وصاح صائح من فريق أهل العلم: نراكم صرتم تفتخرون بفوائد مبادئكم بدل الافتخار بصحتها.
فأجاب الخطيب: إن المفيد يكون صحيحا دائما.
فصاح واحد آخر من فريق العلم: إن دين بوذه وكونفوشيوش وبرهما صحيح أيضا لأنه مفيد. فاستشاط الخطيب غضبا حينئذ وصاح مخاطبا أهل العلم: كل المذاهب خير من مذهبكم، ونحن سواء كنا مسيحيين أو مسلمين أو إسرائيليين أو بوذيين أو براهمة أو كونفوشيوشيين كلنا على اتفاق ضد مبادئكم المهلكة.
فصاح صائح آخر من فريق العلم: هذا افتراء فظيع علينا فإننا نؤمن بالله مثلكم.
فاشتد غضب الخطيب فقال: نعم تؤمنون بالله لتتخذوا هذا الإيمان ستارا تنشرون وراءه مبادئكم، وهل تحسبوننا بلها إلى هذا الحد حتى نكتفي منكم بالإيمان بالله، فإما أن تؤمنوا كما نؤمن نحن أو تكونوا جاحدين، هل تؤمنون برسالات الرسل والأنبياء والأقانيم الثلاثة وعلم الله بكل شيء ومقدرته على كل شيء والبعث والحساب في عالم آخر فيه جنة وفيه نار، كلا إنكم لا تؤمنون بذلك، ومع ذلك تنادون: «أن علمكم موافق للدين»، وعلمكم لا يكون موافقا للدين عندنا إلا متى أضاف إلى إيمانه بالله الإيمان بهذه الأمور لأنها هي الدين، فتدجيلكم أجيزوه بعد الآن على السذج لا علينا.
فقطع كلامه أحد رجال العلم قائلا: هل تعلمون سياستكم هذه إلى أي هاوية تجركم؟
فأجاب الخطيب: كل الهاويات عندنا مقبولة بالنسبة إلى هاويتكم، إنكم تهدمون ما بنيناه في عدة قرون، إنكم تضعضعون الهيئة الاجتماعية من أساسها، فعلينا محاربتكم بكل سلاح. «ولكن خبرونا ماذا تريدون أن تضعوا بدل الشيء الذي تطلبون هدمه، لا ريب أنكم تعلمون المبدأ القائل: «لا يمكن في الاجتماع هدم شيء إلا متى أمكن وضع شيء آخر مكانه يقوم مقامه»، فماذا تضعون موضع الدين؟ أتضعون العلم؟ لله ما أسخف أحلامكم، اذهبوا وقولوا للناس وخصوصا للشعب المسكين: يجب عليكم أن تحبوا قريبكم من أجل العلم، وتصنعوا الخبز من أجل العلم وتعفوا عن مال غيركم إكراما للعلم، ولا تصنعوا شرا في السر ولا في العلانية إكراما للعلم. وحينئذ تسمعون الجواب، ولكن ويل للهيئة الاجتماعية في ذلك اليوم الذي تقطع بيدها الأثيمة قيود خوف الله ورهبة الدين لتجرب هذه التجربة الهائلة.
فقطع هنا كلامه خطيب العلم السابق قائلا: هل تسمح لي أن أجيبك الآن عن هذا الكلام؟
فقال الخطيب: إذا كان جوابك وجيزا فلا بأس.
فقال المعترض: معاذ الله أن نروم هدم الدين كما تفترون علينا، وإنما نروم هدم الأوهام والخزعبلات في الدين، فلماذا تجعلون هذه قسما منه، وأول هذه الخزعبلات قولكم إن الإنسان لا يمكن أن يعبد الله ولا أن يفهم الكتب الدينية إلا بواسطة كاهن أو شيخ، وبذلك تضعون أنفسكم بين الله وبين عباده رفعا لشأنكم وطلبا للفائدة لكم، وهذا ما جعل بعض رجال الدين في بعض خطبه العمومية يفضل الذبيحة اليومية في الكنيسة على كل ما في الديانة المسيحية من الفضائل وروح الكمال، فنحن إذا حاربناكم فإنما نحارب هذه السيطرة على عقول الناس، أي نحارب اتخاذ المبدأ سبيلا للمصلحة. «أما ماذا نضع موضع الدين؟ فهذه مسألة يجيبكم عنها علماء الفلسفة الوضعية أو الحسية، فإنهم يقولون: إن للبشر ثلاثة أطوار: طور الطفولية وهو الاعتقاد بأن العالم محكوم بالأرواح الآلهة، وطور الشباب وهو البحث في ما وراء الطبيعة، وطور الرجولية وهو طلب الهيئة الاجتماعية «نفع الناس» بناء على «الواجب» ومحبة الناس والعقل والمصلحة المتبادلة. وهم يقولون: إن البشر متى وصلوا إلى هذا الطور صاروا يعملون ما يجب عليهم عمله من غير إرهاب ولا تشويق بل بسائق فطرتهم ومصالحهم المتبادلة المحصورة في هذه العبارة «يجب أن لا أصنع بالناس إلا ما أريد أن يصنع الناس بي».
अज्ञात पृष्ठ