धर्म
الدين: بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان
शैलियों
إنه لا ينكر أحد أن الإلف والعادة يقلان من حدة الشعور، وأن استمرار المحسات على نسق واحد يضعف باعثة التفكير في مصدرها، ذلك ما لا شك فيه، ولكن الظواهر الكونية - مهما تتشابه أدوارها المتقابلة - لا تفتأ كل حركة منها تعرض على حواسنا صورا متبدلة، وألوانا طريفة: فتغير وجوه القمر، واختلاف مواقع النجوم، ومطالع الشمس، ومناظر الفجر والشفق، واختلاف الليل والنهار، وتقلب الرياح والفصول والخصب والجدب؛ كل أولئك يحمل تنبيها جديدا لمن ألقى سمعه وبصره. على أنه ليس المدعى أن كل أحد لا بد له أن يسأل نفسه عن منشأ هذه الظواهر ومغزاها؟ ولكن المدعى أن كل من ألقى هذا السؤال عن نفسه وتنبه إلى هذه الآثار رأى فيها آية عجيبة، وأحس أمامها بروعة وخشوع.
والقول بأن «البدائيين» قاصرون عن هذا الإدراك - لأنهم يزعمون لأنفسهم القدرة على تسخير عناصر الطبيعة لأهوائهم - قول مناقض للواقع إذا أخذ على عمومه في كل الأفراد والأحوال؛ فجمهور العامة أضعف من أن يظنوا ذلك بأنفسهم، والأفذاذ الذين يزاولون بعض وسائل السحر أو الكيمياء إذا ظفروا بتسخير شيء من القوى الدنيا لم يمنع ذلك خضوعهم واستسلامهم للقوانين العليا التي لا تمتد إليها يد مخلوق، فالله يأتي بالشمس من المشرق، فمن يأتي بها من المغرب؟ وكل نفس ذائقة الموت، فهل يستطيع بشر أن يكتب لنفسه الخلود؟ وهل يتهيأ لأحد أن يفارق ظله، أو أن يسترجع ماضيه؟ أو أن يصنع ولده كما يشاء خلقا وخلقا؟ بل أن يخلق حشرة أو ذبابة؟
ولقد أسلفنا أن فكرة السحر مباينة تماما لفكرة التدين في طبيعتها وفي موضوعها، فالشعور بالسلطان والقوة على تسخير الطبائع يمكن أن يكون شعورا كيميائيا أو ساحرا، ولا يمكن أن يكون شعور عابد لها؛ لأن الإنسان لا يعبد شيئا مسخرا له حين يسخره، ولا يسخر شيئا يزعم أنه يعبده حين يعبده.
والقول المأثور: «إن قوة الإيمان تزحزح الجبال» لا يمكن أن يكون معناه أن الإيمان مبعثه القوة؛ فإن فرقا شاسعا بين أن يكون الإيمان باعثا للقوة، وبين أن تكون القوة هي التي تبعثه، والالتباس بين الأمرين قلب واضح للأوضاع؛ إذ يصور الآثار بصورة أسبابها ، ويضع النتائج موضع مقدماتها، وهكذا لا يلد التسرع والإكثار إلا أقوالا ينقصها التحري والدقة في التعبير.
ثم ما هذه القوة التي يبعثها الإيمان؟ أليست هي قوة الثقة والطمأنينة التي تجيء تعويضا وعلاجا لما نشعر به بادئ ذي بدء من الضعف والحيرة الأصيلين في طبيعة الإنسان، واللذين هما مبعث الإيمان؟ ثم من أين تستمد تلك القوة الجديدة المكتسبة من الإيمان؟ أليس منبعها الاعتماد على القوة الروحية العليا التي يلجأ إليها المؤمن؟ فهي إذن ليست قوته الذاتية البشرية، وأخيرا ليس لنا أن نخلط بين قوة الفهم والتأمل في الكون، وبين القدرة على تصريف الكون، فإن أقوى الناس فهما، وأوسعهم علما بحقائق الكون هم أشدهم إحساسا بضعف الإنسان وضآلته في جنب هذا الصرح العالمي، وبخضوعه وتبعيته للقوانين العليا التي لا بد له في تغييرها، وهذا الإحساس هو مبدأ الإيمان ومبعث التأليه والعبادة.
وهنا نسأل عن مغزى هذه السلسلة المتلاحقة من الحركات النفسية، التي تنتقل من النظر والتأمل، إلى الاستعظام والإكبار، إلى التوجه والمناجاة؛ هل يجب أن يكون لها هدف وراء ذلك؟ ألست إذا وقفت أمام أثر فني بارع، فملأ صدرك، واستبد بإعجابك، تجد في نفسك باعثة قوية للتعبير لصاحب هذا الأثر عن شعور الإكبار لصنعته، والاعتراف بعظمته، كأن هذا دين في عنقك تؤديه، لا تبغي منه جزاء، ولا تقضي به وطرا، غير الترجمة عن صدق شعورك وتقديرك لهذه الآية القيمة؟ فما ظنك بأعظم الآثار وأبهرها؟ ألا يستحثك على التوجه لصانعه بهذا التعظيم البليغ، تسبيحا بحمده، وتقديسا لجلاله، بغير غرض ولا عوض؟ فإذا شعرت بأنك أنت نفسك جزء من هذا الأثر العظيم، وأنك مدين بوجودك وفهمك وقوتك لهذا الصانع، الذي خلقك وصورك، وشق سمعك وبصرك، ومنحك العقل والبيان، ومكنك من الانتفاع بما في السماء والأرض، ألست تقبل عليه بقلبك وجوارحك مقيدا بقيود إحسانه إليك، معترفا بعبوديتك له؟ فهذه كلها غايات نبيلة تؤديها الأديان، ولم تفشل فيها يوما من الأيام.
ومن ذا الذي قال: إن الخشوع أمام روعة الكون، والاتجاه بالتعظيم لصانعه، وهو تلك الانبعاثة الكريمة التي تعطى ولا تطلب، يمكن أن يفسر بذلك الشعور الضارع، شعور الالتجاء لتحقيق مطلب من مطالب الحياة، أو استدفاع ضرر من أضرارها؟
لقد خلط الناقد هنا خلطا واضحا بين نظريتين منفصلتين: نظرية الإعجاب التي نحن بصددها، ونظرية الرغبة والرهبة التي سنعرضها في الشعبة الثانية من المذاهب الطبيعية، فاعترض على إحداهما بالنتائج المترتبة على الأخرى.
على أنه في الحالة التي يكون فيها الباعث على العبادة هو الشعور بتلك الحاجة، والتي يتحول فيها معنى العبادة من التسبيح والتقديس إلى التماس الحماية - نقول إنه حتى في هذه الحالة - لا يجعل العابد من عبادته وسيلة يقينية للحصول على مأربه، كأنها عملية حسابية، أو قياس منطقي، أو تجربة مفروغ منها لا بد أن تؤتي ثمرتها؛ لأن التدين ينطوي دائما على اعتقاد أن القوة المتوجه إليها لا تصدر في تصرفاتها إلا عن مشيئتها المستقلة؛ ولذلك نلاحظ في توجهاته شعورا مزدوجا، هو مزيج من الاستسلام والرضى بما يقع، ومن الأمل والرجاء فيما يتوقع.
وإذا كان اللاعب المغامر لا يعد نفسه فاشلا لمجرد تكرر خسارته، ولا ييأس من مؤاتاة الحظ له بالربح في فرصة قريبة أو بعيدة، فالمؤمن أحق بتنحية عوامل اليأس من حسابه، وإرخاء حبل الأمل لنفسه إلى آماد بعيدة في حياته أو بعد مماته، بل المؤمن الصادق حين يلتجئ إلى ربه، ويناجيه برغائبه ومخاوفه، يجد في هذه التوسلات والدعوات نفسها شفاء وراحة هو عليهما أشد حرصا منه على موضوع شكواه، وحسبه أنه في هذه الانبعاثة يعبر تعبيرا واعيا صادقا، بأقواله وأفعاله وأحواله، عن مبلغ إدراكه للحقائق، ومدى شعوره بالتفاوت بين ضعف المخلوق وقوة الخالق، وأنه بذلك الإدراك وهذا التعبير يحقق المهمة العليا للإنسان في هذه الحياة، فسواء عليه بعد ذلك أن تصادف دعوته قبولا أو ردا، فقد أصاب من قبل حاجته الكبرى بهذا الخضوع الذي هضم به كبرياء نفسه، ووضع به كل شيء في موضعه، وبهذه العبودية التي أتم بها تصفية روحه وإنضاج فطرته، وتلك هي قرة عين المؤمنين، والهدف الأسمى للمتعبدين.
अज्ञात पृष्ठ