إلى جانب الأومو كانت هناك أصابع مزيل العرق وحبوب منع الحمل، بالطبع، وأخيرا الثالوث المقدس الذي لم يعد من الممكن أن يستغني عنه المنزل العصري، والذي جعله عبد الناصر في متناول الجميع؛ السخان وبوتاجاز المصانع الحربية، وثلاجة إيديال. هكذا وصلنا إلى بيت القصيد؛ العش.
رسم عبد المجيد الحدود بلهجته القاطعة؛ ثلاث غرف وصالة (فكري في الأطفال)، بلكونة على الشارع (لا بد أن نكون على وش الدنيا)، الطابق الثاني (خير الأمور الوسط)، عمارة جديدة وجيران محترمون، حي نظيف وراق، أوف كورس، لا يكون بعيدا عن البيت الكبير (قاصدا، بالطبع، بيت أهله لا أهلها؛ مما خلق الشجار الأول الذي لم يتوقف منذ ذلك الحين ولا حتى بعد انتقال سكان البيتين الكبيرين جميعا إلى بارئ الكل).
كان الحديث، بالطبع، عن شقة للإيجار (فلم تكن بدعة التمليك قد ظهرت بعد)، لكن جمال عبد الناصر، المنتشي بهتاف الجماهير ومطالبتها بالمزيد، أجرى تخفيضين متعاقبين لإيجارات المساكن، جلبا له تصفيق الساكنين الفعليين وسخط أقرانهم المحتملين؛ لأنه ترك للبيروقراطيين من أصحاب المؤخرات الكبيرة العناية بالتفاصيل، وهكذا أذاب عبد المجيد عدة أزواج من الأحذية الضيقة المدببة قبل أن يحالفه الحظ.
ففي أحد أطراف حي مصر الجديدة، على مسافة متساوية من منزل أهله في العباسية ومنزل أهلها في الزيتون، وفي شارع داخلي قريب من خط الترام الملقب بالمترو، الذي كان ما يزال مفخرة الحي في الانتظام والنظافة (لقرب العهد بالوجود الأجنبي، قبل أن يضفي عليه المصريون الأصلاء طابعهم القومي الصميم، فتنوء عرباته بوطأة الزحام، وتختفي قضبانه أسفل أكوام القمامة)، عثر عبد المجيد على مقاول طيب من فئة غير المستغلين، بنى لنفسه عمارة، وشغل شقتين منها، وأجر الشقق الباقية، دون خلو، لمستأجرين محترمين، بينهم واحد من الشرطة وآخر من الجيش، يشتركون جميعا في أنهم حديثو عهد بالزواج، وأن أبواب المستقبل مفتوحة أمامهم على مصاريعها.
رحب عبد المجيد بالسكنى في عمارة العرسان رغم السلبيات؛ فالشقة الوحيدة المتاحة كانت في الطابق الرابع، ولا تطل على مدخل العمارة. هذه الخاصية الأخيرة دفعت بالدموع إلى عيني ذات؛ إذ داهمها يقين بأنها قد حرمت إلى الأبد من الإطلال على وجه الدنيا. على أنها لم تلبث أن تبينت الإيجابيات على ضوء السباق القائم بينها وبين أختها الكبرى زينب (التي تحطم زواجها على صخرة الشقة)، وابنة خالتها عفاف (التي تقيم مع زوجها المحاسب في بدروم)، وأعز صديقاتها هناء (التي تعيش مع زوجها الضابط في غرفتين بناهما له أبوه فوق سطح منزله)، وصفية (التي هاجرت إلى الإسكندرية لتقيم مع زوجها عند أهله)، ومنال التي تعيش أيضا مع أهل زوجها في انتظار حصوله على بعثة الدكتوراه، وأخيرا أبوي ذات نفسها اللذين يقيمان في شقة رطبة مظلمة بالطابق الأرضي.
تضاعفت الإيجابيات عندما تسلما الشقة جاهزة للسكنى (ففي تلك الأيام لم يكن المستأجر ملزما بدهان الحوائط وتبليط الأرضيات وتركيب الحنفيات والمواسير؛ لأن الملاك وقتها كانوا من الغفلة بحيث يقومون هم أنفسهم بكافة التشطيبات الضرورية، بل إن مالك عبد المجيد الطيب تقبل بصدر رحب الطلب الذي تقدم به كشرط لتوقيع عقد الإيجار، وهو تركيب مصباح أحمر فوق باب غرفة النوم يضيء تلقائيا عند إغلاق بابها من الداخل بالمفتاح (مما يعطينا فكرة عن الأهمية التي كان عبد المجيد يعلقها على هذه الغرفة في مطلع حياته الزوجية). انشرح صدر ذات، وأخفى عبد المجيد رضاه خلف تقطيبة صارمة، وهما يطوفان بأرجائها يتشممان رائحة الطلاء الطازجة، ويتأملان الجدران الناصعة؛ لا صراصير وفئران، وآثار أيد فوق دواليب المطبخ، وأجزاء مكسورة من بلاط الحمام، وحفر مسامير متناثرة فوق الجدران، ومقابض أبواب منزوعة، وأسلاك مدلاة من الأسقف وقد تراكمت عليها الأتربة ومخلفات الذباب. قطيعة كاملة مع ماض مليء بالأركان المهملة والوساخة المتراكمة لصالح مستقبل مفتوح الأبواب على مصاريعها، سينقلهما في الوقت المناسب من ظهر الدنيا إلى وجهها.
بكت ذات بدموع غزيرة وهي تغادر منزل أبويها لآخر مرة في رداء الزفاف المقترض من ابنة خالتها، معتمدة على ساعد عبد المجيد المتألق في بذلته السوداء، لتقلهما إلى منزل الزوجية سيارة أجرة، يتبعهما الأهل والأقارب وأخلص الأصدقاء والصديقات في عدد من السيارات المماثلة (ما زلنا نتحدث عن عصر لم يكن فيه امتلاك سيارة خاصة أسهل من الحصول على شقة). تفقد الجميع الشقة وأثاثها وسط الضحكات الخجولة، ثم انسحبوا بعد أن تجرأت زينب وأطلقت زغرودة عالية تشهد بها العالم على الظلم الذي حاق بها، أو تستعطف بها الحظ، وتبعتها منال المشهورة برعونتها؛ مما أثار استنكار عبد المجيد المصمم على بداية جديدة تماما لا مكان فيها لما هو مبتذل وبلدي. وأصبح العروسان أخيرا بمفردهما.
تمنعنا ظروف النشر الراهنة من التعرض بالتفصيل لواحدة من أخطر اللحظات في حياة كل من ذات وعبد المجيد؛ لهذا سنتركهما بعض الوقت، وقد انهمك عبد المجيد في فض زجاجة ويسكي ليهدئ ما انتابه من روع، ثم نعود إليهما بعد حوالي الساعة، لنجدهما جالسين على حافة الفراش، عاريين تماما، وهما يبكيان.
الذي حدث أن عبد المجيد اكتشف، أو ظن أنه اكتشف، أن البضاعة التي أنفق عليها كل مدخراته، ورهن بها مستقبله، لم تكن سليمة تماما، وأن آخر، وربما آخرين، سبقوه للعبث بمحتوياتها أو على الأقل بغلافها. هل هذا يدعو للبكاء؟ ربما، لكن المسيل الأساسي لدموعه لم يكن الاكتشاف وإنما الشك؛ فقد أقسمت ذات بكل يمين، أمام الملاءة البيضاء من كل سوء، أن أحدا غيره لم يلمسها، وقامت تبحث عن كتاب الله لتعزز القسم، فأتيحت له الفرصة ليرى البضاعة من الخلف في كامل عريها، وسره ما رأى فجفت دموعه. أما ذات فقد تبينت أنها غفلت عن إحضار المصحف الذي أهداه أبوه إليهما (ربما لهذا السبب بالتحديد، أو لأننا ما زلنا في الستينيات، وعلى أية حال فإن هذا السهو سيتم تداركه في المستقبل إذ ستمتلئ الشقة بكافة أنواع المصاحف)، فعادت إلى مكانها بجواره واستأنفت البكاء. لماذا؟ لأنها اكتشفت أن الشيء الذي عانت كثيرا من أجل المحافظة عليه لم يكن موجودا من الأصل.
سنقفز الآن عبر مجموعة من اللحظات الهامة في حياة ذات، تصلح كل منها مدخلا لقصتنا؛ الأيام الحزينة التي تبين فيها أن الجيش المصري لا يتقدم في سيناء شرقا وشمالا، وإنما جنوبا وغربا، الانسحاب الدرامي الذي قام به جمال عبد الناصر ومن بعده فريد الأطرش وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ، اللحظة التي وقعت فيها عيناها على الفخذين العاريين المبهرين لجارتها الشابة، وتلك التي أصبحت فيها، أو ظنت أنها أصبحت شيوعية، والأخرى التي اكتشفت فيها طريقة مبتكرة لعمل دريسنج للطورطة من مواد محلية رخيصة.
अज्ञात पृष्ठ