दरजात सिट
الدرجات الست وأسرار الشبكات: علم لعصر متشابك
शैलियों
أستاذ شاعر بالضجر إلى حد ما، وطالب شبه يائس، لا يبدوان ثنائيا مثاليا، لكنهما كانا كذلك. وعلى مدار العامين التاليين أخذنا نتردد بين مجموعة متنوعة من المشروعات، وقضينا وقتا طويلا نتناقش في الفلسفة قدر مناقشتنا للرياضيات؛ ليس الفلسفة الوجودية، بل العملية. أي القضايا كانت مثيرة؟ وأيها كانت صعبة؟ من الذي نال عمله إعجابنا؟ ولماذا؟ ما مدى أهمية الإتقان الفني مقارنة بالإبداع والجرأة ؟ ما مقدار الوقت الذي من المفترض أن يقضيه المرء في الاطلاع على أعمال الآخرين قبل خوضه مجالا غير مألوف له؟ بمعنى آخر، ما الذي يعنيه العمل في مجال علمي مثير؟ وكما أظن الحال في أغلب جوانب الفلسفة، كانت الإجابات - باعتبار أننا توصلنا إلى أي منها - أقل أهمية من عملية التفكير في الأسئلة ذاتها. كان لتلك العملية تأثير عميق على عملنا التالي، وقد اتضح أن ذلك التردد لم يسمح لنا فقط بأن نصبح أصدقاء ومنحني الفرصة لإنهاء دراستي، بل حررنا أيضا من التركيز على مشروع واحد محدد لفترة كافية تمكننا خلالها من التفكير فيما كنا «نريده» حقا، بدلا مما كنا نظن أن «باستطاعتنا» فعله، وكان لذلك كل الفارق. (4) الطريق الأقل ارتيادا
حين توصلنا مصادفة إلى مشروعنا النهائي، كنا ندرس الصراصير دون أي شيء آخر. يبدو الأمر سخيفا، لكن نظرا لأن هذا النوع من الصراصير تحديدا - وهو صرصور الأشجار الثلجية - يصدر صريرا منتظما، ولأنه (على عكس الخلايا الناظمة القلبية أو الخلايا العصبية) مادة جيدة للتجربة، فإنه نوع مثالي فعليا للمذبذبات البيولوجية. كنا نحاول التحقق من فرضية رياضية متعمقة كان وينفري أول من طرحها، وتنص على أن أنواعا معينة فقط من المذبذبات يمكن أن تتزامن. ونظرا لأن هذه الصراصير بارعة للغاية في المزامنة، فقد بدت الخطوة الطبيعية أن نحدد «تجريبيا» أي نوع من المذبذبات هذه الصراصير، ومن ثم هل التنبؤات النظرية صحيحة أم لا.
إن الصراصير محل اهتمام علماء الأحياء أيضا، وهو ما لا يدعو للدهشة؛ فنظرا لأن الصرير يرتبط على نحو وثيق بنجاح عمليتي التزاوج والتناسل، فإن الآليات المؤدية إلى المزامنة العامة تعد قضايا بيولوجية مهمة، ومن ثم عملت أنا وستيف مع عالم حشرات يدعى تيم فورست، وقضيت معه ليالي صيفية عديدة نتجول بين الأشجار في حرم جامعة كورنيل الضخم بحثا عن العينات، التي تضمنت أوديسيوس الذي ذكرته آنفا. وبعد أن جمعنا مجموعتنا الصغيرة، عزلنا كلا منها في حجيرة عازلة للصوت، وبعثنا إليها بصوت صرير باستخدام جهاز كمبيوتر كان تيم قد زوده بنظام سماعات ومكبر صوت. ومن خلال تسجيل استجابات الصراصير لمنبهات الكمبيوتر المحدد توقيتها بدقة، تمكنا من وصف مدى تقدم أحد الصراصير أو تأخره في الصرير التالي اعتمادا على مرحلة دورته الطبيعية التي يسمع فيها «الصرصور» الآخر، الذي هو في هذه الحالة جهاز الكمبيوتر (من الواضح أنه من السهل خداع الصراصير).
لكن ذلك كان الجزء السهل؛ فالموقف الذي خططنا له كان اصطناعيا على نحو مذهل؛ صرصور واحد في حجيرة عازلة للصوت يصدر صريرا في عزلة، مع حث عرضي من جهاز كمبيوتر لم يكن حتى يستمع للصرصور في المقابل. ما كان ذلك ليحدث في العالم الحقيقي أبدا؛ فالصراصير لا تستمع وتستجيب بعضها لبعض فحسب، بل من الطبيعي أيضا أن يوجد الكثير من الصراصير في أي شجيرة أو شجرة، وجميعها تفعل الأمر نفسه. السؤال الذي أفكر فيه هو: من كان يستمع لمن؟ بالتأكيد، ليس هناك صرصور رئيسي يلقن الآخرين جميعا. لكن إذا لم يكن الأمر كذلك، فكيف إذن تمكنت الصراصير من تحقيق المزامنة على هذا النحو البارع؟ هل يستمع كل صرصور للصراصير الأخرى جميعها، أم لصرصور واحد فقط، أم ربما لعدد قليل فحسب؟ ما البنية التي تتسم بها جميع الصراصير، إن كانت هناك بنية أساسا؟ وهل لها أهمية بالفعل؟
لم أكن معتادا آنذاك على رؤية الشبكات في كل مكان أنظر إليه، لكن مع ذلك طرأت على ذهني فكرة أن نموذج التفاعلات - «طوبولوجيا الارتباط» بلغة نظرية المذبذبات - يمكن النظر إليه كنوع من الشبكات. فكرت أيضا أن بنية الشبكة يمكن أن تؤثر على قدرة مجموعة من الأفراد على المزامنة، ومن ثم قد يكون من المهم فهمها ككيان مستقل بذاته. ومن خلال التفكير كأي طالب بالدارسات العليا، افترضت أن مسألة طوبولوجيا الارتباط واضحة، ومن ثم فالإجابة معروفة منذ فترة طويلة، وكل ما يجب علي فعله هو البحث عنها، لكن بدلا من التوصل إلى إجابة، كان كل ما توصلت إليه هو المزيد من الأسئلة. لم يقتصر الأمر على عدم البحث مطلقا في العلاقة بين بنية الشبكة وتزامن المذبذبات فحسب، لكن من الواضح أنه لم يبذل أي شخص جهدا كبيرا في التفكير في العلاقة بين الشبكات وأي نوع من الديناميكيات، بل يبدو أنه لم ينتبه أحد قط للسؤال الأكثر أهمية المتعلق بنوع الشبكات الموجودة بالفعل في العالم الحقيقي، على الأقل بين علماء الرياضيات، وبدأ يتضح لي أنني توصلت إلى ما يأمل أي طالب بالدراسات العليا في العثور عليه؛ ألا وهو ثغرة حقيقية في العلم، أو باب غير معروف مفتوح بقدر يسير، أو فرصة لاستكشاف العالم بأسلوب جديد.
تذكرت آنذاك أمرا كان قد أخبرني به والدي منذ عام في مكالمة هاتفية مساء أحد أيام الجمعة، سألني والدي - لسبب ما لا يتذكره أي منا: هل سمعت عن فكرة أن أحدا لا يبتعد «عن الرئيس أكثر من ست درجات»؟ بمعنى أنك تعرف شخصا ما، وهذا الشخص يعرف شخصا آخر، وهلم جرا إلى أن تصل إلى شخص يعرف رئيس الولايات المتحدة الأمريكية. لم أكن قد سمعت عن هذه الفكرة، وأذكر أنني أخذت أحاول تخيل كيف يمكن أن يكون ذلك ممكنا أثناء استقلالي الحافلة ما بين إيثاكا وروشستر. لم أحقق أي تقدم ذلك اليوم أو منذ ذلك الحين، لكنني أتذكر أنني فكرت في المسألة كشبكة علاقات بين أفراد، كل فرد له دائرة من المعارف - شبكة من الجيران - الذين لهم معارف بدورهم، وهكذا، بما يشكل نموذجا متشابكا عاما من روابط الصداقة والعمل والعائلة والمجتمع، يمكن من خلاله تتبع المسارات التي تربط بين أي شخص عشوائي وأي شخص آخر. وأرى الآن أن طول هذه المسارات قد يكون له علاقة بالكيفية التي تنتشر من خلالها التأثيرات - سواء أكانت أمراضا أم شائعات أم أفكارا أم اضطرابات اجتماعية - بين مجموعة من البشر، وإذا كانت سمة «الدرجات الست» تنطبق أيضا على الشبكات غير البشرية، مثل المذبذبات البيولوجية مثلا، فقد يكون من المهم فهم ظواهر معينة مثل المزامنة.
بدت فجأة الخرافة الحضرية الغريبة التي أخبرني بها أبي شديدة الأهمية، وقررت أن أسبر أغوارها، وبعد عدة أعوام، كنا لا نزال عند النقطة نفسها، كانت الثغرة، حسبما اتضح، عميقة للغاية ولن تستكشف وتستبين بوضوح إلا بعد مرور العديد من الأعوام، لكننا حققنا بالفعل بعض التقدم المرضي، وعرفنا أيضا الكثير عن مسألة الدرجات الست، التي لا تمثل خرافة حضرية على الإطلاق، وإنما مشروعا بحثيا اجتماعيا منطقيا ذا تاريخ زاخر. (5) مسألة العالم الصغير
في عام 1967 أجرى عالم النفس الاجتماعي ستانلي ميلجرام تجربة استثنائية، كان ميلجرام مهتما بفرضية لم يكن قد بت فيها بعد، وكانت تنتشر آنذاك في الأوساط الاجتماعية، تمثلت هذه الفرضية في أن العالم، عند النظر إليه كشبكة ضخمة من المعارف الاجتماعية، يعد «صغيرا» نوعا ما؛ بمعنى أن أي شخص في العالم يمكن الوصول إليه من خلال شبكة من الأصدقاء في بضع خطوات فقط. عرفت هذه المسألة باسم «مسألة العالم الصغير» نسبة إلى المزحة المتداولة في الحفلات عندما يكتشف شخصان غريبان أن أحد معارفهما مشترك ويذكر أحدهما الآخر كم أن «العالم صغير» (يحدث لي هذا كثيرا).
في الواقع، ليست هذه الملاحظة التي تذكر في الحفلات مساوية تماما لمسألة العالم الصغير التي كان يبحث فيها ميلجرام، فنسبة صغيرة فقط من الناس في العالم يمكن أن يكون لهم معارف مشتركون، وحقيقة أننا قد نقابلهم مصادفة بانتظام مدهش تتعلق بنزعتنا للانتباه إلى أمور تفاجئنا (ومن ثم المبالغة في تقدير مدى تكرار هذه الأمور) أكثر من تعلقها بالشبكات الاجتماعية. ما أراد ميلجرام توضيحه هو أنه حتى عندما لا أعرف شخصا يعرفك (أي في كل المرات التي نقابل فيها أفرادا ولا ينتهي لقاؤنا بعبارة «يا له من عالم صغير»)، فلا أزال أعرف شخصا يعرف بدوره شخصا آخر يعرف شخصا يعرفك. والسؤال الذي يطرحه ميلجرام هو: كم عدد الأشخاص الذين تتضمنهم هذه السلسلة؟
للإجابة عن هذا السؤال، ابتكر ميلجرام وسيلة مبتكرة لتوصيل الرسائل لا تزال تعرف حتى الآن باسم «طريقة العالم الصغير». أعطى ميلجرام خطابات لبضع مئات من الأفراد اختيروا عشوائيا من بوسطن وأوماها بولاية نبراسكا، كان من المفترض أن ترسل هذه الخطابات إلى فرد واحد مستهدف، وهو سمسار أوراق مالية من شارون بولاية ماساتشوستس، ويعمل في بوسطن. لكن كانت هناك قاعدة غريبة تتعلق بالخطابات، وهي أن مستلميها لا يمكنهم إرسالها إلا إلى شخص يعرفونه معرفة وثيقة، وبالطبع، إذا كان المستلم يعرف الشخص المستهدف، فيمكنه إرسال الخطاب إليه مباشرة، لكن في حال عدم معرفته به، وكانت تلك المعرفة أمرا غير محتمل إلى حد بعيد، كان عليه إرسال الخطاب إلى شخص يعرفه ويعتقد أنه أقرب نوعا ما من الشخص المستهدف.
अज्ञात पृष्ठ