة إلى أهلنا، ولن يتم الأسبوع حتى يكون أخي هنا قد أقبل يحملنا إلى حيث ينبغي أن نعيش.
وهممت أن أمضي معها في الحديث، ولكن حركة عنيفة قطعت علينا ما كنا فيه، فهؤلاء نسوة قد أقبلن يحملن الجفان والأسفاط ويدعون إلى الطعام.
ويسمع الأضياف دعاءهن، ويرى الأضياف مقدمهن فيستجبن للدعاء ويسرعن إلى الطعام، ولا بد من أن نستجيب كما استجبن، ومن أن نسرع كما أسرعن، لا بد من أن أصعد فأنبه أختي هذه التي لا تريد أن تفيق من نومها الطويل بعد أن كانت لا تريد أن تخرج من أرقها الطويل.
فأصعد، ولكني لا أكاد أبلغ آخر السلم حتى أراها قائمة ساهمة حيث رأيتها من الليل حين أيقظني طائري العزيز.
الفصل السادس
وأقبل من في الدار من النساء ومن انضم إليهن من نساء القرية البائسات على الطعام مسرعات يتزاحمن بالمناكب، ويتدافعن بالأيدي، ويتزاجرن باللفظ واللحظ، ويرتفع في أثناء ذلك منهن دعاء لصاحب الدار أن يوثق الله حزامه، ويعلي مقامه، ويصرف عنه الداء، وينصره على الأعداء.
ونحن نسعى وجلات خجلات، يدفعنا الجوع والأدب، ويمسكنا الحياء والاحتشام، حتى إذا استدرات الجماعة حول الجفان قل الكلام، وقرت الأجسام، واضطربت الأيدي وعملت الأفواه.
وأنا أرى هذا كله فيؤذيني منظره ويقع من نفسي موقعا أليما، ما أبعد ما بين هذه الأيدي الغليظة الخشنة قد تقلص جلدها وتقبض، وهي تغوص بما فيها من الخبز غوصا في القصاع فتصيب منها ما تستطيع، وما بين تلك الأيدي الرقيقة الناعمة المترفة التي لم تكن تمتد إلى الأطباق إلا هينة، والتي لم تكن تمس ما في الأطباق إلا بهذه الأدوات التي يعرفها أهل المدن خاصة بل يعرفها المترفون من أهل المدن خاصة!
ما أبعد ما بين هذه الأفواه الفاغرة التي يلقى فيها الطعام إلقاء على عجل فلا يكاد يستقر فيها حتى تزدرده الحلوق! وكأن الطبيعة لم تودع هذه الأفواه حسا تجد به لذة ما تأكل وما تشرب، وإنما اتخذتها طريقا إلى الحلوق ثم إلى الأجواف، وما بين تلك الأفواه الصغيرة الضعيفة التي لم تكن تفتح إلا بمقدار، والتي لا تلتهم ولا تلتقم ولا تنتهي بما فيها إلى حلوق تزدرد، وإنما تطيل المضغ وتستمتع بما يمسها من الألوان، ثم تنتهي به على مهل إلى حلوق تسيغه في أناة ورفق، كأنما الأكل فن من الفنون لا بد فيه من الروية واصطناع المهل والأناة!
ما أبعد ما بين هذه الجماعة التي حشرنا فيها حشرا في فناء هذه الدار، وما بين تلك الأسرة التي كنت أعمل عندها وأجد في خدمتها حين تجلس إلى المائدة لذة ومتاعا يعدلان بل يربيان على ما كنت أجد من اللذة والمتاع حين أجلس إلى طعامي مع رفاقي من الخدم بعد أن يتفرق سادتنا عن مائدتهم!
अज्ञात पृष्ठ