حقق ولي العهد إنجازا آخر هاما وهو بعد رهين الشرنقة الرحمية؛ إذ تمكن من تخفيف حدة المقاطعة التي تتعرض لها أمه في الأرشيف وإزالتها تماما؛ فمع تكورها المتزايد، وخطوها المتباطئ، ارتفعت درجة اهتمام الماكينات بها؛ إذ رأت في حالتها مطية صالحة لأهدافها؛ فقرة معادة عن متاعب الحمل والمضاعفات والمحظورات (المحجبة صاحبة المنكبين)، فقرة دينية عن الصلوات والأدعية المناسبة؛ دعاء النزول من المنزل والدخول إليه، وعند لبس الثوب، وعند الفراغ من الطعام، وعند الركوب، وعند دخول المرحاض وعند الخروج منه، وفي السوق، وبعد البث (صاحبة المكياج الصارخ التي ترقت من حجاب الرأس إلى الحجاب الكامل)، دعم برنامج التغذية المشتركة ببطاطس طازجة تقلى على نار سخان كهربائي في البلكونة (الشامة السوداء)، تأجيل كثير من مهام العمل إلى ما بعد الولادة (الرئيس ذو المخالب).
على أن أهم ما خرجت به ذات من فترة الهدنة التي التزمت بها الماكينات، هو تعرفها على محررة نشطة (ومطلقة في نهاية العقد الثالث من عمرها) تدعى همت نظمي، ترددت على الأرشيف من أجل الإحصاءات الضرورية لمقال عن مخاطر تزايد السكان في مصر، فخرجت بسلسلة مثيرة عن مخاطر تناقصهم.
فقبل ذلك بفترة انضم إلى الأرشيف ساع جديد لخدمة الماكينات المثقلات بالعمل وتلبية احتياجاتها (ابتداء من أكواب الماء والشاي، إلى التخلص من الوارد اليومي من الصحف والمجلات بمجرد وصولها). كان عيد أبو الراس شابا في نهاية العشرينيات، ويبدو في نهاية الأربعينيات بسبب الغضون التي تملأ وجهه، والتي ربما كان مبعثها الساعات الثماني التي ينفقها كل يوم في الطريق من وإلى القرية التي يسكن بها في محافظة المنوفية؛ الأمر الذي أثار شفقة ذات وجعلها تحدب عليه آملة أن يؤدي موقفها منه إلى عدم انضمامه إلى المقاطعة، فشاركته التفكير في مشاكله المتعددة (ومنها ما يعانيه من اضطهاد على يد زوجة أبيه) وكيفية مواجهتها، إلى أن مكنه الحظ من حلها كلها مرة واحدة.
ففي أحد الأيام اشتكى من آلام شديدة ببطنه، فنصحته بالذهاب إلى طبيب الجريدة الذي أحاله إلى مستشفى الصدر بالعباسية، حيث أقام تحت العلاج لمدة شهر، خرج بعدها كما دخل. ونصحته ذات مرة أخرى بأن يتوجه إلى عيادة خاصة، وجمعت له من الماكينات النقود الضرورية لذلك، والتي مكنته من إجراء أشعة كشفت عن وجود جفت شرياني في بطنه طوله عشرون سنتيمترا، من مخلفات عملية استئصال طحال أقدم عليها قبل ثلاثة أشهر في مستشفى أشمون المركزي. وعاد أبو الراس إلى مستشفى الصدر الذي أحاله إلى عيادة ناصر الشاملة بالتأمين الصحي، التي أحالته إلى مستشفى آخر أحاله - بعد جراحة عاجلة - إلى القبر.
نشرت همت نظمي قصة عيد أبو الراس في عدة حلقات، مطالبة بتحديد المسئول عن مصيره، وهي مطالبة لم تسفر عن شيء، بالطبع، سوى وضع أسس الصداقة بينها وبين ذات، نصيرته الأولى، وهي الأسس التي اهتزت، بعد ذلك، عند الترزي.
ففي أحد الأيام أعلن عبد المجيد في رصانة حاول أن يخفي بها انفعاله أنه مسافر في مهمة إلى الصومال، ضمن وفد مكلف بافتتاح فرع للبنك هناك. وفي اليوم التالي شاركت ذات بالنبأ في فقرة البث الصباحي، مع تعديل صغير، أصبح الوفد فيه مؤلفا من شخص واحد، هو عبد المجيد بالطبع. وعند الظهر فاز النبأ بإضافة جديدة تمثل في أن عبد المجيد سيبقى في الصومال لإدارة الفرع الجديد، لكن اللامبالاة التي أبدتها الماكينات إزاء هذه الإضافة دفعت ذات إلى إجراء عملية تصحيح في الصباح التالي جلبت الأثر المنشود؛ إذ التمعت عيون الماكينات في حسد؛ فقد حصل عبد المجيد على عقد للعمل في السعودية.
تصدت ذات في حماس للمهام المترتبة على التطور الجديد، وعلى رأسها إعداد فستان جديد ترتديه عند عودة عبد المجيد من زيارة قصيرة للسعودية لتوقيع العقد. ولما كان الفستان المأمول يحتاج إلى ترزي ماهر، غير حائكة عين شمس، يتمتع بالخيال الذي يمكنه من تصور الكسم الطبيعي للجسم المتكور، ويكون في مستوى جلال المناسبة؛ فقد التجأت ذات إلى الماكينات طلبا للعون، وتطوعت همت لأن تأخذها إلى الترزي الخاص بها.
أتاحت زيارة الترزي لكل منهما أن ترى الأخرى على الطبيعة؛ خطوات همت السريعة (التي تذكرها بصفية القديمة )، وصدرها البارز في تحد، الذي يجلب النظرات الجائعة والكلمات البذيئة والاحتكاكات العفوية، وتعليقاتها الجريئة على الناس والأحداث التي تبلغ درجة الاستفزاز، وإحاطتها بالشوارع والاتجاهات، على عكس ذات، التي تجهل الخريطة، وتتعثر في الحفر والأرصفة، ولا تلفت انتباه أحد، وتتردد قبل كل خطوة، وأمام كل موديل.
فبينما انهمكت همت في قياس جيبة، والاستماع (من الترزي) إلى بث مفصل عن الزبائن وفصولهن، أخذت ذات تقلب حائرة في مجلات البوردا والفوج البالية، التي تمزقت أغلفتها وبعض صفحاتها، إلى أن وقع اختيارها على موديل غريب يشبه الروب الواسع؛ لأنه من قماش مشجر يبعث على البهجة، ثم تذكرت عمرها، فعدلت عنه إلى آخر أبيض بأكمام واسعة، ثم شعرت باليأس لعجزها عن الحسم، فالتجأت إلى همت التي اقترحت عليها موديلين لم يعجباها، وأخيرا تدخل الترزي الخبير قائلا: «خليني أنا أختار لك.» مما أراحها فأسلمت له جسدها خلف ستارة، وبعد أن دون قياساتها على ورقة من الكرتون كانت في الأصل قاعدة لصندوق سجائر، أعطاها لها لتكتب اسمها، فكتبت «مدام»، ثم اختلطت عليها حروف اسم خميس، فشطبتها وكتبت اسمها.
لم تعد ذات إلى الترزي مرة أخرى؛ لأن عبد المجيد لم يذهب إلى أي مكان، كما أن همت انضمت إلى المقاطعة دون سبب مفهوم، وهي نفسها انقطعت عن الأرشيف، بعد أن وصل الحمل إلى نهايته، وانزلق ولي العهد المنتظر في صمت سيحافظ عليه عدة سنوات، اتخذ مكانه خلالها بين أبويه في فراشهما، معطيا بذلك قوة دفع جديدة لسياسة الاعتماد على النفس.
अज्ञात पृष्ठ