ولكن لم يلبث حليم أن دنا من مدينة الدين، وكان يسير إليها وهو مطرق مفكر بكل ما في فكره من القوة، ولكنه ما قرب من باب المدينة حتى سمع أصواتا شقت الفضاء وأناسا بأنغام رخيمة يصيحون من أعالي المآذن: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، فالتفت حليم بغتة وقال: هل وصلنا؟ ثم سرح بصره في المدينة التي أمامه، وكان حينئذ دخول الظهر والمؤذنون يدعون في المآذن إلى الصلاة، فلبث حليم يتأمل فيهم من بعيد بلذة لا توصف وهو يتبع كل حركة من حركاتهم، وما كاد ينتصف الأذان حتى علت أصوات الأجراس أيضا من قبب الكنائس، فامتزجت أصوات الأذان بأصوات الأجراس تذكر البشر في الأرض بالخالق جل جلاله وتنبههم إلى واجباتهم وتنذرهم بأنهم ضيوف في هذا العالم، أما رفيق حليم فإنه ضحك وقال: في بلادنا تستمر الصلاة إلى الساعة الحادية عشرة قبل الظهر في يوم الأحد أما في هذه البلاد فالظاهر أنها تستمر إلى الظهر، غير أن حليما لم تكن نفسه مستعدة للضحك في تلك الساعة لأنها كانت تفكر في موضوع أرفع وأسمى، فسرح نظره في مدينة الدين بين أصوات المؤذنين الشجية ونغمات الأجراس الرخيمة التي تناجي السماء فراقه جمال هذه المدينة بجوامعها النحيفة الجميلة ومآذنها الأنيقة وكنائسها وقبابها المبنية أجمل بناء، وصار يقول في نفسه: هذه مدينة السلام لكثيرين من الناس، هنا مستقر السعادة والراحة لملايين من البشر، هنا وطن الإخاء والحب والحرية والسواء، هنا مدفن أحقاد الإنسانية ومصائبها ومتاعبها وصغائرها لو كانت تعلم.
ولما دخل حليم إلى مدينة الدين استغرب ما رآه فيها من آثار الثروة والنعمة والغنى، فإن جوامعها وكنائسها - وكلها كانت كنائس وجوامع - كانت مبنية بإتقان وزخرف يستوقف النظر، وكانت شوارعها فسيحة فيها الناس يروحون ويجيئون إلى الجوامع والكنائس ومنها، وهم بين رجال ونساء بأفخر زينة.
فبعد أن جال حليم ورفيقه ساعة في المدينة وشاهدا ما فيها قال لرفيقه: لقد شاهدت الآن ما أردت مشاهدته من هذه المدن فهلم بنا الآن نذهب إلى الحديقة التي هي مجمع أهلها ومتنزههم فقد بقي علينا الوقوف على دخائلها بعد أن وقفنا على ظواهرها.
فقال صديقه: ولكن الحديقة تكون خالية في وقت الظهر فأجل إلى المساء دخولنا إليها وهلم بنا الآن إلى فندق لنتغدى ونستريح فقد تعبنا.
الفصل الرابع
الحديقة
والظاهر أن حليما ورفيقه قد ناما قليلا في الفندق بعد الغداء ولذلك لم يخرجا منه إلا بعد العصر، فأقبلا نحو الحديقة وكانت غاصة بالناس من كل الطبقات.
وكان في الحديقة ثلاث قاعات كبرى كل واحدة منها قائمة في أحد جوانب الحديقة، فكان كل فريق من سكان مدينة العلم والدين والمال يجتمع في إحدى هذه القاعات للبحث في شؤونهم وأحوالهم، فكانت قاعة أهل المال عبارة عن بورصة صغيرة وقاعة أهل العلم عبارة عن مكتبة كبيرة، وقاعة أهل الدين نصفها مكتبة ونصفها مجتمع للحديث.
فلما دخل حليم ورفيقه إلى الحديقة شاهدا الناس منتشرين في أطرافها بين أشجارها الجميلة وأزهارها العطرية، وأكثرهم يتحادثون ويتجادلون بحدة، غير أن دخول هذين الزائرين الغريبين إلى الحديقة نبه المتنزهين فيها إليهما فصاروا يقلبون أنظارهم في هيئتهما وملابسهما، فقال حليم حينئذ لرفيقه: إن القوم قد التفتوا إلينا فإذا سألك أحد عن اسمي فقل له: إنني أدعى حليما وصناعتي التجارة وقد جئنا نستبضع من مدينة المال، وإياك أن تذكر لأحد اسمي فإنني أكره الرسميات في سياحتي هذه.
وبينما كان حليم يوصي رفيقه بهذا الأمر على مقربة من قاعة أهل العلم كان ثلاثة شبان وقوفا قرب هذه القاعة وهم يتفرسون بهما جيدا، ثم سمع أحدهم يقول: لا شك أنه هو لأنني شاهدت صورته قبل اليوم في إحدى مجلاتنا، فقال الآخر: لا يبعد أن يكون هو بعينه فإن منظره اللطيف الهادئ لا يكذب شهرته الواسعة. وحينئذ انفرد المتكلم الأول عن رفيقيه وسار نحو حليم وصديقه بخطى واسعة وهو يبتسم.
अज्ञात पृष्ठ