أيها المبعوث فينا
جئت بالأمر المطاع
جئت شرفت المدينة
مرحبا يا خير داع
ولما قامت ثورة مصدق عام 1953م ضد الشاه وأمريكا لتأميم البترول، وهرب الشاه، اعترض الإخوان في شعبة باب الشعرية وهاجموا مصدق، ووصفوه بأنه شيوعي، وأيدوا آية الله الكاشاني صديق الشاه، وعلقوا على جريدة الحائط الهجوم على مصدق ومدح الكاشاني، فغضبت وطلبت الكلمة بأن هذا اتجاه يميني، وأن الإسلام مع التأميم وضد حكم الملوك، وأن الأفضل جعل الشعار كتابا وقلمين وليس مصحفا وسيفين؛ فالمصحف والسيفان دعوة للقتال، والكتاب والقلمان دعوة للعلم.
الفصل الثاني
التعليم الجامعي (1952-1956م)
وأعلن عن مجانية التعليم في الجامعة، فحصلت على المجانية في الجامعة لثلاثة أسباب: الأول، مجموعي في التوجيهية كان 77,5٪ أي فوق السبعين مما يؤهل للجامعة. والثاني، أنني كنت الأول على القطر في مسابقة الفلسفة التي تؤهل للمجانية. والثالث، قرار الثورة بمجانية التعليم الجامعي أسوة بالتعليم العام. ولم يكن هناك تردد في الالتحاق بكلية الآداب، قسم الفلسفة، وكان قسما واحدا مع علم النفس والاجتماع في السنتين الأولى والثانية، ثم انفصل الاجتماع عن الفلسفة بعد السنة الأولى، ثم انفصل علم النفس عن الفلسفة ونحن في السنة الثالثة. وبقي كلا العلمين كمقررين دراسيين بحيث يدرس علم الاجتماع في السنة الثانية وعلم النفس في السنة الرابعة. ولم يخبرني أحد من أساتذة علم الاجتماع وعلم النفس أو حتى الفلسفة حتى انفصال الفلسفة في السنة الثالثة عن القسمين الآخرين، ربما لأن القرار لم يكن قد اتخذ بعد. وهنا استرعي انتباهي عثمان أمين الذي كان يدرس الفلسفة الحديثة خاصة ديكارت، وكانت طريقته التعليق على ديكارت وتطبيقه على الواقع العربي المعاصر، وكان يقول «بين قوسين» كان ضاحكا مبتسما، يركز على «مقال في المنهج» و«التأملات في الفلسفة الأولى»، وفي الفصل الدراسي الثاني كانط. وكان يطيل في شرح معنى كلمة ترنسندنتال والفلسفة الترنسندنتالية، والتقابل بين البعدي والقبلي. وفي «نقد العقل العملي» كان يركز على الواجب والأخلاق عند كانط، وكناقد فني في «نقد ملكة الحكم». في السنة الثانية في علم الأخلاق، ويقوم بتدريسه توفيق الطويل الأستاذ الثاني الذي استرعى الانتباه من على المنصة، بينما عثمان أمين كان يقف في أسفلها في منتصف القاعة، يدرس واقفا وسائرا على الأقدام، ينقد الأخلاق الوضعية بجميع أنواعها، ويدافع عن الأخلاق المثالية بجميع أنواعها وفي مقدمتها كانط. وكان يسمح بالاختلاف في الرأي وتبادل وجهات النظر، وإذا قرر كتابات في الفلسفة الخلقية فإنه يطلب قراءته ومناقشته بابا بابا أو فصلا فصلا في المدرج.
وكانت الجامعة بالنسبة لي عالما جديدا، سواء من حيث العلاقات الاجتماعية المفتوحة أو من حيث التعليم الذي كان يتراوح بين الإملاء والكتب المقررة من ناحية والتفكير الحر دون إملاء أو تقرير كتاب من ناحية أخرى، وهم غالبا من الشبان، الجيل الجديد؛ مثل أستاذ الاجتماع الذي كان يرتجل ويناقش، وكان ماركسيا يسمى شريف، وتم تطهيره من الجامعة مثل محمود أمين العالم، ولويس عوض، وعبد العظيم أنيس، أو الإخوان مثل توفيق الشاوي من الحقوق في أزمة مارس 1954م. وكان يدرس واقفا أيضا زكريا إبراهيم الذي عاد من فرنسا عام 1955م، وفي صوته بحة أو انسداد سرعان ما ينفتح. وكان السؤال الباطني الذي يدور في نفسي: وما عيب الجمع بين العلم والأيديولوجيا، يسارية أو إسلامية؟ وهل ينفع تدريس العلوم الإنسانية كالاجتماع والقانون والفلسفة دون أيديولوجيا؟ وما العيب إذا ما أدت الأيديولوجيا إلى العمل السياسي؟ وما العيب في أن يسمع الطالب أيديولوجيات مختلفة ويفكر فيها بدلا من أن يحفظ كتابا مقررا؟
في السنة الأولى كنا في مدرج 74 أو 78، مدرج كبير متدرج مهيب جدير بالجامعة، ومنصة طويلة عريضة تضطر الأستاذ المفكر أن يقوم وراءها، ويتمشى وهو يلقي الدرس. أما الأستاذ الذي يملي فيكفيه الجلوس ؛ فضعف الجسد من ضعف العقل. وكانت التقاليد لا تسمح بالاختلاط الكلي؛ فالطالبات في ناحية، والطلبة في ناحية أخرى، ومن يخل بالتقاليد ينظر إليه على أنه يتحرش بالبنات أو إليها أنها تتحرش بالصبيان. وكان أستاذ الاجتماع أحمد الخشاب شابا أبيض قصيرا عازبا يملي ببطء، ويكتب الطلبة والطالبات وراءه، والكل سعيد. وكان ينظر بعين الإعجاب إلى فتاة بيضاء جميلة اسمها إيفون، باستثناء بعض المراسلات العلنية، حادثها مرة علنا؛ قال لها بحنان بالغ: «اسكتي يا إيفون.» فردت عليه بدلال: «مش أنا يا أستاذ.» بالنسبة لي كانت حبا بلا روح في حين أن مواصفاتها كانت تجمع بين الروح والجسد معا وهي الصفات التي أحبها. وتساءلت: ماذا كان جمال حواء؟ وهل أغرم بها آدم وهي الوحيدة الموجودة على الساحة ولم يقارن بينها وبين غيرها حتى يختارها، أم إنها كانت مفروضة عليه؟ وكانت هناك فتاة فلسطينية طويلة بيضاء، بنت عم الأولى، ذات وجه مشرق وصدر بارز، ولها ضحكة أنثوية لدرجة أنني تساءلت فيما بعد: هل أحببت الذات أم الصفات كما تساءل علماء الكلام والصوفية بالنسبة للذات الإلهية؟ ولما سألت عرفت أنها مسيحية من فلسطين، فأهديتها في عيد ميلاد السيد المسيح نسخة من كتاب «عبقرية المسيح» للعقاد مع إهداء فأرجعته لي مع صديق كنت أجلس معه مع قطع مربع الورقة الأولى التي عليها الإهداء، فحزنت؛ فإلى هذا الحد كان البعد ولا أقول الكراهية. حاولت فلم أفلح، كانت متكبرة، تعرف قيمة نفسها، شغلت قلبي، ولكن كيف الوصول إليها وكأنها كانت تهرب كلما اقتربت. وكان يأتيها قريب أو خطيب من كلية الحقوق ليصاحبها؛ فقلبها مشغول، فتدب الغيرة منه، كانت أقرب إلى الصمت منها إلى الكلام. وبعد أن انفصل القسمان، الفلسفة والاجتماع، في السنة الثانية لم أعد أراها كثيرا، وكانت كلما رأتني فرت، لا أدري ما السبب: هل كراهية لي، أم لا تعرفني، أم لأنها مخطوبة لزميلها أو قريبها أو حبيبها الحقوقي، أم للتقاليد الاجتماعية؟ وفي السنة الرابعة علمت أنها النهاية؛ فستغادر إلى فلسطين وتتزوج هناك، وأغادر أنا إلى فرنسا ، وتنتهي قصة هذا الحب الصامت. وبعد خمسين عاما كنت بعمان وعرفت إحدى صديقاتي الأردنيات أنها هنا، فدعتها إلى المقهى، أتت لحظات في المقهى ومعها زوجها، مع أني كنت أعد قصة حياتي منذ أن افترقنا؛ فلا خوف مني. وهربت كالعادة وهي تنظر إلى الوراء بأن هذا موضوع انتهى، وأنا أنظر إلى الأمام بأن حب وعشق الروح لا ينتهي كما غنى عبد الوهاب في غزل البنات: «وحب الروح ما لوش آخر لكن عشق الجسد فان.» ثم انتهى كل شيء في زحمة الحياة التي هي أوسع كثيرا من دائرة الحب كما تصور الأفلام المصرية.
अज्ञात पृष्ठ