Documentation of the Sunnah in the Second Hijri Century: Foundations and Trends
توثيق السنة في القرن الثاني الهجري أسسه واتجاهاته
प्रकाशक
مكتبة الخنانجي بمصر
संस्करण संख्या
الأولى
शैलियों
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمات:
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى، وعلى محمد خاتم النبيين والمرسلين.
وبعد: فقد قام المسلمون من لدن الصحابة -رضوان الله عليهم- بالعناية الفائقة بسنة رسول الله ﷺ رواية ودراية، ووضعها للأسس التي تحفظها، من تحريف الغالين وانتحال المبطلين.
وقد كانت في القرن الثاني الهجري العلامات البارزة في طريق رعاية السنة النبوية الكريمة وتوثيقها؛ ذلك أنه قد هبت في هذا القرن أعاصير عاتية، تهدف إلى الإطاحة بالسنة، وإبعاد المسلمين عنها، وتشكيكهم في طرق نقلها ورواتها ... وقيض الله ﷿ أئمة كبارًا في هذا القرن، وقفوا في وجه هذه الأعاصير يردون كيدها، ويحفظون للمسلمين سنة نبيهم، ﷺ، المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي.
حقيقة سعد هذا القرن بالنصيب الأوفى والقدح المعلى من أئمة المسلمين الذين قاموا بجهد كبير في توثيق السنة من أمثال مالك بن أنس، وأبي حنيفة النعمان بن ثابت، وصاحبيه، محمد بن الحسن الشيباني، وأبي يوسف، يعقوب ابن إبراهيم، والشافعي محمد بن إدريس، وسفيان الثوري، وابن عيينة، وشعبة بن الحجاج، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وغيرهم، هؤلاء الذين وهب لهم الله البصائر النيرة، والعقول الذكية، مع الإخلاص لله ﷿، ولرسوله ﷺ وللمؤمنين، فقاموا بوضع المصنفات في السنة، ووضع الأسس التي تميز ما نسب حقًّا وصدقًا إلى رسول الله ﷺ وما وضع عليه زورًا وبهتانًا.
1 / 3
وما أشبه الليلة بالبارحة كما يقولون! فقد نبتت نابتة في عصرنا الحديث، تشكك المسملين في السنة، وتسير على درب أسلافهم الذين كادوا للمسلمين وللإسلام، وردهم الله على أعقابهم خاسرين، زعمت هذه النابتة أن السنة حرفت وبدلت ... وأن أسس توثيقها كانت واهية وشكلية، ولم تنهض بعبء الحفاظ عليها.
هل حقًّا ما يزعم هؤلاء؟.. إن الأمر في حاجة إلى دراسة متأنية موضوعية، تكشف وجه الحق، وتبرز ما أخفاه هؤلاء الجاهلون، أو غاب عنهم.
وهذا ما دفعني إلى اختيار موضوع هذه الرسالة، "توثيق السنة في القرن الثاني الهجري، أسسه واتجاهاته".
ومهدت لهذا الموضوع بتمهيد وقف عند بعض الموضوعات التي تحدد أبعاده، وتكون الأساس لما يعالجه من قضايا.
وإذا كان الحديث الذي هو بمعنى السنة -كما اصطلحنا في هذه الرسالة- ينقسم إلى قسمين: السند والمتن، وكانت عناية أهل القرن الثاني هي توثيق القسمين معًا؛ بهدف التأكد مما نقل عن رسول الله ﷺ نقلًا صحيحًا -فقد قسمت هذه الرسالة إلى قسمين:
القسم الأول: ويعنى ببيان الأسس التي وضعت لتوثيق سند الحديث، مما يؤدي إلى توثيق متنه، وهو ما سماه بعض الباحثين بالنقد الخارجي للحديث.
والقسم الثاني: ويعنى ببيان الأسس التي تتعلق بتوثيق متن الحديث بعيدًا عن سنده، وبالنظر إلى ألفاظه ومعانيه، وهو ما سُمي حديثًا كذلك بالنقد الداخلي للحديث.
والقسم الأول: يتكون من أربعة فصول:
يتناول الفصل الأول منه بيان كيفية نقل الحديث إلى أهل القرن الثاني الهجري؛ من حيث عدد رواته، وتواتر نقلته، أو عدم تواترهم.
1 / 4
ويتناول الفصل الثاني أسس توثيق الراوي ناقل الحديث، وبيان الشروط التي ينبغي توافرها فيه؛ حتى يطمأن إلى حمله للحديث، وروايته له نقيًّا غير محرف أو مبدل فيه.
والفصل الثالث: يتناول مناهج تحمّل الحديث وروايته وما هو جدير منها بتوثيقه والمحافظة عليه؛ فيكون مقبولًا، وما هو غير ذلك، فيكون مرفوضًا.
والفصل الأخير: من هذا القسم تعرض للأسانيد؛ من حيث اتصالها وانقطاعها، ومتى يكون الحديث بها موثقًا، ومتى يكون غير ذلك في رأي بعض الفقهاء والمحدثين.
وقد طوف القسم الثاني من الرسالة مع الفقهاء ونقدهم الداخلي للحديث، بعيدًا عن رجاله وأسانيده.. وهو يتكون من ستة فصلول:
الفصل الأول: يتناول مقياس عرض أحاديث الآحاد على القرآن الكريم بين الآخذين به والرافضين له، والأمثلة التي طبق عليها هذا المقياس.
والفصل الثاني: تناول مقياس عرض أحاديث الآحاد على السنة المشهورة، ذلك المقياس الذي أخذ به الأحناف، ورفضه الإمام الشافعي كأساس من أسس توثيق الحديث.
ومقاييس أخرى عرض لها الفصل الثالث، ومنها عرض أحاديث الآحاد على ما هو مشهور بين الصحابة وعملهم وفتاواهم: وقد تناول هذا الفصل وجهة نظر الآخذين بها والرافضين لها كمقاييس أساسية في نقد الحديث وتوثيقه.
والفصل الرابع: تناول مقياس عرض أحاديث الآحاد على عمل أهل المدينة الذي أخذ به أصحاب مالك ﵁، ورفض الإمام الشافعي له، ومناقشته للآخذين به ومناقشة غيره من مخالفيهم.
1 / 5
والفصل الخامس: تناول مقياس عرض خبر الواحد على القياس، بين من يأخذون به كأساس من أسس توثيق السنة، ومن يرفضون أخذه كذلك.
والفصل الأخير: عرض لرواية الحديث بالمعنى، من حيث المجيزون لهما، والرافضون.. كما عرض للأسس والقواعد التي وضعها بعض أئمة هذا العصر، ضمانًا لانتقال الأحاديث صحيحة عند روايتها بالمعنى.
ثم جاء دور الخاتمة، التي ذكرت أهم النتائج والاقتراحات التي انتهت إليها هذه الرسالة.
وطبيعة البحث في موضوع هذه الرسالة، على هذا المنهج، تقتضي الرجوع إلى نوعين من المصادر: مصادر تتناول أصول الفقه وأدلته، وأخرى تتناول أصول الحديث وأسسه.
أما بالنسبة للنوع الأول فقد يسر الله مؤلفات تمثل هذه الفترة خير تمثيل، وتحتوي على كثير من الأسس التي قال بها أئمة عاشوا في القرن الثاني الهجري، ومن هذه المؤلفات كتب الإمام الشافعي؛ كـ"الرسالة"، و"الأم"، و"اختلاف الحديث"، وبعض كتب الإمامين: محمد بن الحسن الشيباني، وأبي يوسف، و"موطأ الإمام مالك بن أنس".
وهذه الكتب -بالإضافة إلى إمدادها هذه الرسالة بكثير من أصول توثيق السنة- كانت الفيصل والحكم فيها نسبه المتأخرون إلى أئمة هذا القرن من أسس. أو بعبارة أخرى كانت موازين عادلة وزنت بها كل هذه المنسوبات فأحقت بعضها، وأبطلت بعضها الآخر.
وأما النوع الآخر فقد كان بعضه من هذه الفترة، كمؤلفات الإمام أحمد بن حنبل، والإمام علي بن المديني. وبعض منه كان قريبًا منها، ويمتاز بالدقة والصدق فيما نقل عن أئمة هذا القرن، وعن مؤلفاتهم:
وأهم هذه المصادر كتب ابن أبي حاتم الرازي: الجرح والتعديل، والمراسيل وآداب الشافعي، وعلل الحديث. وكتاب الرامهرمزي المحدث
1 / 6
الفاضل الذي يعتبر في رأي كثير من الدارسين أول مؤلف في أصول الحديث.
وقد قام هذا النوع بنفس الدور الذي قام به النوع الأول.
وطبيعي أن تغني هذه المصادر الأصيلة عن كثير من المراجع الحديثة في كثير من الأحيان، وإن كان للأخيرة فضل الاسترشاد وإنارة الطريق، ووضع علامات استفهام في طريق البحث لفتت نظري إلى أهم ما يجب أن يبحث عنه في هذهالفترة، كإجابات عن هذه الاستفهامات.
وتتبعت منهج١ أستاذنا الجليل محمد أبي زهرة عليه رحمة الله، فلم أثقل هوامش الرسالة بالإحالة إلى المراجع، واكتفيت بالمصادر عندما تلتقي الأولى بها، وبأهم المصادر وأقدمها عنما تلتقي هي أيضًا على فكرة واحدة.
وإذا كانت الدراسة الموضوعية الصادقة هي تلك التي تعتمد على النصوص والوثائق فقد التزمت هذه الرسالة -إلى حد كبير- بإيرادها كشواهد ودلائل على ما عالجته من فكر ومبادئ ...
وربما يلمس القارئ نوعًا من الغموض في بعضها، كنصوص الإمام الشافعي.. ولكن يعلم الله مقدار المعاناة في قراءة هذه النصوص والاستفادة منها، ومراجعتها أكثر من مرة ... وقد كنت حريصًا على إيرادها، والاستفادة منها، مؤثرًا الطريق الوعر، وتقديم كثير منها لأول مرة على الرغم من أن كتب الإمام الشافعي منتشرة بين العلماء، وطبعت منذ زمن بعيد.
_________
١ ذكر هذا المنهج في مقدمة كتابه "مالك: حياته وعصره - آراؤه وفقهه" وكان يطبقه كذلك.
1 / 7
وبعد؛ فقد اجتهد ما وسعني الاجتهاد في هذه الرسالة، ولكن الكمال لله ﷿ وحده، والمعصومون من الأخطاء هم أنبياء الله، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ... فأدعوا الله العلي الكريم أن يغفر زلات هذا العمل وأخطاءه، وأن يجعله خالصًا لوجهه، وأن ينفع به؛ إنه نعم المولى، ونعم المجيب.
القاهرة في: ربيع الثاني ١٣٩٦هـ.
أبريل ١٩٧٦م.
رفعت فوزي عبد المطلب
1 / 8
تمهيد
مدخل
...
تمهيد:
١- يجدر بنا قبل أن نسير في بحثنا "توثيق السنة في القرن الثاني الهجري: أسسه واتجاهاته" أن نقف عند بعض الموضوعات التي تمهد له، وتكون أساسًا لما نعالجه من قضايا، وتوضح أبعاده.
ونعني بهذه الموضوعات: تحديد معنى السنة والحديث، ومعنى كلمة التوثيق ... ونظرة عامة على التوثيق في القرن الأول الهجري ... ودوافع التوثيق في القرن الثاني ... والموثقون للأحاديث فيه.
السنة:
٢- والسنة لها إطلاقات في اللغة١:
فهي السيرة الحسنة أو القبيحة، ومن ذلك قول الشاعر:
فلا تجزعن من سيرة أنت سرتها ... فأول راض سنة من يسيرها
وفي الحديث النبوي الكريم الذي رواه مسلم: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها، ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء" ٢.
وكل من ابتدأ أمرًا واقتدى به فيه من بعده قيل: هو الذي سنه، قال الشاعر:
كأني سننت الحب أول عاشق ... من الناس إذ أحببت من بينهم وحدي
_________
١ انظر هذه الإطلاقات في لسان العرب مادة "س ن ن" طبعة دار صادر بيروت جـ١٥.
٢ صحيح مسلم بشرح النووي، تحقيق عبد الله أحمد أبو زينة. طبعة دار الشعببالقاهرة مج٣ ص٥٥. وانظر صحيح مسلم طبعة دار التحرير ١٣٨٤هـ. المصورة عن طبعة استانبول عام ١٣٢٩ جـ٨ ص٦١/ ٦٢ مع اختلاف في بعض الألفاظ.
- الفقيه والمتفقه: لأبي بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي "٣٩٢- ٤٦٣هـ) دار إحياء السنة النبوية ١٣٩٥هـ - ١٩٧٥م. المجلد الأول ص: ٨٦ و٨٧.
1 / 11
وقد يراد بها حسن الرعاية، والقيام على الشيء، من قولهم: سننت الإبل، إذا أحسنت رعايتها والقيام عليها.
٣- ولكن ماذا تعني "السنة عند العلماء؟ ...
إذا بدأنا بالاستعمالات الأولى للسنة، وجدنا أنهم يريدون بها عمل رسول الله ﷺ وطريقته، فقد روى البخاري في صحيحه حديث ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه في قصته مع الحجاج حين قال له: "إن كنت تريد السنة فهجر بالصلاة"١. قال ابن شهاب: فقلت لسالم: أفعله رسول الله، ﷺ؟ قال: وهل يعنون بذلك إلا سنته؟! ... ويعلق السيوطي على هذا بقوله: "فنقل سالم، وهو أحد الفقهاء السبعة من أهل المدينة، وأحد الحفاظ من التابعين عن الصحابة أنهم إذا أطلقوا السنة لا يريدون بذلك إلا سنة النبي، ﷺ"٢.
ومن هذا قول أبي قلابة: "عن أنس: من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعًا".
قال أبو قلابة: "لو شئت لقلت: إن أنسًا رفعه إلى النبي، ﷺ"؛ أي لو قلت لم أكذب؛ لأن قوله: من السنة" هذا معناه٣.
وأخرج الحاكم في "المستدرك" عن زياد بن عبد الله النخعي قال: "كنا جلوسًا مع علي ﵁ في المسجد الأعظم، فجاء المؤذن، فقال: الصلاة يا أمير المؤمنين. فقال: اجلس، فجلس، ثم عاد، فقال له
_________
١ أي صلها في الهاجرة. والهاجرة اشتداد الحر في نصف النهار، قيل: سميت بذلك من الهجر، وهو الترك، لأن الناس يتركون التصرف حينئذ لشدة الحر ويقيلون. "فتح الباري جـ٢ ص١٧".
٢ تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، لجلال الدين عبد الرحمن ابن أبي بكر السيوطي "٨٤٩ - ٩١١هـ" تحقيق عبد الوهاب عبد المطلب -الطبعة الثانية- دار الكتب الحديثة - القاهرة ١٢٨٥هـ - ١٩٦٦م - جـ١ ص ١٨٨ - ١٨٩.
٣ المصدر السابق ١/ ١٨٩.
1 / 12
ذلك، فقال علي: هذا الكب يعلمنا السنة؟!. فقام علي فصلى بنا العصر، ثم انصرفنا، فرجعنا إلى المكان الذي كنا فيه جلوسًا، فجثونا للركب، لتزور الشمس للمغيب، نتراءاها١.
وقد أطلقها عمر ﵁، وذكرها ابن عباس، وعمرو بن العاص، وعائشة، رضوان الله عليهم، وأرادوا بها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم٢.
ولهذا قال الشافعي، ﵀، مطلق السنة يتناول سنة رسول الله، ﷺ، فقط٣.
٤- وقد تطلق السنة وبراد بها عمل الصحابة رضوان الله عليهم أو التابعين، سواء أكان ذلك مأخوذًا من الكتاب أو من سنة رسول الله، ﷺ، أم من اجتهادهم. وقد ساغ هذا؛ لأن عملهم اتباع لسنة ثبتت عندهم، لم تنقل إلينا، أو اجتهاد مجتمع عليه منهم أو من الخلفاء٤.
وقد اعتبر الإمام مالك والإمام أحمد، رحمهما الله، فتاوى الصحابة رضوان الله عليهم من السنة٥.
_________
١ المستدرك على الصحيحين في الحديث لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم "٤٠٥هـ"، مكتبه ومطابع النصر الحديثة بالرياض ١/ ١٩٢. وقال: هذا حديث صحيح ولم يخرجاه. وقال: الذهبي صحيح.
٢ اختلاف الحديث: للإمام الشافعي، على هامش الجزء السابع من كتاب الأم له، طبعة دار الشعب ١٣٨٨هـ ١٩٦٨م ص٢٥ -تدريب الراوي: جـ١ ص١٨٩.
٣ أصول السرخسي: محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي "٤٩٠هـ" تحقيق أبي الوفا الأفغاني. نشر لجنة إحياء المعارف النعمانية بحيدر أباد الدكن بالهند ١٣٧٢ هـ، جـ١ - ص١١٣، ١١٤ - أصول البزدوي على هامش شرحه كشف الأسرار: لأبي الحسن علي بن محمد بن حسين البزدوي مكتب الصنايع ١٣٠٧هـ، ٢/ ٦٢٨، ٦٢٩.
٤ الموافقات في أصول الأحكام: لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الغناطي الشاطبي "٧٩٠هـ" المكتبة السلفية. القاهرة ١٣٤١هـ، جـ٤ ص٢، ٣.
٥ ابن حنبل، حياته وعصره - آراؤه وفقهه: للأستاذ محمد أبي زهرة. دار الفكر العربي. مصر ص٢٥١.
1 / 13
وينقل السرخسي أن السلف كانوا يطلقون اسم السنة على طريقة أبي بكر وعمر رضوان الله عليهما، وكانوا يأخذون البيعة على سنة العمرين. وبين أن أصل هذا الإطلاق قوله ﵊: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ" ١.
٥- ولهذه الإطلاقات اختلف العلماء في قولهم: "من السنة كذا" فقد يحمل هذا القول على سنة الرسول، ﷺ، وقد يكون مقصودًا به من بعده من السلف الصالح رضوان الله عليهم، وخاصة الصحابة٢.
٦- على أنه ينبغي أن ننبه إلى أنه على الرغم من وجود المعاني السابقة للسنة - فإنهم كانوا يعتبرون ما صدر عن رسول الله، ﷺ مميزًا عن غيره، وأنه، بعد كتاب الله ﷿، له الأولوية على ما عداه، وأنهم إذا أخذوا بغيره فلأنهم لم يجدوا ما يغنيهم من صحيح السنة، عندئذ يلجئون إليه، يقول الإمام الشافعي: "والعلم طبقات شتى، الأولى: الكتاب، والسنة إذا ثبتت السنة، ثم الثانية: الإجماع، فيما ليس فيه كتاب ولا سنة، والثالثة: أن يقول بعض أصحاب النبي، ﷺ، قولًا، ولا نعلم له مخالفًا منهم، وارابعة: اختلاف أصحاب النبي، ﷺ، في ذلك. الخامسة: القياس على بعض الطبقات، ولا يصدر إلى شيء غير الكتاب والسنة، وهما موجودان، وإنما يؤخذ العلم من أعلى٣".
حقيقة وجدنا أن بعض العلماء، وخاصة في القرن الثاني الذي نقوم بدراسته، قد رد بعض الأخبار عدم شهرتها بين الصحابة، أو عدم
_________
١ أصول السرخسي ١/ ١١٤ - أصول البزدوي ٢/ ٦٣٠، والحديث رواه الترمذي في جامعه في كتاب العلم ٣/ ٣٧٨ طبعة دار الكتاب العربي - بيروت، بشرح تحفة الأحوذي، وقاله فيه: "حسن صحيح".
٢ أصول البزدوي ٢/ ٦٢٨.
٣ الأم: للإمام محمد بن إدريس الشافعي، طبعة الشعب جـ٧ ص٢٤٧.
1 / 14
أخذهم بها دليلًا، أو لأن بعض البلدان، وخاصة المدينة، لا تعمل بها، ثم يأخذون بأقوال للصحابة أو بعمل أهل المدينة، ولكن هذا لا يعني إلا أمرين.
الأول: أنهم لم يأخذوا بهذا على أنه مثل السنة في المكانة، ولا لأن السنة تطلق عليهما؛ وإنما لأنهم أصبحوا في شك، يقرب من اليقين أن هذا لم يصدر من الرسول، ﷺ، وأن هناك انقطاعًا باطنيًّا في الحديث، كما يعبر الأحناف.
الثاني: أن هذا تمسك بسنة الرسول ﷺ فقط؛ لأنهم عندما يلجئون إلى عمل، أو إلى الصحابة، فلاعتقاد منهم أنهم ورثوه عن النبي ﷺ، أو بعبارة أخرى عن سنة الرسول ﷺ.
نقول هذا لندرك مدى الخطأ الذي وقع فيه بعض المستشرقين من أمثال يوسف شاخت، الذي يقول عن علماء القرن الثاني الهجري قبل الشافعي ومعاصريه إن "السنة بالنسبة إليهم لا ترتبط ضرورة بالنبي، ولكنها تمثل الآثار، ولو تصورًا، التي كان عليها العمل بين الجماعة مكونة العرف، فكانت على قدم المساواة مع ما كان يجري عليه العمل من عاداتهم، أو ما كانت تأخذ به عامتهم على وجه العموم". ويؤكد فكرة المساواة هذه بعبارة أوضح، فيقول: "ومن ناحية أخرى، فإنه من المؤكد أن السابقين والمعاصرين للشافعي كانوا يقدمون أحاديث الرسول إلا أنهم كانوا يضعونها في نفس المنزلة، التي يضعون فيها آثار الصحابة والتابعين"١، ثم يناقض نفسه فيجعل سنة الرسول في منزلة أقل فيقول: "وقد كان الاحتجاج بآثار الصحابة والتابعين هو المعمول فيه عند الجيلين السابقين للشافعي، وكان الاحتجاج بأحاديث الرسول الأمر الشاذ"٢.
_________
١ Origns of Mohamadan Jurisprudence J.ch. P. ٢٥
عن موقف الإمام الشافعي من مدرسة العراق الفقهية: لمحيي الدين عبد السلام البلتاجي. المجلس الأعلى للشئون الإسلامية - القاهرة ص١٣٠.
٢ المصدر السابق ص١٣٢.
1 / 15
نقول: لم يتصور أحد من المسلمين قبل الشافعي أو بعده أن عمل الصحابة ومن بعدهم، أو العمل بين الجماعة. والذي يكوِّن العرف يكون على قدم المساواة مع ما ينسب إلى النبي، ﷺ، أو في نفس المنزلة، فضلًا عن أن يكون في منزلة أدنى، أو في وضع شاذ بالنسبة لعمل غيره. والأمر لا يتعدى أن بعض الفقهاء قد وضع بعض المقاييس لتوثيق السنة، وهو الذي جعل الإمام الشافعي يرميهم بترك السنة، وعدم الاعتماد على صحتها من حيث الإسناد.
ولم يكن الشافعي هو الذي أتى بالجديد في ذلك، كما يزعم هذا الرجل، ويتبعه في ذلك بعض الباحثين، فقد كان معه ووراءه وقبله المحدثون جميعًا ينادون بترك هذه المقاييس والاقتصار على صحة الإسناد، ويتهمون مخالفيهم بترك السنة والابتعاد عنها، وهي تهمة كان يفزع منها خصومهم، ويحاولون أن يثبتوا أنهم برآء منها، ولو كان الأمر عندهم كما يصور "شاخت" وأمثاله ما بالوا بهذه التهم، ولما كانت شنيعة في نظرهم ونظر مجتمعهم، ما دام الأخذ بالسنة هو الأمر الشاذ.
وسيثبت لنا هذا البحث في جزء كبير منه، أنهم في الحقيقة كانوا يقدمون سنة النبي، النبي متى صحت عندهم بالمقاييس التي وضعوها، ولا يقدمون عليها إجماعًا أو قولًا أو عملًا، من الصحابة أو من غيرهم.
٧- وغير هذه الإطلاقات قد تطلق السنة في مقابلة البدعة، أي ما يحدثه الناس من قول أو عمل في الدين مما لم يؤثر عنه ﷺ وعن أصحابه، يقول الشاطبي: "فيقال فلان على سنة إذا عمل على وفق ما عمل عليه النبي ﷺ؛ كان ذلك مما نص عليه في الكتاب أو لا ... ويقال فلان على بدعة إذا كان على خلاف ذلك "واعتبر في هذا الإطلاق عمل صاحب الشريعة، وإن كان العمل بمقضى الكتاب١".
٨- وتطلق السنة على النوافل من العبادات غير الفروض، مما نقل
_________
١ الموافقات ٤/ ٢، ٣.
1 / 16
عن النبي، ﷺ، سواء كانت مؤكدة يكره تركها أو غير ذلك١.
٩- والسنة عند الشيعة لها إطلاق يختلف إلى حد كبير عن كل هذا. لأنها عندهم قول النبي ﷺ أو فعله أو تقريره، وقول كل واحد من المعصومين أو فعله أو تقريره، أو بعبارة أخرى قول المعصوم أو فعله أو تقريره.
وذلك لأن المعصوم من آل البيت يجري قوله مجرى قول النبي من كونه حجة على العباد واجب الاتباع "والأئمة من آل البيت عندهم ليسوا من قبيل الرواة عن النبي ﷺ والمحدثين عنه ليكون قولهم حجة من جهة أنهم ثقات في الرواية؛ بل لأنهم هم المنصّبون من الله تعالى على لسان النبي لتبليغ الأحكام ... وذلك من طريق الإلهام كالنبي من طريق الوحي، أو من طريق التلقي من المعصوم قبله"٢.
١٠- وبعد أن استقرت المصطلحات في مؤلفات أصول الحديث والفقه وأصوله وجدنا للسنة مفهومات محددة تسير عليها هذه المؤلفات، ويسير عليها العلماء المتأخرون في هذه العلوم الثلاثة:
فالسنة عند علماء الحديث هي كل ما أثر عن النبي ﷺ من قول أو فعل أو تقرير أو صفة، سواء أدل ذلك على حكم شرعي أم لا.
والسنة عند علماء أصول الفقه هي كل ما صدر عن النبي ﷺ من قول أو فعل أو تقرير مما يصلح أن يكون دليلًا لحكم شرعي.
والسنة عند علماء الفقه هي كل ما ثبت عن النبي، ﷺ.
_________
١ الاتجاهات الفقهية عند المحدثين في القرن الثالث الهجري، لأستاذنا د. عبد المجيد محمود: رسالة دكتوراه - دار العلوم ١٣٨٨هـ - ١٩٦٨ص٣ الطبعة الأولى مكتبة الخانجي.
٢ أصول الفقه: محمد رضا المظفر. الطبعة الثالثة. دار النعمان بالنجف ١٣٩١هـ ١٩٧١ن م جـ٣ ص ٦١.
"٢ - توثيق السنة"
1 / 17
ولم يكن من باب الفرض. فهي الطريقة المتبعة في الدين من غير افتراض١.
١١- وسنسير في بحثنا -إن شاء الله تعالى- على الإطلاق الأول، وهو إطلاق المحدثين الذين يعنون بالسنة -كما أسلفنا- كل ما أثر عن النبي، ﷺ؛ وذلك لأن التوثيق للسنة اتجه إلى هذا المعنى، وعليه وضعت الأسس لمعرفة الصحيح الذي ينسب إلى الرسول ﷺ أو ما يتعلق به حقًّا، من زيفه الذي ينسب إليه كذبًا أو ضعيفه الذي يُشك في نسبته إليه ﷺ.
كما أنه لن يلتفت إلى أسس توثيق الشيعة للحديث؛ لأنهم لم يقوموا بوضع هذه الأسس إلا بعد القرن الثاني الهجري، وفي هذا القرن وما قبله كان هناك الأئمة الذين يأخذون منهم الأحاديث مباشرة، فمثلهم في هذا مثل من كانوا في العهد يرجعون إلى النبي ﷺ، ولم تكن هناك من حاجة إلى وضع هذه الأسس، ولا إلى تلك الحركة العلمية الهائلة التي قامت بوضع أسس لتوثيق السنة عند أهل السنة. ولم يبدأ التصنيف في علم أصول الحديث عندهم إلا في أواخر القرن الرابع الهجري، مع التسليم بأن الحاكم النيسابوري منهم "٤٠٥هـ"٢.
هل يختلف هذا المفهوم الذي اخترناه للسنة عن مفهوم الحديث؟:
الحديث:
١٢- الحديث في اللغة يطلق على الجديد ضد القديم، كما يطلق على الخبر والقصص، قال في "القاموس المحيط": "والحديث الجديد والخبر"
_________
١ السنة قبل التدوين: د. محمد عجاج الخطيب، الطبعة الأولى -مكتبة وهبة -القاهرة ١٣٨٣هـ - ١٩٦٣م، ص١٥ - ١٨. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي: د. مصطفى السباعي- الدار القومية للطباعة والنشر - القاهرة ص٥٢- ٥٣، ومصادرها.
٢ نشأة علوم الحديث ومصطلحه: د. محمد عجاج الخطيب -كلية دار العلوم- جامعة القاهرة ١٣٨٤هـ - ١٩٦٥م ص ٤٩٣.
أمثال الحديث، مع تقدمه في علوم الحديث: د. عبد المجيد محمود. دار التراث، الطبعة الأولى ١٩٧٥ - القاهرة، ص٧٤.
1 / 18
وفي "لسان العرب": "والحديث الجديد من الأشياء، والحديث الخبر يأتي على القليل والكثير، والجمع أحاديث".
١٣- وتخصيص الحديث بما قاله الرسول، ﷺ، قد بدأ في حياته ﷺ، فقد سأله أبو هريرة: "يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة".. فأجابه رسول الله ﷺ: "لقد ظننت يا أبا هريرة، أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أدل منك، لما رأيت من حرصك على الحديث" ١.
١٤- وقد اتسع استعمال الحديث بعد وفاة الرسول ﷺ فأصبح يشمل مع القول فعله وتقريره صلى الله عليه وسلم٢.
ولهذا يصطلح المحدثون على أنه "ما صدر عن الرسول، ﷺ من قول أو فعل أو تقرير أو صفة٣.
وهذا ما يطبق فعلًا في كتب الحديث منذ القرن الثاني الهجري، حتى إننا نجده في الكتب الخاصة بالسنن، أي بأدلة الأحكام من السنة٤.
_________
١ صحيح البخاري طبعة الشعب جـ١ ص٣٥/ ٣٦.
٢ الاتجاهات الفقهية ص٢.
٣ قواعد التحديث، لمحمد جمال الدين القاسمي، تحقيق محمد بهجة البيطار. الطبعة الثانية ١٣٨٠هـ - ١٩٦١م، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي ص٦٤.
٤ انظر مثلًا سنن الدارمي، لأبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي "٢٥٥هـ) دار إحياء السنة النبوية ١/ ٤ - ٦.
- وانظر جامع الترمذي بشرح تحفة الأحوذي - دار الكتاب العربي - بيروت لبنان ١/ ٣٠٢ - ٣٠٧.
1 / 19
السنة والحديث:
١٥- وهذا التعريف للحديث عند المحدثين ينطبق تمامًا على تعريف السنة، عندهم كما سبق أن ذكرنا.
ولكنه قد يبدو في أقوال بعض العلماء في القرن الثاني الهجري التفرقة
بينهما نلمس، ذلك في قول الأعمش١ ﵀: "لا أعلم لله قومًا أفضل من قوم يطلبون هذا الحديث، ويحبون هذه السنة٢"، وأوضح منه على هذا قول عبد الرحمن بن مهدي: "الناس على وجوه؛ فمنهم من هو إمام في السنة وليس بإمام في الحديث، ومنهم من هو إمام في الحديث وليس بإمام في السنة".
وربما كان أساس هذا التفريق هو أنهم كانوا ينظرون إلى أن "الحديث أمر علمي نظري، وأن السنة أمر عملي؛ إذ أنها كانت تعتبر المثل الأعلى للسلوك في كل أمور الدين والدنيا، وكان هذا سبب الاجتهاد في البحث عنها والاعتناء بحفظها والاقتداء بها٤".
وربما كان الأساس هو أن بعضهم كان ينظر إلى السنة على أنها أعم من فعلالرسول وقوله وتقريره، وتشمل أفعال الصحابة والتابعين، كما سبق أن ذكرنا.
١٦- ولكننا سنسير في بحثنا هذا -إن شاء الله تعالى- على أن السنة والحديث يتطابقان في المعنى، ويمكن أن يطلق أحدهما على الآخر.
١٧- وقد نطلق لفظين آخرين، ونريد بكل منهما ما نريده من كلمتي السنة والحديث بالمفهوم الذي اخترناه، وهما الخبر والأثر، وهما مرادفان للحديث عند المحدثين، ولهما مفهومات أخرى عند غيرهم٥ ليس هنا مجال بحثها.
_________
١ هو أبو محمد سليمان بن مهران الأسدي "١٤٨هـ" له ترجمة في تذكرة الحفاظ للذهبي - الطبعة الثالثة ١/ ١٥٤.
٢ المحدث الفاصل بين الراوي والواعي: الحسن بن عبد الرحمن الرامهرمزي "نحو ٢٦٠ - ٣٦٠هـ" تحقيق د. محمد عجاج الخطيب. دار الفكر بيروت. الطبعة الأولى ١٣٩١هـ - ١٩٧١م، ص ١٧٧.
٣ تقدمة المعرفة لكتاب الجرح والتعديل: للإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي (٢٤٠ - ٣٢٧هـ) الطبعة الأولى - دائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد الدكن. الهند ١٣٧١هـ - ١٩٥٢م ص١١٨.
٤ الاتجاهات الفقهية ص٤.
٥ شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر: لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني - مكتبة القاهرة. ص٣ - قواعد التحديث ص ٦١ - ٦٢.
1 / 20
توثيق السنة والمراد منه:
١٨- في "لسان العرب" في مادة "وث ق": الثقة مصدر قولك: وثق به يثق بالكسر فيهما، وثاقة وثقة: ائتمنه، وأنا واثق به، وهو موثوق به، وهي موثوق بها وهم موثق بهم.... وثقت فلانًا إذا قلت: إنه ثقة، ووثقت الشيء توثيقًا؛ فهو موثق، والوثيقة الإحكام في الأمر ... ويقال: استوثقت من فلان، وتوثقت من الأمر: إذا أخذت منه بالوثاقة. وأخذت الأمر بالأوثق؛ أي: الأشد الأحكم ... وناقة موثقة الخلق: محكمة١.
ويضيف "تاج العروس": ووثقه توثيقًا؛ فهو موثق: أحكمه، ووثق فلانًا، قال فيه: ثقة، أي مؤتمن.
١٩- ونريد من توثيق السنة أو الحديث قريبًا من هذا، وهو الوصول بالحديث، بتطبيق الأسس العلمية التي وضعها العلماء، إلى درجة إحكام اتصاله، ونسبته إلى رسول الله ﷺ، وتوفر الأمانة في نقله من التحريف والتغيير أو الزيادة فيه. وعدم ائتمان ما يخالف هذه الأسس.
ويمكننا أن نقول على غرار هذه المادة اللغوية: وثق بالحديث يثق به، ائتمنه وأنا واثق به، أي آمن نسبته إلى رسول الله ﷺ، ووثقت الحديث توثيقًا، أحكمت نسبته إلى رسول الله، ﷺ.
٢٠- وقد شاع استعمال لفظ "ثقة" على لسان النقاد من المحدثين، وكتبهم وصفًا للرواة، ويعنون به ذلك الراوي العدل الضابط الذي يروي الأحاديث الصحيحة، لكنهم لم يتسعملوها كثيرًا -على ما أعلم- وصفًا للحديث الثابت الصحيح، وممن استعمل هذا في القرن الثاني الهجري الإمام محمد بن الحسن الشبياني في كتابه "الحجة" الذي ألفه في الرد على أهل المدينة،
_________
١ لسان العرب: وقارن به تهذيب اللغة للأزهري ٩/ ٢٦٦ تحقيق الأستاذ عبد السلام هارون - الدار المصرية للتأليف والترجمة.
٢ تاج العروس مادة: "وث ق".
1 / 21
فقال: "قد جاءت في الوتر أحاديث مختلفة، فأخذنا بأوثقها١"، ولكنه شاع في العصر الحديث، وخاصة في كتابة التاريخ مدعمًا بالأسانيد التي تثبت الوقائع، والمصادر الأصلية والمضبوطة، وصولًا منها إلى الحقائق التاريخية الثابتة والصحيحة.
٢١- ونريد ما هو شبيه بهذا من بحثنا، وهو بيان الأسس التي وضعها نقاد الحديث، صيانة لحديث رسول الله ﷺ، وانتقاء لصحيحه، وإبعادًا للضعيف والموضوع.
٢٢- وقد آثرنا هذه الكلمة على غيرها مما كان شائعًا عند المحدثين، وهو كلمة "النقد٢"؛ لأنها، وإن كان معناها الحقيقي بيان الصحيح من غيره، إلا أنه قد شاع استعمالها الآن خطأ في بيان العيوب، وقد يوحي استعمالنا لها في عنوان هذا البحث أننا نبين أسس عيوب السنة، وليس هذا بالطبع هو الواقع، أو ما نريده، وإنما الذي نريده، هو كشف الأسس التي قام عليها تمييز صحيح السنة من ضعيفها وزيفها٣؛ لنصل بالدراسة إلى أي مدى كانت هذه الأسس، مؤدية إلى الهدف الذي كان يريد أن يصل إليه علماؤنا من المحدثين والفقهاء؛ وهو تنقية السنة مما علق بها من شوائب التحريف والزيف، ثم تقديمها خالصة نقية؛ كي يستفيد منها المسلمون، كينبوع ثان من ينابيع التشريع الإسلامي، بعد كتاب الله ﷿: الينبوع الأول.
_________
١ الحجة: للإمام محمد بن الحسن الشيباني "١٨٩هـ" مكروفيلم بمعهد المخطوطات التابع لجامعة الدول العربية، ص ٤٤.
٢ انظر مثلًا تقدمه المعرفة ص٢ و١٠ و٢١٩.
٣ وهذا ما يقوم به علم الحديث دراية، وهو علم يعرف منه حقيقة الرواية وشروطها وأنواعها وأحكامها؛ وحال الرواة وشروطهم، وأصناف المرويات وما يتعلق بها، وعلم الحديث رواية، وهو علم يشتمل على أقوال النبي ﷺ وأفعاله، وروياتها وضبطها وتحرير ألفاظها. "تدريب الراوي ١/ ٤٠".
1 / 22
نظرة عامة على التوثيق في القرن الأول الهجري:
٢٣- إن جهود توثيق السنة في القرن الثاني الهجري لا تؤتي الثمار المرجوة منها إلا إذا سبقتها جهود أخرى قام بها قبلهم رجال القرن الأول الهجري؛ إذ أن هذه الجهود كانت هي الأساس الذي بنى عليه أهل القرن الثاني عملهم.
ما هذه الجهود؟:
٢٤- إن القرن الأول الهجري كان فيه الصحابة الذين تلقوا الحديث عن رسول الله ﷺ، وكان فيه كبار التابعين الذين أخذوا الحديث عنهم. إذن فلنبين ما قام به الصحابة رضوان الله عليهم من أجل الحفاظ على سنة رسول الله، ﷺ، وجهود التابعين من بعدهم في هذا السبيل، حتى أسلموهها إلى أهل القرن الثاني الهجري.
توثيق الصحابة:
٢٥- لقد رأى الصحابة، رضوان الله عليهم، أن سنة رسول الله، ﷺ، جزء من الدين الذي يدينون به؛ ففي القرآن الكريم الحث على طاعة الرسول، ﷺ، والنهي عن مخالفته، قال تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه﴾ ١، وقال جل شأنه: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُم﴾ ٢، وقال عز من قائل: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ ٣، وقال سبحانه: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ ٤، إلى غير ذلك من الآيات.
_________
١ النساء: ٨٠.
٢ النساء: ٥٩.
٣ النساء: ٦٥.
٤ الحشر: ٧.
1 / 23
٢٦- وفي القرآن الكريم أيضًا الحث على الاقتداء به صلى الله عله وسلم، قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ .
٢٧- بالإضافة إلى ذلك فالرسول، ﷺ، حذرهم من ترك سنته حين قال لهم: " لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكته، يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به، أو نهيت عنه، فيقول: ما أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه" ٢، وحين قال لهم يوم أن حرم عليهم أشياء يوم خيبر: "يوشك أن يقعد الرجل منكم على أريكته يحدث بحديثي، فيقول: بيني وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالًا استحللناه، وما وجدنا فيه حرامًا حرمناه، وإنما حرم رسول الله كما حرم الله" ٣.
٢٨- وقد أحسوا بذلك يقينًا حين نزلت بعض آيات من القرآن الكريم، فلم يستطيعوا فهمها، أو تنفيذ ما فيها من الوامر أو النواهي إلا بالرجوع إلى الرسول، ﷺ، وبيانه لها؛ تنفيذًا لقوله ﷿: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ ٤.
لقد نزلت الآية الكريمة: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ ٥، فأبهم معنى كلمة الظلم عليهم، ويئسوا وقالوا:
_________
١ الأحزاب: ٢١.
٢ رواه الحاكم في المستدرك ١/ ١٠٨، وقال على شرط الشيخين، وأقره الذهبي، ويقول شيخنا المحدث الشيخ محمد الحافظ التجاني: "وسند هذا الحديث ورجاله رجال الصحيحين"، "سنة الرسول ﷺ: مجمع البحوث الإسلامية، الكتاب السابع ١٣٨٩هـ - ١٩٦٩م، ص٢١، ٢٢".
٣ رواه الحاكم أيضًا في المستدرك ١/ ١٠٩ - ١١٠، وسنده صحيح "سنة الرسول ص ٢٣".
٤ سورة النحل: ٤٤.
٥ سورة الأنعام: ٨٢.
1 / 24