Delight of Righteous Hearts and Joy of the Chosen Ones
بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار ط الوزارة
प्रकाशक
وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد
संस्करण संख्या
الرابعة
प्रकाशन वर्ष
١٤٢٣هـ
प्रकाशक स्थान
المملكة العربية السعودية
शैलियों
[مقدمة]
بهجة قلوب الأبرار
وقرة عيون الأخيار
في شرح جوامع الأخبار
अज्ञात पृष्ठ
الحمد لله المحمود على ما له من الأسماء الحسنى، والصفات الكاملة العظيمة العليا، وعلى آثارها الشاملة للأولى والأخرى.
وأصلي وأسلم على محمد أجمع الخلق لكل وصف حميد، وخلق رشيد، وقول سديد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه من جميع العبيد.
أما بعد: فليس بعد كلام الله أصدق ولا أنفع ولا أجمع لخير الدنيا والآخرة من كلام رسوله وخليله محمد ﷺ إذ هو أعلم الخلق، وأعظمهم نصحا وإرشادا وهداية، وأبلغهم بيانا وتأصيلا وتفصيلا، وأحسنهم تعليما. وقد أوتي ﷺ جوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصارا، بحيث كان يتكلم بالكلام القليل لفظه، الكثيرة معانيه، مع كمال الوضوح والبيان الذي هو أعلى رتب البيان.
وقد بدا لي أن أذكر جملة صالحة من أحاديثه الجوامع في المواضيع الكلية، والجوامع في جنس، أو نوع، أو باب من أبواب العلم، مع التكلم على مقاصدها وما تدل عليه على وجه يحصل به الإيضاح والبيان مع الاختصار، إذ المقام لا يقتضي البسط.
فأقول مستعينا بالله، سائلا منه التيسير والتسهيل:
1 / 4
[حديث إنما الأعمال بالنيات . .]
الحديث الأول عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ﵁ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يقول: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى ما هاجر إليه» متفق عليه.
[حديث مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ منه فهو رد]
الحديث الثاني عَنْ عَائِشَةَ ﵂ قَالَتْ: قَالَ رسول الله ﷺ: «من أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ» - وَفِي رِوَايَةٍ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أمرنا - فهو رد» متفق عليه.
هذان الحديثان العظيمان يدخل فيهما الدين كله، أصوله وفروعه، ظاهره وباطنه. فحديث عمر ميزان للأعمال الباطنة، وحديث عائشة ميزان للأعمال الظاهرة.
ففيهما الإخلاص للمعبود، والمتابعة للرسول اللذان هما شرط لكل قول وعمل، ظاهر وباطن. فمن أخلص أعماله لله متبعا في ذلك رسول الله ﷺ فهذا الذي عمله مقبول، ومن فقد الأمرين أو أحدهما فعمله مردود، داخل في قول الله تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ [الفرقان: ٢٣]
والجامع للوصفين داخل في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ [النساء: ١٢٥] الآية، [النساء: ١٢٥] . ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: ١١٢]
1 / 5
أما النية: فهي القصد للعمل تقربا إلى الله، وطلبا لمرضاته وثوابه. فيدخل في هذا: نية العمل، ونية المعمول له.
أما نية العمل: فلا تصح الطهارة بأنواعها، ولا الصلاة والزكاة والصوم والحج وجميع العبادات إلا بقصدها ونيتها، فينوي تلك العبادة المعينة. وإذا كانت العبادة تحتوي على أجناس وأنواع، كالصلاة، منها الفرض، والنفل المعين، والنفل المطلق. فالمطلق منه يكفي فيه أن ينوي الصلاة. وأما المعين من فرض أو نفل معين - كوتر أو راتبة، فلا بد مع نية الصلاة أن ينوي ذلك المعين. وهكذا بقية العبادات.
ولا بد أيضا أن يميز العادة عن العبادة. فمثلا الاغتسال يقع نظافة أو تبردا، ويقع عن الحدث الأكبر، وعن غسل الميت وللجمعة. . ونحوها، فلا بد أن ينوي فيه رفع الحدث، أو ذلك الغسل المستحب. وكذلك يخرج الإنسان الدراهم مثلا للزكاة، أو للكفارة، أو للنذر، أو للصدقة المستحبة، أو هدية. فالعبرة في ذلك كله على النية.
ومن هذا: حيل المعاملات إذا عامل معاملة ظاهرها وصورتها الصحة، ولكنه يقصد بها التوسل إلى معاملة ربوية، أو يقصد بها إسقاط واجب، أو توسلا إلى محرم، فإن العبرة بنيته وقصده، لا بظاهر لفظه فإنما الأعمال بالنيات. وذلك بأن يضم إلى أحد العوضين ما ليس بمقصود، أو يضم إلى العقد عقدا غير مقصود. قاله شيخ الإسلام.
وكذلك شرط الله في الرجعة وفي الوصية: أن لا يقصد العبد فيهما المضارة.
1 / 6
ويدخل في ذلك جميع الوسائل التي يتوسل بها إلى مقاصدها، فإن الوسائل لها أحكام المقاصد، صالحة أو فاسدة، والله يعلم المصلح من المفسد.
وأما نية المعمول له: فهو الإخلاص لله في كل ما يأتي العبد وما يذر، وفي كل ما يقول ويفعل، قال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [البينة: ٥]
وقال: ﴿أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾ [الزمر: ٣]
وذلك أن على العبد أن ينوي نية كلية شاملة لأموره كلها، مقصودا بها وجه الله، والتقرب إليه، وطلب ثوابه، واحتساب أجره، والخوف من عقابه. ثم يستصحب هذه النية في كل فرد من أفراد أعماله وأقواله، وجميع أحواله، حريصا فيه على تحقيق الإخلاص وتكميله، ودفع كل ما يضاده: من الرياء والسمعة، وقصد المحمدة عند الخلق، ورجاء تعظيمهم، بل إن حصل شيء من ذلك فلا يجعله العبد قصده، وغاية مراده، بل يكون القصد الأصيل منه وجه الله، وطلب ثوابه من غير التفات للخلق، ولا رجاء لنفعهم أو مدحهم. فإن حصل شيء من ذلك دون قصد من العبد لم يضره شيئا، بل قد يكون من عاجل بشرى المؤمن.
فقوله ﷺ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» أي: إنها لا تحصل ولا تكون إلا بالنية، وأن مدارها على النية. ثم قال: «وإنما لكل امرئ ما نوى» أي: إنها تكون بحسب نية العبد صحتها أو فسادها، كمالها أو نقصانها، فمن نوى فعل الخير وقصد به المقاصد العليا - وهي ما يقرب إلى الله - فله من الثواب والجزاء الجزاء الكامل الأوفى. ومن نقصت نيته وقصده، نقص ثوابه، ومن توجهت نيته إلى غير هذا المقصد الجليل، فاته الخير، وحصل على ما نوى من
1 / 7
المقاصد الدنيئة الناقصة.
ولهذا ضرب النبي ﷺ مثالا ليقاس عليه جميع الأمور، فقال: «فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهجْرَتُهُ إلى الله ورسوله» أي: حصل له ما نوى، ووقع أجره على الله «وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» خص فيه المرأة التي يتزوجها بعدما عم جميع الأمور الدنيوية لبيان أن جميع ذلك غايات دنيئة، ومقاصد غير نافعة.
وكذلك حين سئل ﷺ عن الرجل يقاتل شجاعة، أو حمية، أو ليرى مقامه في صف القتال " أي ذلك في سبيل الله؟ " فقال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» وقال تعالى في اختلاف الإنفاق بحسب النيات: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ﴾ [البقرة: ٢٦٥] وقال: ﴿وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [النساء: ٣٨]
وهكذا جميع الأعمال.
والأعمال إنما تتفاضل ويعظم ثوابها بحسب ما يقوم بقلب العامل من الإيمان والإخلاص، حتى إن صاحب النية الصادقة - وخصوصا إذا اقترن بها ما يقدر عليه من العمل - يلتحق صاحبها بالعامل، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ [النساء: ١٠٠]
وفي الصحيح مرفوعا «إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ ما كان يعمل صحيحا مقيما»، «إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم - أي: في نياتهم وقلوبهم وثوابهم - حبسهم العذر» وإذا هم
1 / 8
العبد بالخير، ثم لم يقدر له العمل، كتبت همته ونيته له حسنة كاملة.
والإحسان إلى الخلق بالمال والقول والفعل خير وأجر وثواب عند الله، ولكنه يعظم ثوابه بالنية. قال تعالى: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ [النساء: ١١٤]
أي: فإنه خير، ثم قال: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء: ١١٤] فرتب الأجر العظيم على فعل ذلك ابتغاء مرضاته. وفي البخاري مرفوعا: «من أخذ أموال الناس يريد أداءها أداها الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله» فانظر كيف جعل النية الصالحة سببا قويا للرزق وأداء الله عنه، وجعل النية السيئة سببا للتلف والإتلاف.
وكذلك تجري النية في المباحات والأمور الدنيوية، فإن من قصد بكسبه وأعماله الدنيوية والعادية الاستعانة بذلك على القيام بحق الله وقيامه بالواجبات والمستحبات، واستصحب هذه النية الصالحة في أكله وشربه ونومه وراحاته ومكاسبه: انقلبت عاداته عبادات، وبارك الله للعبد في أعماله، وفتح له من أبواب الخير والرزق أمورا لا يحتسبها ولا تخطر له على بال. ومن فاتته هذه النية الصالحة لجهله أو تهاونه، فلا يلومن إلا نفسه. وفي الصحيح عنه ﷺ أنه قال: «إنك لن تعمل عملا تبتغي به وجه الله إلا أجرت عليه، حتى ما تجعله في في امرأتك» .
فعلم بهذا: أن هذا الحديث جامع لأمور الخير كلها. فحقيق بالمؤمن الذي يريد نجاة نفسه ونفعها أن يفهم معنى هذا الحديث، وأن يكون العمل به نصب عينيه في جميع أحواله وأوقاته.
1 / 9
وأما حديث عائشة: فإن قوله ﷺ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» - أو «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رد» فيدل بالمنطوق وبالمفهوم.
أما منطوقه: فإنه يدل على أن كل بدعة أحدثت في الدين ليس لها أصل في الكتاب ولا في السنة، سواء كانت من البدع القولية الكلامية، كالتجهم والرفض والاعتزال وغيرها، أو من البدع العملية كالتعبد لله بعبادات لم يشرعها الله ولا رسوله، فإن ذلك كله مردود على أصحابه، وأهله مذمومون بحسب بدعهم وبعدها عن الدين. فمن أخبر بغير ما أخبر الله به ورسوله، أو تعبد بشيء لم يأذن الله به ورسوله ولم يشرعه فهو مبتدع، ومن حرم المباحات، أو تعبد بغير الشرعيات فهو مبتدع.
وأما مفهوم هذا الحديث: فإن من عمل عملا، عليه أمر الله ورسوله - وهو التعبد لله بالعقائد الصحيحة، والأعمال الصالحة: من واجب ومستحب: فعمله مقبول، وسعيه مشكور.
ويستدل بهذا الحديث على أن كل عبادة فعلت على وجه منهي عنه فإنها فاسدة ; لأنه ليس عليها أمر الشارع، وأن النهي يقتضي الفساد. وكل معاملة نهى الشارع عنها فإنها لاغية لا يعتد بها.
[حديث الدين النصيحة . .]
الحديث الثالث عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ ﵁، قَالَ: قال رسول الله ﷺ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ، الدِّينُ النَّصِيحَةُ، الدِّينُ النَّصِيحَةُ. قَالُوا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم» رواه مسلم.
1 / 10
كرر النبي ﷺ هذه الكلمة اهتماما للمقام، وإرشادا للأمة أن يعلموا حق العلم أن الدين كله - ظاهره وباطنه - منحصر في النصيحة. وهي القيام التام بهذه الحقوق الخمسة.
فالنصيحة لله: الاعتراف بوحدانية الله، وتفرده بصفات الكمال على وجه لا يشاركه فيها مشارك بوجه من الوجوه، والقيام بعبوديته ظاهرا وباطنا، والإنابة إليه كل وقت بالعبودية، والطلب رغبة ورهبة مع التوبة والاستغفار الدائم؛ لأن العبد لا بد له من التقصير في شيء من واجبات الله، أو التجرؤ على بعض المحرمات. وبالتوبة الملازمة والاستغفار الدائم ينجبر نقصه، ويتم عمله وقوله.
وأما النصيحة لكتاب الله: فبحفظه وتدبره، وتعلم ألفاظه ومعانيه والاجتهاد في العمل به في نفسه وفي غيره.
وأما النصيحة للرسول فهي الإيمان به ومحبته. وتقديمه فيها على النفس والمال والولد، واتباعه في أصول الدين وفروعه، وتقديم قوله على قول كل أحد، والاجتهاد في الاهتداء بهديه، والنصر لدينه.
وأما النصيحة لأئمة المسلمين - وهم ولاتهم، من الإمام الأعظم إلى الأمراء والقضاة إلى جميع من لهم ولاية عامة أو خاصة -: فباعتقاد ولايتهم، والسمع والطاعة لهم، وحث الناس على ذلك، وبذل ما يستطيعه من إرشادهم، وتنبيههم إلى كل ما ينفعهم وينفع الناس، وإلى القيام بواجبهم.
وأما النصيحة لعامة المسلمين: فبأن يحب لهم ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لنفسه، ويسعى في ذلك بحسب الإمكان، فإن من أحب شيئا سعى
1 / 11
له، واجتهد في تحقيقه وتكميله.
فالنبي ﷺ فسر النصيحة بهذه الأمور الخمسة التي تشمل القيام بحقوق الله، وحقوق كتابه، وحقوق رسوله، وحقوق جميع المسلمين على اختلاف أحوالهم وطبقاتهم. فشمل ذلك الدين كله، ولم يبق معه شيء إلا دخل في هذا الكلام الجامع المحيط. والله أعلم.
[حديث مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أهل الجنة فلينظر إلى هذا]
الحديث الرابع عن أبي هريرة ﵁ قال: «أَتَى أَعْرَابِيٌّ النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ " قَالَ: تَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ ". قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا أَزِيدُ عَلَى هَذا شَيْئًا وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُ. فَلَمَّا وَلَّى، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا» مُتَّفَقٌ عليه.
قد وردت أحاديث كثيرة في هذا الأصل الكبير الذي دل عليه الحديث، ومدلولها كلها متفق أو متقارب على أن من أدى ما فرض الله عليه بحسب الفروض المشتركة والفروض المختصة بالأسباب التي من وجدت فيه وجبت عليه. فمن أدى الفرائض واجتنب المحرمات استحق دخول الجنة، والنجاة من النار، ومن اتصف بهذا الوصف فقد استحق اسم الإسلام والإيمان، وصار من المتقين المفلحين، وممن سلك الصراط المستقيم.
ويشبه هذا ويقاربه:
1 / 12
[حديث. . . قل آمنت بالله ثم استقم]
الحديث الخامس عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ: قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ. قَالَ: قُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ» . رَوَاهُ مسلم.
فهذا الرجل طلب من النبي ﷺ كلاما جامعا للخير نافعا، موصلا صاحبه إلى الفلاح. فأمره النبي ﷺ بالإيمان بالله الذي يشمل ما يجب اعتقاده: من عقائد الإيمان، وأصوله، وما يتبع ذلك، من أعمال القلوب، والانقياد والاستسلام لله، باطنا وظاهرا، ثم الدوام على ذلك، والاستقامة عليه إلى الممات. وهو نظير قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [فصلت: ٣٠] فرتب على الإيمان والاستقامة: السلامة من جميع الشرور، وحصول الجنة وجميع المحاب.
وقد دلت نصوص الكتاب والسنة الكثيرة على أن الإيمان يشمل ما في القلوب من العقائد الصحيحة، وأعمال القلوب: من الرغبة في الخير، والرهبة من الشر، وإرادة الخير، وكراهة الشر. ومن أعمال الجوارح (١) . ولا يتم ذلك إلا بالثبات عليه.
[حديث الْمُسلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ . .]
الحديث السادس عن عبد الله بن عمرو ﵄ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «الْمُسلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ: «والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم
_________
(١) الأعضاء.
1 / 13
وَأَمْوَالِهِمْ» وَزَادَ الْبَيْهَقِيُّ: «وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ في طاعة الله» .
ذكر في هذا الحديث كمال هذه الأسماء الجليلة التي رتب الله ورسوله عليها سعادة الدنيا والآخرة، وهي الإسلام والإيمان، والهجرة والجهاد. وذكر حدودها بكلام جامع شامل، وأن الْمُسلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ.
وذلك أن الإسلام الحقيقي: هو الاستسلام لله، وتكميل عبوديته والقيام بحقوقه، وحقوق المسلمين. ولا يتم الإسلام حتى يحب للمسلمين ما يحب لنفسه، ولا يتحقق ذلك إلا بسلامتهم من شر لسانه وشر يده. فإن هذا أصل هذا الفرض الذي عليه للمسلمين. فمن لم يسلم المسلمون من لسانه أو يده كيف يكون قائما بالفرض الذي عليه لإخوانه المسلمين؟ فسلامتهم من شره القولي والفعلي عنوان على كمال إسلامه.
وفسر المؤمن بأنه الذي يأمنه الناس على دمائهم وأموالهم، فإن الإيمان إذا دار في القلب وامتلأ به، أوجب لصاحبه القيام بحقوق الإيمان التي من أهمها: رعاية الأمانات، والصدق في المعاملات، والورع عن ظلم الناس في دمائهم وأموالهم. ومن كان كذلك عرف الناس هذا منه، وأمنوه على دمائهم وأموالهم، ووثقوا به، لما يعلمون منه من مراعاة الأمانات، فإن رعاية الأمانة من أخص واجبات الإيمان، كما قال ﷺ: «لا إيمان لمن لا أمانة له» .
وفسره ﷺ الهجرة التي هي فرض عين على كل مسلم بأنها هجرة الذنوب والمعاصي. وهذا الفرض لا يسقط عن كل مكلف في كل حال من أحواله؛
1 / 14
فإن الله حرم على عباده انتهاك المحرمات، والإقدام على المعاصي. والهجرة الخاصة التي هي الانتقال من بلد الكفر أو البدع إلى بلد الإسلام والسنة، جزء من هذه الهجرة، وليست واجبة على كل أحد، وإنما تجب بوجود أسبابها المعروفة.
وفسر المجاهد بأنه الذي جاهد نفسه على طاعة الله؛ فإن النفس ميالة إلى الكسل عن الخيرات، أمارة بالسوء، سريعة التأثر عند المصائب، وتحتاج إلى صبر وجهاد في إلزامها طاعة الله، وثباتها عليها، ومجاهدتها عن معاصي الله، وردعها عنها، وجهادها على الصبر عند المصائب. وهذه هي الطاعات: امتثال المأمور، واجتناب المحظور، والصبر على المقدور.
فالمجاهد حقيقة: من جاهدها على هذه الأمور لتقوم بواجبها ووظيفتها.
ومن أشرف هذا النوع وأجلّه: مجاهدتها على قتال الأعداء، ومجاهدتهم بالقول والفعل فإن الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الدين.
فهذا الحديث من قام بما دل عليه فقد قام بالدين كله: من سلم المسلمون من لسانه ويده، وأمنه الناس على دمائهم وأموالهم، وهجر ما نهى الله عنه، وجاهد نفسه على طاعة الله، فإنه لم يبق من الخير الديني والدنيوي الظاهري والباطني شيئا إلا فعله، ولا من الشر إلا تركه.
والله الموفق وحده.
[حديث أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا . .]
الحديث السابع عن عبد الله بن عمرو ﵄ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ
1 / 15
مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خاصم فجر» (١) متفق عليه.
النفاق أساس الشر، وهو أن يظهر الخير، ويبطن الشر. هذا الحد يدخل فيه النفاق الأكبر الاعتقادي، الذي يظهر صاحبه الإسلام ويبطن الكفر، وهذا النوع مخرج من الدين بالكلية، وصاحبه في الدرك الأسفل من النار.
وقد وصف الله هؤلاء المنافقين بصفات الشر كلها: من الكفر، وعدم الإيمان، والاستهزاء بالدين وأهله، والسخرية منهم، والميل بالكلية إلى أعداء الدين، لمشاركتهم لهم في عداوة دين الإسلام. وهم موجودون في كل زمان، ولا سيما في هذا الزمان الذي طغت فيه المادية والإلحاد والإباحية.
والمقصود هنا: القسم الثاني من النفاق الذي ذكر في هذا الحديث، فهذا النفاق العملي - وإن كان لا يخرج من الدين بالكلية - فإنه دهليز الكفر، ومن اجتمعت فيه هذه الخصال الأربع فقد اجتمع فيه الشر، وخلصت فيه نعوت المنافقين، فإن الصدق، والقيام بالأمانات، والوفاء بالعهود، والورع عن حقوق الخلق هي جماع الخير، ومن أخص أوصاف المؤمنين. فمن فقد واحدة منها، فقد هدم فرضا من فروض الإسلام والإيمان، فكيف بجميعها؟
فالكذب في الحديث يشمل الحديث عن الله والحديث عن رسول الله ﷺ الذي من كذب عليه متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ [الصف: ٧]
ويشمل الحديث عما يخبر به من الوقائع الكلية والجزئية. فمن كان هذا شأنه فقد شارك المنافقين في أخص صفاتهم، وهي
_________
(١) زاد في الخصومة على حد الشرع، فلم يكتف بمقابلة السيئة بمثلها على سبيل المثال.
1 / 16
الكذب الذي قال فيه النبي ﷺ: «إياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا» ومن كان إذا ائتمن على الأموال والحقوق والأسرار خانها، ولم يقم بأمانته، فأين إيمانه؟ وأين حقيقة إسلامه؟ وكذلك من ينكث العهود التي بينه وبين الله، والعهود التي بينه وبين الخلق متصف بصفة خبيثة من صفات المنافقين. وكذلك من لا يتورع عن أموال الخلق وحقوقهم، ويغتنم فرصها، ويخاصم فيها بالباطل ليثبت باطلا، أو يدفع حقا. فهذه الصفات لا تكاد تجتمع في شخص ومعه من الإيمان ما يجزي أو يكفي، فإنها تنافي الإيمان أشد المنافاة.
واعلم أن من أصول أهل السنة والجماعة: أنه قد يجتمع في العبد خصال خير وخصال شر، وخصال إيمان وخصال كفر أو نفاق. ويستحق من الثواب والعقاب بحسب ما قام به من موجبات ذلك وقد دل على هذا الأصل نصوص كثيرة من الكتاب والسنة، فيجب العمل بكل النصوص، وتصديقها كلها. وعلينا أن نتبرأ من مذهب الخوارج الذين يدفعون ما جاءت به النصوص: من بقاء الإيمان وبقاء الدين، ولو فعل الإنسان من المعاصي ما فعل، إذا لم يفعل شيئا من المكفرات التي تخرج صاحبها من الإيمان. فالخوارج يدفعون ذلك كله، ويرون من فعل شيئا من الكبائر ومن خصال الكفر أو خصال النفاق خارجا من الدين، مخلدا في النار. وهذا مذهب باطل بالكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة.
1 / 17
[حديث يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ مَنْ خَلَقَ كَذَا من خلق كذا . .]
الحديث الثامن عن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ حَتَّى يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ الله؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله، ولينته» . وفي لفظ «فليقل: آمنت بالله ورسله» متفق عليه. وَفِي لَفْظٍ «لَا يَزَالُ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ حَتَّى يقولوا: من خلق الله؟» .
احتوى هذا الحديث على أنه لا بد أن يلقي الشيطان هذا الإيراد الباطل: إما وسوسة محضة، أو على لسان شياطين الإنس وملاحدتهم. وقد وقع كما أخبر، فإن الأمرين وقعا، لا يزال الشيطان يدفع إلى قلوب من ليست لهم بصيرة هذا السؤال الباطل، ولا يزال أهل الإلحاد يلقون هذه الشبهة التي هي أبطل الشبه، ويتكلمون عن العلل وعن مواد العالم بكلام سخيف معروف.
وقد أرشد النبي ﷺ في هذا الحديث العظيم إلى دفع هذا السؤال بأمور ثلاثة: بالانتهاء، والعوذ من الشيطان، وبالإيمان.
أما الانتهاء - وهو الأمر الأول -: فإن الله تعالى جعل للأفكار والعقول حدا تنتهي إليه، ولا تتجاوزه. ويستحيل لو حاولت مجاوزته أن تستطيع، لأنه محال، ومحاولة المحال من الباطل والسفه، ومن أمحل المحال التسلسل في المؤثرين والفاعلين، فإن المخلوقات لها ابتداء، ولها انتهاء. وقد تتسلسل في كثير من أمورها حتى تنتهي إلى الله الذي أوجدها وأوجد ما فيها من الصفات والمواد والعناصر ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى﴾ [النجم: ٤٢] فإذا وصلت العقول إلى الله تعالى وقفت وانتهت، فإنه الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء. فأوليته تعالى لا مبتدأ لها مهما فرضت
1 / 18
الأزمان والأحوال، وهو الذي أوجد الأزمان والأحوال والعقول التي هي بعض قوى الإنسان. فكيف يحاول العقل أن يتشبث في إيراد السؤال الباطل. فالفرض عليه المحتم في هذه الحال: الوقوف، والانتهاء.
الأمر الثاني: التعوذ بالله من الشيطان، فإن هذا من وساوسه وإلقائه في القلوب ; ليشكك الناس في الإيمان بربهم. فعلى العبد إذا وجد ذلك: أن يستعيذ بالله منه، فمن تعوذ بالله بصدق وقوة أعاذه الله وطرد عنه الشيطان، واضمحلت وساوسه الباطلة.
الأمر الثالث: أن يدفعه بما يضاده من الإيمان بالله ورسله، فإن الله ورسله أخبروا بأنه تعالى الأول الذي ليس قبله شيء، وأنه تعالى المتفرد بالوحدانية، وبالخلق والإيجاد للموجودات السابقة اللاحقة.
فهذا الإيمان الصحيح الصادق اليقيني يدفع جميع ما يضاده من الشبه المنافية له، فإن الحق يدفع الباطل، والشكوك لا تعارض اليقين.
فهذه الأمور الثلاثة التي ذكرها النبي ﷺ تبطل هذه الشبه التي لا تزال على ألسنة الملاحدة، يلقونها بعبارات متنوعة. فأمر بالانتهاء الذي يبطل التسلسل الباطل، وبالتعوذ من الشيطان الذي هو الملقي لهذه الشبهة، وبالإيمان الصحيح الذي يدفع كل ما يضاده من الباطل. والحمد لله. (فبالانتهاء): قطع الشر مباشرة، (وبالاستعاذة): قطع السبب الداعي إلى الشر، (وبالإيمان) اللجأ والاعتصام بالاعتقاد الصحيح اليقيني الذي يدفع كل معارض.
1 / 19
وهذه الأمور الثلاثة هي جماع الأسباب الدافعة لكل شبهة تعارض الإيمان. فينبغي العناية بها في كل ما عرض للإيمان من شبهة واشتباه يدفعه العبد مباشرة بالبراهين الدالة على إبطاله، وإثبات ضده وهو الحق الذي ليس بعده إلا الضلال، وبالتعوذ بالله من الشيطان الذي يدفع إلى القلوب فتن الشبهات، وفتن الشهوات، ليزلزل إيمانهم، ويوقعهم بأنواع المعاصي. فبالصبر واليقين: ينال العبد السلامة من فتن الشهوات، ومن فتن الشبهات. والله هو الموفق الحافظ.
[حديث كل شيء بقدر حتى العجز والكيس]
الحديث التاسع عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رسول الله ﷺ: «كل شَيْءٍ بِقَدَرٍ، حَتَّى الْعَجْزُ وَالْكَيْسُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
هذا الحديث متضمن لأصل عظيم من أصول الإيمان الستة، وهو الإيمان بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، عامه وخاصه، سابقه ولاحقه، بأن يعترف العبد أن علم الله محيط بكل شيء، وأنه علم أعمال العباد خيرها وشرها، وعلم جميع أمورهم وأحوالهم، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ. كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [الحج: ٧٠] ثم إن الله ينفذ هذه الأقدار في أوقاتها بحسب ما تقتضيه حكمته ومشيئته، الشاملتان لكل ما كان وما يكون، الشاملتان للخلق والأمر وأنه مع ذلك، ومع خلقه للعباد وأفعالهم وصفاتهم، فقد أعطاهم قدرة وإرادة تقع بها أفعالهم بحسب اختيارهم، لم يجبرهم عليها، وهو الذي خلق قدرتهم ومشيئتهم، وخالق السبب التام
1 / 20
خالق للمسبب. فأفعالهم وأقوالهم تقع بقدرتهم ومشيئتهم اللتين خلقهما الله فيهم، كما خلق بقية قواهم الظاهرة والباطنة. ولكنه تعالى يسر كلا لما خلق له.
فمن وجه وجهه وقصده لربه: حبب إليه الإيمان، وزينه في قلبه، وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان، وجعله من الراشدين، فتمت عليه نعم الله من كل وجه.
ومن وجه وجهه لغير الله، بل تولى عدوه الشيطان: لم ييسره لهذه الأمور، بل ولاه الله ما تولى، وخذله، ووكله إلى نفسه، فضل وغوى، وليس له على ربه حجة، فإن الله أعطاه جميع الأسباب التي يقدر بها على الهداية، ولكنه اختار الضلالة على الهدى، فلا يلومن إلا نفسه. قال تعالى: ﴿فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [الأعراف: ٣٠] وقال: ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [المائدة: ١٦]
وهذا القدر يأتي على جميع أحوال العبد وأفعاله وصفاته، حتى العجز والكيس. وهما الوصفان المتضادان الذي ينال بالأول منهما - وهو العجز -: الخيبة والخسران، وبالثاني - وهو الكيس -: الجد في طاعة الرحمن. والمراد هنا: العجز الذي يلام عليه العبد، وهو عدم الإرادة، وهو الكسل، لا العجز الذي هو عدم القدرة. وهذا هو معنى الحديث الآخر «اعملوا ; فكل ميسر لما خلق له» .
أما أهل السعادة: فييسرون لعمل السعادة، وذلك بكيسهم وتوفيقهم
1 / 21
ولطف الله بهم. والكيس والعاجز هما المذكوران في قوله ﷺ: «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز: من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني» .
[حديث مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأجر مثل أجور من تبعه]
الحديث العاشر عن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا. وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا» رواه مسلم.
هذا الحديث - وما أشبهه من الأحاديث - فيه: الحث على الدعوة إلى الهدى والخير، وفضل الداعي، والتحذير من الدعاء إلى الضلالة والغي، وعظم جرم الداعي وعقوبته.
والهدى: هو العلم النافع، والعمل الصالح.
فكل من علم علما أو وجه المتعلمين إلى سلوك طريقة يحصل لهم فيها علم: فهو داع إلى الهدى.
وكل من دعا إلى عمل صالح يتعلق بحق الله، أو بحقوق الخلق العامة والخاصة: فهو داع إلى الهدى.
وكل من أبدى نصيحة دينية أو دنيوية يتوسل بها إلى الدين: فهو داع إلى الهدى.
وكل من اهتدى في علمه أو عمله، فاقتدى به غيره: فهو داع إلى الهدى.
وكل من تقدم غيره بعمل خيري، أو مشروع عام النفع: فهو داخل في
1 / 22