وبعد عودتي من فرنسا اكتشفت أنها لم تتزوج بعد، وحينما كنت أزور صديقي أصعد إلى شقته، كانت تأتي للسلام علي، كانت قصيرة وممتلئة القوام، ولكن كانت بيضاء البشرة. لم يكن في ذهني الارتباط في هذا الوقت، ولكنني كنت مشغولا بالاستقرار في مصر وتعييني بالجامعة، وتوفير مبلغ من المال أستطيع به أن أكون لوازم الزواج.
ومرة أخرى ذهبت لزيارة صديقي الإخواني والمخلص للجماعة أيما إخلاص، كنت قد سمعت أنه قد تم إلقاء القبض عليه ثم الإفراج عنه. فذهبت لزيارته في منزله بالقرب من قصر عابدين، وكان دكانه أسفل المنزل، كنت أنادي على صديقي من تحت، كانت تنزل شقيقته، كانت جميلة بيضاء، وكأن جسمها قطع من البلور. كانت تصر أن أصعد، وتجذبني لأعلى مرحبة بي، كنت أقاوم وأضع يدي على سور السلم وأمسك به، فكانت تحزن لأنني لم أكن أود الصعود، كانت تريد أن تجلس معي وتعرفني على عائلتها، بالإضافة إلى الأب الذي كنت أراه يقوم بعمله في الدكان، كنت أود أن أستجيب ولكن ظل المعوق كما هو، لا مال ولا عمل ولا سكن لكي أفكر في الارتباط. كنت مهموما بالبحث عن عمل وانتظار قرار التعيين بالجامعة، وكنت مهموما بمحنة الوطن بعد هزيمة 1967م. أحمل هم الفكر والوطن من ناحية والحب والجمال من ناحية أخرى. وهي هموم أتمنى أن أشاركها مع زوجة المستقبل؛ نحمل العناء المشترك معا، فلم السرعة في الاختيار؟
ومرة كنت في محاضرة عامة بها حضور كثر من المشايخ وعلماء الأزهر، وأنا خارج من باب القاعة رأيت شيخا كنت أعرفه من قبل يمثل الجانب اليساري من الفكر الإسلامي للعلماء. ففرحت لرؤيته وكانت معه ابنته، وكانت متوسطة الجمال على وجهها مساحيق لتزيد من جمالها. وهو لا يعبأ بنظرة زملائه المشايخ إليه، فقد كان من المتحررين من نقد المحافظين له، كان ينتظر أن تأتي مني مبادرة تخص ابنته وأنا من التقدميين مثله، كان عقلي وقلبي ما زال في المحاضرة التي ألقيتها للتو. لم أكن أستطيع التفكير في موضوع آخر.
وكانت هناك معيدة بقسم اللغة الفرنسية على قسط متوسط من الجمال، وقامة ممشوقة، متوسطة بين النحافة والبدانة، قدمها لي أحد أصدقائي بقسم اللغة العربية شفهية، وكان والدها من الطبقة العليا، لم تتح لي الظروف لمقابلتها على نحو طبيعي حتى أستطيع التعرف عليها، ولكننا تقابلنا في فناء الكلية، نظرت إليها وهي تبتعد، وبادلتني النظرات بعد أن ابتعدت، والتقت النظرتان، وانتهى الأمر عند هذا الحد.
وكانت هناك زميلة دراسة بقسم اللغة الفرنسية أقرب إلى السمار، ذات شعر أسود فاحم، أقرب إلى القصر منها إلى الطول، ومن النحافة منها إلى البدانة، عرفتها في باريس أثناء الدراسة، وعادت إلى القاهرة قبلي. أتاني مرة زميل مصري يسأل عنها؛ فأخذته إليها في منزل الطالبات المجاور لمنزلي ولا أعرف لماذا كان يسأل عنها، وهل تزوجها أم لا! ولكنها انتقلت إلى رحمة الله بعد أن أصبحت أستاذة بالقسم الذي تنتمي إليه.
وفي يوم وأنا جالس يرافقني أعز أصدقائي في قسم اللغة العربية جاءت فتاة نحيلة بيضاء تسأل عن شيء ثم غادرت، ولكن صورتها انطبعت في ذهني؛ فأخبرني صديقي بعد أن سألته عنها، قال: «إنها فتاة تدرس بالدراسات العليا، وتعد رسالة الماجستير.» ورأيتها مرة أخرى تدخل المدرج الكبير بالكلية لحضور مناقشة رسالة لأحد الأصدقاء، فتأكد انطباعي الأول، كانت رسالتها عن «يعقوب صنوع»، وكان في بعض مسرحياته بعض العبارات الفرنسية، فسألت مشرف رسالتها عن أحد يساعدها في ترجمة هذه العبارات، فأخبرها أن هناك شابا عائدا من فرنسا مؤخرا يستطيع أن يساعدها، فاتصلت بي. وتواعدنا في مكتبة الكلية، وتلاقينا عدة مرات، وأنا أترجم لها العبارات الفرنسية. كانت تجلس بجواري وأرى وجهها من الجانب الأيسر، وكان يجذبني ظل العيون الأزرق فوق جفنيها.
وفكرت كيف أبدأ هذا المشوار الطويل؟ فطلبت من أحد الأصدقاء في قسم اللغة العربية، والذي كنا حضرنا مناقشة رسالته للدكتوراه من قبل، أن يصحبني لبيتها كي يعرفني على أهلها ؛ ولأنني خجول لن أذهب بمفردي. وجاءت معه زوجته، ولم أكن أعرف أي هدية أحضرها لها في أول زيارة. ولما كانت نحيفة ظننت أنها تحتاج إلى غذاء، فذهبت إلى شارع التوفيقية. واشتريت من الفرارجي بطة، وتساءلت بيني وبين نفسي: ما قيمة «بطة» فهي يشتريها كل الناس؟ بطتي لا بد أن تكون مميزة، فطلبت من البائع أن أشترى لها شريطا أحمر، نربطه حول رقبتها على شكل «فيونكة». فأرسل البائع صبيه إلى المكتبة المجاورة ليشتري شريطا أحمر كما طلبت. ولما طلبت من الصبي أن يلف الشريط حول رقبة البطة على شكل «فيونكة» رفض الصبي، فلطمه البائع على وجهه وقال له: «وأنت مالك، الزبون عاوز كده.» وطلبت من البائع أن يضع البطة في حقيبة صغيرة من الورق المقوى. وكانت تطل البطة برأسها خارجها.
وركبنا أنا وصديقي وزوجته من ميدان التحرير، ووصلنا إلى ميدان الحجاز حيث تسكن الحبيبة، ولما دخلنا ووضعنا الحقيبة الورقية على الأرض نطت البطة خارجها وهي «تكاكي». فزعت أم حبيبتي؛ فشرحت لها أنها هديتي. وتعرفت على أخت حبيبتي وأولادها الثلاثة، وكانت الحبيبة قد مهدت لأسرتها من قبل عن سبب الزيارة، ثم دعتني والدتها بعد ذلك إلى الغداء، وكانت البطة التي أحضرتها، وذهبت وأنا خجول لأنني كنت أتناول الطعام في منزل لم أتعود عليه، ومع عائلة تعرفت عليها لأول مرة.
وقبل إتمام الخطبة، دخلت صديقتي المستشفى لإجراء عملية جراحية وكنت خجولا كالعادة، اصطحبت معي أخي والذي كان أستاذا لها في قسم اللغة العربية وزوجته المذيعة التليفزيونية لزيارتها في المستشفى وتهنئتها بنجاح العملية وتمنيت لها الشفاء العاجل؛ فعرفت هذه المرة أن من ينوي طلب يدها إنه شخص جاد، وكانت تبتسم، وعرفت جديتي في الارتباط بها، وبعد تلك الزيارة بدأت إجراءات الإعداد للخطوبة.
وكانت على موعد لرحلة إلى مرسى مطروح مع الكلية أو بيوت الشباب لا أذكر! أرسلت إليها رسالة أعبر فيها عن أشواقي وتمنياتي بالعودة السريعة، وما زالت تحتفظ بهذه الرسالة حتى اليوم، وأحضرت معها من هذه الرحلة هدية صغيرة لي؛ كأسا من البلاستيك الملون الأخضر المحاط بزخارف صفراء توضع فيه الورود، وما زالت لدينا حتى الآن محتفظين بها للذكرى، ودون أن نتنبأ أنه سيخلد في هذه الذكريات.
अज्ञात पृष्ठ