दीन इंसान
دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني
शैलियों
مسائل أولية في المصطلح والتعريف
الفصل الأول
أفكار استهلالية: مكانة الدين وتعريفه
(1) مكانة الدين
منذ أن قال أرسطو في الإنسان إنه حيوان ناطق، والفلسفات والعلوم تأتينا بتعريفات أخرى لهذا الكائن الذي يرغب دوما في رسم حدود فاصلة بينه وبين شركائه على هذا الكوكب. ونظرا لتعدد هذه التعريفات، فإني لا أرى حرجا من أن أضيف إليها واحدا جديدا فأقول بأن الإنسان هو كائن متدين، خصوصا وأننا الآن بصدد التمحيص في ظاهرة من أهم الظواهر المميزة للجماعات البشرية منذ بدايات تكونها، بل لعلها أهم ظاهرة ميزت تلك الجماعات الأولى بعد صناعة الأدوات. إن أول ما انفرد به الإنسان عن غيره من جماعات الرئيسيات العليا هو تشكيل الأدوات الحجرية بواسطة تقنيات الشطف. وبعد ظهور الأدوات الحجرية، ترك لنا الإنسان الأول إلى جانب أدواته شواهد على وسطه الفكري، تشير إلى بوادر دينية لا لبس فيها، وتبين ظهور الدين إلى جانب التكنولوجيا كمؤشرين أساسيين على ابتداء الحضارة الإنسانية. ولا زلت إلى يوم الناس هذا لا أرى في كل نواتج الحضارة الإنسانية إلا استمرارا لهاتين الخصيصتين الرئيسيتين للإنسان؛ فكل ارتقاء مادي تكنولوجي قد تسلسل من تلك التقنيات الحجرية الأولى، وكل ارتقاء فكري وروحي قد تسلسل من تلك البوادر الدينية الأولى وتطور عنها.
كثيرا ما يقال لنا بأن الفلسفة الإغريقية قد وضعت حدا للفكر الديني والميثولوجي، وأنها بذلك قد حررت العقل من شروطه القديمة. وهذا الطرح يسير مع الفرض القائل بأن الدين هو شكل أدنى من أشكال النظر العقلي، والفلسفة هي شكله الأرقى والأعلى. واعتمادا على تكرار هذه المقولة التي لم تخضع للنقد، فإننا نقبل بالتقسيم المعتاد لتاريخ الفكر الإنساني إلى أربع مراحل، هي: السحر فالدين فالفلسفة فالعلم التجريبي. غير أن نظرة جديدة غير متحيزة على مسار الحياة الفكرية للإنسان، تظهر لنا بوضوح أن الفلسفة الإغريقية لم تكن سوى بارقة عارضة، ما لبثت أن انطفأت أمام مد الفكر الديني والأسطوري، وتراجع الفكر الفلسفي قرونا عديدة قبل أن يبعث مجددا في العصور الحديثة، متوكئا عصا عربية أبقت على قبس من الفلسفة متقد، على الأطراف الخارجية لثقافة دينية سائدة، سواء في الثقافة العربية أم في الثقافة الأوروبية الوسيطة. أما العلم، فرغم الأرضية الصلبة التي فرشتها أمامه الفلسفة مع فترة مدها الأول، فقد بقي أسير التطورات الدينية والأسطورية، إلى أن أينعت ثمار عصر النهضة في أوروبا، وجاء كوبرنيكوس بنظريته الجديدة عن النظام الشمسي، التي كانت فاتحة لاستقلال العلم عن الدين والأسطورة، وتبعه غاليلو فنيوتن، فكان لهؤلاء معا فضل وضع أسس التفكير العلمي الحديث.
إن التاريخ القريب جدا لنجاح العلم والفلسفة في ترسيخ أقدامهما، وما نراه من مقاومة عنيدة للفكر الديني في كل ثقافة من ثقافات العالم الحديث، يجعل من تقسيم تاريخ الفكر إلى مراحل أربع يتوجها العلم، مسألة نظرية لغرض الدراسة، لا أمرا فعليا يعكس واقع الحال. لقد امتص الفكر الديني صدمة انتصار العلم والفلسفة، وما زال يزاحم وبقوة على اقتسام هوى وعقل الناس في كل مكان. في مطلع القرن التاسع عشر، أنهى العالم الفلكي والرياضي المركيز دي لابلاس مؤلفه الموسوعي الضخم عن ميكانيك الفضاء، معتمدا على حسابات نيوتن وقوانينه، فسار بفكرة الآلة الكونية الجبارة التي ابتدعها نيوتن إلى نهاياتها القصوى. وعندما عرض مؤلفه على الإمبراطور نابليون بونابرت، قال له بونابرت: لقد قيل لي إنك قد وصفت في عملك هذا نظام الكون برمته، ولكن من غير أن تشير من قريب أو بعيد إلى خالقه! فأجابه لابلاس: مولاي، إن هذه الفرضية لا ضرورة لها في نظامي.
1
غير أن علماء اليوم يظهرون تواضعا أكثر من سابقيهم رواد النهضة العلمية، وهم لا يرون غضاضة في الإفصاح عن صلة الفكر العلمي بالفكر الديني السابق عليه. يقول الفيزيائي روبرت أوبنهايمر صاحب الباع الطويل في صنع أول قنبلة ذرية: «إن ما أدت إليه اكتشافاتنا في عالم الفيزياء من مفاهيم وأفكار حول طبيعة الأشياء، ليست جديدة تماما؛ فإضافة إلى كون هذه الأفكار ذات تاريخ في حضارتنا الغربية، فإنها تتمتع بمكانة مركزية وهامة في الفكر البوذي والهندوسي. ولعلنا نستطيع القول بأن الأفكار الجديدة عبارة عن وثيقة مصدقة عن الحكمة القديمة، ونسخة مشذبة عنها.»
2
अज्ञात पृष्ठ