العلاقات الخفية في قصة ذات لا تنتهي؛ فعندما خرج عبد المجيد من ملجئه في البلكونة ورآها تبكي ؛ انفثأ غضبه، واشتعلت مكانه المشاعر إياها، المرتبطة بليلة الدخلة الباكية، فتقدم منها ومد ساعديه ليحتضنها، فإذا بها تصيح في وجهه لأول مرة في حياتها: «ما تلمسنيش!»
لم يخطر على بال سنجر عندما اخترع ماكينته أكثر من تسهيل مهمة الحياكة على المرأة، لكن الماكينة الملقاة على جانبها فوق الأرض مكنت ذات مما هو أكثر أهمية؛ التعبير عن النفس الذي تدرج من اتهام عبد المجيد بالهدم (بالنظر إلى سوابقه في كسر الأكواب الزجاجية، والطاجن المصنوع من الفخار، وطبق البايركس الذي كان جزءا من عفش الزوجية، ومسئوليته عن ضياع البطانية التي تركها على حافة البلكونة فأطارها الهواء)، والتخريب (فلولاه لكانت أكملت تعليمها وصارت الآن صحفية أو مذيعة)، والأنانية (المتمثلة في اهتمامه بنفسه وأسرته وتجاهل احتياجاتها من أحذية وسيراميك وخلافه)، والبلادة (وإلا فبماذا يوصف تقاعسه عن السفر إلى الخارج لتحسين حياتهم التعسة؟)
سيل منهمر من الاتهامات أصاب عبد المجيد بالذهول، لا من قصر المسافة التي تقود من سنجر إلى هوفر (غسالة الملابس الكهربائية نصف الأوتوماتيكية التي تقيد من يقوم بتشغيلها إلى جوارها على عكس زميلاتها كاملة الأوتوماتيكية الموجودة لدى زينب وفتحية وسميحة)، وإنما من ذاكرة ذات الحديدية؛ فهذه المرأة التي تعجز عن تذكر بضعة أسطر في جريدة الصباح إلا إذا تدربت على حفظها، لا تتذكر فقط عدد الأكواب الزجاجية التي تسبب في تحطيمها، وإنما تفاصيل المناسبات التي تم فيها ذلك، وما قاله بالحرف منذ خمس سنوات عندما كان يفك رباط حذائه، بل وما كان يفكر فيه آنذاك.
انسحب عبد المجيد (بغير اعتماد على النفس هذه المرة) إلى فراشه، بينما التجأت ذات إلى المرحاض، وانقضت الأيام التالية في حوار صامت بين الاثنين، يستعرض فيه كل طرف الحجج المدعمة لوجهة نظره، في انتظار الفرصة الملائمة لمواجهة الآخر بها، وهي الفرصة التي أتاحتها كارثة سيارة الرحلات.
ففي يوم الجمعة التالي نظمت مدرسة ابتهال رحلة إلى منطقة الأهرامات وحديقة الحيوانات. وفي طريق العودة أراد سائق السيارة أن يختصر الطريق بعبور الخط الحديدي المتجه إلى المرج، من فتحة شقها المواطنون بأقدامهم المستقلة قبل سنوات (لأن المسافة بين كل معبر شرعي وآخر تصل إلى أربعة كيلومترات)، وأسموها (بسبب النتائج): مزلقان الموت. لكن القمامة المكومة في تلال فوق القضبان، عاقت السيارة وعطلتها إلى أن أطاح القطار بها وبحياة سبعين طفلا مرة واحدة.
لم تشترك ابتهال في الرحلة بسبب ارتفاع مفاجئ في درجة حرارتها؛ ولهذا لم تسمع ذات بالكارثة إلا صباح اليوم التالي في الأرشيف؛ إذ كان الحادث على رأس موضوعات البث، بعد أن نشرته الصحف تحت عنوان يطمئن فيه مأمور قسم مصر الجديدة الجمهور بأنه تمكن من السيطرة على الموقف وإزالة جميع المعوقات الخاصة بدفن الجثث. وأثناء عودتها إلى منزلها في نهاية اليوم شاهدت بنفسها أمهات الضحايا، القادمات من مساكن الحلمية والمطرية والزيتون والقبة، يزحفن مولولات على مستشفى هليوبوليس، التي استقبلت بناتهن. ولم تكد تبلغ منزلها حتى انفجرت في العويل هي الأخرى.
بعد توسلات عدة من جانب عبد المجيد أوضحت ذات أن عويلها ليس من باب التضامن مع أمهات الضحايا، وإنما لأنها هي نفسها كان من المفروض أن تكون من بينهن. أما المسئول عن ذلك فهو عبد المجيد بالطبع؛ لأنه ترك ابنتيه للمدارس الحكومية، ولم يلحقهما بمدارس اللغات، الأمر الذي سيحرمها أيضا من الفرص التي يستمتع بها أبناء هناء ومنال وعفاف وزينب.
المواجهة الجديدة أتاحت لذات التلميح بغلطة العمر التي ارتكبتها، فضلا عن تحديد الثوابت؛ أنها أضاعت عمرها في المطبخ وتربية البنتين ورعاية عبد المجيد، وأن المهام العاجلة لا تتوقف على اللحاق بالمسيرة وإنما تتعداها إلى الاستعداد من الآن لزواج البنتين.
اختتم عبد المجيد دفاعا تقليديا عن النفس بسؤال: «أعمل إيه؟ .. أسرق؟»
وردت ذات على الفور: «وما له؟ .. فيها إيه؟» ثم عالجته بسؤال آخر حسم الجولة (لأنه لم يتمكن من الإجابة عليه): لماذا لا يسافر مثل الآخرين للعمل في الخارج؟
अज्ञात पृष्ठ