146

इब्न खल्दून की मुकदमा पर अध्ययन

دراسات عن مقدمة ابن خلدون

शैलियों

وهكذا يلتجئ فيكو في معظم مراحل تفكيره وتعليله إلى فكرة العناية الإلهية، ويوصل نزعته هذه إلى أقصى حدودها حينما يقول: «لقد بحث الفلاسفة عن دلائل القدرة الصمدانية والعناية الإلهية بين مشاهد الطبيعة، وفاتهم أن تلك القدرة والعناية تتجلى بأجلى مظاهرها في الحياة الاجتماعية. فالعلم الجديد يسعى إلى تلافي هذا النقص بإظهار وتبيين دلائل عناية الله من خلال وقائع التاريخ، فهذا العلم بمثابة «لاهوت مدني»، يبرهن على العناية الإلهية بالوقائع التاريخية» (ص84). (2)

ولكي نعطي فكرة أوضح من ذلك عن الدور الذي يعزوه فيكو إلى العناية الإلهية في الوقائع التاريخية، ننقل فيما يلي بعض الفقرات التي كتبها في الكتاب الأخير من العلم الجديد: «لما نورت وقوت القدرة الإلهية حقيقة المسيحية بوسائط خارقة للعادة - بفضائل الشهداء ضد السلطة الرومانية، وبتعاليم الآباء ومعجزات القديسين ضد حكمة اليونان الفارغة - قامت أمم محاربة - البرابرة الأوروبيون في الشمال، والعرب المحمديون في الجنوب - وصارت تهاجم «ألوهية يسوع المسيح» في كل الجهات، وقد سمح الله عندئذ أن ينشأ نظام جديد بين الأمم؛ لكي تتأسس هذه الحقيقة - حقيقة ألوهية يسوع المسيح - بصورة لا تتزلزل أبدا؛ ولذلك أعاد الله خصال الدور الأول، وأوجد خصالا جديدة مثلها، استحقت نعت «الإلهية» أكثر من الأولى؛ فأخذ الملوك الكاثوليكيون - حماة الدين - في كل الجهات يرتدون ملابس رجال الدين، ويقفون ذواتهم الملكية على خدمة الله» (ص357). (3)

وقد كتب فيكو في الفصل الرابع من الكتاب الأخير ما مؤداه: «لقد سمحت العناية الإلهية للعوام بأن يتنافسوا مع الخواص في التقوى والديانة مدة طويلة، قبل أن يشتركوا معهم في الحقوق المدنية. إن تمسك الشعب بالدين وتحمسه للدين هو الذي أوصله إلى الاشتراك في السلطة المدنية، وهو الذي فسح المجال لتكوين الحكومات الشعبية، ومع هذا لما كان كل شيء في مثل هذه الحكومات يستند إلى نتائج الانتخابات؛ حالت العناية الإلهية دون سيطرة الصدف فيها، فأمرت أن يكون حق التصويت مقيدا بمقدار من الثروة، وأن يعتبر الأشخاص النشيطون والمقتصدون والكرماء أليق بالحكم من الخاملين والمسرفين والمعوزين، وبتعبير آخر: إنها أمرت أن يعتبر الأغنياء المتصفون ببعض الفضائل أليق بالحكم من الفقراء المملوئين بالمفاسد» (ص380).

ولكن المواطنين لم يكتفوا بالتميز بثروتهم، بل حاولوا أن يجعلوا تلك الثروة آلة لزيادة سلطتهم؛ فحدثت عندئذ ثورات وحروب أهلية أدت إلى فوضى عامة. «على هذا الداء الاجتماعي الوبيل تستعمل العناية الإلهية أحد الأدوية الثلاثة التي نذكرها فيما يلي: «أولا؛ يظهر من بين أفراد الشعب رجل مثل أوغسطس، يؤسس الملكية، ويضع حدا للفوضى.» «وأما إذا لم تجد القدرة الإلهية مثل هذا الدواء في الداخل، فتأتي به من الخارج؛ يأتي شعب أفضل من الشعب الفاسد، ويستولي عليه بقوة السلاح.» «وفي الأخير إذا لم يحدث أحد هذين الأمرين، واستمرت حالة الفوضى - إذا لم يتفق الشعب على اتخاذ أحدهم ملكا، ولم يأت شعب أفضل ويستولي على البلاد - حينئذ تطبق العناية الإلهية لهذا الداء المزمن، الدواء الأخير، ألا وهو الزوال»» (ص382). (4)

يظهر من هذه الأمثلة بكل وضوح أن فيكو ينتهز جميع الفرص التي تسنح له لذكر العناية الإلهية، أو للبرهنة عليها.

وأما أقوى الدلائل التي يذكرها فيكو للبرهنة على أن العناية الإلهية تدير الشئون البشرية، فهي - على زعمه - الحقيقة التالية: «إن الأصلح والأفضل من الأفراد هم الذين حكموا ويحكمون على الدوام، في كل حكومة بلا استثناء» (ص355).

وبهذه الوسيلة يتطرق فيكو إلى جمهورية أفلاطون، فيقول: «لقد أضاف أفلاطون إلى أشكال الحكومات الثلاثة شكلا رابعا، هو شكل الحكومة التي سيحكم فيه الأفضلون، إن هذه الجمهورية التي كان يتخيلها أفلاطون ويدعو إليها، كانت موجودة - في حقيقة الأمر - منذ أوائل الاجتماع الإنساني؛ فإن في كل دور من أدوار التاريخ كان الأفضلون هم الذين حكموا بنعمة الله وعنايته.»

إن فيكو يحاول أن يبرهن على صحة هذا الرأي في كل مناسبة، وينهي كتابه بالعبارات التالية: «نستطيع أن نستنتج من كل ما قلناه في تأليفنا هذا أن العلم الجديد يحمل معه - حتما - روح التقوى، وأن الحكمة الحقيقية لا يمكن أن توجد بلا ديانة.» (2) مقدمة التاريخ والعلم الجديد

بعد أن استعرضنا أهم الآراء والنظريات المسرودة في «العلم الجديد»، نستطيع أن نقدم على مقارنة الكتاب المذكور بمقدمة ابن خلدون؛ لنتبين أوجه التفاضل بين ما كتبه المفكر العربي في القرن الرابع عشر، وبين ما نشره الباحث الإيطالي في القرن الثامن عشر.

1

अज्ञात पृष्ठ