كان لي صديق عزيز، لا يعرف شيئا في العلم، وكان يأتيني؛ لكي أشرح له الدروس التي نأخذها في الجامعة، فكنت أفعل ذلك، وشعرت أمه بالجميل فكانت ترده إلينا بإرسال بعض المأكولات، كانت امرأة سمينة على عكس زوجها، وكان الصديق سمينا مثل أمه، ولما رأت الأم أن والدتي حزينة في إحدى زياراتها لنا لأنني نويت السفر إلى فرنسا ولا تدري كيف سأعيش هناك؛ أرادت أم صديقي أن تخفف عن أمي، وأخذت حقيبة السفر التي أعددتها وخرجت بها من المنزل، وذهبت بها إلى منزلها في محاولة منها لمنعي من السفر، ذهبت إليها شارحا لها ضرورة الذهاب إلى فرنسا؛ لأنه لا مستقبل لي هنا في مصر؛ فلست معيدا في الجامعة بعد اضطهاد الأساتذة لي، ولا أرغب أن أكون مدرس ثانوي لتدريس الفلسفة للطلبة في المدارس، بعد أن وصلني بالفعل خطاب تعيين بإحدى مدارس بنها الثانوية.
وشرحت لها أنني أريد مواصلة تعليمي هناك، والحصول على أعلى الشهادات، وأنني أريد أن أجرب حظي، وأنه لا خوف من عدم وجود المال اللازم؛ فأنا قادر على اكتسابه هناك عن طريق تدريس اللغات العربية والإنجليزية والفرنسية لإجادتي إياها. خجلت أم صديقي من نفسها، وأعجبت بطموحي؛ لأنها ترى أن ابنها غير موفق في دراسته وأنه لولا مساعدتي له في المذاكرة لما استطاع أن يتخرج من الجامعة.
ولما انتقلت شقيقتي الكبرى الابنة البكر لأمي من دشنا في محافظة قنا بعد خطبتها من أحد أقاربنا، انتقلت إلى مدرسة شبرا بجوار سكنها الجديد. وكانت والدتي تنتظر أن تساعد الأسرة بجزء من مرتبها؛ لأن مرتب والدي كان لا يكفي، ولكن شقيقتي الكبرى لم تفعل، فذهبت والدتي إلى باب المدرسة، وانتظرتها حين الخروج، وكما تقول الرواية دفعتها من صدرها وقالت لها شيئا يبين عدم وفاء الشقيقة/الابنة لأسرتها الأولى، والتضحية لصالح أسرتها الثانية.
فعادت الشقيقة الكبرى إلى منزلها وقصت ما حدث على حماتها التي كانت تسكن معها في منزلها الجديد، قالت الحماة: «إذا كنا نريد جنيها أو اثنين من مرتبك فيكون ذلك بالتراضي.» فازداد حزن أمي من هذه الكلمة واعتبرتها إهانة لها؛ فالأم ليست شحاذة، بل تريد أن تشارك الابنة الكبرى في تربية إخوتها الأصغر وخاصة أن مرتب والدي يكاد أن يكون أقل من مرتب الشقيقة الكبرى.
فأرسلوني إليها وقابلتني بالبكاء قائلة: «تلوموني بدلا من أن تهنئوني بالانتقال من دشنا إلى القاهرة!» ولم أعرف من منا على حق، ولكني أدركت أن الإخلاص للأسرة الجديدة أقوى من الوفاء للأسرة القديمة، فلم أعرف ماذا أفعل! وإلى أي جانب أنضم! ولكن الواقع فرض نفسه، فقد كان مرتب زوج شقيقتي الكبرى لا يكفي بمفرده لإعالة أسرته الكبيرة؛ أسرة بها والدته وزوجته وأطفاله القادمون.
وأدركت أن الأسرة القديمة، أسرتي التي أعيش بينها تستطيع حل مشكلتها بالذهاب إلى بني سويف، وطلب العون من جدتي أو خالتي، فانتهى الأمر على خير، وعاد الوفاق بين الأسرة الجديدة والأسرة القديمة.
كنا نذهب إلى بني سويف في الصيف ونحن صغار، وكان وقت الحرب العالمية الثانية، خوفا من الغارات الجوية التي كان يقوم بها الألمان ضد معسكرات الإنجليز في مصر، مع أن الفكرة الشائعة كانت أن الألمان يحبون المصريين، ولا يقوم بالغارات الجوية إلا الإنجليز المستعمرون. وكانت الكشافات الضوئية تبرق في ظلمة السماء، تبحث عن الطائرات الألمانية، وصحيح أن المجتمع المدني المصري لم يصب بأي سوء وقتها. وسمعت أن المصريين كانوا يهتفون أثناء معركة العلمين في غرب مصر «إلى الأمام يا روميل». وكان عزيز المصري وصحبه في مثل هذا الموقف المتعاطف مع الألمان ضد الإنجليز، وهو قائد عسكري في الجيش المصري.
ونحن في بني سويف كنا نلعب مع أطفال الشارع؛ شارع أبو عزيزة بمياه صنبور مطفأة الحريق الموجود وسط الشارع، كما كنا نلعب بأقفال شبابيك مدرسة زعزوع، حيث كنا نتخيل أنها رجال صغار وهي في مكانها، دون أن نخلعها، فكنا نحركها من أسفل إلى أعلى أو من أعلى إلى أسفل، وكأنها لعبة للأطفال.
وكنت أسير في شارع الجبالي إلى آخره كي أجلس مع جدي في دكان الدقيق الذي كان يتاجر فيه. وبعد أن توفي، رفض والدي تقسيم هذا الدكان لمن يستحقون الإرث، وأعطاه بكامله إلى زوجة جدي الجديدة؛ لأنها كانت ساعده الأيمن في العمل، وكان لي عمات في الجهة المقابلة للشارع، لم نكن نذهب إليهن كثيرا بسبب عدم وجود أطفال. وفي منزل جدتي أي «ستي» وخالتي كنت أصعد على الفرن المبني من الطين لأجلب لها فروع قصب السكر الخضراء لكي تشعل بها الفرن بالإضافة إلى «قوالح الذرة». وكانت خالتي التي تخبز الخبز (الأرغفة) وتسويها. وأنا أنظر إلى الفرن والنار المشتعلة داخله وأتذكر ما يقوله الشيخ عن النار الحارقة يوم القيامة.
كانت جدتي بين الحين والآخر تعطيني سرا قرشا أو قرشين؛ لأشتري ما أريد وكذلك كانت تعطي لأخي، وكانت خالتي غير متزوجة بعد، وكانت عرجاء بسبب وقوعها من على السطح، ولم يحسن علاجها، فكان لها ساق طويلة والأخرى قصيرة، وكانت الخالة بأموالها من جدتي تشتري المصوغات والأساور الذهبية تلتف حول ذراعيها، وليس لها عائلة تنفق عليها، كان الرجال يطمحون للزواج منها ليس لشخصها ولكن لذهبها، ومرة تزوجها رجل، رأيتها بعد الزواج وهو لا يأتي المنزل ولا ينام عندها، فكانت تحزن، وكانت تغلف السرير بقماش أبيض مثل الشاش، تضع عليه كرات زجاجية ملونة بالأحمر والأخضر والأزرق تضعه حول القماش الأبيض. فكان مشهدا مبهجا لي ، وحسدت زوجها لتمتعه بهذا السرير الأبيض ذي الكرات الملونة والذي لا يراه أحد غيرهم. وأحيانا يأتي لزيارتها، وتنفرج أساريرها. فينظر لأساورها، يطلب أن تعطيه إحداها لحاجته إليها تساعده في عمله، وكانت حائرة بين طاعة الزوج وبين تسليمه مصاغها.
अज्ञात पृष्ठ