وكنت أفتعل مناسبة للتعرف على الجنس الآخر بالمطاعم الجامعية والمقاهي والأندية الرياضية؛ ففي المطاعم أفضل وسيلة للتعرف على جارتي الطالبة هو سؤالها: هل تريدين أن أصب لك الماء؟ هل تريدين قطعة خبز؟ فدورق المياه وسلة الخبز مشتركان على المائدة. ولما طلبت من جارتي: هل تريدين كوب ماء؟ وهي تعلم قصدي، قالت: أنا لا أعاشر، واللفظ الفرنسي أكثر وضوحا
je ne pense pas . ومرة أخرى بعد الغداء ذهبت إلى المقهى أسفل المطعم بعد أن سألتها ونحن في المصعد: أتشربين القهوة معي؟ قالت: إلى اللقاء، وهي تنظر إلي بحب أنها شربت قهوة على حسابي دون أن تعطيني شيئا. مرة ثالثة تقابلنا وأعطتني موعدا على ناصية شارع بول ويش وشارع المدارس، وأتيت في الموعد تماما، وانتظرت ولكنها لم تأت وبتعبير المصريين «فرقعتني» أو «ادتني زومبة» أو «ادتني بومبة». وكان حمام السباحة في الدور الرابع تحت الأرض في بيت الرياضيين الذي سكنت فيه في غرفة مزدوجة، وكانت حارسة الحمام سيدة جميلة، ذات صدر بارز، والسباحون ذوو عضلات بارزة؛ فأين أنا من هذه المنافسة غير العادلة، فعدت إلى الرومانسية من جديد مثل نجيب الريحاني مع ليلى مراد في «غزل البنات».
وفي برلين الغربية زرت جامعة فون همبولت وبحيرة البط، وسكنت ببيوت الشباب، وكنا في الإفطار أنا والشباب نجمع من الموائد المتبقية الخبز والبيض ونفطر به. وما تبقى يكون طعاما لليوم. وعلى الخروج من محطة متحف دالم كانت عربة واقفة تبيع السجق والمسطردة مثل عربات الفول عندنا على نواصي الشوارع والطرقات. وكان أحد الأصدقاء الألمان في باريس قد قدمني لأحد أصدقائه في برلين، فدعاني الصديق في برلين إلى العشاء واستقبلني هو وزوجته احتفاء بالضيف الباريسي. ولما نفدت النقود ولا أعرف أحدا، ذهبت إليه أطلب قرضا، فنظر إلي كيف تحولت من ضيف إلى سائل! وأعطاني ما طلبت. وأخبرني أحد الطلبة ببيوت الشباب أنه يمكنني العمل بالمعارض، وما أكثرها في ألمانيا! أفرد السجاجيد أو أنظم الكراسي، واليومية عشرون ماركا، فعملت وأرجعت ما اقترضت. ولما كان العمل ممكنا نهارا وليلا، فقد كنت أزور برلين صباحا وأعمل ليلا، وأنام في أحد حوائط المعرض كما يفعل الآخرون، ورأيت الألماني وصديقته يفعلان ذلك ، ولا أحد ينتبه إليهما؛ فقد جمعهما الحب والفقر.
أما فرنسا فقد زرتها مقاطعة مقاطعة مع صديقتي الألمانية بالعربة؛ غربا وشرقا، وجنوبا وشمالا. ورأيت نيس وكان، وهما ما كنت أسمع عنهما في المهرجانات الدولية للسينما. وأذهب إلى الأحياء القديمة التي لم تطلها يد التدمير في الحرب. وفي طولون تذكرت المدينة التي خرجت منها الأساطيل الفرنسية والبريطانية لهزيمة محمد علي غرب الإسكندرية. ومرة ذهبت إلى سافوا العليا
Lu Haute Savoie
الشهيرة بجبال الألب، ومكان للاستشفاء، ورأيت الثلج في قمتها صيفا وشتاء. وذهبنا إلى لوزان وجنيف لرؤية بحيرة لوزان الشهيرة والقصور على ضفافها، وفيها قصرا الرئيس المخلوع ونجله في زيارتي لجنيف.
وقد زرت إنجلترا بدعوة من جامعة أكسفورد، ووصلت إليها عن طريق النفق البحري تحت الماء الذي يربط فرنسا بإنجلترا، وكنت أخشى في البداية، ولكني لم أخش في النهاية، وتذكرت نفس النفق في إستانبول الذي يربط بين الجانبين الأوروبي والآسيوي. وأخيرا زرت الكوبري المعلق الذي يربط بين الجانبين، وعرفت أن التكنولوجيا ليست وقفا على الغرب، وكانت تركيا حليف الألمان في الحرب العالمية الأولى، وفيها امتد قطار الشرق السريع من برلين إلى بغداد.
كنت أجد نفسي نائما في محاضرات الطلاب المسلمين بشمال أفريقيا؛ فكانت علمية سياسية، في حين عند حميد الله علمية خالصة. وكنت أشعر أنني طليق اللسان عندما أتحدث عن الاستعمار والاستقلال والحرية للشعوب، ومع زميلي رشدي راشد. وفي صيف 1965م أتى المشير عبد الحكيم عامر إلى باريس للإعداد لزيارة الرئيس جمال عبد الناصر إلى باريس للقاء ديجول، وأعدت له السفارة المصرية في باريس استقبالا، وكتبت اليافطات، ورفعت الأعلام، ونظم السفير عبد المنعم النجار استقبالا، وكان من الضباط الأحرار، وجاء الطلاب من كافة أرجاء الدول الأوروبية للمشاركة في هذا الاستقبال. وذهبت وجلست في الصف الأول أمام المنصة. وكان عليها المشير، ود. محمود فوزي رئيس الوزراء، ولطفي الخولي الصحفي بالأهرام، ورئيس تحرير مجلة الطليعة الماركسي المعروف. وبمجرد ما انتهى المتحدث الأول من إلقاء كلمته بعد أن راجع السفير كل الكلمات خشية أن يكون في إحداها ما يغضب النظام ، أحسست بشيء يدفعني، فأخذت الميكروفون وقلت: سيادة المشير، كل هذه الزفة واليافطات والكلمات مزيفة؛ فقد راجعها السفير، ولا تعبر عما يجيش في نفوس الطلاب، ما يدور في نفوسنا جميعا هو منع تجديد جوازات السفر للبعض منا، وعدم تجديد المنح الدراسية لأننا مصنفون بأننا ضد النظام. وسرعان ما اختطف الميكروفون المتحدث الثالث من ورائي وأكد ما قلت، ووقف الطلاب طابورا للحديث في نفس التيار، وأنزلوا اليفط التي ترحب، وعلت الأصوات بالمنع من السفر، والحرمان من حضور جنازة الوالد، فأخذ المشير على غرة، ولم يعرف كيف يرد، وطلب من لطفي أن يرد على هؤلاء الطلبة العاقين الذين لا يعرفون أحوال بلادهم، فرد لطفي أنه اعتقل وعذب، وما زالت آثار التعذيب والكرابيج على ظهره، وكان د. محمود فوزي يبتسم ليعلن عن سروره العميق بخطاب الطلاب وأنه ما زال في مصر رجال.
وعاد المشير إلى القاهرة ليخبر ناصر بما رآه وسمعه في باريس، فطلب منه دعوة ممثلي الطلاب الدارسين في أوروبا ليناقشهم بنفسه في القاهرة في الصيف القادم، وهو ما سمي «مؤتمر المبعوثين». واستدعاني السفير في باريس كي يستفسر مني عما فعلت، فأخبرته أني قلت كلمة صدق، وبدأ في تكوين جماعة طلابية تجتمع في السفارة أسبوعيا لندرس فيها أحوال البلاد استعدادا للقاء عبد الناصر في الصيف القادم في القاهرة. واستعدادا لذلك كنا نجتمع في السفارة «مجموعة باريس»، وأسسنا نادي الطلبة الاشتراكيين من: حسن حنفي، رشدي راشد، حسام عيسى،
2
अज्ञात पृष्ठ