दीन इंसान
دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني
शैलियों
جمجمة مشكلة الملامح من أريحا/مع قاعدة.
أي إن قدسية الأرواح، وبشكل خاص قدسية الأسلاف المبجلين، إنما تستمد من مفهوم سابق، مؤسس وراسخ، للقداسة، ومن أفكار دينية ناضجة عن المقدس وعن الدنيوي. وإنسان العصر النيوليتي في إعلائه لأرواح السلف، قد نظر إلى جماجمهم باعتبارها مستودعا لقوة قدسية غير محدودة تصدر عن منبع كوني خفي. فإذا كانت أرواح الموتى تكتسب قوة فوق طبيعانية بعد مغادرتها أجسادها، فلأنها انضمت إلى المستوى القدسي للوجود الذي صدرت عنه أصلا، واستمدت من قوته السارية، وهذه القوة تتكثف بشكل خاص في أرواح الأفراد المتميزين ممن لعبوا دورا هاما خلال حياتهم، ويبقون بعد مماتهم صلة وصل مع المستوى القدسي، كما تبقى جماجمهم بين الأحياء شارة للقداسة، يتعبد الناس إليها زلفى.
وشيئا فشيئا تحل الشارة الإنسانية محل الشارة الحيوانية رمزا لعالم اللاهوت، وتأخذ القوة تدريجيا باتخاذ الملامح الإنسانية بعد أن احتجبت طويلا وراء الهيئة الحيوانية. ويترافق هذا التحول مع إدراك الجنس البشري لتميزه ولدوره على مسرح الكون.
إن الجماجم المشكلة الملامح في المواقع النيوليتية السورية والفلسطينية، هي أول محاولة في تاريخ الدين والفن لتصوير الملامح الإنسانية. وقبل الألف الثامن قبل الميلاد، لا نعثر في أي مكان ولدى أية ثقافة على محاولة جدية ومقصودة في هذا المجال؛ فتشخيص الإنسان كان نادرا جدا بشكل عام في الباليوليت الأعلى، فإذا ظهر في الرسم فبشكل عام وغامض، وباستخدام خطوط تظهر هيئته الجسدية من دون وجهه. أما الدمى العشتارية فكانت تشكل بدون رأس، أو برأس يشبه الكرة الملساء دون ملامح وجه على الإطلاق. وفي الحالات التي تم فيها تنفيذ تكوين واقعي للرأس، كما هو الأمر في منحوتات الآلهة الأناضولية، بقيت ملامح الوجه غامضة ومتلاشية بطريقة لا توحي بسيماء فردية محددة. وقد قلنا في حينه إن إنسان العصر الحجري قد تعمد تجاهل الرأس وإغفال الملامح، لإحساسه بأنه يصنع صورة رمزية تعبر عن ألوهة غير مشخصة، ويرسم شارة وشعارا لا هيئة حقيقية موجودة. ولكن منذ أن بدأ الإنسان بتشكيل ملامح وجه إنساني يمثل شخصا بعينه، ثم عزا إلى هذه الهيئة قوى غير طبيعية، أو جعلها مستقرا لهذه القوة، دخل الفكر الديني مرحلة التشخيص؛ تشخيص القوة غير المشخصة (سواء عن طريق تشكيل الجماجم أو تشكيل الحجر والصلصال فيما بعد)، وأخذ الإنسان ينظر إلى القوة من خلال تمثيلات مشخصة. وشيئا فشيئا تحولت القوة إلى شخصيات ذات قوة، وتكسر مبدأ القوة السارية إلى عدد من القوى، وظهرت الآلهة.
مما لا شك فيه، أن التغيرات الجذرية في أنماط الإنتاج داخل التجمعات الزراعية النيوليتية، وتبدل البنى السياسية والاجتماعية في المستوطنات القروية الأولى، التي كانت تسير بخطى حثيثة نحو تكوين المدن الأولى في تاريخ البشرية، قد ساعد على إحداث التغيرات في المفاهيم الدينية، وشجع على ترسيخ مفهوم الشخصية الإلهية في مقابل الألوهة غير المشخصة. وبشكل خاص، فإننا نعزو إلى التحولات النوعية الطارئة على مفهوم السلطة، وعلى أساليب ممارستها ضمن الجماعة، الأثر الأكبر في تكوين مفهوم جديد للسلطة على مستوى الكون؛ فجماعات الصيادين في الباليوليت الأعلى، كانت تعيش مشاعية اقتصادية في ظل نظام سياسي بسيط يقوم على اختيار رئيس غير متفرغ لمهام هذه الرئاسة، يرعى تطبيق الأعراف المتوارثة، ويعمل على تسوية المنازعات البسيطة التي قد تنشأ بين الأفراد. وباستطاعتنا الافتراض اعتمادا على المعلومات المستمدة من أركيولوجيا المواقع النيوليتية الأولى، أن بدايات العصر الحجري الحديث لم تحمل معها تغييرات مباشرة ومهمة في البنى الاجتماعية والسياسية ، وذلك رغم التغيرات الاقتصادية الجذرية التي كانت تعمل على تغيير وجه الحضارة الإنسانية. ولكننا مع الاقتراب نحو فجر المدنية في الشرق الأدنى القديم، ومع تحول القرى الزراعية إلى أشباه مدن، نأخذ بملاحظة حلول تغييرات في جميع البنى الاجتماعية والسياسية للمواقع النيوليتية ، التي دخلت الآن العصر النحاسي (الخالكوليتي) الذي مهد للاستخدامات الواسعة للمعادن عوضا عن الحجارة. لقد تحول المقام أو الحرم الديني البسيط إلى معبد كبير، وتحول الشامان، رجل الدين البدائي، إلى كاهن كبير يخدمه عدد من الكهان الأدنى مرتبة، وبني قصر واسع للرئيس الذي تحول إلى ملك متفرغ لشئون الحكم، يفرض سلطته بعد أن كان يستمدها من الجماعة، وظهر التملك الخاص للأرض ولوسائل الإنتاج، وتنوعت الحرف والاختصاصات. كل هذه التغيرات انعكست على البنية الدينية وعلى المفاهيم الدينية والكونية. ففي الماضي، لم يكن الفرد يشعر بالسلطة تمارس عليه من قبل أية جهة إنسانية كانت أم طبيعانية، أما إحساسه بالروع أمام القوة الغفلة في الطبيعة، فكان يتلاشى بشكل تلقائي كلما عمد إلى إقامة الطقوس التي كانت تجعله في انسجام مع الطبيعة وقواها المنظورة والخفية. أما الآن، وبعد تأسيس مفهوم اجتماعي وسياسي للسلطة، فقد بدأ الكون يظهر وكأنه محكوم أيضا ومسير بالسلطة، وتحولت القوة التلقائية التي كانت تفيض من عالم اللاهوت إلى سلطة وإلى نظام سلطوي متدرج. فكما تتوزع السلطة ضمن الجماعة في هرمية متسلسلة من الأعلى إلى الأسفل، كذلك توزعت القوة الإلهية إلى مجموعة قوى متجزئة، وظهرت هرمية السلطة على مستوى الكون. وهكذا وجدت عملية تشخيص الألوهة التي كانت جارية ضمن مؤسسة عبادة الأسلاف تأييدا لها من القوة الاجتماعية الجديدة الصاعدة.
فيما يلي من موضوعات هذا الكتاب، سوف أعرض للمزيد من الإثباتات التي تؤيد ما بسطته آنفا بشأن أصل الآلهة في السياق العام لتاريخ المعتقدات الدينية. ولسوف ألتفت الآن إلى اختبار صحة النظرية ومدى مطابقتها للوقائع المستمدة من تاريخ الدين ومعتقدات البدائيين؛ وذلك باللجوء إلى مناقشة أهم النظريات الأخرى وأكثرها تعارضا معنا، والتي لا تكتفي بافتراض أسبقية الآلهة المشخصة وقيامها عند أصول الدين، بل تتعدى ذلك إلى القول بنوع من التوحيد البدئي كان موجودا على الدوام في صلب الاعتقاد الديني. إن أكثر هذه النظريات شهرة هي نظرية أندرو لانغ، ونظرية وليم شميدت المكملة لها.
انطلق أندرو لانغ
Andrew Lang (1844-1912م) في تشكيل نظريته من نقده لنظرية تيلور الأرواحية، وذلك في كتابه
Myth, Ritual and Religion
الصادر عام 1887م، فهو يرى أن فكرة الإله الأعلى موجودة لدى أكثر الشعوب بدائية، وهم الأستراليون، كما نجدها أيضا في أفريقيا والأمريكيتين، وهذا ما يضع، بداية، الأطروحة الرئيسية للنظرية الأرواحية موضع شك. ومع أن لانغ لا يحيد في منهجه عن المخطط التطوري، إلا أنه ينتقد التبسيط الشديد الذي يلجأ إليه معظم التطوريين، ويعتقد بأن فكرة الكائنات الإلهية العليا قد قامت في استقلال تام عن معتقدات الأرواح وعبادة الأسلاف، وهي ليست نتاجا لتطور أفكار بسيطة سابقة عليها، خصوصا وأننا نجد فكرة الكائن الإلهي الأعلى في مجتمعات لا نعثر فيها على أثر لعبادة الأسلاف. ثم يتوصل لانغ إلى نتيجته المرسومة مسبقا، وهي أن الذهن الإنساني كان قادرا دائما وعبر كل العصور على التوصل إلى فكرة الكائن الإلهي الأعلى، إلا أن الخيال غالبا ما غلف هذا المفهوم السامي بتصورات ميثولوجية خلقت حشدا من الآلهة، حجب وراءه ذلك المفهوم الأصلي.
अज्ञात पृष्ठ