لكن شابا لم يكن بعد قد بلغ الثامنة عشرة، يأخذ نفسه أخذا صارما بمبادئ يخلقها لنفسه خلقا بمحض تفكيره الفلسفي العميق، لا بد أن ينتهي أمره سريعا إلى علة مضنية؛ لأن العبء أثقل من أن تحتمله نفس لم يكد يكتمل لها نموها؛ وهكذا مرض فتانا واعتل، وهو يفسر ذلك بقوله إن التأمل الفلسفي إذا ما نسج خيوطه في الفراغ، منعزلا عن دنيا النشاط والعمل، أصبح خطرا على صاحبه، لأنه ينهك قواه؛ ف «التفكير العقلي إذا لم يجد جبهة عملية تقاومه، تبعثر في الخلاء وحدث له ما يحدث للذراع حين تمتد لتمسك بشيء ثم يفلت ذلك الشيء وتضرب الذراع في الهواء.»
2
نعم إن فيلسوفنا الشاب لم يأخذ نفسه اليافعة بشيء من الرفق، بل واصل الدرس والتفكير، فلم تقع فلسفة عصره ولا ديانة عصره منه موقع الرضى؛ إنه لم يجد فيهما تعبيرا عن الحق يطمئن إليه، فأحس في نفسه رغبة جامحة - هكذا يروي لنا عن نفسه - في أن يشق لنفسه طريقا جديدا يلتمس به الحق كما يرضيه؛ وكان في عامه الثامن عشر حين لمعت في ذهنه المتوقد فكرته الجديدة، «فكنت كأنما انداح أمامي أفق جديد من آفاق الفكر، نقلني إلى هدف لم أكن أحلم به.»
3
تمكنت فكرته الجديدة هذه من عقله وتشبثت به حتى لم يعد في مقدوره أن يترك التفكير فيها لحظة واحدة، ودفعته النشوة - نشوة خلق فكر جديد - إلى الانغماس في أغوار التأمل حتى غص به وأقعده المرض؛ فلم يكن له بد من الراحة والعناية ببدنه وعافيته، حتى إذا ما استرد قليلا من قواه الذاوية، اقتضته الحكمة أن يغير من حياته بما يناسب حاله الطارئة؛ وهو في ذلك يقول إنه في أعوامه الماضية قد عاش حياة تتناوبها الدراسة حينا والاسترخاء حينا، فكان لهذا المركب أثره في هدم صحته، فكان لا بد له من تجربة مركب آخر لحياة يتناوبها النشاط العملي حينا والتنزه حينا ... ومن ثم جاءت عزيمته على أن يبدأ شوطا جديدا من حياته ينفقه في ميدان عملي كالتجارة، فقصد من فوره إلى أحد البيوت التجارية في مدينة «برستل». (2) هيوم الفيلسوف
لم يطل مقامه في «برستل»، فلا المدينة صادفت منه هوى ولا العمل التجاري وقع في نفسه موقعا حسنا؛ فشد الرحال إلى فرنسا، وصمم أن يكتفي بدخله الضئيل مهما اقتضاه ذلك من شظف وضيق، وذلك لينصرف بجهده كله إلى دراسته وتأمله؛ وانتهى به المطاف في فرنسا بمدينة «لافليش» التي أذاع شهرتها أن ديكارت كان قد تلقى فيها علومه بكلية الجزويت، وقد كان خليقا بهيوم أن يذكر هذه الحقيقة في حياته، لكنه لم يفعل، كأنما مقامه في بلد أنشأ ديكارت من قبله ليس من الحوادث التي تستوقف النظر؛ فما الذي أغراه - إذن - باختيار «لافليش» يقيم فيها ليكتب رسالته الرئيسية؟ لعله هدوء المكان أو عيشه الرخيص، أو لعلها كلية الجزويت هناك وما فيها من معينات على القراءة والدرس، ففي أبهاء ذلك المعهد الهادئ كان فيلسوفنا الشاب يتمشى يوما مع أحد القساوسة يتبادلان الحديث في «المعجزات»، فكان هذا الحديث بداية تفكيره الذي انتهى فيما بعد إلى مقالته المشهورة في هذا الموضوع.
يقول هيوم في خطاب أرسله إلى صديق إنه أثناء مقامه في فرنسا، في «ريمس» أولا وفي «لافليش» ثانيا، فرغ من كتابه «رسالة في الطبيعة البشرية»، ثم يصف هذه «الرسالة» بأنها مشروع ضخم «وضعت خطته قبل أن أبلغ الحادية والعشرين، وأنشأته قبل أن أتم الخامسة والعشرين.»
4
أما وقد أتم هيوم «رسالته» فلم يعد هنالك ما يدعوه إلى إطالة الإقامة في «لافليش»، ولهذا غادرها مقيما في فرنسا نحو العامين قضاهما هنا وهناك، ثم عاد إلى لندن في سبتمبر من عام 1737م، وهنالك أخذ يسعى عند الناشرين، حتى نشر له الجزءان الأول والثاني من «الرسالة» عام 1739م، ثم نشر الجزء الثالث عام 1740م؛ وكان وهو في انتظار النشر لا ينفك مراجعا لما كتب، ليخفف من الآراء الدينية والأخلاقية، وليصقل الأسلوب ويصلح العبارة؛ ومع ذلك الحرص كله فقد أسف فيما بعد أسفا شديدا على تسرعه في النشر؛ لأنه رغم هذا الحرص وهذه العناية، فقد صدرت «الرسالة» وفيها كثير جدا من فجاجة الشباب وسذاجته ... يقول في ذلك: «لقد عاودني الندم مئات المرات ومئاتها على تسرعي بالنشر.» قال ذلك في إحدى رسائله، وفي رسالة أخرى يقول إنه نادم على نشر «الرسالة» إطلاقا، فلم يعد موضع الندم منصبا على مجرد التسرع، وأن التمهل كان أولى، بل إنه ود فيما بعد لو لم ينشر هذا المؤلف قط؛ وهو يعلل إقدامه على النشر تارة بأنه خشي أن يسبقه سابق إلى نشر أفكار شبيهة بأفكاره، وكان يريد لنفسه أن يكون المعلن الأول لهذا الطريق الفلسفي الجديد، وتارة أخرى بأنه خجل أن يظهر أمام أهله وأصدقائه بمظهر من أضاع وقته سدى، فلا أقل من تبرير غيابه وانقطاعه عن العمل بكتاب يقدمه لهم حجة على أن وقته لم يضع هباء.
ومهما يكن من أمر، فقد اشتد به القلق على قيمة عمله؛ إذ هو في انتظار نشره فلم يدخر وسعا في تعديله هنا وتحويره هناك، وحذف هنا وإضافة هناك؛ وكلما اقترب وقت الصدور اشتد به الهلع حتى وصف نفسه بالجبن، كأنما هو لا يقوى على مواجهة الناس برسالته؛ ولكنه مضى في إصلاح عمله مسرعا قبل أن تتناوله المطبعة، قائلا لنفسه إنه لا ينبغي أن يأخذه الزهو بعمله بحيث يتركه معيبا، فلئن كان يزدري مثل هذا الطيش في الآخرين فما أحراه أن يزدريه في نفسه؛ وكتب في خطاب لصديق عندئذ يعبر عن خواطره فقال إن «رسالته» هذه ترفعه آنا فوق السحاب زهوا وشموخا، لكنها آنا آخر تقبضه من الخناق وتملؤه بالشكوك والمخاوف.
अज्ञात पृष्ठ