وكانت تعرف ورقتي وإجابتي في الامتحان، ويتم تمييزها بسهولة؛ لأن باقي الطلبة يكررون ما يقوله الأستاذ، ولما كان مجتمعنا لا يعتاد بعد على الرأي والرأي الآخر، فكان يعامل الرأي الآخر على أنه تشويه للرأي السائد؛ فأعطاني أستاذ المادة اثني عشرة درجة من عشرين أي مقبول. وفي المادة الثانية؛ الفلسفة المعاصرة كان الأستاذ يعطي درسا عن محمد عبده. وكنا ننبهه أن الفلسفة المعاصرة تعني بالغرب وليس بالفكر الإسلامي المعاصر، ولكنه كان معجبا بمحمد عبده وكأنه المفكر الأول في العالم، لا يمكن نقده بشيء. وكنت أنا من دعاة الأفغاني أستاذ محمد عبده والذي كان يدعو إلى الثورة على الخديوي والدفاع عن مصالح الشعب. وهو مفكر الثورة العرابية، واستأنف فكره عبد الله النديم كما هو الذي جعل عرابي يقف في قصر عابدين أمام الخديوي توفيق قائلا: «إن الله خلقنا أحرارا ولم يخلقنا تراثا أو عقارا؛ فوالله لا نستعبد بعد اليوم.» وهو الذي دعا إلى أن الأرض لمن يفلحها وقال: «أيها الفلاح عجبت كيف تشق الأرض بفأسك ولا تشق قلب ظالمك؟»
ونفي عرابي إلى جزيرة سيلان لمدة ثلاثين عاما، أما محمد عبده فقد أرسل إلى جمعية المقاصد الإسلامية أستاذا بها في بيروت لمدة ثلاث سنوات، وكان الأفغاني يمسك بتلابيبه ويقول له: «والله إنك لمثبط.»
لم يكن محمد عبده مثلي الأعلى في الفلسفة، وكان يعتبر في «رسالة التوحيد» أن العقل في حاجة إلى وصي وأن هذا الوصي هو النبي، وأنا كنت من أنصار العقل دون أي وصاية عليه، كانت مواقفي من محمد عبده معروفة في قاعة الدرس، وكنت أكتب على السبورة قبل أن يدخل الأستاذ «أحب محمد عبده ولكن حبي للحق أعظم.» فكان الأستاذ يغضب في نفسه، خاصة وأن العبارة تحويل لعبارة أرسطو في أفلاطون والتي يستشهد بها الجميع على رفض التبعية وإمكانية النقد؛ نقد التلميذ للأستاذ. وكانت العبارة هي: «أحب أفلاطون ولكن حبي للحق أعظم.» وحصلت فيها أيضا على اثنتي عشرة درجة، أي مقبول.
والمادة الثالثة هي علم الجمال الذي دخل حديثا في القسم، ولا يوجد متخصص فيه، درسها أستاذ الفلسفة الإسلامية؛ فالجمال عنده كان جمال الأشياء في الرسم والتصوير والطباعة على الأقمشة والسجاجيد، دون الموسيقى والشعر، كان ينحاز إلى الفنون البصرية ضد الفنون السمعية. وكان السؤال في الامتحان آخر العام: «لو أردت أن تشتري ربطة عنق فما هي مقاييس الجمال التي تحدد لك الاختيار؟» فأجبت: إن الجمال ليس في الأشياء فقط، بل في الأصوات أيضا، ليس في الفنون البصرية كالنحت والتصوير فقط، ولكن في الفنون السمعية أيضا كالشعر والموسيقى. وقرأت مثل ذلك عند هيجل في تصنيف الفنون وفي عصر بيتهوفن وجوته. فأعطاني أيضا اثنتي عشرة درجة أي مقبول. ولما كان من المفروض أن أحصل على الأقل على ست عشرة درجة في كل مادة فقد نقصتني أربع درجات في كل مادة أي اثنتي عشرة درجة كاملة. ففقدت الامتياز وكان ترتيبي الثاني في الدفعة بعد أن كنت الأول في السنوات الثلاث السابقة.
ومرة سألني رئيس القسم وأستاذ علم النفس الصناعي وكان قبطيا: «أين تريد أن تكون يا حسن بعد التخرج؟» فأجبته بتلقائية تامة: «أريد أن أصوغ منهجا عاما للمسلمين يوقظهم وينقلهم من مرحلة إلى أخرى، من النهضة الأولى إلى النهضة الثانية. أريد أن أكون مثل الأفغاني في إيقاظه للمسلمين، وإحداثه ثورة سياسية واجتماعية.» فأطرق برأسه وقال: «نعم.» ولسانه لا يعبر عما في قلبه.
وبعد هذا الاضطهاد العلمي والفلسفي والمحاكمة الجامعية سافرت إلى فرنسا، وتركت حلم المعيد وأستاذ الجامعة ورائي؛ ما دمت في مصر فلن أحصل على شيء.
وكان الاضطهاد الثاني بعد عودتي من فرنسا وتعييني مدرسا في قسم الفلسفة، وأثناء ترقيتي إلى أستاذ مساعد. كان حكم لجنة الترقيات بأن أترقى، وكان القانون يومئذ ينص على موافقة القسم على قرار اللجنة، ثم موافقة مجلس الكلية، ثم مجلس الجامعة. ولما كنت معروفا بنشاطي السياسي وتعاوني مع الأسر التقدمية في الجامعة مثل «أسرة مصر» المعروفة باتجاهاتها الماركسية، صدرت تعليمات من أجهزة الأمن داخل الكلية بتعطيل قرار الترقية، وكان بالقسم أستاذ واحد يمثل القسم ويوافق على قرارات اللجنة، فلم يوافق رئيس القسم، وذهب القرار إلى مجلس الكلية، فلم يوافق مجلس الكلية، وذهب القرار إلى مجلس الجامعة، فاستغرب المجلس من قرار اللجنة العلمية بالترقية والقرارات الإدارية بالقسم والكلية رافضة، وهو لا يجوز؛ فالقرار الأول والأخير يكون للجنة العلمية. أما قرار القسم ومجلس الكلية فهي مجرد قرارات إدارية؛ فأرجع مجلس الجامعة إلى مجلس الكلية القرار لإعادة النظر فيه، وأرجع مجلس الكلية الموضوع إلى لجنة الترقية؛ فأعادته لجنة الترقية إلى الكلية بأن لا تغيير في موقفها فالأستاذ، والذي هو أنا، يستحق الترقية إلى أستاذ مساعد عن جدارة. في هذه الأثناء تغير العميد، وأصبح نائبا لرئيس الجامعة، ورفض من جديد رئيس القسم القرار بالترقية، ورفض مجلس الكلية من جديد قرار اللجنة العلمية. وذهب الموضوع إلى مجلس الجامعة الذي يتكون من جميع عمداء الكليات وكانوا أكثر من عشرين عميدا، فقام العميد السابق، والذي أصبح نائبا لرئيس الجامعة، بالمطالبة برفض قرار اللجنة العلمية، كما قام عميدا كليتي الهندسة والعلوم بمهاجمة قرار اللجنة العلمية بالترقية؛ فالترقية ليست فقط علمية ولكنها أيضا أخلاقية، وهم يعتبرون أخلاقي لا تتفق مع قيم الجامعة؛ فأنا مشاغب سياسي، ومعارض في قاعات الدرس، وذو حضور قوي في الجمعيات الطلابية، كما أني معارض للنظام السياسي؛ فأصر رئيس الجامعة أن هذه الاعتراضات ليست من شأن الجامعة، وأن المحك في الترقية هو العلم فقط، واللجنة العلمية قد قررت ترقيتي بالفعل. وطلب التصويت على الموضوع، فكان جميع العمداء في صف الترقية إلا هؤلاء الثلاثة الذين بدءوا بنقدي.
وكانت أصوات العمداء الموافقين أكثر من عشرين صوتا، وذهبت إلى رئاسة الجامعة لكي أعرف الخبر، فقال لي السكرتير وهو خارج من الاجتماع بأنه قد تمت الموافقة على الترقية والحمد لله؛ ففرحت، وعلمت أن الاضطهاد السياسي قصير الأمد، وأن الغيرة العلمية لا تؤدي إلى شيء، وأن التبعية للنظام السياسي عار على الجامعة؛ لأن استقلال الجامعة هو أحد مكوناتها وضمان حريتها.
وكان الاضطهاد الثالث في ترقيتي من أستاذ مساعد إلى أستاذ، والذي حكمت اللجنة به عن استحقاق وجدارة، ولكن مجلس القسم والكلية رفضا لأنني مشاغب سياسي ومعارض لكامب ديفيد ولاتفاقية السلام والتطبيع مع إسرائيل، وأشترك في مظاهرات مع الطلبة وأساتذة جامعيين معارضين من اليسار الوطني والجماعات الإسلامية.
أعادت اللجنة التقرير بالموافقة مرة ثانية إلى مجلس الكلية، وأخفى العميد التقرير عدة أشهر بدعوى أنه لم يستلمه أو ربما استلمه وضاع وسط أوراقه وملفات مكتبه، فذهبت إلى مكتب البريد وعرفت هناك أن العميد استلم التقرير بل ووقع عليه بالاستلام أيضا، فأخبرته بذلك، فقال: «إذن هو ضائع في مكتبي». وظل يبحث في الأظرف والملفات حتى وجده. ولم يكن هناك بعد ذلك حيلة لهم إلا بالموافقة ولكن يكفي التعطيل حتى يسبقني آخرون في الترقية فيصبحون رؤساء للقسم.
अज्ञात पृष्ठ