في ماذا؟ لا غير الفلسفة.
مناسبة أخرى لمزيد من قبلات الوجنات ولتأمل آثار الزمن؛ الخيوط البيضاء في الشعر الملموم، بشائر الجيوب أسفل العينين، الثديين المتهدلين تحت الجلبية الكستور، بالإضافة إلى شيء آخر في نظرة العينين أو مسحة الوجه أو لون البشرة، لا علاقة له بصفية القديمة، أو لعله الحركة البطيئة المتمهلة لمن كانت تمشي وكأنها تقفز.
التي جاءت تحكي كان عليها أن تستمع إلى قصة طويلة، مروية على طريقة الروايات السائدة؛ أي بالتفصيل الممل، الذي يتجنب كل ما هو جوهري، وبمساحة واسعة لأكاذيب صغيرة بدأت بنفس الإجابة (الحمد لله) عن كل سؤال، ثم انكمشت بالتدريج لحساب الحقائق؛ عزيز لم يعد صحيا كما كان من قبل، التردد المستمر على المعتقلات وأقسام الشرطة (آخر مرة عندما انفجرت مواسير المجاري في العيد) أصابه بالسكر والضغط، وبسبب عزيز فصلت من عملها (العلاقات العامة) بشركة الكروم، وهناك قضية أمام المحاكم سيستغرق الفصل فيها عدة سنوات؛ ولهذا اضطرت للعمل في التدريس، وحصلت على عقد للعمل في السعودية، لكن عزيز غير موافق (رغم أنه من الممكن إيجاد عمل له هناك أيضا)، والأولاد كبروا؛ آخر العنقود تريد أن تتعلم البيانو، ومصطفى يحتاج إلى دروس خصوصية، أما الأكبر؛ عادل، فيطالب بسيارة يذهب بها إلى الجامعة («عندنا واحدة متهالكة 128، وأنت؟» بخجل: «لسه»)، ثم الشقة، انظري حولك.
كانت ذات قد نظرت حولها بالفعل عدة مرات، والتقطت التفاصيل الضرورية؛ قروح الجدران، مفرش المشمع المتآكل فوق المائدة الخشبية المائلة والمزنوقة في الحائط كي لا تتهاوى، ثلاجة إيديال (8 قدم) تقشرت زواياها، حشرت حشرا بين المائدة وباب الشقة. وبنظرة إضافية استجابة إلى طلب صديقتها أحاطت بأباجورة مكسورة في الركن وستارة متربة من الدانتلا فوق شباك الصالة، تحت إشراف نظرة فاحصة من صاحبة المنزل، تتقصى أي أثر للشماتة والارتياح المتوقعين، لكن ذات أخفت مشاعرها ببراعة، وبدافع من إحساسها بالذنب عرجت على درب الذكريات؛ عندما طلب منها عزيز الاشتراك، مع صفية، في برنامج صيفي لمكافحة أمية الكبار (في دور المعلمة بالطبع)، وكيف انسحبت من أول جولة: «كنت سأجن من عدم قدرة رجال محترمين بشوارب على التمييز بين هذا وهذه»، ناسية أنها هي نفسها ما زالت تخلط بينهما.
التمعت عينا صفية لأول مرة: «وأمين الاتحاد الاشتراكي .. فاكراه؟ اللي رفض تعليق لافتة مكافحة الأمية .. (مقلدة صوت الحكمة) يا بنتي .. لو علمناهم القراءة والكتابة فمن يعمل في الحقول والنظافة؟»
ضحكت ذات: «خبطتيه بيتين شعر للراجل ده اللي اسمه .. اسمه زي البيض نصف سوا .. تصوري نسيته.»
صفية لم تنس: بريخت .. فاكرة البيتين؟ .. تعلم أبسط الأشياء فلم يفت الأوان بعد.»
لم تتمكن من الإكمال لأن الدموع انهمرت فجأة من عيني ذات، لا بسبب بريخت، وإنما تمهيدا للفقرة التالية في البث. واستمعت صفية في فضول لقصة المقاطعة الغامضة، ثم لشكوى مرة من عبد المجيد انتهت بجملة درامية: «خلاص .. ما عدتش أطيقه.»
قامت صفية بالدور المطلوب منها ، فاستعرضت قائمة طويلة بحسنات عبد المجيد (فهو لا يجري وراء النساء، ولا يلعب القمار، ولا يتعاطى المخدرات، ولا يجلس على المقاهي، بالإضافة إلى أنه يحبها ولا يهينها ولا يضربها)، مقابل العيوب التي أبرزتها ذات (الهدم والتخريب والأنانية والبلادة. باختصار؛ خيبته). وبالنتيجة كشفت عن تناقضها: «إما أسيبه أو أحبل منه تاني.»
وجهت صفية سؤالا منطقيا: «قوليلي .. فيه حد تاني؟» تلقت عنها إجابة منطقية؛ بالنفي، في إباء؛ فذات الفاضلة تعلمت من الصغر أن هناك أشياء لا يعترف المرء بها ولا حتى لنفسه، وأن طوق النجاة في الحياة هو تجنب ذكر الحقيقة في أي حال.
अज्ञात पृष्ठ