وهو نص سياسي؛ لأن المجتمع حامل للسياسة؛ فالذكريات صرخات في الهواء السياسي، ظلما وعدلا، غنى وفقرا، ظالما ومظلوما، استبدادا وحرية، إصلاحا وفسادا ، صدقا وكذبا، شجاعة وجبنا، سلطة أو معارضة، جلادا أو ضحية؛ فكل نص هو سياسي بالضرورة، مباشر أو غير مباشر، باستثناء بعض الأفلام المصرية المعلقة في الهواء؛ لا يربط بين شخصيات أبطالها إلا المحبة والكراهية، والوفاء والغدر، والخير والشر، دون بيئة اجتماعية لمعرفة الأسباب، أو سياسية لمعرفة الهدف.
والنص ليس موعظة خلقية تطبق عليه مقاييس الأخلاق في الحجاب والسفور، واللباس والعري، والذكر والأنثى. بل إن النص كثيرا ما ينقد هذه الثنائيات ويكشف عن المستور الذي يخبئه الناس، ولا يظهرون إلا عكسه؛ فالكل يعشق المرأة ويتمناها ويتظاهر بالقدرة على البعد عنها؛ خوفا على فضيلته من الشر القادم، وهم كثيرا ما يقبلون الرشاوى، ويطلب من الراشي الانتظار لحين الانتهاء من الصلاة.
وإذا كانت الفضيلة في كل سلوك فمن أين تأتي الرذيلة؟ وإذا كان الإصلاح عاما في كل هيئة فمن أين يأتي الفساد؟ وإذا كان كل البشر آلهة أو ملائكة فمن أين تأتي الشياطين؟
والنقد الأدبي للنصوص لا يعني الدفاع عنها أو الهجوم عليها، مدحها أو ذمها، إبقاءها أو استبعادها؛ فتلك أحكام مسبقة على النص وعلى كاتبه، طبقا لمواقف الناقد الأخلاقية أو الدينية أو السياسية الشخصية، وكلها مواقف متغيرة للناقد قبل أن يتناول موضوع النقد وهو النص. يحتاج النص إلى قراءة محايدة بصرف النظر عن آراء الناقد أو آراء المؤلف الشخصية؛ فالنقد عمل حرفي خالص، يحلل النص في بنيته اللغوية، وفي مدى تصويره للبيئة الاجتماعية، وفي مدى حمله لنداء مستقبلي؛ فالنص عالم مستقل بذاته، وحياة خاصة؛ لا يمكن وضعه في قالب آخر، وإعطاؤه لونا ليس له؛ فالقالب أو اللون يأتي من الناقد؛ فيصبح النقد قراءة على أحسن الظروف، وتأويلا في أسوأ الظروف. والنقد المتغير ضد الأمانة العلمية؛ إذ لا يكفي طلاء المنزل من الخارج، بل لا بد من الدخول فيه، ومعرفة أدواره وحجراته وحوائطه؛ فالنقد ليس إسقاطا من الناقد على النص، بل هو دخول على النص دون أحكام مسبقة، واعتمادا على البداهة الفعلية والفطرة الإنسانية.
ويبدأ النقد بمحبة الناقد للنص وتعاطفه المبدئي معه، كالمحب في أول تعرفه على الحبيبة يحتاج إلى عدة جلسات معها؛ يظهر التعاطف من الناقد تجاه النص، حتى تتكشف جوانبه، ويظهر دلالاته. بين الناقد والنص علاقة متبادلة، من الناقد إلى النص، وهو فتح الساعدين. ومن النص إلى الناقد، وهو الارتماء في الأحضان. يخاطب بعضهما بعضا.
1
والتحدي الكبير للذكريات هو استرسال ذكريات الحياة الشخصية مع الحياة العامة، فكلاهما ذكريات، فلا يمكن استبعاد ذكريات الحياة الشخصية لصاحب الذكريات ونفسه أو أسرته الصغيرة أو أسرته الكبيرة، ولا تبقى إلا الحياة العامة؛ خاصة الوظيفية؛ فالخاص دون العام تمركز على الذات وكأن الذات هي مركز العالم. والعام دون الخاص تاريخ صرف، ووصف لحوادث ووقائع محايدة، أشبه بالتقرير الصحفي أو الوثيقة التاريخية، وقد وقع كثير من أصحاب الذكريات في هذين الخطأين. وقع الكتاب العرب في الخطأ الأول، أي الذكريات كتاريخ (بدوي). ووقع بعض الكتاب الغربيين في الخطأ الثاني (جان بول سارتر).
وحاولت القلة الجمع بين الاثنين (عثمان أمين، زكي نجيب محمود). ويظل التحدي قائما. رؤية الذات من خلال الموضوع أو رؤية الموضوع من خلال الذات.
وهذه الذكريات قراءة النص كعلاقة متبادلة بين الذات والموضوع.
الفصل الأول
अज्ञात पृष्ठ