दीन इंसान
دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني
शैलियों
32
ورغم آلاف الكيلومترات التي تفصل بين مواقع الباليوليت الأعلى التي وجدت فيها هذه الدمى العشتارية، فإنها تبدو وكأنها نتاج موقع واحد، وعدد من الفنانين الذين أتقنوا أسلوبا واحدا متماثلا. فكتلة الجسد تتخذ شكلا مغزليا مستدق الطرفين عند الرأس والقدمين، منتفخ الوسط عند منطقة البطن والورك، ويتخذ الرأس شكل كتلة غير متمايزة، وبدون وجه أو ملامح، مع الإشارة إلى الشعر أحيانا بواسطة حزوز، وقد تنكمش كتلة الرأس هذه لتغدو انتفاخا يشبه رأس الحية. أما عن الأطراف، فإن الساقين تستدقان تدريجيا بعد الركبة حتى تنتهيا معا إلى طرف مدبب، مع غياب كامل للقدمين، بينما تهمل الذراعان إلى درجة لا نكاد معها تبينهما في بعض هذه الدمى، فإذا عرفنا أن أصغر هذه التمثيلات لا يتجاوز الإنشين في ارتفاعه، وأكبرها لا يتجاوز القدم الواحدة، عرفنا لماذا دعيت بالدمى لا بالتماثيل. كل هذه السمات تشير بوضوح إلى أن الفنان لم يكن يصور جسدا أنثويا مما يراه في عالم الطبيعة الإنسانية، وإنما كان يستدعي رموزا أنثوية يستعين بها من أجل التعبير عن حقيقة تتجاوز الجسد الأنثوي إلى ما وراءه. وإني أرى أن الفنان هنا كان يجسد القوة السارية في شارة قدسية، تعادل من حيث الجوهر الشارة القدسية الحيوانية، وأنه كان يتوسل بالسمات الأنثوية المحورة والمرمزة، من أجل إنتاج هيئة تمثل التركيز الأقصى للقوة السارية في الطبيعة، والتي تبدو هنا متجمعة في مناطق الخصب الأنثوية حتى لتكاد تفيض بما فيها، تماما كما رأيناها متجمعة في تلك الأشكال الحيوانية الساكنة، التي نشعر بها على وشك الانفلات من عقالها.
إن ما حاول فن الدمى العشتارية أن يستحضره أمام عين المشاهد، شبيه بما حاول استحضاره فن الكهوف في رسومه الحيوانية؛ فهو ينقل إحساس إنسان الباليوليت بعالم اللاهوت وقوته السارية في عالم الناسوت، رغم حلول الشكل الشبيه بالإنساني محل الشكل الحيواني. إن الشكل الشبيه بالإنساني هنا يحقق الغاية نفسها التي للشكل الحيواني؛ فالأنثى المرموزة الغائبة الشخصية، المحرومة من الملامح التي تدل على هيئة صاحبها، ليست شخصا بعينه؛ إلها ما أو كائنا روحانيا ما ورائيا، بقدر ما هي شارة مجردة. وبكلمة أخرى، إننا أمام تعبير عن الألوهة لا أمام رسم لصورة إله . لقد كان الفنان الباليوليتي، بقدراته الفنية التي أثبتها في رسم الحيوان، قادرا بلا شك على تصوير ملامح الوجه الإنساني على أكمل وجه، ولكنه لم يفعل، بل لقد آثر أحيانا إلغاء الرأس برمته ليكون عمله أقدر على صرف عين الناظر وقلبه عن تصور أية شخصية محددة، والتركيز على الفكرة المجردة للألوهة غير المشخصة، من خلال رسالة بصرية ذات شيفرة خاصة بذلك العصر.
إن تعثرنا في فهم الرسائل البصرية للعصور القديمة، نابع من كون حضارتنا هي حضارة لغة متطورة وكتابة متطورة. فنحن لكي نفهم أمرا ما، يجب أن نكون قادرين على شرحه بالكلمات وعلى تلقيه بالكلمات، وبأكبر قدر من الوضوح والتفصيل. وهذا من شأنه أن يقيم حاجزا بيننا وبين أنماط التعبير التصويرية التي تركتها لنا ثقافات ما قبل الكتابة، عندما لم تكن اللغة قد بلغت شأوا من التطور يجعلها قادرة على التعبير عن لطائف المجردات. على أن إدراك الفرق بين الأسلوبين التوصيليين من شأنه تقديم عون كبير لنا على التواصل مع الماضي السحيق؛ فالرسالة البصرية ليست مطردة؛ أي إنها لا تكشف عن محتواها بشكل متتابع وإنما دفعة واحدة، أما الرسالة الكلامية فتكشف عن محتواها بشكل تفصيلي مترابط الحلقات خطوة فخطوة. من هنا، فإن فهم الرسالة الكلامية (= اللغوية) يأتي تباعا، أما فهم الرسالة البصرية فيتم بإدراك الكل دفعة واحدة؛ أي إنه لا يتأتى عقليا بل شعوريا.
رغم وحدة الرسالة المتضمنة في الرسوم الجدارية للكهوف السفلى، وفي الدمى العشتارية، إلا أن الوظيفة الدينية لكل شارة من هاتين الشارتين مختلفة تماما عن الأخرى؛ فرسوم الكهوف النائية لم تكن بمتناول الأفراد في كل وقت وحين، وأغلب الظن أنها كانت مركزا لطقوس دورية سنوية، أو لمناسبات طقسية متباعدة ذات طابع تكراري، مثل طقوس العبور والتلقين. أما الدمى الأنثوية الصغيرة والخفيفة الحمل، فلا بد أنها كانت جزءا من أدوات طقسية تستخدم في شعائر ذات طبيعة مختلفة تماما عن شعائر الكهوف، وربما تعلقت بمفاهيم الخصب بشكل أساسي، خصوصا وأن شكلها المغزلي يدل على أنها كانت تغرس في الأرض بوضع عمودي، ضمن سياق طقسي، يستهدف إحلال الخصب في الأرض التي تفيض بثمارها على ذلك الإنسان اللاقط وبعشبها على حيوانات صيده، أو تستخدم في طقوس أخرى تستهدف التأثير في القوة السارية لتحصيل منافع أخرى منها، أو لاستبعاد أذاها؛ ذلك أن القوة وفق فهم الإنسان الأول لها ليست كائنا ذا إرادة وتدبير، بل سيالة غفلة تسري في الطبيعة، وتفعل فيها دونما حس أخلاقي بالخير والشر بمفهومهما الإنساني المعتاد.
ولكن، هل تصورت ثقافة الدمى العشتارية القوة على أنها قوة أنثوية صرفة، في مقابل ثقافة الكهوف التي رأت في القوة جدلية أنثوية ذكرية؟ قد يصعب البت في هذا الرأي الآن، ولكنه مرجح نظرا إلى طغيان الدمى الأنثوية على غيرها من الدمى الحيوانية أو الذكرية، التي لم يتم تنفيذها بنفس العناية والإتقان. يضاف إلى ذلك أننا في الوضع الحالي للوثائق لا نملك معلومات إحصائية مؤكدة حول العدد النسبي لدمى كل نوع حيواني، ولا دراسة تماثل دراسة لوروا غورهان حول قيمها الرمزية مقابلة بالقيمة الرمزية للشكل الأنثوي؛ إلا أن بعض المقارنات مع الثقافات العليا اللاحقة، التي رأت في القوة جوهرا أنثويا صرفا، مثل الثقافة الهندية، قد يلقي ضوءا على هذه المسألة؛ فالديانة الهندوسية التي تمتلئ معتقداتها بالآلهة والإلهات من كل نوع، يمكن في النهاية تلخيص معتقدها الأساسي إلى الإيمان بقاع قدسي للوجود، هو المطلق الكلي المدعو شيفا، وبقوة أنثوية تصدر عنه تدعى شاكتي، وهذه القوة هي مصدر كل نشاط وفعالية على المستوى الطبيعي. ولسوف يكون لنا وقفة مطولة مع هذا المعتقد لاحقا.
عند هذه المرحلة من دراستنا، أعتقد أن تفريقنا الأساسي بين الإله وبين الألوهة أو المجال القدسي قد غدا واضحا في ذهن القارئ؛ فالإله كائن فوق طبيعاني، يتمتع بشخصية ذات ملامح واضحة، ووعي وإدراك مستقلين، وإرادة حرة، ورغبات وأهواء خاصة به، وله سيرة حياة ، وربما تاريخ ميلاد أيضا، وقد يموت كما يموت البشر. ورغم أن الآلهة تنتمي إلى بعد آخر للوجود، إلا أن حياتها متداخلة مع حياة الناس بشكل لا تنفصم عراه، حتى إن معاشها يعتمد على ما يقدمه إليها البشر من قرابين، وغالبا ما تسكن في مكان قريب إليهم مثل قمم الجبال العالية. من هنا، فإن علاقة البشر بالآلهة هي علاقة استمالة واسترضاء من قبل البشر، وعطف ومنة من قبل الآلهة؛ فالبشر يقيمون لها المعابد، ويرفعون الصلوات، ويتضرعون إليها، ويتضعون أمامهم، وقبل كل شيء يقربون إليها القرابين من أفضل حيواناتهم أو محاصيلهم، بل ربما عمدوا أيضا إلى الأضاحي البشرية، وبالمقابل فإن الآلهة تلبي لهم مطالبهم وتمن عليهم على قدر تقربهم. أما المستوى القدسي، فهو البعد غير المرئي للوجود المادي، والقاع الماورائي الذي يستند إليه عالم الظواهر المرئية الذي يعيش فيه الإنسان؛ إنه مجال لا شخصي، ولا يمكن لأية شخصية بالغا ما بلغ تنزيهها أن تعبر عنه. والإنسان لا يدخل مع هذا المجال في علاقة أنا-أنت كما يفعل مع الآلهة، بل في علاقة أنا-هو؛ ذلك أنه ال «هو» المجهول، والحضور الشامل الغامر رغم غيابه الظاهر، إنه تلك الوحدة اللامتمايزة التي يصدر عنها كل متمايز ويذوب، في الآن نفسه. و«هو» فقط يكون بلا إرادة موجهة، بلا رغبات، بلا عواطف وأهواء، بلا روابط، بلا تاريخ وسيرة حياة، يعلن عن حضوره في قلب الإنسان بلا وسيط أو شفيع، ويعلن عن فعاليته في الطبيعة من خلال قوته السارية فيها. وقوة المجال القدسي المنبثة في المادة الدنيوية، هي طاقة حيادية لا تلتزم المعيار الخلقي، بمعنى أنها تفعل الخير كما تفعل الشر، تماما كالتيار الكهربائي الذي يشعل المصباح، وفي نفس الوقت يحدث صاعقة مدمرة وحريقا. من هنا فإن علاقة الإنسان بهذه القوة السارية، لم تكن علاقة استمالة واسترضاء لإرادة واعية، بل علاقة مؤثر بمتأثر. والمؤثر هنا هو الإنسان، أما المتأثر فهو القوة الغفلة التي لا تتمتع بإرادة واعية، وإنما تخضع للتوجيه في مسارات تتحكم بها تقنيات طقسية معينة، يمكن أن تحولها لصالح الإنسان أو تدفع أذاها عنه. أما عن تقنيات التأثير هذه، فرغم أننا لا نعرف عن أشكالها الأولى شيئا، إلا أننا نستطيع تقريبها من تقنيات السحر الذي يقوم على مبدأ مشابه؛ أي على وسط أو قوة غفلة تربط بين الأشياء وتساعد على نقل الفعل والتأثير المتبادل فيما بينها. وفي الحقيقة، فإن الدراسات الحديثة لتقنيات السحر ومبادئه تجعلني أعتقد بأن السحر إنما يقوم على المعتقد الباليوليتي نفسه، ولكنه قد ضاع عن أصله، ولم يبق منه سوى طقوس لا نستطيع تبين معتقدها إلا بصعوبة بالغة.
في الممارسات السحرية كما عرفناها عبر التاريخ المكتوب، وكما هي شائعة لدى القبائل البدائية، لدينا جملتان فيزيائيتان تتبادلان التأثير في بعضهما عن بعد، ولكن من خلال وسط غامض يربط بينهما. أما الجملة الأولى فمصطنعة؛ أي أنها مؤلفة من بضعة أفعال أو أحداث نقوم بها بشكل قصدي، لغاية التأثير في الجملة الثانية التي تؤلفها أحداث طبيعية مترابطة. ولنأخذ مثالا على ذلك صناعة المطر، وهو مصطلح أنتروبولوجي حديث يشير إلى الطقوس التي يقوم بها ساحر القبيلة لجلب الأمطار في مواسم الجفاف. إن سقوط المطر في معتقدات الأديان التي تؤمن بالآلهة المشخصة، هو جملة فيزيائية مؤلفة من أحداث يمسك بزمامها إله موكل بالمطر، حيث يخرج هذا الإله من مسكنه في قمم الجبال العالية، فيركب الغيوم التي تكلل مقره، ثم يوجهها حيث يشاء ليسقي بها أرضا دون أخرى. أما في المعتقدات الدينية الخلوة من الآلهة، فإن التأثير في الجملة الفيزيائية التي تنتهي بسقوط المطر يتم باصطناع حركات وأصوات وإيقاعات معينة بينها تقليد لصوت هطول المطر، فتتصل هذه الأفعال المصطنعة بالجملة الأخرى عبر وسط واصل بينها ويهطل المطر. وهذا الوسط الواصل بين الجملتين هو القوة السارية التي توجهت الطقوس إليها بالدرجة الأولى وحفزتها على إتيان الفعل. وهذا ما ندعوه اليوم بالطقس السحري.
لقد درست أمثال هذه الطقوس السحرية على أوسع نطاق من قبل علماء الأنتروبولوجيا والإثنولوجيا، وصنفت في زمر رئيسية وزمر ثانوية؛ من سحر تعاطفي إلى سحر تشاكلي ، إلى آخر ما هنالك من تصنيفات. ولكن هؤلاء الباحثين لم يعنوا بالتفتيش عن المعتقد الذي تقوم عليه هذه الممارسات، بل ساروا مع جيمس فريزر الذي قال بأن الفكر السحري يرى في الطبيعة اطرادا في الأحداث لا يحتاج إلى وساطة الآلهة. والحقيقة أن مؤسسة السحر بكاملها تقوم على مفهوم القوة السارية، معتقد الإنسان الباليوليتي، الذي راكم الزمان فوقه غبار النسيان، ولم يبق منه سوى طقوس معلقة في الفراغ.
الفصل الثالث
अज्ञात पृष्ठ