وقيل لأبي زهير المدايني ما العشق فقال: الجنون والذل وهو داء أهل الظرف وقيل لأبي وائل الأوضاحي ما تقول في العشق فقال: إن لم يكن طرفًا من الجنون فهو عصارة من السحر وقالت إعرابية: هو تحريك الساكن وتسكين المتحرك وقال المأمون ليحيى بن أكثم ما العشق فقال: سوانح تسنح للمرء فيهيم بها قلبه وتؤثر بها نفسه فقال له تمامة: أسكت يا يحيى إنما عليك أن تجيب في مسألة طلاق أو محرم صاد صيدًا فأما هذه فمن مسائلنا نحن فقال له المأمون: قل يا تمامة قال: العشق جليس ممتع وأليف مؤنس وصاحب مالك وملك قاهر ملك مسالكه لطيفة ومذاهبه غامضة وأحكامه جائرة ملك الأبدان وأرواحها والقلوب وخواطرها والعيون ونواظرها والعقول وآراءها قد أعطى عنان طاعتها وقوة تصرفها وقياد ملكها وتوارى عن الأبصار مدخله وعمي عن القلوب مسلكه فقال له المأمون أحسنت يا تمامة وأمر له بألف دينار وهذا القدر كاف في معرفة العشق ورسمه.
الفصل الثاني
أسبابه وعلاماته
أقول هذا الفصل عقدناه للكلام على أسباب العشق النفسانية وعلاماته الجسمانية على أن هذا النوع الأخير كثير والمتصف به من المحبين جم غفير وسنورد من ذلك ما يعذب وروده وتخفق كقلب العاشق بنوده إن شاء الله تعالى قال بعض الأطباء سبب العشق النفساني الاستحسان والفكر وسببه البدني ارتفاع بخار رديء إلى الدماغ عن مني محتقن ولذلك أكثر ما يعتري العزاب وكثرة الجماع تزيله بسرعة وقال ابن الأكفاني في كتابه غنية اللبيب عند غيبة الطبيب إن أكل الطيور المسموعة يورث العشق وقال أيضًا في الخلاصة علامته نحافة البدن وخلاء الجفن للسهر وكثرة ما يتصعد إليه من الأبخرة وغور العين وجفافها إلا عند البكاء وحركة الجفن ضاحكة كأنه ينظر إلى شيء لذيذ ونفس كثير الانقطاع والاسترداد والصعداء ونبض غير منتظم لا سيما عند ذكر أسماء وصفات مختلفة فأيها اشتد عنده اختلاف النبض وتغير الوجه فهو وقال أرسطاطاليس الفلكي للعشق من النجوم زحل وعطارد والزهرة جميعًا ولذلك إذا اشتركوا في أصل المولد أو اجتمعوا وتناظروا في أشكال محمودة وقع بينهم العشق والمحبة في بيت أحدهم أو في حده وكان رب البيت أو صاحب الحد ناظرًا إليه أو كانت الكواكب المذكورة ناظرة في أشكال محمودة أو متقارنة فزحل يهيئ الفكرة والتمني والطمع والهم والهيجان والأحزان والوسوسة والجنون وعطارد يهيئ قول الشعر ونظم الرسائل والملق والخلاعة وتنميق الكلام والتذلل والتلطف والزهرة تهيئ للعشق والوله والهيمان والرقة وتبعث في النفس التلذذ بالنظر والمؤانسة بالحديث والمغازلة التي تبعث على الشبق والغلمة وتدعو إلى الطرب وسماع الأغاني وما شابهه وقال بطليموس سببه أن تكون الشمس والقمر في برج واحد أو متناظرين من تثليث أو تسديس فمتى كان كذلك كانا مطبوعين على مودة كل واحد منهما لكون سهمي سعادتهما في مولديهما في برج واحد أو يتناظر السهمان من تثليث أو تسديس بعد أن يكون نظر صاحب سهم المحبة والصداقة فذلك يدل على أن هذين المولودين محبتهما من جهة المنفعة ومنفعتهما من جهة واحدة وإن أحدهما ينتفع بمودة صاحبه فتجلب المنفعة ما بينهما المحبة والمودة ويمتزجان ويؤيد هذا قول الخيزارزي:
ولكن أرواح المحبين تلتقي ... إذا كانت الأجساد عنهن نوّما
وأحسب روحينا من الأصل واحدًا ... ولكنه ما بيننا منقسما
ولو لم يكن هذا كذا ما تألّمت ... له مهجتي بالغيب لما تألما
ومن علاماته إغضاء المحب عند نظر محبوبه إليه ورميه بطرفه نحو الأرض وذلك من مهابته له وحيائه منه وعظمته في صدره ولهذا يستهجن الملوك من يخاطبهم وهو يحد النظر إليهم بل يكون خافض الطرف إلى الأرض قال الله تعالى مخبرًا عن كمال أدب نبيه ﷺ في ليلة الإسراء ما زاغ البصر وما طغى وهذا غاية الأدب فإن البصر لم يزغ يمينًا ولا شمالًا ولا طمح متجاوزًا إلى ما وراء ومنها اضطراب يبدو للمحب عند رؤية من يشبه محبوبه أو عند سماع اسمه كما قيل:
وداع دعا إذ نحن بالخيف من مني ... فهيج أشجان الفؤاد وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما ... أطار بليلى طائرًا كان في صدري
دعا باسم ليلى أسخن الله عينه ... وليلى بأرض الشام في بلدٍ قفر
1 / 6