نظم الجباية ظلت كما هي، كل ما في الأمر أن الجباية تضاعفت. خرج الجابي الرومي ودخل الجابي العربي ليباشر نفس الأفعال تحت مسميات عربية. لم تتغير الدول المفتوحة سوى في اسم المستعمر، فبدلا من الروم جاءت الخلافة الأموية، وبقى كل شيء على حاله؛ العبد عبد، ولم يعتق من العبيد أحد، وظلت ضرائب الجماجم، ولم يكن فيها شيء اسمه شورى، ولم تشترك الشعوب في مراقبة حكامها، بل كان يتم جلد المواطن إن عجز عن دفع المفروض عليه، وظل الموالي موالي، والعلوج علوجا والعبيد عبيدا؛ دولة رومانية في ثوب عربي تدهورت معه أحوال الشعوب عما كانت عليه زمن الروم. إن دولة الخلفاء الراشدين الأولى والتي كانت دولة دينية إسلامية، كان معظم سكانها من غير المسلمين؛ لأن الشعوب المحتلة لم تبدل أديانها إلى الإسلام بين يوم وليلة، فقد استمرت عمليات الأسلمة الإجبارية أجيالا طوالا، وبقى من بينهم ملايين لم يتم إسلامهم حتى الآن متواجدين في مختلف الأقطار. لقد كانت دولة الخلافة الراشدة تحكم بلادا أغلبية سكانها من غير المسلمين، فهل يعطيها ذلك صفة الدولة الإسلامية أم لا؟
الدولة الراشدة لم تكن لديها علوم فقه، ولم يكن القرآن قد جمع بعد، ولم يكن منظورا أن يتم تدوين الحديث في ذلك الزمن ولم يكن معلوما أنه سيدون في الحقب التالية، ولم تكن هناك بعد أفكار الإخوان ولا ابن تيمية ولا ابن هويدي ولا ابن قرضاوي ولا ابن عاكف ولا ابن البنا ولا ابن قطب. ورغم غياب كل هذا الفكر الذى يسود حياتنا الآن، فقد كانت الدولة الراشدة دينية ومسلمة أيضا وغير منقوصة الإيمان، رغم عدم اطلاعها أو معرفتها لأي مما يقوله فلاسفتنا المتأسلمون اليوم، ولم ينقص من إيمانها أنها حكمت في الشام ومصر وشمال أفريقيا بكيان وفكر وأسلوب روماني، وحكمت في العراق وفارس بكيان وفكر وأسلوب فارسي؛ لأن الإسلام لم يقدم نموذجا لأي دولة، لأن الدولة لم تكن ضمن أهدافه، وإلا لكان قد تم تطبيقه وتفعيله بدلا من النموذجين الروماني والفارسي.
ولأننا ليس لدينا أي نموذج للدولة في الإسلام قديما أو جديدا، فإن العالم وحتى اليوم لم ينقل عنا ذلك النموذج، رغم المفترض أن يكون أنجح النماذج وأرقاها. بل إننا نحن ما زلنا حتى اليوم نحاول بناء هذا النموذج دون أن ننجح في إقامته، ولو نظريا بفلسفة واضحة محكمة، رغم مرور عشرات القرون.
بين يدي الآن كتاب صادر سنة 2001م للداعية المعروف يوسف قرضاوي، يبدو أنه سيحتاج إلى مناقشة مطولة ليس هنا مكانها، يعنيني هنا عنوان هذا الكتاب «ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده»، تصوروا! الجماعة حتى الآن لم يضعوا بعد أسس المجتمع المسلم، لا بل هم في مرحلة وضع الملامح الأولية له. بعد كل هذه القرون المتطاولة لم تتشكل بعد ملامح المجتمع المسلم. ماذا كان يفعل هؤلاء السادة طوال هذه القرون الأسود من الهباب؟!
وطالما أنه لا يوجد لدينا نموذج دولة خاص بنا لا نظريا ولا تطبيقيا، فإن الحكمة تستدعي أن نفعل ما فعل الراشدون عندما أخذوا بالنظام الرومي والفارسي، وهي أنظمة الدول الأرقى في زمانهم، فنأخذ نحن بالنظام الغربي العلماني والذي تمت تجربته وأثبت نجاحات مبهرة وصل بهم إلى المريخ وهندسة الوراثة والاتصالات، ونحن ما زلنا عند مرحلة الفخر والهجاء والعلاج ببول الجمل والحجامة والحبة السوداء.
هنا يضيف الدكتور بشار معروف مزيدا من التوضيح لفكرة دولة إسلامية فيقول: «فإذا أخذنا بالفكرة الأخيرة (يقصد دولة إسلامية، السلطة فيها للأمة) وجدنا الأدلة التي تقوي فكرة كون الأمة هي مصدر السلطة.
فلا شك في أن المقصود بالسلطة هنا هي السلطة التنفيذية. ولم يتمكن الباحثون الإسلاميون من دراسة مفهوم السلطة التشريعية ذات المصدر الإلهي دراسة علمية معمقة، فسلم أكثرهم بأن الله هو المشرع، سواء كان ذلك عن طريق القرآن أم السنة، وأن الفقهاء مجرد مفسرين وهو أمر يحتاج إلى إعادة نظر، فنحن نعتقد أن الإسلام وضع قواعد كلية ومبادئ عامة ومقاصد لهذه الشريعة، تضمنها القرآن الكريم والثابت من السنة النبوية، وهي ما يمكن أن يصطلح عليه بالبينات، وأنه قلما تم تناول القضايا التفصيلية إلا في حالات خاصة في الحدود والإرث ونحوهما، وتركت الأمور الأخرى يجتهد فيها الفقهاء، ويضعون القوانين والتعليمات المحققة لمقاصد هذه الشريعة، بما يتلاءم ومصالح الناس.» ا.ه.
هنا لا تفهم هل هم جادون حقا في بحث موضوع الدولة والإسلام، أم هم هازلون؟ أم هم يريدون هدفا محددا من كل هذا الطحن والعجن؟ إنهم يريدون دولة إسلامية ديمقراطية لكنها غير دينية، فهل تحت المسمى الجديد «دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية» ستتحقق المساواة بين المواطنين المسلمين وغير المسلمين في الحقوق والواجبات؟ وهل لا يعلمون أن مطلبهم هذا يخالف السنة المحمدية المؤكدة؟ ويخالف أن التشريع لله وحده وليس للبشر؟ ولا تفهم أيضا الجد من الهزل في ضوء ما يطرحون دون أي اعتبار لمن سيخضع لتجربتهم الجديدة، وبلا دعوة ممن ستجرى عليهم التجربة، وبدون أخذ رأيهم، وبدون أي اعتبار للمجتمع الدولي ورأيه في العودة إلى الوراء بالمنطقة أكثر مما هي عليه، مع ما ستحمله الدولة الإسلامية من عداء لهذا المجتمع الدولي.
إنهم يريدون دولة غامضة الطابع مجهولة الأهداف (العلنية على الأقل)، فاقدة للدعم الديني لأنه الرخصة لإثبات اهتمام الخليفة والدولة بشرع الله فيما عدا تلك الحالات التي تعد على أصابع اليدين كان ما يحكم بين الناس في أرجاء الخلافة هو العرف والتقاليد، عرف الشام للشامي وعرف الأهواز للأهوازي وعرف النوبة للنوبي، أما الشرع الإسلامي وشريعته فقد انصب اهتمامهما بالتفصيل الممل في شئون جمع الأموال والخيرات والنساء والقصور والعبيد والجواري، ووضعت بهذا الشأن تشاريع تفصيلية في كتب الأموال والأحكام والسياسة الشرعية وما لحقها، لصالح العرب أصحاب الدولة ومالكيها؛ لذلك كانوا يطلقون عليها أسماءهم لتأكيد حق الملكية، فهي أموية، أو عباسية، أو طولونية، أو إخشيدية، أو سعودية بالأرض المقدسة نفسها.
نتابع الإنصات للدكتور معروف إذ يقول: «مما يؤسف عليه أن بعض الإسلاميين ظنوا - غلطا - أن الشريعة هي ما كتبه الفقهاء في الأحكام، وما أثاره المنظرون الإسلاميون في العصور الإسلامية في أساليب الحكم والإدارة (مثل أبي يوسف الماوردي وأبي يعلى الفراء وابن تيمية وابن خلدون، وغيرهم). ومع أن الفقه بمجمله فكر وليس شريعة واجبة الاتباع؛ فالفقهاء علماء مجتهدون حاولوا فهم الشريعة وتفسيرها، استنادا إلى فهمهم واجتهادهم في زمن معين؛ لذلك فهم مختلفون فيما بينهم قليلا أو كثيرا، وهو بمجمله رحمة؛ لأنه يوسع دائرة الفهم والتفسير، ويقدم حلولا متنوعة للمسألة الواحدة؛ ومن ثم فإن تقليص الدور الذي يمارسه أهل العلم في تقنين القوانين والتعليمات المستمدة من روح الشريعة (القواعد والمقاصد) ليس في صالح النظام الإسلامي؛ لأن الذي ذكرت يقدم مرونة في فهم المقصود بالسلطة التشريعية عند المحدثين، وهو يدحض الرأي القائل بأن الفقهاء المجتهدين مجرد مفسرين.» ا.ه.
अज्ञात पृष्ठ