152

ذات هي التي كانت تطالب في الأيام الأخيرة بالموكيت، ليس فقط لأن السجادتين المفروشتين في الصالة أصابهما الوهن، وإنما أساسا من أجل موضوع مثير للبث تقتحم به أسوار المقاطعة المضروبة حولها. لكن معارضة عبد المجيد كانت حاسمة تستند لا إلى أسس جغرافية (جونا الحار المترب)، أو حضارية (تراثنا الخاص من السجاد والحصير)، وإنما إلى اعتبارات عملية، تتمثل في كتلة جديدة من النفقات لا تقل عن خمسين جنيها في الشهر من أجل ولي العهد؛ ألبان جافة تعوضه عن جفاف لبن الأم، ودار حضانة تستقبله في الصباح لتتمكن من الذهاب إلى الأرشيف كي تواجه المقاطعة. ومن أجل الهدف الأخير ذهبت إلى مدينة زفتى.

ففي إحدى الأمسيات جاءتها سميحة بعيون دامعة: «بنت أختي.» «ما لها؟» «تعيشي انتي.» «يا خبر! إيه اللي حصل؟» «حادثة.» «هنا؟» «لا. في زفتى.»

حالت مشغوليات الشنقيطي في مشروعات التجميل بينه وبين مرافقة زوجته لأداء واجبات العزاء، فتوجهت إلى جارتها، وقد تبينت فرصة لعرض مواهبها في قيادة السيارات التي تعلمتها حديثا: «متيجي معايا يا مدام ذات؟ حنروح بالعربية.»

رحبت ذات بالذهاب، وخاصة بعد أن لمست رد الفعل في الأرشيف عندما أعلنت السبب لما طلبته من إجازة عارضة؛ فقد تلاشت المقاطعة مرة واحدة، وأقبلت الماكينات عليها؛ إحدى المحجبتين حذرتها من ركوب البيجو السريعة التي حرم استخدامها في بلادها الأصلية وما زالت تودي بحياة الآلاف على الطريق الزراعي، والثانية نبهتها إلى التريلات الضخمة التي تنفصل مقطوراتها عند المنحنيات وتطيح بالسيارات المارة، والشامة السوداء طلبت حمصا من عند السيد البدوي في طنطا، ووجه الأرنب طلبت حصيرا معينا من بنها، بل وظهرت همت لتزودها بالمعلومات: «تعرفي إن زفتى أعلنت الجمهورية في ثورة سنة 1919؟»

هكذا حملت ذات معها جعبة لا بأس بها، وتكفل الطريق الزراعي نفسه بسد الثغرات؛ المباني الأسمنتية فوق الأراضي الزراعية، لافتات الشركات الاستثمارية ذات الأسماء الأجنبية الفكهة، مكتوبة أولا بالحروف العربية ثم بالحروف اللاتينية؛ ميلكي لاند، إسلام بوليه، والكانتالوب، الفاكهة الجديدة التي ولدت ولادة شرعية باسم أجنبي، وأخيرا سميحة نفسها، بتسريحة شعر طازجة، ونظارة شمسية غامقة، وفستان شيك أبرز فضلا عن الفخذين المبهرين، استدارات حديثة في أماكن عدة، مبهجة للناظرين.

ولجتا المدينة من مدخل ضيق تزحمه الورش وعربات الباعة، وتطوعت سميحة في اعتزاز لأن تلعب دور المرشدة السياحية، فانطلقت إلى جوار الخط الحديدي، ثم انحنت يسارا وسط صفوف من سيارات النقل الضخمة ومقطوراتها، وفوق أكوام من القمامة والمخلفات، مرورا بالمعالم الرئيسية؛ مجلس المدينة وخلفه السنترال الحديث، وصاري التليفزيون، والإذاعة، ومحطة الكهرباء، ثم موقف الأوتوبيس والمطافئ، وموقف آخر لعربات السرفيس والحنطور، وبعد ذلك الدوران المؤدي إلى مخرج المدينة أو العودة في الاتجاه المضاد، وسط القمامة والمخلفات مرة أخرى، فوق الأرصفة وتحتها، وأمام الفرن والبقال والجزار والصيدلية المزدهرة بالنتيجة.

تقطيبة الاشمئزاز على وجه ذات (التي لم تر في حياتها من المدن المصرية سوى القاهرة والإسكندرية) دفعت سميحة إلى أن تنحرف بالسيارة يمينا في شارع جانبي ضيق تطل عليه فيلات قديمة، ثم مصنع حديث للغزل ومركز للشرطة، وأخيرا النيل ومن خلفه ميت غمر، لكن النهر العتيد لم يلبث أن اختفى وراء الحقول والمباني، وضاق الطريق الموازي له، وتقدمت السيارة ببطء وسط الماعز والإوز وروث البهائم وأكوام القاذورات وبرك المياه الآسنة، يخطو بينها في ثقة وبراعة رجال ملتحون في جلاليب بيضاء ناصعة، وصنادل جلدية تبرز منها أصابع أقدامهم العارية، وتتدلى المسابح من أيديهم، إلى أن ظهر النيل من جديد، محتجزا جزءا منه قرب الشاطئ فيما يشبه خليجا صغيرا راكد المياه امتلأ بالأطفال المستحمين اللاعبين، ملتقطي البلهارسيا ومتبولي الدماء، إلى جانب النساء والفتيات اللاتي انحنين على أواني الألومنيوم يغسلنها ويدعكنها بالأتربة حتى تلمع كالجديدة، قارنتها ذات في حسرة بأوانيها المعتمة التي لا ينفع معها فيم أو كيم.

اكتفت سميحة بهذا القدر، وانحنت يمينا في أحد الأزقة في اتجاه سرة البلد، ومنه إلى زقاق آخر ثم ثالث، مهتدية فيما يبدو بأصوات نواح وعويل تأتي من بعيد، إلى أن اعترضتها عربة حنطور برك حصانها المنهك فوق الأرض وقد تكالب عليه الذباب، وعدة رجال يحاولون إرغامه على النهوض، فسنحت الفرصة لذات كي ترى الحلاق العجوز، من عهد الحجامة، وهو يستخدم آلة حلاقة كهربائية في رأس زبون، وحفل الذباب حول القدور الزجاجية الملونة بالأحمر والأصفر والأبيض في دكان عصير، ورأس معصوب لامرأة شابة، حسنة الملامح، يطل من فرجة في نافذة مشربية صغيرة، ثم كوم القاذورات والمخلفات المعهود الذي استقرت فوقه امرأة متوسطة العمر، حافية القدمين، تأكل من طعمية وخبز وضعتهما أمامها على الوسخ مباشرة. كما سنحت الفرصة لذات كي ترى عملية وضع على الطبيعة؛ فعندما تحامل الحصان على نفسه أخيرا ونهض، كانت المرأة قد انتهت من طعامها وقامت من مكانها، فقفز فأران صغيران من تحتها.

استأنفت السيارة سيرها، وازدادت أصوات العويل قربا، حتى أشرفت على حارة صغيرة ظهرت الغربان المولولة في نهايتها، مطلة برءوس انعقدت فوقها مناديل سوداء، من شرفة منزل قديم مدهون بلون وردي، اصطفت أمامه بضعة مقاعد للمعزين، وحالت دون الوصول إليه بركة من مياه آسنة تتصاعد منها رائحة نتنة، وتحلق فوقها أسراب من الذباب والناموس، هاجمت السيارة التي تمكنت راكبتاها من إغلاق نوافذها في الوقت المناسب، فحطت على هيكلها الخارجي وغطته تماما، إلى أن عبرت السيارة البركة وتولى الأطفال المحتشدون طرد الذباب لتتمكن القادمتان من مغادرتها.

في الداخل مزيد من العويل إلى جانب البث؛ مواسير المياه والصرف الصحي انفجرت كالعادة في شوارع الجيش وسعد زغلول وفلسطين والبحر، ثم جاءت الأمطار فحولت الشوارع إلى برك ومستنقعات، واقتحمت المياه المختلطة البيوت، وعجزت عاملات مصنع النسيج عن اللحاق بمواعيد العمل، فوقفن في الطريق باكيات، وانشغل الأطفال في إقامة سدود من الطين أمام المنازل، ونزح الماء من داخلها إلى الشوارع، ما عدا جيهان.

अज्ञात पृष्ठ