ولم يكن اشتغاله بكتابة التاريخ طارئا جديدا كل الجدة على نفسه، بل قد لبث أعواما قبل ذاك يدير في نفسه أملا هو أن تسنح له فرصة للكتابة في تاريخ بلاده، وها هي ذي الفرصة المأمولة قد سنحت حين عين أمينا لمكتبة في إدنبره، تحيط به الكتب والوثائق، ويجد فراغ الوقت بين يديه مواتيا، لأن أمانة المكتبة كانت تقتضيه عملا قليلا بأجر قليل، وإنما دار في نفسه الأمل بكتابة تاريخ بلاده حين نظر فوجد - على حد تعبيره في إحدى رسائله - «أن ميدان النشاط الأدبي في إنجلترا لم يبق فيه مكان خال لمن أراد لنفسه مكانة أدبية إلا مكان المؤرخ.»
12
كتب هيوم تاريخ إنجلترا راجعا به من نهايته إلى بدايته، فأخرج أول ما أخرج منه «تاريخ بريطانيا العظمى» في جزأين يؤرخ بهما للعصر الممتد بين جيمس الأول حتى عهد الثورة في عهد شارل الأول، ثم عقب عليه بكتاب يؤرخ به الفترة السابقة على تلك، وعنوانه «تاريخ إنجلترا في حكم أسرة تيودر»، وأخيرا أصدر كتابا ثالثا يؤرخ به للفترة التي تقع بين غزوة يوليوس قيصر واعتلاء هنري السابع عرش البلاد ... وبهذه الكتب الثلاثة التي ظل يكتبها في السنوات الخمس 1756-1761م كمل له تاريخ إنجلترا، كما أخذت الشهرة والثروة تسعيان إليه، وإن يكن سعيهما هذا قد سار بخطوات وئيدة لم ترض رغبته في النجاح السريع ... فكتبه في التاريخ، شأنها شأن كتابه الرئيسي في الفلسفة «رسالة في الطبيعة البشرية» لم تقع من الناس بادئ ذي بدء بما كان يتوقعه لها؛ وكان يأخذه العجب وتأخذه الحسرة؛ فلماذا لا تستوقف كتبه هذه أنظار الناس ما دام قد جاءهم فيها بالجديد المبتكر؟ إنه لم يكتب التاريخ كما كان يكتبه المؤرخون من قبله؛ إذ لم يكتبه من وجهة نظر متحزبة متعصبة، وكان المألوف قبله أن يكتب المؤرخ تاريخه ليزهى ويفخر؛ إنه كتبه محايدا، فما للناس يهملونه كما أهملوه حين أخرج لهم فلسفة جديدة في «الرسالة»؟ لكنه نسي أن الجدة قد تكون سببا في لفت الأنظار لفتا سريعا كما تكون سببا في انصراف الناس عن هذا الجديد؛ فلئن كان الناس يتوقعون فلسفة من صنف معين، ثم تقدمت إليهم بما ليس يجري هذا المجرى لم تكن بضاعتك مما يقبل عليه الشارون؛ وكذلك إذا كان الناس يتوقعون من التاريخ أن يكون ذا صبغة أدبية، فيه تعبير ذاتي عن نزعة وطنية أو دينية أو غير ذلك، ثم جئتهم بتاريخ «علمي» محايد لا يعبر لهم عن مشاعرهم انصرفوا عنك إلى سواك.
كتب هيوم كتبه التاريخية الثلاثة في خمس سنوات، كما ذكرنا، كان يتعاوره خلالها اليأس والأمل كلما أخرج من تلك الكتب كتابا أو هم بكتابة آخر؛ فلما أن صدر الجزء الأول ولم يأبه له الناس، أخذه الغم حتى فكر في مغادرة بلاده ليأوي إلى قرية هادئة في فرنسا حيث يستتر فلا يرى أحدا ولا يراه أحد؛ لكن الرجاء يعود فيملؤه فيهم بكتابة الجزء الثاني؛ فلا يجد حظا أوفر من سابقه، فيغوص في اليأس من جديد، ويكتب إلى زميل له في لندن يطلب إليه أن يبحث له عن غرفة متواضعة هناك، لأنه صمم أن يترك اسكتلندا ليعيش مغمورا في لندن، فلم يعد به أمل يحفزه إلى نشاط أدبي جديد، ويريد الآن أن ينعم ما بقي له في الحياة من بقية، فيقرأ ويتحدث في استرخاء من لا يرقب شيئا؛ لكن الأمل عاد فعاوده وكتب الجزء الثالث من التاريخ ...
على أن «التاريخ» لم يكن مشغلته الأدبية الوحيدة طوال تلك السنين، بل راجع الجزء الثاني من «رسالة في الطبيعة البشرية» - وموضوعه العواطف - ليخرجه في كتاب جديد؛ لقد أسلفنا للقارئ أن هذه «الرسالة» كانت أولى أعماله الفلسفية، بل هي العمل الأكبر الذي ضمنه فلسفته كلها، فلما أن كسدت في السوق، صمم أن يعيد كتابتها في كتب متفرقة، بحيث يخرج كل جزء من أجزائها الثلاثة في كتاب مستقل؛ وقد كان أن أخرج أولا «بحثا في العقل البشري» معيدا به الجزء الأول من «الرسالة» ثم عقب عليه ب «بحث في مبادئ الأخلاق» معيدا به الجزء الثالث من «الرسالة»؛ وها هو ذا الآن يتناول الجزء الثاني من «الرسالة» فيعيد كتابته ليصدر في كتاب مستقل.
13
ومهما يكن من إهمال الناس لإنتاجه أول صدوره، سواء كان ذلك في الفلسفة أو في التاريخ، فإن ما ينفع الناس مصيره أن يمكث في الأرض، ولا بد أن يأتي يوم يتداركون فيه ما قد أهملوه بالأمس عامدين أو غافلين، فقد أخذ النقاد والعلماء يتنبهون شيئا فشيئا إلى هذا الفكر الجديد. (4) هيوم وروسو
أرسل السفير البريطاني في باريس إلى هيوم يعرض عليه أن يكون سكرتيرا للسفارة هناك؛ فتردد صاحبنا أول الأمر في القبول، لأنه تصور أن ذلك المنصب سيغمسه في مجتمع فيه العظماء وفيه حياة الظهور وأسباب المرح، فظن أن مثل هذه الحياة لم تعد تصلح - كما قال - لمن هو في مثل سنه ومزاجه، وأولى له أن يأوي إلى الريف مرة أخرى لينصرف إلى نفسه هادئا لا يزعجه أحد ولا يزعج أحدا، كما كان يدور في خلده في اللحظة التي جاءته فيها دعوة السفارة.
لكنه عاد فقبل الدعوة وقصد إلى باريس ليجد عجبا؛ إذ ما كان أشد دهشته حين وجد اسمه هناك يملأ الأسماع، وهو الذي ضاق نفسا بما لحظه من إهمال الناس له في بلده، لا يكادون يعبئون بما يكتب على جودة ما يكتبه وجدته؛ نعم أدهشه في باريس أن يرى الجو الفكري هناك مشبعا بذكره وبالإشادة بنبوغه خصوصا في كتبه عن السياسة والدين والتاريخ.
لم يكد هيوم يصل إلى باريس (1763م) حتى أسرع إليه سيدات المجتمع الأدبي، كل واحدة منهن تنافس زميلاتها في أن يكون لها دونهن شرف إقامة الحفل الذي تقدم فيه هذا الفيلسوف الإنجليزي إلى ذوي المكانة الأدبية في فرنسا، إنه مهما بلغ به الظن بنفسه وهو في وطنه، لم يكن قد بلغ به هذا المدى كله، فمن هو حتى يرى نفسه بين يوم وليلة محاطا بهذا التكريم كله من علية القوم في موطن الثقافة الرفيعة؟ ولئن دهش لذلك مرة، فقد دهش كبار موظفي السفارة البريطانية مائة مرة أن يروه وهو الموظف الصغير في سفارتهم قد أصاب من اهتمام القوم، بل من اهتمام القصر الملكي نفسه، بما لم يظفر به أعلام سفرائهم؟ إن كبار رجال السفارة البريطانية في باريس لم يكونوا قد سمعوا به فيلسوفا ولا مؤرخا ولا كاتبا سياسيا؛ ولم يسع هيوم سوى أن يكتب الرسائل إلى أصدقائه في وطنه يعجب لهم فيها كيف يختلف تقدير رجال العلم والأدب في فرنسا عنه في بريطانيا.
अज्ञात पृष्ठ