مقدمة صاحب الذيل
पृष्ठ 7
بسم الله الرحمن الرحيم وبه ثقتي أما بعد حمد الله سبحانه والثناء عليه، أهل الحمد والثناء، المفرد بالوحدانية والبقاء الذي لا يحيط به مكان، ولا يغيره زمان، لا إله إلا هو مبدع المكان وموجده، ومحدث الزمان ومنفده، خالق الخلق أطوارا، وجاعل الظلمة والضياء ليلا ونهارا، كتب على الخلائق تقلب الأحوال لأنه لا يحول، وقضى على الأزمنة حكم الزوال لأنه لا يزول. والصلاة على رسوله محمد الذي بعثه بالرسالة، وهدى به من الضلالة، وأنفذ بمعرفته من الجهالة، ودل على نبوته بأفضل الدلالة، واختاره من أشرف البلاد وطنا ودارا، واصطفاه من أكرم العباد حسبا ونجارا، حيث المشعر الحرام والمعشر الكرام، وجعله آخر الأنبياء بعثا فى الدنيا إلى العباد، وأولهم بعثا إلى المعاد، وجعلنا من أمته الذين جعلهم أمة وسطا، وأبان لهم من الإسلام منهجا جددا، ووفقهم فى الدين فتحروا رشدا. فقولهم سديد، وفعلهم رشيد، وهم شهداء على الناس والرسول عليهم شهيد، وعلى آله الذين سبقوا إلى مصاحبته وسعدوا بمرافقته، [3] وشرفوا بمتابعته فى هجرته، وكرموا بإيوائه ونصرته، فهم معالم الهدى، ومصابيح الدجى [1] ، كدرارى النجوم تهدى الساري بنورها، وتقى الغاوي من فتنة الدنيا وغرورها.
والدعاء لخليفته الإمام المقتدى بأمر الله أمير المؤمنين صاحب العصر المؤيد بالنصر المختار من شجرة طيبة للشرف [2] والعلاء، «أصلها ثابت وفرعها في السماء» 14: 24 [3] شربت من ماء النبوة الطاهرة عيدانها، وتفرعت بالخلافة الظاهرة أفنانها. كما قال جده العباس لبعض أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين: كان رسول الله دوحة نحن أغصانها وأنتم جيرانها، وهو المنصب العظيم، من المحتد الصميم، والبيت الكريم، الذي أول درجاته النبوة والكرامة، وثانيهما [4] الخلافة والإمامة. ولا ثالث لها بعد ذلك إلى القيامة.
توارثها إمام عن امام. وقام بها أمير المؤمنين المقتدى بأمر الله خير قيام.
إن الذي رفع السماء بنى لهم ... بيتا دعائمه أعز وأطول [5]
شد الله عضده بذخر الدين، وولى عهده فى المسلمين، وباخوته الغر الميامين، وجعلها كلمة باقية فى عقبه إلى يوم الدين، [4] وأيد دولته بجلالها الذاب عن حماها، المناضل عن علاها، جمال الملة مغيث الأمة معز الدنيا والدين يمين أمير المؤمنين الملك العادل المحبب إلى القلوب، والركن الشديد المعد لدفع الخطوب، ودبر ملكه بنظامه المبارك فى أيامه، قوام الدين رضى
पृष्ठ 8
أمير المؤمنين الوزير الظهير، الموفق بحسن التدبير.
وبعد أداء الفروض المقدمة الواجبة، والسنن المؤكدة الراتبة، وقضاء حقوقها المستثبتة الأزلية وسلوك طرقها المستقيمة اللاحبة، فإن أولى ما صنفه المفيد، وعنى بقراءته المستفيد، جمع أخبار الأمم الخالية، وحفظ تواريخ الأزمان الماضية، لأنها أوفى المصنفات فائدة وأكثرها عائدة، وأحسنها أثرا، وأطيبها ثمرا، إذ كان أنفع العلوم ما أدت مقاصده إلى التوحيد، ووقفت موارده على تثبيت قدرة الخالق فى نفوس العبيد، وفى تدبير اختلاف الليل والنهار، وتأمل مجاري الأقدار وتقلب الأدوار، فى توالى الأمم وتعاقبها، وتداول الدول وتناوبها. قال الله تعالى: وتلك الأيام نداولها بين الناس 3: 140 [1] اكبر دليل على وحدانية من ينبتهم ثم يحصدهم [5] ويشقيهم ويسعدهم، وينشئهم ويبيدهم، ويعيدهم، ويحييهم ويميتهم «وهو على جمعهم إذا يشاء قدير» تبارك اسمه وجل ثناؤه، وعظمت قدرته وكثرت آلاؤه، مرجع الخلق والأمر إليه و «بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه» 23: 88 [2] له الحمد كله وبتوفيقه يتضح فى الرشاد سبيله، فلا عبادة إذا أرقى من التوحيد فموقعه من العبادات موقع الرأس من الجسد به اعتداله وبقاؤه، ومحله من الاعتقادات محل الروح من الجسم بها حياته ونماؤه.
ولو لم يكن علم القصص عظيما لما من الله تعالى به على نبيه عليه السلام فقال: نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين 12: 3 [3] وقال سبحانه:
पृष्ठ 9
طسم تلك آيات الكتاب المبين، نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون 28: 1- 3 [1] وقال تعالى: كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا 20: 99 [2] ولو لم يكن فى ذلك الا ما ينتفع به المعتبر من قلة الثقة بالدنيا الفانية، وكثرة الرغبة فى الآخرة الباقية، لكفى ما تنتجه هذه البصيرة من جميل الأفعال، وتحث عليه هذه النتيجة من صالح [6] الأعمال. فكيف وأولى ما يعتمده أولو الأمر وأصحاب الزمان، ومن بأيديهم مقاليد الملك والسلطان، وأوجب ما يتشاغل به من إليهم أزمة الأمور، وعليهم سياسة الجمهور، إدمان النظر فى كتب التاريخ وإحسان التتبع للأخبار، والآثار والتفكر فى حال من مضى من الأخيار والأشرار، ليعلموا ما بقي للمحسن من الصيت الحميد الذي صار له حياة مخلدة بالأجر [3] الذي اكتسبه، وللمسىء من الذكر القبيح الذي جعل صحيفته مسودة بالوزر الذي احتقبه، ويتصفحوا حال الحازم فى حزمه وعقله، والمضيع فى تفريطه وجهله، فيسلكوا من الطرائق أوضحها وأمثلها، ويتقبلوا من الخلائق أشرفها وأفضلها، ويردوا من المشارب أصفاها وأعذبها، ويرعوا من المراتع أمرأها وأخصبها، ويأخذوا من الأمور بأحزمها، ومن التجارب بأحكمها. فمهما يكن من حسنة اقتبسوا منها، ومهما يكن من سيئة ارتدعوا عنها. فالسعيد من انتفع بالأدب فيما دأب غيره فيه من التجارب، والرابح من حظى بالراحة فيما تعب به سواه من المطالب. لأن العقل غريزة فى الإنسان، والتجارب مكتسبة فى الزمان، والرأى [7] لقاح العقل والتجربة نتاجه، والخير مقصد الحجى والاجتهاد منهاجه، ومن أين للإنسان من العمر الطويل، ما يحصل فيه على تجربة الدقيق والجليل. وقيل: العمر قصير
पृष्ठ 10
والعلم كثير [1] فخذوا من كل شيء أحسنه.
فإذا تأمل المرء سيرة الماضين من الأقوام، جنى مع تقارب الشهور والأيام، ثمرة ما غرسوه على تطاول الدهور والأعوام، وعلم علل الأحوال وفوائدها، وحيل الرجال ومكايدها، وعرف مبادئ الأمور ومصائرها، وقاس عليها أشباهها ونظائرها، وعمل بأنفع ما حبى به من الفهم والعلم، وانتفع بأصوب ما عمل به فى الحرب والسلم، وأقدم على المواطن التي يرتجى فى أمثالها الظفر، وأحجم عن الأماكن التي يتوقى فى أشكالها الحذر، وتسلى بمن تدرع الجلد عند حدوث النوائب، وتأسى بمن توقع الفرج حين ظهور العجائب، وذكر مصير العاقبة إذا أرخت يد الغفلة عنان أشره، ونظر بالبصيرة الثاقبة إذ غطى غرور الدنيا على بصره.
فهذان القسمان يجمعان الدين والدنيا، ويبلغان بصاحبهما الدرجة العليا.
فأما ما فى ذلك من حسن المفاوضة والمذاكرة، وأنس المحادثة والمسامرة، فقد [8] خففت القول فيه لأنه يصغر فى جنب ما قدمت ذكره من القسمين العظيمين، والأمرين الجسيمين. كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: كل الصيد فى جوف الفرا [2] .
وإننى تأملت كتاب تجارب الأمم وعواقب الهمم، الذي صنفه أبو على أحمد بن محمد بن يعقوب مسكويه، فوجدت فوائده غزيرة، ومنافعه كثيرة، وعلمه جما، وبحره خضما. فراقنى تأليفه، وأعجبنى تصنيفه. فرحم الله مصنفه وأجزل فى الآخرة أجره كما طيب فى الدنيا ذكره. فلقد اختار فأحسن الإختيار، ومخض فأتى بزبد الأخبار. وسلك سبيلا وسطا بين التطويل والاختصار. ثم لم يقنع بذلك حتى قرب مسالك الطرق البعيدة، وبرز من أثناء الإختيار ذكر الآراء السديدة، ونبه فيها على، مقامات حميدة، وبين
पृष्ठ 11
ما جرى فى كل وقت من خدعة ومكيدة. لئلا يبعد من يد المتناول قطف الثمرة اليانعة، ولا يطول على فكر المتأمل وجود الزبدة النافعة. وأحر به ذلك، فإن فضله وإن لم يدرك زمانه باقى النفع بادى الأثر، والروض ينبئ عن فضيلة الغيث وإن ولى أوان المطر. فدعاني وقوف همتى عليه إلى اقتفاء أثره، [9] وسلوك ما سنه فى ورده وصدره. وصلا للسلك الذي بدأ [1] بنظامه، ونيابة عنه فى تشييد ما بناه بعد انقضاء أيامه، وسنة لمن بعدنا يستمر الآتي منها على سيرة الغابر، ويتصل بحبل الأول فيها حبل الآخر، لا تعاطيا منا للمساجلة، ولا تماديا فى المماثلة، لا مجاراة فى المضمار، ولا مساواة فى الإختيار، ولا ما قاله زهير:
هو الجواد فإن يلحق بشأوهما ... على تكاليفه فمثله لحقا
فهيهات كيف الطمع فى اللحاق، وقد شأى المتقدم فى السباق. لا سيما وطرف الفصاحة تحتي كاب، وحد البلاغة فى يدي ناب. فأين المصلى من المجلى. وأين الكهام من الحسام. وأين السنيح من المعلى، وأين العاطل من المحلى. أريها السها وتريني القمر ولكنى أقول ما قاله فى البيت الثاني:
أو يسبقاه على ما كان من مهل ... فمثل ما قدما من صالح سبقا
هذا لعمري أقرب إلى الصواب، وأليق بهذا الباب. فأحسنت القياس وسلمت قصبة السباق وأعطيت القوس باريها، وأنشدت الضالة باغيها. [10]
पृष्ठ 12
فلو قبل مبكاها بكيت صبابة ... إذا لشفيت النفس قبل التندم
ولكن بكت قبلي فهيج لى البكا ... بكاها فكان الفضل للمتقدم [1]
ثم إن للتصنيف رجالا عنوا بأمره وعاموا فى بحره، وأنسوا بجمع شارده، وتفردوا بنظم فرائده. وصاروا بصدده، واستولوا على أمده. فهم لقسيه براة، وإلى غرضه رماة، وفى طرقه هداة. وقد ربيت فى غير هذا الوكر، وسقيت من غير هذا الدر، وتحليت بغير هذه الصناعة، فان قصرت عن بلوغ معانيه، فاحذوا العذر فى العجز وإن وقع سهمي دون مراميه، فأعذر فالنزع [2] فى القوس لين، فلمن سبقنا فضيلة الجمع والاستكثار. ولنا من يمدهم وسيلة الاختيار والاختصار، وكل مجتهد مصيب، وله من حسن الذكر نصيب.
فسلمت إلى من تقدمنا الفضل فى زمانهم لمحاسن تلك العلوم المشهورة.
ولو أنهم أدركوا زماننا لسلموا الفضل إلينا بمحاسن هذه الدولة المنصورة، دولة الإمام المقتدى بأمر الله، أمير المؤمنين ذى الكرم والفخار، والحلم والوقار، والأخلاق الطاهرة، والأفعال الباهرة، والكرامات العجيبة فى المنشأ والمولد، والدلالات الصحيحة فى المغيب والمشهد. به أنقذ الله الرجاء من أسر اليأس [11] وألقى عليه محبة قلوب من الناس، بعد أن فجعوا بذخيرة الدين، وليس للقائم رضوان الله عليهما، عقيب سواه، ولا للبيت أحد يصلح للعهد فيولاه، فتقطعت النفوس حسرات، وترجعت الأنفاس زفرات. وبكت الملة واستولت الوحشة والغمة، فأتى الحمل الميمون به لتمام، وبدا وجهه المنير فجلا كل ظلام، وسارت البشرى بذكره فى سائر الآفاق، وزهت أعواد المنابر باسمه حتى كادت تعود للإيراق. ثم كلاه فى الفتنة الحادثة أحسن
पृष्ठ 13
كلاءة بين أعاديه، وألحفه جناحا من الحياطة ستره بين قوادمه وخوافيه.
فكانت قصته كقصة موسى عليه السلام، حين القى صغيرا فى اليم، ونجى [1] كبيرا من الغم. وأعاد القائم بأمر الله رضوان الله عليه إلى مقر سلطانه، وفسح فى مدته وبارك فى زمانه لإتمام عهده وانجاز وعده حتى يسلم الأمر منه على حين السن المستحقة لتسلم أسبابه وتقمص جلبابه. فكان ذخيرة الدين خلفا لنجله، وكان القائم بأمر الله عاد فى تلك النوبة لأجله، فاستحق بنفسه وارثه شرف الخلافة العظيمة، وحوى فى شرخ الشبيبة جميع محاسن الأخلاق الكريمة، وارتقى من المجد ما لا تبلغ الأوهام ذروته، [12] واجتنى من الحلم ما لا تحل الأيام حبوته، وساس الأمور بهمة علية، وسيرة رضية، وخلافة جاءت كالنصر من السماء، ولم يكن مثل ذلك لا مثاله من الخلفاء، وكأنما عناه أبو العتاهية بقوله:
أتته الخلافة منقادة ... إليه تجرر أذيالها
فلم تك تصلح إلا له ... ولم يك يصلح إلا لها
ولو رامها أحد غيره ... لزلزلت الأرض زلزالها
فما خلا متقلد للخلافة فى عصر ممن ينازع فى ردائها ويجاذب على عنانها، ويترشح لمحلها ويتطاول لمكانها، إلى أن يستقر الرأى فى قراره، ويجتمع الأمر من أقطاره، الا امام عصرنا المقتدى بأمر الله أمير المؤمنين، فانه تفرد فى عصره بهذا الاستحقاق، واجتمعت الكلمة عليه لوقتها بالاصطلاح والاتفاق. فلم يخطر منازعته بخلد ولا بال، ولو كان الزمان ذا
पृष्ठ 14
لسان لقال: «هذا صاحبي بلا مراء ولا جدال» ، لا جرم أن سعادته مخصوصة بأوفى كمال، محروسة بإذن الله تعالى عن نقصان وزوال، ودولته محوطة بأكرم ظهير وموال.
وأنى يكون للدول الأولى مثل جلال الدولة بن عضد الدولة الهمام ابن الهمام الملك [13] عضد الدولة المعظم من الأخوال والأعمام، الحامى حوزة الإسلام، الملبي لدعوة الإمام، الذي كرم طرفاه، وعظم شرفاه، ودانت لصولته الأمم، وانكشفت بدولته الظلم، وجرت بنصرته الأقدار، وانفتحت على يديه الفتوح الكبار، أطول الملوك باعا، وأحسنهم فى الدين ذبا ودفاعا.
فهو تاج على جبين الأيام الزاهرة المفتدية [1] . يزيد فى أنوارها، وركن الدولة القاهرة العباسية يدفع عن أقطارها. زاد على أنو شروان بفضله وبمعدلته، وأوفى على بهرام ببأسه ونجدته، وفضل أردشير بتدبيره وسياسته، وساوى الإسكندر بملكه وبسطته. فالشرق والغرب [2] مذعنان لطاعته، والبدو والحاضر منقادان لتباعته كل ذلك ببركات مخالصته لإمامه. وحسن نيته فى محبة أيامه.
وأين كان لتدبير الأقاليم وزم أمورها، وحفظ الممالك وسد [3] ثغورها مثل نظام الملك قوام الدين الذي أعد للخطوب أقرانها، حين عجم بالتجربة عيدانها، وجمع رياسة السيف والقلم، لما كفل بسياسة العرب والعجم، بنقيبة فى الدولة ميمونة، وسريرة فى النصيحة مأمونة، وحزم لا يشان بهفوة، وعزم لا يخان بنبوة، وخلق لا تجد فيه عنفا، ورأى لا [14] ترى فيه ضعفا، وهيبة مع طلعة بشر، وتواضع مع رفعة قدر. فإذا قيل له اتق الله سمع وأطاع، وإذا
पृष्ठ 15
خوف بالله خاف وارتاع. فأفعاله أفعال العباد، وأخلاقه أخلاق الزهاد، مع انقياد الدنيا له فى الإصدار والإيراد، ونفاذ أمره على الرعايا والأجناد، وجمعه فى منهل العدل بين الظباء والآساد.
فأى دولة تباهي هذه الدولة القاهرة فى مناقبها ومآثرها، وأى أيام تضاهى هذه الأيام الزاهرة فى محاسنها ومفاخرها، وأى قول ينتهى الى حد وصفها وان امتد وطال، وأى بليغ يبلغ أمد فضلها وإن أسهب وقال.
فأعود الآن الى ذكر ما أنا قاصده من الاختيار، متبرئا من عهدة ما أورده من الأخبار، لأنى أتبع فى كتاب التاريخ مسطورها، فأختار بحسب المعرفة عقودها وميسورها. وما عساه يندر من خبر شاذ تلقف من أفواه الرجال، وخلا التاريخ من ذكره إما بخفاء أو نسيان أو إغفال. فإنه يثبت فى بواطنه، وينظم مع قرائنه. وإذا انتهيت، إنشاء الله سبحانه، إلى أخبار زماننا اتسع المجال، وأمكن المقال، وعمدت حينئذ إلى ما شاهدناه وخبرناه فأخبرت به على وجهه وذكرته مجتهدا فى التحرى وبحسب الإمكان الذي لا أقدر على سواه، [15] وبقدر الوسع الذي لا يكلف الله نفسا إلا إياه.
وأول ما أبدأ به الآن فى كتابي، هو آخر ما ختم أبو على مسكويه [1] رحمه الله، به كتابه فى سنة تسع وستين وثلاثمائة، والله تعالى ولى حسن التوفيق، والهادي فى جميع المقاصد إلى سواء الطريق، وبه أعوذ من الخطل، واعتصم من الزلل، وإياه أسأل خاتمة جميلة، بالمغفرة كفيلة. إنه غفور رحيم.
(انتهت المقدمة)
पृष्ठ 16
*
تتمة خلافة الطائع الله
تتمة سنة تسع وستين وثلاثمائة
ذكر ما جرى عليه أمر عضد الدولة عند توجهه إلى الجبل
رحل بالعسكر من المصلى فى يوم السبت لثلاث خلون من ذى الحجة وقد استصحب أبا عبد الله الحسين بن سعدان ينفذ الأمور بين يدي عضد الدولة واليه عرض العسكر.
فلما حصل بين حلوان وقرميسين عاده المرض الذي كان عرض له من قبل وحجب الناس عنه حجابا وقع به الإرجاف والاضطراب ثم أفاق وظهر وركب إلى قرميسين.
ووافاه بنو حسنويه وقد كانوا راسلوا وبذلوا الطاعة بوساطة أبى نصر خواشاذه إلا أنه لم يقدر أنهم يأنسون إلى الحضور بأجمعهم. [16]
ذكر القبض على بعض أولاد حسنويه واصطناع بعضهم
حضروا المعسكر فأقعدوا فى خركاه من وراء السرادق ووكل بهم خواص الديلم وغلمان الخيول ورتب الأعراب والأكراد والرجالة [و] [1] الفرس من حوالى المعسكر وبظاهر البلد لئلا يفلت منهم أحد أو من أصحابهم وقبض
पृष्ठ 17
منهم على عبد الرازق وأبى العلاء وأبى عدنان وبختيار وعلى كتابهم وأسبابهم ووجوه الأكراد الذين معهم.
واستدعى بدر وعاصم وعبد الملك ووصلوا إلى حضرة عضد الدولة وخاطبهم بما رآه من اصطناعهم [1] وحملوا إلى الخزانة فخلع على بدر القباء والسيف والمنطقة الذهب وحمل على فرس بمركب ذهب وقلد زعامة الأكراد البرزيكانى ومن يجرى مجراهم وخلع على كل واحد من عاصم وعبد الملك الدراعة الديباج والسيف بالحمائل وحملا على دابتين بمركبين مذهبين ووضع على كل من كان مع المقبوض عليهم من الأكراد السيف ونهبت حللهم بما فيها.
ونفذ أبو الوفاء طاهر بن محمد إلى قلعة سرماج فافتتحها [17] وأخذ ما كان فيها من ذخائر حسنويه.
ودخلت سنة سبعين وثلاثمائة
وسار عضد الدولة إلى نهاوند وأقام بها ورتب العمال فى النواحي وجد فى تناول الموجود لانه كان من رأيه أن يجعل همذان ونهاوند لمؤيد الدولة ويستضيف الدينور وقرميسين وما يجرى مجراهما إلى أعمال العراق.
ثم انتقل فى صفر من نهاوند إلى همذان ونزل دار فخر الدولة بها.
ذكر ورود الصاحب أبى القاسم إسماعيل بن عباد
فى هذا الشهر ورد الصاحب ابن عباد الخدمة عن مؤيد الدولة وعن نفسه فتلقاه عضد الدولة على بعد من البلد وبالغ فى إكرامه ورسم لأكابر كتابه
पृष्ठ 18
وأصحابه تعظيمه ففعلوا ذلك حتى انهم كانوا يغشونه مدة مقامه مواصلة ولم يركب هو إلى أحد منهم وكان غرض عضد الدولة بذلك استمالة مؤيد الدولة وتأنيس [18] الصاحب.
ووردت كتب مؤيد الدولة يستطيل مقام الصاحب ويذكر اضطراب أموره ببعده فوقع الشروع فى تقرير ارتفاع همذان ونهاوند معهما عليه وتولى أبو عبد الله محمد بن الهيثم عمل العمل بالارتفاع.
ذكر عمل رتب فى تكثير اعتداد بارتفاع
صدر العمل بأن قال: مبلغ ارتفاع النواحي الفلانية. وتمم الحكاية عن كذا وكذا ورقا صحاحا. من الورق ينفد الخرج كذا وكذا. وأضاف اليه الربع اعتمادا للتكثير. وأنفذ العمل مع أبى القاسم عبد العزيز بن يوسف وأبى الوفاء طاهر بن محمد وأبى عبد الله ابن سعدان إلى الصاحب أبى القاسم ورسم لأبي عبد الله الحضور معهم عنده وموافقته على أبوابه ففعل واستوفى مناظرته وكمل الارتفاع بزيادة على موجودة.
ذكر عود عضد الدولة إلى مدينة السلام [19]
برز عضد الدولة إلى ظاهر همذان فى شهر ربيع الآخر للعود إلى مدينة السلام وخلع على الصاحب الخلع الجليلة وحمله على فرس بمركب ذهب ونصب له دستا كاملا فى خركاه يتصل بمضاربه وأجلسه فيه وأقطعه ضياعا جليلة من نواحي فارس وحمل إلى مؤيد الدولة فى صحبته ألطافا كثيرة وضم اليه من العسكر المستأمن عن فخر الدولة عددا ليكونوا برسم خدمة مؤيد الدولة.
पृष्ठ 19
ذكر ما جرى عليه أحوال أولاد حسنويه بعد وما جره الحسد من إلقاء من نجا منهم بيده الى التهلكة
لما قدم بدر وفضل بالسيف والمنطقة أحفظ ذلك عاصما وأوحشه وأقام قليلا ثم انحاز إلى الأكراد المخالفين خالعا للطاعة منابذا لبدر.
فأخرج اليه أبو الفضل المظفر بن محمود فى عدة من الأولياء حتى أوقع بمحمود وأخذه أسيرا وأدخله همذان راكب جمل بدراعة ديباج ولم يعرف له خبر بعد ذلك وتفرد بدر بالخدمة والانتساب [20] إلى الحجبة، وقتل جميع أولاد حسنويه.
وفى هذه السنة ورد الكتاب بأن أبا على الحسن بن محمان أخذ المعروف بالصيداوى وقتله.
ذكر حيلة تمت على الصيداوي حتى أخذ وقتل
كان هذا الرجل أحد قطاع الطريق فى أعمال سقى الفرات فاحتال أبو على ابن محمان فى أخذه بأن دس عليه جماعة من الصعاليك أظهروا الانحياز اليه، فلما خالطوه قبضوا عليه وحملوه أسيرا إلى الكوفة فقتله وأنفذ رأسه إلى مدينة السلام فشهره بها.
وفى هذه السنة ورد كتاب أبى على الحسن بن على التميمي بالقبض على ورد الرومي [1] . ذكر السبب فى ذلك
पृष्ठ 20
لما توفى أرمانوس ملك الروم اتفق أن نقفور الدمستق وهو رجل ذو سياسة وصرامة كان قد خرج إلى بعض بلاد الإسلام ونكأ فيها ثم عاد فعرف خبر وفاة أرمانوس حين قرب من القسطنطينية [21] فاجتمع اليه وجوه الجند وقالوا له:
- «ان الملك قد مضى وخلف ولدين لا غناء عندهما مع صغر سنهما وما يصلح للنيابة عنهما فى تدبير الملك غيرك ونحن نرى ذلك من المصلحة للناس والمملكة.» فامتنع فراجعوه حتى أجابهم ودخل إلى الملكين وخدمهما وأظهر الحجبة لهما والنيابة عنهما ثم لبس التاج وتزوج بوالدتهما ثم وقع منه جفاء لها استوحشت به منه.
ذكر تدبير دبرته المرأة حتى تم لها قتل نقفور لقلة حزمه
पृष्ठ 21
راسلت ابن الشمشقيق وأطمعته فى قتل نقفور وأقامته مقامه فى التدبير واستقر الأمر بينهما على أن صار هو وعشرة نفر من خواصه سرا إلى البلاط التي تنزلها هي ونقفور فأدخلته ليلا وكان نقفور يجلس أكثر الليل للنظر فى الأمور وقراءة السير ويبيت على باب البيت الذي يأوى إلى فراشه فيه خادمان، فلما حصل ابن الشمشقيق داخل البلاط هجموا على الموضع وقتلوا الخادمين وأفضوا إلى نقفور وقتلوه ووقعت الصيحة وظهرت القصة واستولى ابن الشمشقيق على [22] الأمر وقبض على لاون أخى نقفور وعلى ورد بن لاون [1] فأما لاون فإنه كحله وأما ورد فانه حمله إلى قلعة فى البحر واعتقله. وسار إلى أعمال الشام وفعل فيها الأفاعيل وانتهى إلى طرابلس فامتنع عليه أهلها فنزل عليهم ونازلهم. [2] فكان لأم الملكين أخ خصى وإليه وزارة الملك منذ أيام الملك أرمانوس واسمه بركموس [3] فقيل: إنه دس على ابن الشمشقيق سما فى طعام أو فى شراب فأحس به ابن الشمشقيق فى بدنه فسار عائدا إلى قسطنطينية وتوفى فى طريقه واستولى بركموس على الأمر.
وكان ورد بن منير [4] كبيرا من كبراء أصحاب الجيوش ومقيما فى بعض الأعمال فطمع فى الأمر وجمع الجموع واستجاش بالمسلمين من الثغور وكاتب أبا تغلب ابن حمدان وواصله وصاهره.
وأخرج الملكان اليه عسكرا بعد عسكر فكسرهم واستظهر وسار إلى القسطنطينية ودهم الملكين ما ضاقا به ذرعا فأطلقا ورديس بن لاون واصطنعاه واستحلفاه على المناصحة وأنفذاه للقاء ورد فى الجيوش الكثيرة وجرت بينهما وقائع أبلى كل واحد منهما بلاء ظاهرا حتى تبارزا وتضاربا باللتوت إلى أن وقعت خوذهما عن رؤوسهما.
ثم انهزم ورد ودخل إلى بلاد [23] الإسلام مفلولا وحصل بظاهر ميافارقين على نحو فرسخ منها- وأبو على الحسن بن على التميمي الحاجب إذ ذاك بها- وراسل عضد الدولة وأنفذ أخاه اليه فأحسن تقبله ووثق اليه بخطه وأعاده عليه بوعد جميل فى إنجاده.
पृष्ठ 22
وتلاه رسول ملك الروم يلاطف عضد الدولة فى أمره [1] فقوى فى نفسه ترجيح جانب ملك الروم على ورد وبدا له رأى فى تدبير القبض عليه فكاتب أبا على التميمي بالتوصل إلى تحصيله.
فخرج أبو على اليه بعد مراسلة ترددت بينهما فى الاجتماع وقبض عليه وعلى ولده وأخيه وجماعة من أصحابه وحملهم إلى ميافارقين ثم أنفذهم إلى مدينة السلام.
رأى صواب رآه أصحاب ورد وأشاروا عليه فأهمله واستبد برأيه
كان وجوه أصحاب ورد اجتمعوا اليه قبل القبض عليه وقالوا:
- «لسنا نرى أمرنا مع عضد الدولة مستقرا عن نصرة ومعونة وقد تردد بينه وبين ملكي الروم فى معنانا وانا لا نأمن أن يرغباه [24] فينا فيسلمنا والوجه الاستظهار وترك الاغترار وأن نفارق موضعنا عائدين إلى بلاد الروم على صلح إن أمكننا أو حرب نبذل فيه جهدنا، فاما ظفرنا أو مضينا أعزاء كراما.» فقال: «ما هذا رأى، ولا رأينا من عضد الدولة الا الجميل ولا يجوز أن نقصده ثم نتصرف عنه من قبل أن نبلو ما عنده.» فلما خالفهم وتركهم تركه كثير منهم وفارقوه.
فأقام ورد وأخوه وولده وتحصلوا فى الاعتقال إلى أن أفرج عنهم صمصام الدولة فى آخر أيامه على ما يأتى ذكره فيما بعد إن شاء الله.
पृष्ठ 23
ذكر ما جرى عليه أمر فخر الدولة
لما صار إلى قزوين بعد هزيمته من همذان قفل عنها إلى بلاد الديلم وحصل بهوسم [1] وأقام بها مدة. وترددت بينه وبين قابوس بن وشمكير [2] مراسلات وأيمان وعهود سببها الاجتماع على عداوة عضد الدولة ومؤيدها، ثم سار إلى خراسان لاستنجاد صاحبها.
ودخلت سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة [25]
كان عضد الدولة أنفذ أبا نصر خرشيد يزديار [3] إلى قابوس برسالة يستصلحه فيها فعاد بجواب ظاهره المغالظة وباطنه الملاينة [4] فسأل عضد الدولة الطائع لله أن يعقد لمؤيد الدولة أبى منصور على أعمال جرجان وطبرستان وينفذ اليه العهد واللواء والخلع السلطانية فأجابه إلى ذلك.
وجلس فى محرم هذه السنة وجرد أبا حرب زيار بن شهراكويه إلى مؤيد الدولة عدد كثير وضم اليه أبو نصر خواشاذه وأصحاب خزائن المال والثياب والسلاح فوصلا إلى مؤيد الدولة وهو معسكر بظاهر الرى وأوصلا اليه الخلع السلطانية فلبسها وركب فى العسكر وسار.
فلما انتهوا إلى استراباذ وبينها وبين طبرستان عشرة فراسخ وقابوس مقيم بها حفر بظاهرها خندقا أجرى فيه المياه وبنى عليه أبراجا رتب فيه الرماة وعمل على المطاولة ولم يهمل مع ذلك الاستعداد للمواقعة إن دعته ضرورة
पृष्ठ 24
إليها ونزل مؤيد الدولة على فراسخ من البلد فى موضع ماء وجده، وأنفذ إلى طبرستان من دخلها وملكها لأن قابوس أخلاها وجمع العساكر عنده واحتشد بغاية جهده.
وطلعت طلائع العسكرين وتمسك قابوس بموضعه وتوقف [26] مؤيد الدولة عن مقاربته إشفاقا من تعذر الماء وأقام الفريقان على هذه الحال أياما.
ذكر حرب جرت على غير ترتيب آل عقباها الى الخير والاتفاق
لم يزل مؤيد الدولة يجيل الرأى ويعمل التدبير إلى أن عرف خبر واد بظاهر البلد يجتمع اليه مياه الأمطار فى أيام الشتاء وأنه متى سدت أرجاء تقاربه وأسيح ماؤها اليه أمكن النزول عليه فركب هو وجماعة من خواصه فى عدد قليل من الغلمان لمشاهدة الموضع وتقدم إلى من كان خرج للمناوشة بالتوقف فى ذلك اليوم وأقام على الجبل من يمنع ويرد.
فما هو أن بعد عن العسكر حتى زحف الديلم منازعين إلى لقاء القوم وقابلهم عسكر قابوس بمثل حالهم واشتد القتال وبلغ مؤيد الدولة ذلك فقامت عليه القيامة وأنفذ جماعة من الحجاب والنقباء فوجدوا الأمر قد فات عن حد القبول، فانكفأ حينئذ إلى موضع المعسكر.
ولم تزل [27] الحرب قائمة على ساق إلى أن صوبت الشمس للغروب.
ذكر غلط جرى من قابوس فى رد أصحابه بعد أن لاح له الضعف من مؤيد الدولة
पृष्ठ 25
ورد قابوس أصحابه وعاد مؤيد الدولة إلى معسكره وقد قتل من أصحابه خلق وجرح أكثر ممن قتل من أصحاب قابوس وخرج فأنفذ مؤيد الدولة بدر بن حسنويه فى عدد كثير من الأتراك والأكراد إلى الجبل الحاجز بين الفريقين ليضبطه إشفاقا من أن يسير قابوس على أثرهم فانه لو تبعهم لنكا فيهم وبلغ مراده منهم.
واحتاج مؤيد الدولة إلى المقام أسبوعا حتى ثاب أصحابه واستراحوا وأجرى الماء إلى الوادي، ثم سار ونزل عليه ثم استعد أربعة أيام وزحف بعدها فى جميع العسكر.
واشتبكت الحرب وحملت ميمنة مؤيد الدولة على ميسرة قابوس فكسرتها وفيها جمرة عسكره، فانهزم ودخل البلد مخترقا إلى جانبه الآخر وثبت القتال من ميمنة قابوس وفيها أخوه [28] جركاس ساعتين بعد الهزيمة لأنهم كانوا من وراء غيضة ولم يعلموا الصورة، فلما عرف جركاس هزيمة قابوس انهزم لا حقا به.
وأنفذ مؤيد الدولة جماعة فرسان من عسكره لاقتصاص أثره فنكب قابوس عن الطريق وسار مارا على القلاع معتقدا لصعود أحدها متى أرهقه طلب إلى أن حصل بنيسابور واجتمع مع فخر الدولة هناك.
ولما ملك فخر [1] الدولة استراباذ رتب أمورها واستخلف أحد أصحابه فيها وسار إلى جرجان فنزلها وأقام بها وأنفذ أبا نصر خواشاذه إلى الحضرة ببغداد فى رسائل ووردها فى شهر رمضان مع الأسارى من أقارب قابوس ووجوه أصحابه فأعرض عضد الدولة عنه وأظهر الشكر [2] له وأخرج أبا على الحسن بن محمد إلى جرجان.
पृष्ठ 26