दीन इंसान
دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني
शैलियों
15
بعد وفاة أندرو لانغ، قام فيلهلم شميدت
Wilhelm Schmidt (1868-1954م)، وهو كاهن كاثوليكي وعالم أنتروبولوجي، بتطوير أفكار لانغ حول التوحيد البدئي، في كتابه الضخم
Der Ursprug Gottesidee
الذي نشر مجلده الأول عام 1912م. هاجم شميدت النظريات التطورية في دراسة الدين، مؤكدا أن التاريخ الإنساني، وتاريخ الأفكار بشكل خاص، يؤلف حقلا أكثر تعقيدا مما يراه التطوريون. وبدلا من الحركة الخطية لتطور الحضارة، يقترح شميدت عددا من الدوائر الحضارية التي تطورت كل منها في استقلال نسبي عن الأخرى، وحملت خصائص مختلفة أيضا. وبعد قيامه برسم حدود هذه الدوائر، يعمد إلى استقصاء فكرة الكائن الأعلى في معتقدات كل دائرة، موضحا الخطوط العامة لشخصيته في كل حالة؛ ليتوصل أخيرا إلى القول بتشابه هذه الكائنات العليا وتماثل سماتها وخصائصها في كل مكان. أما عن سبب هذا التشابه فيعود في رأيه إلى أن ثقافات العالم الحديث في قاراته الخمس ينبغي ألا توضع على مسار تطوري خطي؛ لأن كل ثقافة قد تطورت في معزل عن الأخرى ضمن دائرتها الحضارية الخاصة. ولكن هذه الثقافات جميعا قد نشأت عن مستوى حضاري واحد مغرق في القدم، سادت عنده ديانة واحدة تؤمن بإله واحد، ومنها أخذت الأديان التي استقلت فيما بعد بذور التوحيد. إن مثل هذه الديانة الأصلية الواحدة لا يمكن تفسيرها إلا بالقول بوحي بدئي هبط على البشرية عند جذور تاريخها. ولكن شميدت يلاحظ بعد ذلك أن هذا الكائن الأعلى لم تكن له المكانة نفسها لدى جميع الشعوب وعبر كل الأزمنة، ويعزو ذلك إلى التبدل في أنماط الحياة وما يعكسه هذا التبدل على الأفكار والمعتقدات. فالمجتمعات الزراعية مثلا أكدت على كائن إلهي مؤنث ذي خصائص قمرية، بينما رفعت الشعوب الرعوية إلها مذكرا هو سيد السماء ورئيس مجمع آلهة الظواهر الطبيعية، أما الشعوب البدائية المعاصرة فرغم اعتراف بعضها بوجود سيد أعلى للكون، فإنها لا تتوجه إليه بالعبادة ولا تقيم له الهياكل والمقامات؛ لأنها تعتبره بعيدا جدا ويعيش في عالمه غير آبه بالناس؛ ولذا فإنها تتوسل إلى آلهة أقرب إليها وأكثر دينامية.
16
إن أول نقد يمكن توجيهه إلى شميدت، هو أنه يتحدث عن التوحيد كلما وجد إلها أعلى يتفوق في خصائصه وقواه على بقية الكائنات الروحية أو الإلهية التي تؤمن بها الجماعة، وهذه أولى نقاط الضعف في نظريته. أما النقطة الثانية، فتظهر في تركيزه على الأمثلة التي توافق وجهة نظره المسبقة، ويعزو ما يخالفها إلى مراحل التفكك والانحدار في الحياة الدينية للإنسان. يضاف إلى ذلك أن شميدت، شأنه في ذلك شأن أندرو لانغ وغيره ممن يؤكدون على أولوية الكائنات العليا في أديان البدائيين، لا يعطي الأهمية الكافية للتأثير الذي مارسه التوحيد التاريخي على بقية الديانات، ما نأى منها وما دنا؛ فاليهودية قد تغلغلت في أفريقيا منذ القرون الأولى للميلاد، ثم تلتها المسيحية التي تبنتها نظم ملكية قوية كما هو حال الحبشة، ومنذ القرن السابع لم يترك التجار المسلمون بقعة نائية إلا وارتادوها. ويكفي هنا أن أسوق أوضح مثال على التأثير الإسلامي في الأديان البدائية، وهو مستمد من أفريقيا. فالشعوب التي تسكن القسم الغربي من النيجر والقسم الشمالي من نيجيريا، لها ديانة أفريقية تقليدية ضاربة في أعماق التاريخ الأفريقي، تدور حول الجن والأرواح والأسلاف المؤلهين، إلا أنهم يعتقدون بإله خالق أعلى يقيم في السماء السابعة ويدعونه باسمه العربي الله، كما توجد لديهم عبادة سرية تدور حول كائن شيطاني اسمه إبليس باللفظ العربي أيضا، وكذلك عبادة الملائكة بالاسم العربي ذاته. إلا أن كل هذه العبادات قد احتفظت بطابع زنجي أفريقي، ودخلت في نسيج الديانة المحلية إلى درجة لا تلفت النظر إلى مصدرها الحقيقي، لولا احتفاظها بالأسماء العربية الإسلامية.
17
من هنا، فإن أي دارس مزود بوجهات نظر مسبقة حول التوحيد الأصلي، سوف يحاول إرجاع هذه الأفكار شبه التوحيدية إلى معتقدات قديمة متجذرة في الدين الأفريقي، من دون أن يتقصى مصادرها وأصولها التاريخية. وهذه نقطة الضعف الثالثة لدى شميدت.
ولعل أكثر نقاط النظرية ضعفا هو تقديمها لمفهوم الكائن الأعلى كما وجدته في المجتمعات البدائية، ومن دون النظر إلى تاريخ فكرة الكائن الأعلى وكيفية ظهورها في معتقدات الجماعة. وهذا الموقف ينشأ عن افتراض خاطئ، قدر ما هو شائع، وهو أن الجماعات البدائية هي شعوب سكونية بلا تاريخ، وأن مؤسساتها القائمة اليوم هي استمرار تلقائي لمؤسساتها المغرقة في القدم، وثقافتها هي ثقافة الإنسان الحجري بعينها. لقد أوضحت سابقا وفي أكثر من موضع خطأ هذه النظرة في الثقافة البدائية ومؤسساتها، وضلال ما يبنى عليها من نتائج. أما الآن فسوف أبين بالدليل العملي الميداني كيف نشأ مفهوم الكائن الأعلى، في إحدى الثقافات البدائية، انطلاقا من معتقدات أسبق منه تتعلق بتقديس الأسلاف والقوة السارية في الطبيعة. والمثال مأخوذ عن الثقافة الأسترالية التي تعد أكثر كل الثقافات المعروفة لنا بساطة وركودا.
अज्ञात पृष्ठ