إهداء
تصدير الطبعة الثانية
1 - الشكل الدال
2 - الموقف الإستطيقي
3 - الفن معرفة وكشف
4 - الفن الحديث
5 - المحاكاة والتمثيل
6 - الشكل في العمل الأدبي
7 - شمول الشكل
8 - الفرضية الميتافيزيقية
9 - الفن والأخلاق
10 - الفن: مقاربات نثرية
11 - قطوف من كتاب «الفن» لكلايف بل
إهداء
تصدير الطبعة الثانية
1 - الشكل الدال
2 - الموقف الإستطيقي
3 - الفن معرفة وكشف
4 - الفن الحديث
5 - المحاكاة والتمثيل
6 - الشكل في العمل الأدبي
7 - شمول الشكل
8 - الفرضية الميتافيزيقية
9 - الفن والأخلاق
10 - الفن: مقاربات نثرية
11 - قطوف من كتاب «الفن» لكلايف بل
دلالة الشكل
دلالة الشكل
دراسة في الإستطيقا الشكلية وقراءة في كتاب الفن
تأليف
عادل مصطفى
إهداء
إلى الفنان الكبير الأستاذ عادل إمام،
تضامنا وعرفانا ومحبة.
عادل مصطفى
تصدير الطبعة الثانية
إنما نعيش لنهتدي إلى الجمال، وكل ما خلا ذلك لون من الانتظار.
جبران خليل جبران: النبي
يشملنا هذه الأيام مناخ يضع الفن في موضع دفاع! وربما يزج به إلى ساحات القضاء، ليمثل للمحاكمة مثول المسيح أمام الذين جاء لهدايتهم، ومرد ذلك إلى التباس لفظي أساسي، فقديما طال ارتباط «النغم» ب «المجون»، وارتباط «النحت» ب «الوثن» ... إلخ، حتى صار اللفظان «متعاوضين»
interchangeable ، وأصبح أحدهما يقوم في الذهن مقام الآخر، وبات على الغافل أن يلقي بالاثنين معا، إلقاء الرضيع مع ماء الغسل!
throwing the baby out with the bath water
وقد دفعني ذلك إلى إعادة طباعة هذه الدراسة الموجزة، التي سبق نشرها ببيروت عام 2001 وتقبلها القراء بقبول حسن.
روى الإمام أبو حامد الغزالي في «الإحياء» عن بعض السلف: «من لم يحركه الربيع وأزهاره، والعود وأوتاره؛ فهو فاسد المزاج ليس له علاج.»
الفن ليس حراما وليس جائزا، الفن لازم، والأمة التي تطرح للنقاش، في القرن الحادي والعشرين، مسألة مشروعية الفن هي أمة محمومة تهذي، ويبقى أن نبين ما هو الفن، ولماذا هو لازم لكل إنسان ولكل أمة. وقد توسمت في هذه الدراسة جوابا ما عن هذين السؤالين، رغم أنها دراسة في علم الجمال (الإستطيقا) وقراءة في كتاب «الفن» لكلايف بل؛ ذلك أننا لو علمنا ما هو الفن، ومم يتكون، وإلام يرمي، وكيف يتلقى؛ لأدركنا من فورنا لماذا هو ضرورة في ذاته وبمعزل عن أي عوارض ثانوية وعن أي عواقب لاحقة.
الجمال هو ظل الله على الخليقة، والنفس تعرف ذلك بالسليقة وتقول «الله» (بجميع اللغات) كلما صادفت الجمال، والروح ترى «الحق» منعكسا في الرائعة الفنية انعكاس الشمس على وجه القمر، وترى الأبدي في «الأشكال الدالة» كأنها فتوق في الزمن. التلقي الإستطيقي عرفان هائل ولقاء جلل، وإلا لما كان مصحوبا بهذا الانفعال الفريد وهذا الوجد الشديد وهذه النشوة المستبدة. أمر الجمال جد لا يصح أن نسف به أو نبتذله بحديث عن المجون أو الخلاعة أو الانحلال، ونقد الفن لا يكون إلا بلغته وعلى ارتفاعه، فلنصبر على الفن في هذه الحقبة الملتبسة، لنصبر على الرائين وعلى العميان معا، ريثما تسترد الروح شيئا من عافيتها المهدرة، وتعود ترى الفن على وجهه، وتضع أمره في نصابه.
د. عادل مصطفى
27 / 8 / 2012
الفصل الأول
الشكل الدال
Significant Form
أن يقفز المرء ويصيح، ذلك تعبير عن النفس وإن لم يشف غلة، ولكن أدخل فكرة «الشكلية» تجد في الرقص والغناء بهجة مشبعة، الشكل هو الطلسم، وبالشكل تتحول الانفعالات الغامضة والعصية وغير الأرضية إلى شيء محدد ومنطقي ومتجسد فوق الأرض.
كلايف بل (1) معنى الشكل الدال
تبدأ الإستطيقا الشكلية من «واقعة»
fact
محددة، يقينية لا شك فيها، هي أننا (أو أن أصحاب الحساسية
sensibility
منا) ننفعل إزاء أشياء معينة نطلق عليها «الأعمال الفنية»
works of art
انفعالا شديد الخصوصية والتميز نطلق عليه «الانفعال الإستطيقي»
aesthetic emotion ، ورغم أن هذا الانفعال هو خبرة ذاتية شخصية إلا أن ارتباطه بموضوعات عينية من جهة، واتفاقنا الوثيق في حدوثه من جهة أخرى، يجعل منه شأنا واقعيا صلبا ويصبغه بصبغة موضوعية صارمة (لاحظ أن هذه «البينذاتية»
intersubjectivity
هي قصارانا وغايتنا ومبلغنا من «الموضوعية
objectivity » في هذا الوجود الملغز الذي قذفنا فيه، وذلك حتى في الأمور الفيزيائية المحضة).
إننا ننفعل حقا تجاه أشياء متباينة نطلق عليها أعمال «الفن» انفعالا غامرا عميقا نسيج وحده و«فريدا في نوعه»
sui generis
نعرفه جميعا ونعرف «ماذا يشبه أن يكون»
what it is like ، وكلنا إذ يتحدث عن الفن فهو يعكس بذلك تصنيفا ضمنيا مدمجا بذهنه يفرق به بين فئة «الأعمال الفنية» وجميع الفئات الأخرى من الأشياء، مثلما يتحدث عن فئة البشر ويفرق بينها وبين جميع الفئات الأخرى من الكائنات، ومثلما يتحدث عن فئة القطط والكلاب والموائد والكراسي ... إلخ، فما هو المبرر العقلي لهذا التصنيف؟ ما هو «القاسم المشترك»
denominator
بين تلك الأشياء المتباينة التي نطلق عليها «الأعمال الفنية»؟ ما هي الصفة التي تجمع بين اللوحات والسيمفونيات والجرار والقصائد والرقصات والمنحوتات والكاتدرائيات؟ ما هو «المفهوم»
intension
الذي تعد جميع المفردات الفنية الجزئية «ماصدقات»
extension
له؟ ما هي «الخاصة الجوهرية»
essential property
التي بها يكون الشيء عملا فنيا (مهما تبدل عليه من «خواص عرضية»
accidental properies ) وبدونها يكون أي شيء آخر؟ يقول كلايف بل بجسارة وحسم: إنه «الشكل الدال»
Significant Form ، ويعني به في الفنون البصرية تلك التوليفات والتضافرات من الخطوط والألوان، أو تلك الحبكة من الخطوط والألوان، التي من شأنها أن تثير في المشاهد انفعالا إستطيقيا.
وبوسعنا أن نعمم مفهوم الشكل الدال ليشمل الفنون جميعا، فنقول إن الشكل الدال لعمل من أعمال الفن هو ذلك التنظيم الخاص الذي يتخذه «الوسيط الحسي»
medium
لذلك العمل والذي من شأنه أن يثير في المتلقي (الذي يتمتع بالحساسية الفنية ويتخذ «الموقف الإستطيقي») انفعالا إستطيقيا. (2) معنى الوسيط الحسي
الفن نقل الروح عن طريق المادة.
سلفادور دي مادرياجا
لكل عمل فني وجود فيزيائي أو مثول مادي، فالفنان دائما يجسد عمله في مادة معينة أو واسطة ينتقل بها العمل إلى الآخرين، وتتفاوت هذه الواسطة المادية (أو الفيزيائية)
medium
بين فن وآخر، فهي ألوان وخطوط في فن التصوير، وأحجام من حجارة أو خشب أو معادن في فني النحت والعمارة، وأصوات آلات في الموسيقى، وصوت بشري في الغناء، وحركات جسدية في الرقص، وكلمات لغوية في الشعر والدراما، وأضواء ومرئيات وغيرها في السينما، هذه الوسائط الحسية هي خامة الفنان الأولية التي يجبل بها عمله، وهي لغته التي يخاطب بها جمهوره، إنها مادة تنتمي إلى عالم الطبيعة وتخضع لقوانين الطبيعة؛ ومن ثم فهي تملي على الفنان شروطها، وتتحكم في حريته وإمكانات تعبيره، فمن شأن مادة الخشب أو الرخام مثلا أن ترمي بالفنان في عالم يختلف عن عالم الزيوت والماء والقماش، وتفرض عليه قوانين غير قوانين الصوت أو الحركة، وعلى الفنان أن يذعن لقوانين المادة ويفي بمتطلباتها، وهو ما عبر عنه كثير من الفنانين واتخذوه شعارا لهم: «احترم مادتك
respect your medium ».
1
ولعل طريق الإبداع الفني هو قصة حب طويلة بين الفنان ومادته، مليئة بالصراع والولوع، والترويض والتمرد، والقسوة والحنان، والجفاء والألفة بين المصور والألوان، بين الشاعر والكلمات، بين الموسيقى والنغمات، بين الراقص وجسمه، بين المطرب وصوته، إنه عشق أبدي، وزواج كاثوليكي، إنه الحب الأول والأخير لدى الفنان الحق، أما شئون الحياة وشجونها، وأما القضايا والمشاهدات والملهمات، فما هي في حقيقة الأمر وصميمه إلا وسيلة إلى الفن وحجة وذريعة!
والحق أن الفنان في نهاية المطاف وآخر الجدل ليس هو الشخص العميق الفكر، ولا هو الشخص المشبوب الانفعال ولا الثري التجارب، فكل هذه صفات توجد في أناس بعدد الحصى دون أن تتخايل في أحدهم بارقة فن واحدة، إنما الفنان هو ذلك الشخص الذي «يفكر ويحس من خلال وسيط فني معين، وأيا ما كانت انفعالاته وأفكاره، ملتهبة أو باردة، عميقة أو سطحية، فإنها تتمثل لذهنه متجسدة في وسيطه الخاص.»
2
ويعلم كل مزاول للفن أن العملية الفنية في عامة الأحوال ليست حالة أو فكرة مجردة يبلغ إليها في مرحلة منفصلة ثم يحاول الاهتداء إلى صوب فني يكسوها به في مرحلة ثانية، إنها ملتحمة بالوسيط منذ البداية، وكثيرا ما تكون العملية الفنية هي عملية تنمية لحن أو التوسع في تصميم بصري أو تعقب تركيبة لفظية ورؤية ما تسفر عنه.
تبدي المادة تمردا ومقاومة يعرفها كل فنان، ولا سيما المعماري والمثال، وكأنها تقف حائلا بينه وبين تحقيق الرؤية القابعة في خياله، «روي عن ميكلانجلو أنه كان يصنع تماثيله في سورة من العنف والغضب والهياج، حتى إنه كان يقول لسائليه عن سر هذا الهياج: إنني لأبغض تلك الحجارة التي تفصلني عن تمثالي!»
3
على أنه غضب طفولي أبتر، فالفنان يعرف بالسليقة أن لا نجاة من المادة إلا إليها، الفنان يعرف الوجد، ويعرف أنه لا يجيء إلا كاسيا، إلا متسربلا بالوسيط.
وليست علاقة الفنان بوسيطه الفني دائما علاقة صراع وتوتر، فالمادة ليست قيدا وتحديا على طول المدى، إنها إلهام أيضا وتيسير، فالوسائط المادية غنية بالقيم الترابطية والتعبيرية التي يمكن للفنان أن يستغلها، يروى عن المثال بيلي
R. A. Baillie
قوله: «إنك كلما مضيت قدما في النحت، أوحى إليك الحجر ذاته بتحسينات تدخلها على تخطيطك الأول.»
4
فكل وسيط مادي يمتلك من الخصائص الجمالية والإمكانات التعبيرية ما يلهم الفنان ويشير عليه ويقود انفعاله في مجرى معين ويحقق له ما كان يود أن يحققه، فقد يعثر الموسيقي في نغمة معينة أو في مزاوجة نغمية عفوية على مفتاح سحري إلى أفق موسيقي جديد لم يكن يحلم به، وقد تزور الشاعر لفظة معينة أو اقتران لفظي عابر فيرى فيه تجسدا لما كان يعتلج في صدره زمنا ولا يعرف ما هو، وقد يجد المثال في مادة البرونز المعدنية بقابليتها للصهر والتجويف وخفة وزنها إلهامات إلى طرائق معينة من التجريب والتعبير، بل إن التقنيات الحديثة قد تمد الفنان بوسائط تخليقية غير مبذولة في الطبيعة تمنحه إمكانات تشكيلية لا عهد له بها، فتفتح له طرقا غير مطروقة وتسكره بوعود تعبيرية جديدة، إن المادة تسعف الفنان وتأخذ بيده وتعلمه وترشده. (3) الشكل الدال: مصاعب وحلول
ولست أدري هل الشهامة هي ما منعهم أن يلمحوا «تحصيل حاصل»
5
ناتئا في عرضي للفرضية الإستطيقية، وبوسعي أن أقول إن هذه الوصمة قد أزيلت منذ زمن طويل.
كلايف بل: تصدير الطبعة الثانية من كتاب «الفن»
تعرض مفهوم «الشكل الدال» لانتقادات حادة تريد أن تنال منه الصميم، أخطر هذه الانتقادات هو أن تعريف كلايف بل للشكل الدال تعريف غامض بل فارغ لا ينبئنا بشيء. إنه تضام معين للخطوط والألوان من شأنه أن يثير الانفعال الإستطيقي، ولكن ما هو الانفعال الإستطيقي؟ يقول بل إنه الانفعال الذي يثيره «الشكل الدال»، وبذلك يتبين أن التعريف دائري فاسد، وأن بل يقع في «دور منطقي»
vicious circle
إذ يعرف الشكل الدال بالإحالة إلى الانفعال الإستطيقي بالإحالة إلى الشكل الدال، بينما يبقى كل من مفهومي «الشكل» و«الانفعال» غامضا مستغلقا لا يقدم أي معايير محددة تقربنا إليه.
هل وقع كلايف بل حقا في دور منطقي؟
إنه يعرف الشكل الدال بأنه الشكل الذي يتخذه الوسيط الحسي (تضام الخطوط والألوان في فن التصوير)، والذي يتسبب في إثارة الانفعال الإستطيقي، وبذلك يتضمن التعريف إشارتين؛ الأولى إلى الطرائق أو القوانين التي تنظم اجتماع الخطوط والألوان، وهي قوانين يعترف بل أنها غامضة ملغزة سرية يتولى النقد مهمة الكشف عنها قدر المستطاع، والإشارة الثانية إلى «الانفعال الإستطيقي» الذي فيه جلاء الأمر وفصل الخطاب من الوجهة الإستطيقية، «كل ما يلزم في مبحث الإستطيقا هو أن أثبت فحسب أن الأشكال إذ تنتظم وتجتمع وفقا لقوانين معينة مجهولة وغامضة تحرك مشاعرنا فعلا بطريقة معينة، وأن مهمة الفنان هي أن يجمعها وينظمها بحيث تحرك مشاعرنا.»
6
هذا الانفعال الإستطيقي هو «كيفية»
quality ، شأنه شأن صفة «أحمر» حين نصف بها شيئا من الأشياء، والكيفيات بطبيعتها لا تعرف ولا تقبل البرهان؛ لأننا نعرفها بالحدس - بالإدراك المباشر، إن الانفعال الإستطيقي هو خبرة حقيقية نعرفها حين تقع لنا، ولا نحتاج في تعريفها إلى أي حد آخر، ولئن ربطها بل بالشكل الدال فبوصفه «علة» لها لا «تعريفا».
وإن شئت الدقة فهناك الآن نوع من التعريف المشروع يطلق عليه «التعريف الإشاري»
ostensive definition ، وهو أن أعرف اللفظة عن طريق الإيماء إلى أمثلة فردية أو شواهد فردية، فأعرف الكرسي مثلا بأن أشير إلى كرسي مفرد أو كراسي مفردة، وأعرف اللون الأرجواني بأن أعرض على السامعين شيئا أرجوانيا، وأعرف مذاق الأناناس بأن أذيقهم شيئا حقيقيا منه، وأعرف كلمة قطع بأن أؤدي أمامهم فعل القطع، يعتمد التعريف بالإشارة على فهم السامع وتمثله للسمة المعنية من بين غيرها من السمات، ويكاد ينعقد الاتفاق بين الفلاسفة على استحالة ما يسمى «التعريف الإشاري الخاص»
private ostensive definition ؛ أي أن تشير إلى خبرة داخلية مثل خبرة «الألم» وتقول: «أعني بكلمة ألم هذا الذي أحس به الآن.» إذ ليس بإمكان الآخرين أن يروا أو يحسوا أو يكابدوا بأي شكل من الأشكال ذلك الذي تحاول أن تسميه، كما أن مثل هذه الأوصاف القائمة على التعريف الإشاري الخاص لا تفسر كيف يتأتى لك أن تعلم أن ما تحس به الآن هو ما يسميه الآخرون ألما، وإذا كان بإمكاننا أن نعرف كلمة «أحمر» بالإشارة؛ وذلك بأن نومئ إلى رقاقة حمراء، فلأن هذا تعريف إشاري عام (وبالمناسبة، يبين لنا هذا أن كلمة أحمر يتوجب أن تسم لونا في العالم، أي لونا تحوزه الأشياء، وليس صفة لخبرة خاصة أو داخلية)،
7
والآن إذا رجعنا إلى ما قلناه آنفا من أن «الانفعال الإستطيقي» مرتبط بموضوعات عينية خارجية، ومتفق على حدوثه بين أصحاب الحساسية الفنية، لتبين لنا أن تعريفه الإشاري العام مشروع تماما وكفيل بكسر الحلقة الخبيثة أو الدور المنطقي المزعوم، الخطب أن من عدم الحساسية الإستطيقية لن يجدي معه الحديث في الإستطيقا، وأن القوانين التي تتبطن حبكة الشكل غامضة ملغزة، يصدق فيها قول الأستاذ سعيد عقل: «ما تدري ما تدري، كل ما هنالك أن السحر كان ويبقى موضوع شك.»
8
والتحدي الثاني الذي يواجه مفهوم الشكل الدال هو أن الأعمال الفنية هي من التنوع والتباين بحيث يصعب إدراجها في فئة موحدة والعثور بينها على قاسم مشترك، فليس هناك شيء من قبيل «الفن» بألف لام التعريف، بل هناك «فنون»، وهذه الفنون تختلف فيما بينها اختلافا شديدا يجعلها بمثابة ضروب متباينة من النشاط لا يجمع بينها شيء واحد.
ويذهب أصحاب هذا الرأي إلى أن مفهوم العمل الفني هو «مفهوم تشابه عائلي» (أو أسري)
family resemblance concept ، والتشابه الأسري هو الظاهرة التي كشف عنها فتجنشتين في كتاباته المتأخرة، ومفاده أن الأشياء التي يشير إليها حد
term
من الحدود قد ترتبط معا لا بخاصية مشتركة واحدة بل بشبكة من التشابهات، كشأن الأشخاص الذين تشترك وجوههم في ملامح مميزة لأسرة معينة، وقد أصبح مفهوم التشابه الأسري يعني كل مفهوم يضم مجموعة من الأشياء أو الموضوعات وينطبق عليها لا بفضل سمة فريدة عامة بل لوجود تشابهات بينها عديدة ومتداخلة جزئيا بعضها مع بعض.
ووفقا لهذه الوجهة من الرأي فإن بين الأعمال الفنية بتنوعها الهائل الذي يتعذر اختزاله أوجه تشابه واختلاف تتقاطع مع بعضها البعض بطريقة معقدة، وإن ما يدخل ضمن مقولة الفن يعتمد على أحكام متغيرة على مر التاريخ حول الطريقة التي ينبغي أن نقيم بها هذه التشابهات والاختلافات.
ورغم وجاهة مفهوم التشابه الأسري وانطباقه على الفن، فهو لا ينفي بالضرورة وجود قواسم مشتركة في الوقت نفسه، فلا تزال هناك سمات عامة لافتة يمكن أن تجمع بين الأعمال الفنية جميعا:
فالأعمال الفنية على تباينها الشديد تتحلى جميعا بالشكل الإستطيقي مهما غمض مفهومه.
والأعمال الفنية جميعا تتطلب أن نتخذ إزاءها «الموقف الإستطيقي» أي التقدير المنزه عن الغرض العملي.
وهي جميعا تفضي إلى الانفعال الإستطيقي.
وتعد جميعا مصدرا لصنف خاص من المعرفة.
ليس ثمة تعارض بين هذه السمات العامة، وليس هناك ما يمنع في واقع الأمر من أن تكون جميعا صحيحة، والحق أنها قد تسهم جميعا في تفسير واحد لتلك المكانة الكبيرة التي يحظى بها الفن في حياتنا، وحين اختزل كلايف بل الصفات المشتركة بين الأعمال الفنية في صفة واحدة هي «الشكل الدال» فقد جمع كل هذه الصفات وكثيرا غيرها في صفة واحدة تضمها جميعا وتفعمها بالمغزى وتعلو عليها في الوقت ذاته، وهو ما سيتكشف لنا على مهل خلال الفصول التالية.
الفصل الثاني
الموقف الإستطيقي
Aesthetic Attitude
علمه أن يسدد حبه إلى قلب الأشياء، ويسرح أشواقه في طوايا الحق.
في هذا «العالم الثالث» بتعبير بوبر، العالم الذي برأه الإنسان وخلقه، ألتقي بنفسي الحقيقية، وأعيش عمري الحقيقي، وأعثر على دهشتي المسروقة، ويسمح لي، لدقائق محسوبة، أن ألتقي بدموعي السجينة.
وارني عن اسمي، وإلا رأيته ولم ترني.
النفري (1) الموقف ... وإدراك العالم
إن ما ندركه ونخبره ونحسه لا يتوقف فحسب على ما هو موجود في بيئتها، بل يتوقف أيضا على اهتمامنا وانتباهنا الانتقائيين (بالإضافة إلى قدراتنا الذهنية الخاصة في التأويل والتصنيف)، وقد كانت الفكرة السائدة قديما هي أن الكائنات الإنسانية كائنات تستقبل كل المنبهات البيئية الخارجية بطريقة سلبية آلية ولا تفلت منها أي منبه. ومن الثابت الآن أن هذه الفكرة قاصرة بل مغلوطة ومضللة، فالحق أن «الموقف» الذي نتخذه في حياتنا بصفة عامة وفي كل لحظة آنية بصفة خاصة يتحكم في طريقة إدراكنا للعالم وللأشياء من حولنا. و«الموقف»
attitude (الاتجاه) هو طريقة في توجيه إدراكنا وضبطه، فنحن لا نلتقط كل شيء في بيئتنا دون تمييز، وإنما نحن «ننتبه»
attend
إلى بعض الأشياء ونركز على بعض السمات بينما نتجاهل غيرها ولا ندركها إلا بطريقة غائمة باهتة أو لا ندركها على الإطلاق. من خصائص الانتباه إذن أنه انتقائي يجتبي ما يعنيه من المنبهات الخارجية ويضرب صفحا عن غيرها، بل ينفي هذا الغير عن ساحة الوعي بطريقة قاطعة وآليات نشطة.
إن الأغراض التي نضمرها لحظة الإدراك هي التي تتحكم في تحديد ما نختاره لكي ننتبه إليه، فأفعالنا هي دائما غرضية تتجه نحو هدف ما؛ ولذا فإنه عندما تكون للأفراد أغراض مختلفة فإنهم يدركون العالم على أنحاء مختلفة، بحيث يقر أحدهم أمورا معينة يتجاهلها غيره أو ينكرها، ذلك أن الاهتمام أو الموقف هو الذي يرشد الانتباه في اتجاهات ذات صلة، ويهيئ الكائن إلى أن يسلك بطريقة فعالة، ويحجب في الوقت نفسه تلك المنبهات التي لا تتصل بغرضه وربما تشتت جهوده وتبددها، فالطالب الذي يستغرق في حل مسألة رياضية، على سبيل المثال، يولي كل اهتمامه إلى العناصر المتصلة بهذه المسألة، ويصرف انتباهه بشكل حاسم عن كل منبهات البيئة ولا يكاد يدرك منها شيئا، بل إن الموقف الفكري والأيديولوجي ليتحكم في طريقة الإصغاء إلى الأشياء وهيئتها المدركة، ويشحن الانتباه في اتجاهات معينة ويصرفه عن المضي في اتجاهات أخرى. (2) الموقف العملي والاقتصاد الإدراكي
نخلص من ذلك إلى أننا في حياتنا اليومية المعتادة نتخذ دائما موقف «الإدراك العملي»، فلا ندرك الأشياء إلا بوصفها وسيلة إلى غاية أو غرض يتجاوز تجربة الإدراك ذاتها؛ ومن ثم فنحن نجتزئ بإدراك ما يكفي لإنجاز الغرض العملي؛ فقد علمتنا الحياة العملية أن «نقتصد» في الإدراك، وننظر إلى الأشياء والأشخاص بالقدر الذي يكفي لتمييزهم، وكأننا في الحقيقة لا نرى الأشياء ذاتها بل نقرأ بطاقات الأشياء لنعرف على الفور كيف نسلك إزاءها، أو ننظر إلى الشيء لنرى فيه «النمط»
type
لا «النسخة»
token (بتعبير اللسانيات الحديثة). يقول كلايف بل: «لقد اخترع هذه البطاقات المفيدة أناس عمليون من أجل أغراض عملية، والبلية هي أن العمليين من الناس بعد أن يكتسبوا عادة تمييز البطاقات يميلون إلى أن يفقدوا القدرة على الانفعال، وبما أن الطريقة الوحيدة لبلوغ الشيء في ذاته هي الشعور بدلالته الانفعالية، فإنهم سرعان ما يبدءون في فقد حسهم بالواقع.»
1
هذا «الاقتصاد الإدراكي»، أو عادة قراءة بطاقات الأشياء، هو أمر مفيد ولا بد منه لادخار الطاقة وحفظ الحياة، وقد قيل يوما: إن الذئب الفنان يموت جوعا! وتأويل ذلك أنه سيظل يتأمل الشاة (ويتغذى بانفعاله الإستطيقي) ولن ينقض عليها أبدا، إنه «جمالي متطرف»
aesthete
يسرف في إدراكه ويخلط المقولات
2
ويفشل في «عزل»
3
الفن، ويريد أن يسير الحياة بمقتضيات الفن. «وقد بين روجر فراي أنه من المحال على أغلب البشر أن ينظروا إلى ثور مغير (هاجم) كغاية في ذاته، ويسلموا أنفسهم للدلالة الانفعالية لأشكال الثور، فنحن ما نكاد نميز بطاقة «ثور مغير» حتى نهيئ أنفسنا للفرار لا للتأمل، ها هنا تكون عادة تمييز البطاقات مفيدة لنا، إلا أنها تضرنا عندما تحول بين الأشياء وبين استجابتنا الانفعالية لها رغم غياب أي داع للفعل أو العجلة ... إن عادة تمييز البطاقة وإغفال الشيء، والرؤية الفكرية بدلا من الرؤية الانفعالية؛ هي علة ذلك العمى المذهل، أو بالأحرى تلك الضحالة البصرية، لمعظم الراشدين المتحضرين، فنحن لا ننسى ما حرك شعورنا، ولكن ما اجتزأنا بتمييزه ولم نزد فهو لا يخلف في ذهننا أثرا عميقا.»
4
مساوئ الموقف العملي
ذلك هو الموقف العملي، أما «الموقف الإستطيقي» فهو الموقف الذي نتخذه من شيء ما عندما نهتم به دون باعث من المنافع العملية، فنوليه اهتماما «منزها عن الغرض»
disinterested
ونتأمله من أجل ذاته فحسب، فإذا كانت العادة تغطي عالمنا بقشرة من الرتابة وتذهب بماويته وبهائه وتغشي على موضع الدهش منه، فإن الفن اختراق إلى باطن الحياة وقراءة في قلب الواقع وامتداد بملكات الإدراك ، وإذا كانت الحياة العملية «تقلص رؤيتنا وتضع على أعيننا غمائم كي لا نتلفت ولا ننظر إلا في الاتجاه الذي تفرضه ضرورات العمل.»
5
فإن الفن سراح للعين والخاطر، وهجرة إلى الواقع النهائي.
يرى السوقة أن الفنان رجل ذاهل جدا، لأنه متيقظ جدا لما نحن ذاهلون عنه، إننا نبتذل الوجود ونسطحه، ونشيح عنه كأننا سنزوره ألف مرة، فلا ننظر الأشياء ذاتها بل نقرأ بطاقاتها، ونرى إليها بعين الغرض فلا نرى غير تصنيفاتها التي أعدتها لنا سلفا ثقافتنا المحلية، إننا ننظرها باللغة، واللغة تطمس الفروق وتسرق «فردية» الأشياء وتحيلها إلى فئات عامة وأنماط كلية، ينصب «اللفظ» وجهه بيننا وبين «الشيء» فيحجبه عنا، فلا نرى منه غير الاسم والغرض (وإلا لكنا جميعا رسامين ومثالين).
ولا تكتفي الألفاظ بأن تقف حائلا بيننا وبين الأشياء، بل تقف أيضا حائلا بيننا وبين أنفسنا! إن مشاعرنا وانفعالاتنا الذاتية لتفلت هي أيضا من قبضتنا، فنحن لا نعرفها على وجه التحديد - لا نلمس تعاريجها الدقيقة ولا نسبر أعماقها الغائرة ولا نتبين قسماتها الفردية وملامحها الشخصية، ولا ندرك منها إلا جانبها التقريبي غير الشخصي ووجهها العام الشائع الذي تسنى للغة أن تلتقطه وتسجله (وإلا لكنا جميعا شعراء وروائيين وموسيقيين).
إن الحياة العملية، كما يقول برجسون، تلقي بنا في عالم نفعي يقوم على بعض الرموز والدلالات العامة، من شأنها أن تسلب منا فردية الأشياء وفرديتنا، وينقضي وجودنا في منطقة محصورة ضيقة لا هي بالذات ولا هي بالعالم الخارجي، بل هي - على وجه التحديد - منطقة متوسطة بيننا وبين الأشياء، هي منطقة التعامل مع الواقع، يقول برجسون: «لقد عملت المصادفات السعيدة على ظهور أناس تبدو حواسهم وشعورهم أقل التحاما بالحياة، وكأن الطبيعة قد نسيت أن تربط ملكة الإدراك الحسي عندهم بملكة الفعل والتصرف، وهؤلاء حينما ينظرون إلى شيء فإنهم لا يرونه لأنفسهم، بل لنفسه هو! وهم لا يدركون لمجرد العمل والتصرف، بل يدركون للإدراك ذاته، أعني لغير ما غاية، اللهم إلا المتعة وحدها، وهم يولدون منفصلين - في جانب من جوانبهم، سواء أكان هذا الجانب هو إحدى الحواس أم هو الشعور نفسه - عن الواقع أو الحقيقة الخارجية، وبالتالي فإنهم يولدون مصورين أو مثالين أو موسيقيين أو شعراء.»
6
الفصل الثالث
الفن معرفة وكشف
قليلة هي الأشياء الهامة التي تقبل البرهان، فالأشياء الهامة إنما يتوجب أن يحس بها ويعبر عنها.
كلايف بل (1) لذة أم معرفة؟
تأتي الخبرة الإستطيقية دائما مصحوبة بصنف معين من اللذة، غير أن اللذة ليس كل شيء في الخبرة الإستطيقية، بل إن هناك اتجاها عارما في العصر الحديث نحو تعريف الفن في حدود «المعنى» و«الدلالة»، بدلا من اختزاله إلى خبرة تبعث اللذة أو تشبع الحواس، فالفن أخطر من اللذة، ومهمة الفنان أجل من مجرد «تجهيز لذات»، لقد صرنا نجد لدى عامة الجمهور انصرافا عن القيم الفنية الرفيعة، وصرنا نجد لدى كبار الفنانين اتجاها قويا نحو إدخال عناصر «التنافر»
dissonance
و«القبح» في أعمالهم، وربما عمد الفنان الحديث إلى أن تكون لوحاته مزعجة واستفزازية، وأن تكون موجعة مقلقة منغصة بدلا من أن تكون جميلة رائقة تسر الناظرين، مما يؤدي إلى المفارقة الحديثة التالية: «أنا أحب لوحات الفنان س؛ لأنها مقلقة للغاية.» أو «أنا أحب روايات الكاتب ص؛ لأنها شديدة الإزعاج.»
تقول سوزان لانجر في كتابها القيم «الفلسفة بمفتاح جديد»: إن الفن العظيم ليس مجرد لذة حسية مباشرة، وإلا لوجد استجابة مرضية لدى العامة قبل الخاصة، وليس من شك في أن الكثير من اتجاهات الفن المعاصر قد أصبحت شاهدا واضحا على قلة اهتمام الفنانين بتقديم أشكال سارة أو نماذج جميلة، مما يضعف حجة القائلين بأن الفن هو مجرد متعة أو لذة، فإذا أضفنا إلى ذلك أننا نشهد اليوم اهتماما منطقيا وسيكولوجيا كبيرا بمفهوم الرمز، مع ما يقترن به من دراسة للوسائط التعبيرية وطرق ترجمة الأفكار أو المعاني، أمكننا أن ندرك كيف أن فلسفة الفن الجديدة لم تعد تستطيع الاستغناء عن مفهوم «الشكل الدال» (أو الصورة ذات المعنى)
Significant Form .
1
إن الإنسان، كما بين إرنست كاسيرر
E. Cassirer ، هو حيوان رامز قبل كل شيء، أي حيوان يصنع الرموز ويعيش في عالم من الرموز، والفن هو مظهر من مظاهر حضارة الإنسان إلى جانب الأسطورة والدين واللغة والتاريخ والعلم. وليست الرموز البشرية مجرد مجموعة من العلامات التي تشير إلى بعض المعاني أو الأفكار أو التصورات، بل هي شبكة معقدة من الأشكال التي تعبر عن مشاعر الإنسان وانفعالاته وأهوائه ومعتقداته، «إن فطرة الإنسان أوسع من دائرة العقل الخالص.» ومكانة الفن في مضمار الحياة الإنسانية إنما ترجع إلى كونه لغة من اللغات الرمزية العديدة التي حاول الإنسان أن يصطنعها في فهمه للعالم،
2
فالفن ليس مجرد تكرار لحقيقة جاهزة أو ترديد لواقع قائم سلفا، بل هو كشف لحقيقة جديدة وتعبير عنها بلغة رمزية.
والفن شكل قبل كل شيء، والأثر الفني هو أثر فني لأنه شكل كلي متسق مع نفسه وقابل للإدراك، وكأنما هو موجود طبيعي له وحدته العضوية واكتفاؤه الذاتي وحقيقته الفردية، فليس العمل الفني تعليقا على شيء يمتد فيما وراءه في صميم العالم، ولا قرينة تذكرنا بأشياء أخرى قائمة في الواقع الخارجي، إنما الآثار الفنية «رموز» تنطوي على معان، لا مجرد «علامات» تدل على أشياء، والتعبير الفني ليس مجرد استجابة لموقف حاضر أو لمؤثر واقعي، بل هو «شكل رمزي» يوسع من دائرة معرفتنا ويمتد بها إلى ما وراء مجال خبرتنا الواقعية أو دائرة تجربتنا الحالية. (2) الفرق بين الرمز والعلامة
سبق لهيجل أن ميز بين الرمز والعلامة، فقال إن العلاقة التي تربط العلامة الحقيقية بالشيء الذي تدل عليه هي علاقة «اعتباطية»
arbitrary
3
لا ضرورة فيها، أما في حالة الرمز فالأمر مختلف تماما؛ فالأسد مثلا يستخدم كرمز للشهامة، والثعلب كرمز للمكر، والدائرة كرمز للخلود، غير أن الأسد والثعلب فيهما الصفات التي من المفروض أن يعبرا عن معناها، وهكذا ففي حالة الرمز على اختلاف أنواعه يحتوي الموضوع الخارجي في ذاته ومنذ البدء على المعنى الذي استخدم لتمثيله، فهو ليس علامة اعتباطية ولا يستعمل كيفما اتفق، بل هو علامة تتضمن في شكلها الخارجي ذاته مضمون التمثل الذي تظهره.
وقد أكد دي سوسير فكرة اعتباطية العلامة ورسخها ترسيخا نهائيا، وبين أن «الرمز» ليس اعتباطيا تماما؛ فهو ليس فارغا بل هناك جذر رابطة طبيعية فيه بين الدال والمدلول؛ فرمز العدالة - الميزان - لا يمكن استبداله اعتباطا بأي رمز آخر - كالعربة مثلا.
4
وأسهب طودوروف في بيان الفرق بين العلامة والرمز، أما سوزان لانجر فقد ميزت تمييزا واضحا بين الرموز والعلامات، فذهبت إلى أن «العلامة»
signs (مثل ألفاظ اللغة وإشارات المرور ... إلخ) هي شيء نعمل بمقتضاه أو وسيلة لخدمة الفعل، وأن علاقتها بمعناها علامة اتفاقية غير ضرورية، فهي مستقلة عن معناها، تشير أو تحيل إليه ثم لا يعدو شأوها أكثر من ذلك، أما «الرمز»
symbol (مثل الأسد والصليب وغصن الزيتون والميزان ... إلخ) فهو أداة ذهنية أو مظهر من مظاهر فعالية العقل البشري، إنه شكل كلي مستقل بذاته ملتحم بمعناه لا يحيل إلى أي شيء خارجه، وبهذا المعنى تكون الآثار الفنية رموزا حقيقية تنطوي على معان أو دلالات؛ فالعمل الفني هو لغة رمزية تنقل إلينا عيانا مباشرا وتحمل تعبيرا حيا وتحيطنا علما بحقيقة وجدانية. والوظيفة الأولى للفن هي تحويل الوجدان إلى حقيقة موضوعية ماثلة بحيث يكون بوسعنا أن نتأمله ونفهمه، والوجدان الذي يعبر عنه العمل الفني وجدان مباشر لا ينفصل عن العمل، شأنه في ذلك شأن المعنى الكامن في المجاز الحقيقي، أو القيمة الماثلة في الأسطورة؛ ومن ثم فنحن لا نتحدث عادة عن الوجدان الذي يعنيه العمل الفني ويشير إليه، بل نتحدث عن الوجدان الكامن في العمل الفني كحالة باطنة في أعماقه.
5 (3) الحقيقة الفنية
الفن إذن أداة من أدوات الكشف عن الحقيقة، ووسيلة رمزية للمعرفة، والرسالة التي يبثها إلينا الفن أعمق من أن تكون لذة حسية عابرة أو متعة جمالية زائلة، فالعمل الفني لغة رمزية لها معنى ودلالة، ويبدو أن اللذة الإستطيقية هي شيء قريب من الإشباع أو الرضا الذي يقترن عادة بعملية الكشف عن الحقيقة، وليس من المستبعد تماما أن تكون اللذة مجرد «نتاج ثانوي»
byproduct
للكشف أو «ظاهرة مصاحبة»
epiphenomenon ، فكما أن العلم يكشف لنا بعض مضامين العالم وينقلها إلى مجال المعرفة الموضوعية، فإن الفن يقوم بدور مماثل ، ولكن في مجال المضمون الوجداني للعالم، إن حدود اللغة ليست هي الحدود النهائية للتجربة، والأشياء التي لا تقوى اللغة على التعبير عنها قد تملك صورها الخاصة القابلة للتصور؛ نظرا لما تنطوي عليه من إشارات رمزية خاصة.
ومجمل القول: إن العمل الفني يكشف عن «حقيقة فنية»، والحقيقة الفنية في رأي سوزان لانجر هي صدق الرمز في التعبير عن أشكال الوجدان، وهي في ذلك تقترب من رأي الأستاذ ت. م. جرين
T. M. Greene
الذي دافع بشدة عن فكرة «الحقيقة الفنية»، وجعل للفن مهمة معرفية شأن العلم والفلسفة، وذهب إلى أن الفنان يكمل العلم عن طريق كشفه لحقائق لا يستطيع العلم التوصل إليها أبدا.
يرى جرين أن العمل الفني يمكن أن يكون صحيحا أو باطلا بالمعنى نفسه الذي تكون به القضية العلمية صحيحة أو باطلة، ويخضع لمعيار «الاتساق»
cosistency
و«التطابق» (التناظر)
correspondence
شأنه شأن قضايا العلم، وتأويل ذلك، عند جرين، أن القضايا تنقل المعاني والحقائق عن طريق «وسيط»
medium
معين يتيح الاتصال بين ذات وأخرى، وليس من الضروري أن يكون هذا الوسيط لفظيا تصوريا، فمن الممكن أن نجد قضايا (أي نجد ما يذهب الفنان إلى أنه صواب أو حق في موضوعه) في وسائط كالتصوير والموسيقى ... إلخ، إن الفن يعبر عن قضايا حقيقية يقول بها على طريقته ما لا يمكن للعلم أن يقوله.
وما دام الفن يقدم معرفة حقيقية - ويقول (يقرر) قضايا حقيقية، فهو من ثم خاضع لمعياري الاتساق والتطابق، على طريقته أيضا، والاتساق في العمل الفني هو أن يستغل العمل إمكانات الوسيط الحسي ويحترم مبادئ المعالجة الخاصة بقالبه الفني، وأن تخلو قضاياه التي يعبر عنها من التناقض فيما بينها ومن المزج الاعتباطي بين أساليب متباينة، وأن يكون في مجموعه كلا متكاملا وتعليقا معقدا متماسكا على موضوعه الذي يعمد إلى التعبير عنه، أما التطابق في العمل الفني فهو، ببساطة، تطابقه مع العالم (الخارجي أو الوجداني) شريطة اتخاذ الإطار المرجعي للفنان، والمثل الذي يضربه جرين هو تصوير سيزان للأشجار، فطريقة معالجة سيزان لهذا الموضوع تؤكد سمات معينة يتجاهلها بقية الفنانين؛ ذلك لأن سيزان يؤكد «صلابتها الثلاثية الأبعاد»، «وفي استطاعتنا أن نذهب مباشرة إلى الطبيعة، ونختبر دقة ملاحظاته المسجلة على أساس اهتمام سيزان المعرفي الخاص، فإذا اختبر الناقد ملاحظات سيزان على هذا النحو، لما تمالك نفسه من الإعجاب بموضوعية بصيرة سيزان، ولأدرك أننا بدورنا نستطيع أن نرى ما رآه سيزان.»
6
ويؤكد هربرت ريد الصبغة المعرفية للفن، ويرى أن الهدف الأسمى للفنان، مثله مثل رجل العلم، إنما هو تقرير حقيقة، فالفن ليس مجرد تجسيم لبعض العواطف كما تقول النظرية التعبيرية، والأعمال الفنية الكبرى في التاريخ لم تكن أعمالا كبرى بفضل مضمونها التعبيري، بل بفضل الحقائق الوجدانية الكلية التي استطاعت أن تجسدها، وهي حقائق موضوعية قابلة للتحقق منها
verifiable
شأنها شان حقائق العلم إلا أنها تتناول المضمون الوجداني للعالم، فالعمل الفني «واقعة» إستطيقية وأثر «واقعي»، وهو بوصفه شكلا مدركا يعد «مقابلا موضوعيا» للانفعال أو الفكرة أو الحدس، وتحققا عينيا لحالة من حالات الشعور، ومن هنا قابليته للتحقق، وآية الصدق في المجال الفني هو دقة الرمز وانضباطه والتحامه التام بمعناه.
إن نقاط الالتقاء لا تخفى بين هربرت ريد وسوزان لانجر وتيودور جرين، وتكاد آراؤهم حول الحقيقة الفنية أن تكون صياغات مختلفة للتصور نفسه، وهي صياغات تتسق مع مذهب بل وفراي برغم الوهم القائل بأن الشكلية تعفي الفن من مئونة «الحقيقة» ما دامت الشكلية تنفي وجود أي ارتباط بين الفن والحياة، يقول كلايف بل في فصل «الفرضية الإستطيقية»: «وربما يذهب بي الظن أحيانا إلى أن مدركي الفن ومدركي الحلول الرياضية قد يكونون أكثر قربا وأوثق صلة حتى من ذلك، فأتساءل: قبل ان يأخذنا انفعال إستطيقي تجاه تجمع من الأشكال، ترانا ندرك بالفكر صواب هذا التجمع وضرورته؟ فإن صح ذلك فهو حري أن يفسر واقعة أننا إذ نمر سراعا خلال غرفة فنحن نميز جودة إحدى اللوحات رغم أننا لا نستطيع أن نقول إنها أثارت فينا انفعالا كبيرا، فيبدو أننا نكون قد تبينا بالفكر صواب الأشكال باللوحة دون أن نتريث لنركز انتباهنا ونقبض على دلالتها الانفعالية كيفما كانت، فإذا كان الأمر كذلك فإن لنا أن نتساءل ما إذا كانت الأشكال ذاتها هي ما أدى إلى الانفعال الإستطيقي أم إدراكنا لصواب الأشكال وضرورتها.»
7
إن الحقيقة الفنية، في واقع الأمر، هي مسألة قتلها بل بحثا وفصلها تفصيلا (انظر فصل «الفرضية الإستطيقية» وفصل «التبسيط والتصميم») وكان مستبقا فيها لآراء المفكرين الثلاثة المذكورين وملهما لهم، غير أن صرامته المنطقية جعلته يفصل بين اليقين والتخمين - بين نطاق الإستطيقا ونطاق الميتافيزيقا.
فليحمل العمل الفني من الحقائق ما وسعه أن يحمل، ولينقل من المعارف ما شاء أن ينقل، فالمعرفة والحقيقة، ككل شيء آخر يعبر عنه الفن، لا بد أن ترتبطا ارتباطا وثيقا بالقوام الحسي والعرض الشكلي للعمل، إن الفن لن ينافس العلم في مضماره، إنما تلح الشكلية على أن يكون الفن فنا - أي شكلا دالا - كيما يتسنى له أن يقبض على الحقيقة التي يعجز العلم عن القبض عليها.
الفصل الرابع
الفن الحديث
إنها لأبصار ثاقبة حقا تلك التي استطاعت أن تلمح قبل بزوغ القرن الجديد أن سيزان قد أسس حركة.
كلايف بل
إن بومة منرفا لا تبدأ في التحليق إلا عندما يحل الغسق.
هيجل
يعد الاتجاه الشكلي في الإستطيقا بمثابة تأصيل نظري للفن الحديث، فالإبداع دائما سابق على التأمل النظري، والعمل الفني الأصيل هو قانون نفسه ومشرع ذاته، فهو يخلق نظريته ولا تخلقه النظرية، ونحن في الأغلب الأعم لا نفهم الأحداث إلا استعادة
in retrospect ، ولا نعي ما جرى إلا بعد أن يتم ويكتمل ويبهظ، ويكاد يفقأ عين كل أوديب منا، إنها بومة منرفا لا تشرع في تحليقها إلا بعد انقضاء النهار، أو هي «الحكمة» لا تنعم بحضورها إلا «بعد الحفل»
post-festum . (1) الانطباعية
Impressionism
كان الفن في أواسط القرن التاسع عشر في سبات أقرب إلى الاحتضار، وكان الشطر الأكبر من اللوحات الفنية يهدف إلى المحاكاة الأمينة والترديد الحرفي للمرئيات الطبيعية الجميلة؛ لشخصيات مليحة، وشواطئ ساحرة، ومناظر ريفية خلابة.
في قلب هذا الركود بزغت حركة قلقة مقلقة تنم على حيوية جديدة، هي حركة «الانطباعيين» الفرنسيين، أما اللفظة «انطباعية» فقد أطلقها النقاد على مجموعة من المصورين كان مونيه
Monet
فارسها الأشهر، وهي مأخوذة من عنوان لوحة رسمها مونيه عام 1872 وسماها «انطباع» كناية عن مشهد لشروق الشمس. وتمثل اللوحة شمس مدينة «الهافر» وهي تشرق وسط ضباب المدينة البحرية، ومن خلال الانعكاسات الضوئية وبعض الزوارق. كذلك يمكن تأريخ بداية الانطباعية بالوقت الذي أقيم فيه «معرض الفنانين المرفوضين»
Salon des Refusés
الذي أذن الإمبراطور نابليون الثالث بفتحه عام 1863، حيث عرض «إدوار مانيه»
E. Manet
ثلاث لوحات ضخمة أهمها لوحته الشهيرة (الغداء على الخضرة)
Déjeuner sur l’Herbe
التي أثارت ثائرة الجمهور ضده.
لم يجد عامة الجمهور في لوحة مانيه سوى صورة فتاة متجردة تجلس إلى جوار شابين كاملي الملابس، بينما جعلت صديقتها المتشحة برداء أبيض شفاف تغسل قدميها في غدير صاف ينساب بين الأشجار، ولكن يبدو أن مانيه - كما لاحظ إميل زولا - لم يكن يعلق على «موضوع اللوحة» كل تلك الأهمية التي اعتاد الجمهور أن يعلقها، فإن «الموضوع»
subject matter
لم يكن بالنسبة له أكثر من حجة أو «ذريعة»
pretext
للقيام ببعض الدراسات الفنية، أما الجمهور فلم يكن يرى من أية لوحة غير «موضوعها». كذلك لم يقدم مانيه في لوحته شخصيات تاريخية مستعارة من لوحات الأقدمين، بل صور فيها شخصيات باريسية حية مستمدة من صميم بيئته، ولم يسبغ على فتاته العارية ذلك الطهر السحري المثالي الذي اعتاد المصورون أن يسبغوه، بل صورها بصورة الأنثى التقليدية، كما أن مانيه رسم الأشكال في تلك اللوحة بطريقة الانتقال المفاجئ من الضوء إلى الظل، مستهينا بالأسلوب التقليدي في التصوير وهو الانتقال التدريجي في تجسيم الأشكال.
1
كانت تلك بدايات حيية ومفاتحات مترددة سرعان ما تبلورت في حركة واضحة وكسبت أنصارا عديدين، كان هؤلاء يولون موضوع اللوحة أهمية ضئيلة ويجعلون هدفهم هو الوصول إلى تأثير اللون والضوء والظل في موضوعات تجربتنا البصرية، وإذ انصب اهتمامهم على مظهر الضوء واللون في العالم فقد ركزوا انتباههم على السطوح الخارجية للأشياء، وقللوا من تكتل الموضوعات المصورة وصلابتها. إن انعكاس الشيء في الرسم هو عندهم حقيقة لا تقل عن حقيقة الشيء المعكوس نفسه؛ فالرؤية يجب أن تكون جديدة طازجة، والاتصال بالأشياء يجب أن يكون ملامسة حية للمعطيات الحسية في واقعها المباشر وحضورها الآني.
لقد أعاد الانطباعيون تعليم الناس كيف ينظرون إلى الأشياء من جديد، كما عملوا على صرفهم عن تعاليم فنية كثيرة. تخلى الانطباعيون عن مهمة إعادة بناء الماضي، وعن التآليف المجازية، وعن التخيلات الرمزية،
2
وأصبح يقال: «الانطباعية إنما تثير الإحساس عوضا عن إثارة المخيلة.» إن الرموز، على حد قول كلايف بل، ليست أشكالا دالة في عامة الأحوال، بل ناقلات خبر شكلية، والرموز لا يبثها انفعال الفنان بل يخترعها فكره. إنها مادة ميتة في كائن عضوي حي، وهي جاسئة مغلقة؛ لأنها غير مغمورة في إيقاع «التصميم»
design . وليست الأساطير الشارحة، التي اعتاد رسامو الصور التوضيحية أن يضعوها على أفواه شخصياتهم، بأدخل على الفن البصري من الأشكال الرمزية التي أفسد بها كثير من الرسامين القديرين تصاميمهم. «إن الفن الرمزي المحض - الفن الذي يحتاج إلى مفتاح - ما هو دائما إلا باب لخزانة، في حين أن الفن العظيم مصراع مشرع على التجربة العظيمة.»
3 (2) سيزان: ما بعد الانطباعية
غير أن تركيز الانطباعيين على السطوح الخارجية للأشياء دفعهم إلى الإقلال من تكتل الموضوعات التي يصورونها وصلابتها، مما جعل فنهم يبدو في كثير من الأحيان خافتا مائعا رخوا مفتقرا إلى الشكل والصلابة، وفي قلب هذه البوادر الهدمية للحقيقة الواقعية في ظاهرها ولدت الحاجة إلى إعادة بناء الواقع، وقد تم ذلك على يد سيزان
Cézanne
أبي الفن الحديث. «ينظر إلى بول سيزان (1839-1906) في العادة على أنه أعظم شخصية مؤثرة في الفن الحديث، وربما تشير أعماله إلى ضرب من التوازي مع الحركة الوجودية؛ إذ نرى عنده نهاية للأشكال التقليدية في الفن وخلقا لأشكال جديدة، وهو يمكننا من أن نرى الأشياء بطريقة جديدة، وفي علاقات جديدة ... كان الفن في القرن الثامن عشر فنا عقلانيا منظما، ولقد حاول الفن الرسمي في القرن التاسع عشر عبثا أن يدعم هذا النظام العقلي في مواجهة هجمات الفنانين اللامعين الأصلاء الذين استخدموا الفن بطرق مختلفة للتعبير عن عواطفهم الشخصية أو الإمساك بالجوانب الرواغة من الطبيعة، وكان آخر هؤلاء جميعا رجلا عجوزا غريبا نشيطا، كان يرى وهو يشق طريقه بواسطة تجربة طويلة منعزلة، راجعا إلى نقطة البداية التي ينظر فيها إلى الفن على أنه إعادة تنظيم مؤكدة للعالم الطبيعي.»
4
أسس سيزان حركة بنائية أعادت للتصوير صلابته ومتانة بنيانه، واستخدم اللون من أجل التعبير عن «ثقل» الأشياء أو تكتلها، ولا يقل عن هذا أهمية ذلك العمق الكبير الذي اتسمت به لوحاته، وهكذا نراه يستطيع أن يخلق تجاوبا إيقاعيا بين العلاقات المكانية التي تمتد من وراء مسطح الصورة، فتنتقل عين المشاهد فوق المسطحات المتداخلة للوحة ويشعر نتيجة لذلك بالحركة والتوتر، هذه العلاقات «التشكيلية» بين الكتل المصورة تؤلف جزءا من معنى «الشكل» عند سيزان.
5
كان سيزان، كما يقول إتيين سوريو، يدعي تأييد الانطباعية وتدعيمها، في حين أنه في الحقيقة كان يؤسس شيئا جديدا كليا، فبعد ذلك النوع من صهر الانطباعية للأشكال وتمييعها، برزت نزعة تجسد الحنين إلى بنية الأشكال، لقد جعل سيزان محور اهتمامه التنظيم الشكلي للعناصر التصويرية: الخط واللون والمسطح؛ أي جعل التصوير تصويرا، وأهاب بما هو فريد في التصوير، وما لا يمكن إدراكه على أي نحو آخر، مما جعله يلجأ إلى تحريف متعمد للشيء الطبيعي ويتخلى عن المحاكاة الحرفية ويقلل من أهمية الموضوع، ويولي أهمية خاصة للخطوط والألوان بمعزل عن وظيفتها التمثيلية. إن الفن، بعد كل شيء، عالم قائم بذاته، لا يتكئ إلى الحياة وليس مسئولا أمامها، بل إن له أهدافه وقيمه الخاصة، وكلما تخلص الفن من آثار المحاكاة ومن أوضار «التمثيل»
representation
زادت قيمته خلوصا ونقاء بوصفه فنا، وهو مما يستدعي بشدة قول «موريس دنيس» المأثور «يجب أن نتذكر أن لوحة ما، قبل أن تكون ممثلة لجواد حربي، ولامرأة عارية، أو لأي موضوع آخر، إنما هي في جوهرها مساحة مسطحة مغطاة بألوان مجموعة على نسق معين.»
وبعد حلول القرن العشرين اتجه الفنانون إلى استبعاد جميع آثار «التمثيل»؛ فالقيم التشكيلية واللونية للتصوير يمكن أن تستغل على أكمل نحو عندما لا يكون العمل مضطرا إلى اهتمام بمشابهة الواقع، وفي عام 1907 أتم بيكاسو لوحته الشهيرة «صبايا أفينيون» التي اعتبرت ثورة في فن التصوير واستبصارا جديدا بالواقع، وانبثقت عنها الحركة «التكعيبية»
cubism ، كانت الدراسات التمهيدية التي قام بها بيكاسو قبل إنجاز اللوحة نهائيا تلخص تطور هذه الثورة؛ ففي البداية كان المقصود من العمل أن يكون تمثيليا، بل كان له شيء من الدلالة الأخلاقية، وفي الدراسات التالية أخذ البناء الشكلي للعمل يزداد أهمية، حتى انتهى الأمر إلى حذف العنصر الأخلاقي لصالح تكوين يتألف من هيئة شكلية خالصة، تزداد بالتدريج، أثناء تطورها، تجريدا وانتزاعا للقوام الإنساني، وفي العمل النهائي انقسمت الوجوه والأجسام إلى تصميمات من الزوايا والمسطحات.
وبالمثل فإن الألوان في أجزاء الجسم كانت في كثير من الأحيان بعيدة كل البعد عن أية مشابهة مع الحياة، كانت هذه اللوحة إرهاصا بالحركة التكعيبية التي أوغلت في التجريد وجعلت تحلل الموضوعات الطبيعية إلى تصميمات للسطوح، بطريقة تبلغ في كثير من الأحيان من الابتعاد عن الواقع حدا لا نستطيع معه أن نعرف ما هو الأنموذج
model
إلا عن طريق عنوان اللوحة، غير أن هذا أمر لا أهمية له، وكما يقول ليجيه
léger «إن السؤال: ما الذي يمثله هذا؟ هو سؤال لا معنى له.» والمهم في الأمر هو خلق تصميم هندسي يتميز في صميمه بأنه يجذب العين ويأسرها، وأخيرا تم التخلي عن أية علاقة ولو واهية بالواقع؛ ففي الفن «اللاموضوعي» مثل فن كاندينسكي
Kandinsky
وموندريان
Mondrian
و«التفوقيين»
Superematists
لا يوجد موضوع للتصوير على الإطلاق؛ فاللوحة إنما هي تشكيل من الخطوط الملونة والأقواس وغيرها من الأشكال، وهي لا تصور أشياء أو أشخاصا، ومن هنا كان الفنان يضع لها عناوين مثل «خط محوري» أو «تكوين بالأبيض والأسود والأحمر»، يقول كاندينسكي: «إن الفنان يحرر نفسه من الموضوع؛ لأن الموضوع يحول بينه وبين التعبير عن نفسه بالوسائل التصويرية الخالصة وحدها.»
6
الفصل الخامس
المحاكاة والتمثيل
ما كان الفن فنا إلا لأنه ليس بالطبيعة.
جوته
إن قيمة الصنف الرفيع من الفن لا تتمثل في قدرته على أن يصبح جزءا من الحياة العادية، بل في قدرته على أن يخرج بنا منها.
كلايف بل
ما سرني أنني حكيت إنسانا.
1
حديث شريف
في كتابه البعيد الأثر «الشعر»
، عرف أرسطو التراجيديا بأنها «محاكاة»
mimesis
لشخصيات معينة أو أفعال بشرية معينة، فقد لاحظ أرسطو أن الناس يمتعها أن تقلد وأن تشاهد تقليدات ناجحة، ومنذ ذلك الحين أصبح عامة الجمهور يعتقدون أن الوظيفة الرئيسية للفن هي محاكاة الواقع، وأصبح تصور الفنان في ذهن الناس هو ذلك الشخص الذي لديه القدرة على محاكاة الواقع؛ أي صنع نسخ طبق الأصل لما يجري بالحياة، ويبلغ الفن ذروته في نظرهم إذا استطاع أن يوهمنا أنه واقع، وهو ما لاحظه الكاتب الروماني بليني عن الرسام زيوكسيس الذي «رسم صورة لعناقيد عنب بلغت من الحذق في التمثيل مبلغا جعل العصافير تسف لكي تأكل من كروم اللوحة.»
2
وهو أيضا ما أفضى به ليوناردو دافنشي بصريح العبارة حين قال «إن أعظم تصوير هو الأقرب إلى الشيء المصور.»
وما يزال العامة في كل مكان يثنون على الأعمال الفنية لأنها شبيهة بالحياة أو «واقعية»، وما يزالون يعتبرون الفن مرآة للطبيعة، ويرون اللوحات الفنية وسيلة «إيهام»
illusion
يصطنعها المصورون حتى يجعلوا الناظر يتوهم أنه يرى الطبيعة نفسها حين لا يكون أمامه سوى مسطح من الألوان والخطوط والأشكال، وخلال تاريخ الفن بذلت جهود كبيرة لاستحداث أساليب تزيد من قوة التشابه مع الواقع؛ ففي عصر النهضة المتقدم، على سبيل المثال، كرس قدر كبير من التصوير للتغلب على مشكلات المنظور، بحيث يمكن تحقيق الشكل ذي الأبعاد الثلاثة على قماش ذي بعدين، وفي القرن التاسع عشر، عندما كانت هذه المشكلات قد حلت إلى حد بعيد، بذلت جهود كبيرة في حركة الانطباعية من أجل التعبير بدقة عن تألق الضوء على السطوح الملونة.
3 (1) محاكاة الكلي
من الجدير بالذكر أن المحاكاة التي نادى بها أرسطو تختلف اختلافا بعيدا عن «المحاكاة البسيطة» التي تنسب (خطأ) إلى أفلاطون،
4
إن المحاكاة عند أرسطو هي محاكاة انتقائية خلاقة، تعبر عن «الكلي» بحق في التجربة البشرية ولا تكتفي بالترديد الحرفي للمجرى المألوف للتجربة، فليس من مهمة الشاعر، في رأي أرسطو، أن يروي ما حدث، فالشعر أقرب إلى الروح الفلسفية من التاريخ وأرفع منه؛ إذ إن الشعر يتجه إلى التعبير عن الكلي، بينما التاريخ يعبر عن الجزئي؛ فالتراجيديا مثلا لا تكتفي بأن تكشف لنا عما يحدث لأوديب، ذلك الإنسان الجزئي أو الخاص، وإنما تبين ما يمكن أن يحدث لأي فرد له نفس الشخصية ويوجد في نفس الظروف أيا ما كان زمانه ومكانه؛ إذ إن علاقة العلة والمعلول التي تكمن من وراء حياة الإنسان هي في أساسها واحدة، ومن هنا فإن الدراما تكشف عن حقيقة من حقائق الحياة تتسم بأنها أعم وأعمق من السيرة التي تسرد حياة يوم بيوم.
وقد توسع مفكرون لاحقون في فكرة المحاكاة الأرسطية، وطوروها إلى ما يمكن أن يسمى «محاكاة الماهيات»
imitation of essences ، ومن أبرزهم الدكتور صموئيل جونسون الذي رأى أن أهم ما يميز شكسبير هو أنه يصور الكلي أو العام في التجربة الإنسانية، وأن أشخاصه يسلكون ويتكلمون بتأثير تلك الانفعالات والمبادئ العامة التي تحرك الأذهان جميعا، ومن أبرزهم في مجال الفنون البصرية السير جوشوا رينولدز
J. Reynolds
الذي يقول إن جمال الفن وعظمته ينحصران في قدرته على تجاوز جميع الصور الفردية والعادات المحلية وشتى أنواع التفاصيل والجزئيات؛ فالفنان الذي يعرف الطابع العام للأشجار على سبيل المثال يستطيع بخطوط قليلة مقتصدة بارعة أن يقدم صورة تخطيطية نشعر أمامها أنه قد توصل إلى «ماهية» الشجر ذاته أو نفذ إلى كيانه الباطن. (2) التصوير الوصفي
Descriptive Painting
إذا كان الفن، وفقا لنظرية «المحاكاة البسيطة»، نسخا للواقع، فأي جدوى تعود علينا من الحصول على نسخ ولدينا الأصل طوع يدنا؟! «التطابق أو التشابه ليس شأنا إبداعيا، فما الفائدة من رسم المظهر الخارجي لتفاحة مثلا حتى بأقصى دقة ممكنة - كما تساءل ماتيس مرة؟ ما الفائدة من نسخ شيء تقدمه الطبيعة بكميات غير محدودة؟»
5
يقول أرسطو: إن الناس تجد متعة في رؤية الشبيه لأن في الاستدلال والتعرف على الأنموذج متعة، غير أن بل والشكليين يرون أن متعة التعرف ليست متعة إستطيقية.
يقول بل: «كلنا نألف لوحات تثير اهتمامنا وإعجابنا دون أن تهزنا كأعمال فنية، تحت هذه الفئة يندرج ما أسميه «التصوير الوصفي»، أي ذلك الصنف من التصوير الذي يستخدم فيه الشكل لا كموضوع للانفعال بل كوسيلة لنقل معلومات واقتراح عواطف، في هذا التصنيف تدخل البورتريهات ذات القيمة السيكولوجية والتاريخية، وتدخل الأعمال الطوبوغرافية واللوحات التي تروي حكايات وتوحي بمواقف، وتدخل وسائل الإيضاح بجميع أنواعه. إن الفرق واضح لنا جميعا، فمن منا لم يتفق له يوما أن يقول إن هذه أو تلك من اللوحات هي رسم ممتاز كوسيلة إيضاح ولكنه لا قيمة له كعمل فني؟ هناك بالطبع كثير من اللوحات الوصفية التي تتحلى بذلك، إنها تروقنا وتطرفنا وقد تحركنا بمائة طريقة متنوعة عدا أن تحركنا إستطيقيا، إنها وفقا لفرضيتي ليست أعمالا فنية، فهي لا تمس انفعالاتنا الإستطيقية؛ ذلك لأن ما ينالنا منها ليس الشكل، بل الأفكار التي يقترحها الشكل أو المعلومات التي ينقلها.»
6
حين يكون اهتمام المتلقي منصرفا إلى التعلم أو الاستدلال أو التعرف فإن إدراكه لا يقع على العمل الفني ككل، وإنما يقع على «موضوعه» فقط، أي على الشيء الذي يمثله العمل، حينئذ تكون أي صورة فوتوغرافية تافهة أوفى بالغرض من أي لوحة عظيمة، وبنفس القياس تكون الأعمال الوصفية التي لا هم لها إلا التمثيل الدقيق عبثا لا طائل منه، و«إهدارا لساعات رجال ذوي براعة من الأجدى أن يستخدموا في أعمال أوسع نفعا.» إن الطبيعة والفن، كما يقول بيكاسو، هما ظاهرتان مختلفتان تمام الاختلاف، ولو كان الفن مجرد تمثيل أمين للطبيعة لكان، على حد تعبير شارل لالو، بطانة تافهة لا طائل تحتها، فالطبيعة في حقيقة الأمر لا تبالي بالجميل ولا تكترث بالجمال، لأنها عديمة الصبغة الجمالية
anaesthetic ، مثلما هي عديمة الصبغة المنطقية
alogical
وعديمة الصبغة الأخلاقية
amoral ، إنما الفن عالم آخر مستقل نوعيا عن العالم الخارجي، ولا سبيل إلى رده إلى عالم الواقع، إنه عالم إنساني منبثق عن ذهن الإنسان ونشاطه الخالق، إنه إبداع بشري خالص غير ملزم بترديد الحقيقة الموضوعية أو نسخ الوجود الخارجي، وقد نبهنا أندريه مالرو إلى أن «الغرب وحده هو الذي ظن أن التشابه
resemblance
عامل جوهري في الفن، وأما في إفريقيا وجزر المحيط الهادي فقد بقي «التقليد» مجهولا، فضلا عن أننا نلاحظ أن المحاكاة لم تتخذ صورتها المعروفة عندنا في كل من مصر وبلاد ما بين النهرين وبيزنطة وبلدان الشرق الأقصى.»
7 «ليست الطبيعة وفقا لهذا المنظور الفني موضوع محاكاة ونقل وتقليد، وإنما هي على العكس موضوع تأمل واستبصار وكشف، وقد أعطيت اللغة الفنية للمبدعين لا لكي يكرروا العالم ويسجنوه في صوره الظاهرة المعروفة، وإنما لكي يحرروه ولكي يبقوه في حركيته الداخلية - في ما لا ينتهي، ولكي يظهروه باستمرار في صور جديدة.»
8
يقول ألكسندر إليوت في كتابه «البصر والبصيرة»
sight and insight : «قال الملاك لمحمد إذا أراد الفنانون أن ينعموا ببركة الله فليمسكوا عن النقل عن كل شيء؛ ولذا فإن قصر الحمراء تجريدي بحت، باستثناء الأسود الشرقية السحنة في الفناء الأوسط.»
9 «الإنسان، بوصفه ناطقا، هو بطبيعته منشئ، لا يقلد (لا يحاكي): لا الإنسان ولا الطبيعة (الأشياء)، وإنما يرى إلى كل شيء، بوصفه ناطقا منشئا - أي بوصفه بادئا، مبدعا، أن نفصح عن شيء ما، تشكيليا - أن نصوره، هو أن نقدم صورة تغاير صورته العينية الظاهرة؛ هو أن «نقلب» صورته، فالحس فنيا بالأشياء لا يبدأ إلا بنشوء مسافة بينه وبين واقعها الظاهر المباشر، بهذا المعنى، حصرا، لا يمكن الفن أن يكون «واقعيا»، بل تبدو كلمة «واقعي» تناقضية وعبثية - ذلك أن الفن هو حيث لا دليل على الشبه، إنه «نار بلا دخان»، صحيح من الممكن أن ننقل الظاهر بنوع من الصناعة والعلم، لكن هذا النقل لن يكون فنا، وإنما سيكون «صناعة» و«علما».»
10
يؤكد بل دائما على أن التذوق الفني الصحيح ينبغي أن يقع على الشكل، وها هنا يكون العنصر «التمثيلي»
representational
سلاحا ذا حدين: فقد يكون - خاصة في التصميمات المعقدة - بمثابة مفتاح يرشدنا إلى طبيعة التصميم ويمهد السبيل لانفعالاتنا الإستطيقية، ولكنه من الجهة الأخرى يجب أن يكون مدمجا في التصميم كي لا يفسد اللوحة بوصفها عملا فنيا؛ فالحق أن التصميم الجميل المكون من أشكال واقعية معرض بدرجة كبيرة لخطر التدني الإستطيقي؛ إذ يستلفت عنصره التمثيلي نظرنا على الفور فتفوتنا دلالته الشكلية. إن علينا حيال اللوحات التي تمثل أناسا أو أشياء من الواقع «أن نعاملهم كأنهم لا يمثلون أي شيء» وأن ننظر إليهم على أنهم أنموذج من الخطوط والكتل والألوان.
يقول كلايف بل «أود ألا يتصور أحد أن «التمثيل» شيء سيئ في ذاته؛ فليس هناك ما يمنع أن يكون شكل واقعي ما، وهو منتظم في مكانه كجزء من التصميم، مضاهيا في الدلالة لشكل آخر تجريدي، ولكن إذا كان لشكل تمثيلي قيمة فبوصفه شكلا لا بوصفه تمثيلا، فالعنصر التمثيلي في العمل الفني قد يضر وقد لا يضر، ولكنه دائما خارج عن الموضوع؛ ذلك أننا لكي ندرك عملا من أعمال الفن لا نحتاج إلى أن نأتي معنا بشيء من الحياة، أو بمعرفة بأفكارها وشئونها أو بألف لانفعالاتها، فالفن ينتشلنا من عالم الدأب البشري إلى عالم الوجد الإستطيقي، ونحن في اللحظة الإستطيقية تنقطع أسبابنا بالاهتمامات البشرية، وتتوقف تطلعاتنا وذكرياتنا؛ إذ يعلو بنا الفن فوق تيار الحياة»
11 ... إن تمييز التطابق بين أشكال العمل الفني والأشكال المألوفة في الحياة لا يمكن أن يثير انفعالا إستطيقيا البتة، فليس غير «الشكل الدال» ما يقوى على ذلك، وليس ما يمنع بطبيعة الحال أن تكون الأشكال الواقعية دالة إستطيقيا وأن يخلق منها الفنان عملا رائعا. غير أن ما يعنينا منها عندئذ هو قيمتها الإستطيقية لا قيمتها المعرفية، فبإمكان العنصر المعرفي أو التمثيلي في العمل الفني أن يكون مفيدا كوسيلة إلى إدراك العلاقات الشكلية وليس بأي طريقة أخرى.
هكذا نرى أن التمثيل ليس خارجا عن الموضوع فحسب، بل هو عبء على الموضوع وخطر متربص بالشكل، وهو ضار في أغلب الأحوال، ولا يصبح مفيدا إلا إذا اقتصر دوره على أن يكون مفتاحا متروكا في العمل نفتح به - حين تعوزنا الخبرة الذوقية الكاملة - بابا خلفيا إلى عالم الشكل الدال، ولا يكون مفيدا ما لم يكن مدمجا ومستوعبا في الشكل، أما أن تستلفتنا «المشابهة» وتصرف انتباهنا عن العلاقات الشكلية فنحن بنفس الدرجة نكون قد أدرنا ظهورنا لعالم الفن وطفقنا راجعين إلى عالم الحياة. (3) الموسيقى فن الشكل الخالص
من العسير على المرء إذن أن يدخل محراب الفن الحديث دون أن يخلع عاداته الإدراكية القديمة وتوقعاته المعهودة من الفن، فتذوق الفن الحديث يستلزم تربية عادات إدراكية جديدة، وربما تكون حالة تذوق الموسيقى - فن الصورة الخالصة - مثالا واضحا لما نريد تبيانه، إن الموسيقى لا تمثل شيئا من عالم الطبيعة؛ وذلك لأن وسيطها الحسي، وهو الأنغام والإيقاعات والتوافقات، لا يتيح لها أن تحاكي شيئا من عالم الحياة، إنها عالم قائم بذاته مكتف بها، وجمال القطعة الموسيقية، كما يقول إدوارد هانسليك
E. Hanslick ، هو «جمال موسيقي» على التخصيص، أي أنه يكمن في توليفات الأصوات الموسيقية، ويستقل تماما عن جميع الأفكار الدخيلة الخارجة عن نطاق الموسيقى؛ ومن ثم يتعين أن يقع التذوق الموسيقي على الشكل وحده.
إلا أن المستمع غير المدرب يلجأ في عامة الأحوال إلى تصور قصة معينة في القطعة الموسيقية، أو تلمس انفعالات بشرية معتادة، وفي هذا يقول كلايف بل واصفا حالته الذهنية الشخصية إزاء الموسيقى: «ضجرا كنت أو محيرا فإنني أدع إحساسي بالشكل يفلت مني، وأفشل في فهم التآلفات الهارمونية فأظل أنسج بها أفكار الحياة، وأعجز عن الشعور بالانفعالات الصارمة للفن، فأظل أقرأ في الأشكال الموسيقية عواطف بشرية من رعب وغموض وحب وكراهية، وأنفق اللحظات - مستمتعا إلى حد مرض - في عالم من المشاعر الآسنة المتدنية ... إنني أدري تماما ما الذي حدث: لقد كنت أتخذ الفن سبيلا إلى انفعالات الحياة أقرأ فيه أفكار الحياة. لقد كنت أقطع جلاميد صخر بموسى حلاقة، لقد ترديت من الذرى العالية للوجد الإستطيقي إلى السفوح الحميمة للحياة البشرية الدافئة.»
12 (4) الحياة حياة والفن فن
مهما تكن علاقته بالحياة فالفن غير الحياة، صحيح أنه ينبثق عن الإنسان ويشطأ من تربة الحياة، إلا أنه - شأن كل كيان «انبثاقي»
emergent - مستقل عن منشئه مغاير لأصله ولا يمكن «رده» إلى عناصره الأولى، فلو كان الفن مجرد رهافة حسية إنسانية وتوقد وجداني حياتي لكانت أي فتاة مراهقة نزقة هي أشعر الناس، ولو كان الفن مجرد تأثر بالطبيعة أو بأحداث الحياة لانتفت الحياة التي نراها جميعا من أن المدرسة الأولى للفنانين هي مدرسة الفن لا مدرسة الحياة، وأن نقطة البداية في حياتهم هي التأثر بأعمال غيرهم من الفنانين العظام لا التأثر بمناظر العالم الخارجي، وهي المشاركة في عالم الفن لا المشاركة في عالم الطبيعة.
الفن فن والحياة حياة، ومن يتعامل مع الفن بمنطق الحياة أو يقيسه بمعايير الحياة يقع في مغالطة «خلط المقولات» أو ما صار يسمى «الخطأ المقولي»
category mistake ، شأنه شأن من يقول «الأعداد الحمراء» أو «الفضائل البدينة» أو «القضايا غير القابلة للأكل»! إن فعله عبث لا جدوى منه، وقوله خطل لا تجدر مناقشته، إنه، على حد تعبير بل: «يقطع جلاميد صخر بموسى حلاقة» أو «يستخدم تلسكوبا لقراءة جريدة.»
الفن عالم قائم بنفسه شأن عالم الرياضيات أو عالم الوجد الصوفي، «إن عالم الرياضيات المستغرق في دراساته يعرف حالة شبيهة إن لم تكن مطابقة، فهو يشعر إزاء تأملاته بانفعال لا ينجم عن أي علاقة مدركة بينها وبين حياة البشر، بل ينبع، غير بشري أو فوق بشري - من قلب عالم مجرد.» والإدراك الفني الصحيح يتجه إلى الأثر الفني باعتباره «ذاتا» أخرى ينعتها ب «أنت» لا ب «هو»! إن العمل الفني كيان فردي وذات فاعلة مسيطرة، فهو أشبه بما يسميه سارتر «موجودا لذاته»
pour soi
وليس مجرد «موجود في ذاته»
en soi
شأن غيره من الجمادات والعجماوات؛ ومن ثم فمن الخطأ الفادح أن نحاول فهم الموضوع الإستطيقي بإدخاله في إطاراتنا الذهنية المعتادة؛ فالعمل الفني هو من نفسه بمثابة عالمه الخاص، ولا سبيل إلى فهمه إلا على أرضه، وبلوائحه وشروطه، «ومن شاء أن يحس دلالة الفن فعليه أن يتضع أمامه، أما الذين يرون أن الأهمية الرئيسية للفن والفلسفة هي في علاقتهما بالسلوك أو النفع العملي، أولئك الذين لا يستطيعون أن يقدروا الأشياء كغايات في ذاتها، أو كسبيل مباشر إلى الانفعال على أية حال، فما يكون لهم أن يظفروا من أي شيء بخير ما يمكن أن يمنحه، وأيا ما كان عالم التأمل الإستطيقي فهو ليس عالم المشاغل والأهواء البشرية، إنه عالم لا تسمع فيه لغو الوجود المادي وصخبه، أو تسمعه كمجرد صدق لتوافق آخر أكثر جوهرية.»
13
الفصل السادس
الشكل في العمل الأدبي
لا تعود الكلمات تابعة حصرا للأشياء التي تعبر عنها، بل تعمل لحسابها، تلعب، «تمارس الحب»، كما يقول بريتون.
موريس بلانشو
يمثل الأدب صعوبة خاصة أمام الشكليين؛ فالوسيط الفني في حالة الأدب - أي الكلمات - هو بطبيعته «تمثيلي»
representative
يشير إلى غيره من عناصر الحياة ويحيل إلى سواه من مكونات العالم الخارجي وأحداثه. للكلمات معان تقع خارجها، وهذه المعاني هي ما يهمنا بالدرجة الأساس، فنحن لا نقرأ الرواية لكي نستمتع برؤية كلماتها مرصوفة على الصفحة مثلما نستمتع بمرأى الخطوط في لوحة تجريدية، ولا نستمع إلى القصيدة لكي نطرب لمجرد جرسها الصوتي مثلما نطرب لمقطوعة موسيقية؛ فالألفاظ في عامة الأحوال تصرفنا عن ذاتها وتحيلنا إلى معانيها؛ أي إلى العالم-الحياة.
يقول بل: «إن بوسع الأدب أن يعيش على الأفكار معززا مكرما. فتاريخ فينلي
Finlay
للإمبراطورية البيزنطية، على سبيل المثال، لا يثير انفعالا يذكر، غير أن بوسعنا أن نسلك فينلي في زمرة الأدباء. كذلك الحال بالنسبة لهوبس وممسن وسنت بيف وصموئيل جونسون وأرسطو، فبإمكان الفكر العظيم بغير شعور عظيم أن يصنع أدبا عظيما، وبين أقيم ما لدينا من كتب هناك شطر كبير لا ترجع قيمته إلى خصائصه الانفعالية، وحتى حين يستند العمل العظيم إلى خاصية انفعالية، فإلى أي حد يكون هذا الانفعال إستطيقيا؟ إنني أعرف أن المضمون الفكري والواقعي للشعر العظيم لا يكاد يسهم في دلالته بشيء؛ فالمعنى الحقيقي للكلمات في أغنيات شكسبير، وهي أنقى ما بلغه الشعر في اللغة الإنجليزية، هو في عامة الأحوال إما تافه أو مبتذل:
تعال، تعال إلي أيها الموت
ووارني تحت سروة حزينة
واغربي، اغربي عني أيتها الحياة
فقد قتلتني فتاة قاسية جميلة
هل يمكن أن يكون هناك ما هو أكثر ابتذالا من هذا؟ ... إن موسيقى الشكل هي التي تصنع معجزة الشعر العظيم، فالشاعر يعبر في شكل لفظي عن انفعال لا يتصل بالألفاظ التي وضعها إلا صلة بعيدة.
غير أنه يتصل بها على أية حال، وهو من ثم ليس انفعالا فنيا خالصا. إن الشكل ودلالته ليسا كل ما في الشعر؛ فالشكل والمضمون في الشعر ليسا شيئا واحدا، ورغم أن بعض أغنيات شكسبير تقترب من الفن الخالص، فهي لا تخلو في واقع الأمر من أشابة. إن الشكل في الشعر مثقل بمضمون فكري، وهذا المضمون هو حالة نفسية تمتزج بانفعالات الحياة وتستند إليها؛ ومن هنا يعجز الشعر، رغم ما فيه من مواجد، عن أن ينقلنا إلى تلك الذرى العالية من الغبطة الإستطيقية التي ينقلنا إليها الشكل البصري والموسيقي الخالص بفضل انفصاله عن الحياة البشرية.»
لقد خلص كلايف بل إلى أن الأدب يمثل حالة خاصة من حالات الفن، وأنه لا يمكن أن يكون فنا خالصا، ولا يمكن لتذوقه أن يكون تذوقا نقيا؛ ذلك أن عنصر التمثيل ملازم له كظله، والمضمون الفكري يثقله ويجعله لصيقا بالحياة وأحداثها وانفعالاتها. بل إن صفة «أدبي»
literary
عند أغلب الشكليين كنت تحمل دلالة ازدرائية صريحة حين يوصف بها عمل من أعمال الفن البصري، فهي تعني أن العمل يدلي بأفكار ويوحي بمواقف ويروي قصصا، وهي أمور تنال من نقائه وخلوصه بوصفه فنا. وكان سيزان يحذر الفنانين من الانسياق وراء التأملات الفلسفية والتعبيرات الأدبية القائمة على التجريدات الذهنية؛ فالفن عنده يعني أسلوبا في المعرفة متمايزا عن كل من المعرفة العلمية والمعرفة الفلسفية، والفن عنده يجب أن يتحدث بلغته لا بلغة غيره، ولغة الفن هي الخطوط والألوان والأشكال، يجسم بها الإحساسات والإدراكات بطريقته الخاصة، ويعبر بها عن عمق الحقائق الوجودية التي لا سبيل إلى التعبير عنها بلغة التصورات الذهنية والمفاهيم العلمية.
غير أن الأدب فن عظيم نحس إزاءه بانفعال إستطيقي لا شك فيه، وهو انفعال لا يأتي به، بحكم التعريف، إلا الشكل الدال؛ ومن ثم فقد كان ينبغي على بل ألا يتردد أمام الأدب وألا يؤثر الحذر تجاهه، وأن يمد نظريته لتتسع لفن الأدب بقدر ما اتسعت لفن التصوير، وهذا ما فعله رفيقه فراي الذي أكد أن النظرية الشكلية تسع جميع الفنون؛ فالعمل الفني، أيا كان نوعه، هو بناء شكلي في المقام الأول، ونحن في فن التصوير لا نستجيب للون الواحد منعزلا، وإنما نستجيب للعلاقات القائمة بين جميع الألوان. وبالمثل فإن المهم في التراجيديا ليس الشدة الانفعالية للحوادث المصورة، وإنما الإحساس الحي بحتمية وقوعها. إن للتراجيديا، كما يقول ف. إ. هاليداي
F. E. Halliday
في كتابه «خمسة فنون»، شكلا، فهناك نمط من التوترات ينبثق عن عدد لا حصر له من الحوادث التي تبدو أول الأمر مفتقرة إلى التنظيم والتحدد، ويعمل هذا النمط على دفعنا قدما، وأخيرا يصل إلى النهاية المحتومة، فهل يمكن أن تكون الحوادث المصورة على هذا القدر من الحيوية والتأثير لو لم يكن لها هذا النمط الشكلي؟
ولعل الشكل في فن الشعر أكثر وضوحا وخلوصا مما هو في الرواية والمسرحية، فرغم أن الشعر يستخدم الكلمات ويحمل دائما مضمونا ذهنيا وينطوي على معان عقلية؛ فإن الكلمات في الشعر الرفيع تفقد ثقلها السابق وتتخفف من ماضيها ولا تعود أداة تخدم الفكر وتحيل إلى معان، إنها تنصهر وتكتسب الشكل وتتحول إلى غاية وتأخذ صفة الرمز الملتحم بمعناه، وكأنما الشعر عودة باللغة إلى بدائيتها الأولى، وهو يصطنع من أجل هذه العودة طرائق كثيرة منها الوزن (أو الموسيقى أيا كان نوعها)؛ فالوزن، كما أشار كرورانسوم، هو طريقة لفرض الصورة صوتيا على الانتباه الذي قد ينهمك بدون الوزن في معاني الألفاظ نفسها، وبذلك يخلق الوزن نوعا محببا من التشتيت يجعل من التلقي تجربة جمالية، كما أن للوزن تأثيرا سيمانتيا (دلاليا) هائلا، فهو يضطر الشاعر إلى أن يضحي بدقة الألفاظ الفكرية حتى يسلم له النغم، ويلوي بالتركيب النحوي ليستقيم له العروض، وفي هذه العملية يسترخي المعنى ويتفكك ويحقق الشعر ذاته؛ فيكون لغة بدائية صورية شيئية غامضة، أفضل تسجيلا لكثافة الدنيا وروعتها وحيويتها الوهاجة، ولعل هذا هو السبب في أن الإلهام الذي ينبثق في وعي الشاعر فيعبر عنه بالكلمات لا يكاد يختلف عن الإلهام الذي يأتي المصور والموسيقي فيعبران عنه بالألوان والأنغام، ولعل هذا هو السبب في أن القصيدة تعني دائما أكثر مما تعنيه ترجمتها النثرية في لغة أخرى؛ من حيث إن بناءها الشكلي والموسيقي قد جعل منها «رمزا» لا انفصام فيه بين الشكل ودلالته.
1
ربما يحتمل متذوق الأدب (بوصفه فنا) عبئا كبيرا يفوق ما يحتمله متذوق الفنون الأخرى. إن عليه أن يخلص إدراكه قدر المستطاع من العناصر الخارجة عن الموضوع، وما أكثرها، لكي يقع على الشكل، وعليه ألا يلتمس المعاني والدلالات العقلية منعزلة منفصلة، بل يلتمسها كما تتجسد في الشكل؛ فقد تمده المعاني والدلالات برضا ذهني ومتعة فكرية، غير أنها عاجزة عن أن تمده بالوجد أو النشوة الإستطيقية؛ فالوجد الحقيقي لن يكون في غير الشكل.
يقول الشاعر السوري د. علي أحمد سعيد (أدونيس) في كتابه «سياسة الشعر» بمعرض ذكرياته مع واحد من خيرة شعرائنا العرب: «وحين جاء دوري رغب إلي بإلحاح أن أقرأ ما كتبته عن الحسين (المسرح والمرايا، 1968). مقطوعات صغيرة كتبتها في القاهرة، وتحديدا حول مسجد الحسين، وفي حين أبدى إعجابه الكبير بها، كان فيما يبدو لي يتحفظ إزاء قصائد أرى تشبهها فنيا، وتساءلت: إن كان معجبا بهذه المقطوعات فلماذا لا يعجب بما يشابهها؟ وفي محاولة تفسير هذا التناقض كنت أقول: ثمة نوعان من الإعجاب بعمل شعري ما: الإعجاب الفني الخالص، والإعجاب الانفعالي - التعاطفي،
2
يقول الأول على لذة البناء والإتقان والتناسق، ويقوم الثاني على لذة التذكر والتداعيات والتطابق بين ما في نفس القارئ وما يثيره العمل فيها، وكان إعجابه من النوع الثاني.»
3
أليس هذا قريبا مما يقوله الشكليون من أن الإدراك الإستطيقي النقي يجب أن ينصب على الشكل وحده، وأن الانفعال الإستطيقي شيء لا يقدر على إحداثه إلا الشكل الدال، وأن إهدار الانتباه كله في العناصر التمثيلية والموضوع المصور والمعاني الفكري المنفصلة يفوت علينا الانفعال الإستطيقي ولا يجلب لنا غير الانفعالات العادية للحياة؟ (1) يظل الموضوع خارج القصيدة
ربما يستدعي هذا الحديث إلى ذاكرتنا قول الناقد الكبير أ. س. برادلي
A. C. Bradley «يظل الموضوع خارج القصيدة » ... فالموضوع الذي تدور حوله القصيدة لا يعدو كونه مادة نيئة تخرج بطبيعتها عن نطاق الجمال بمعناه الدقيق، الموضوع ليس هو القصيدة، والموضوع لا يضمن القصيدة، إنما القصيدة هي الموضوع إذ يتحد بالشكل، وليس ما يمنع أن تكتب قصائد عظيمة في موضوعات مسفة، ولنا في ديوان الحسن بن هانئ (أبي نواس) شواهد لا تحصى على ذلك، فقد كتب هذا الشاعر الفذ قصائد غاية في الجودة تدور حول موضوعات غاية في الوضاعة! وتأويل ذلك أن «التمثيل» يتحول في هذه القصائد إلى «تعبير»؛ بحيث ينصرف انتباهنا تماما عن الموضوع، وربما نسيناه كليا؛ إذ يمطرنا ابن هاني بأشكاله الدالة التي تعبر عن انفعاله أدق تعبير وأقومه، وترمي بنا في وجد إستطيقي مؤكد، إننا هنا بإزاء «رموز حقيقية» و«صواب إستطيقي» يغمرنا بانفعال الفن ولا يغمرنا بانفعالات الحياة، ها هنا يتحول اللهو في مصهر الفن إلى جد (كأنما لامس حجر الفلاسفة) وها هنا يتحول العهر في مطهر الفن إلى قداسة.
في عام 1865 قدم مانيه إلى صالون باريس لوحته الشهيرة «أوليمبيا»، وهي تمثل فتاة متجردة قد استلقت على فراشها، وقد ظهرت خلفها زنجية تحمل طاقة هائلة من الورود، وبالطرف الأقصى من الفراش قط أسود صغير قد استبد به الذعر، أضفى مانيه على هذه الفتاة طابع الاستهتار وعلى نظراتها طابع الدعوة الصريحة إلى الفجور والتخلي عن أي وازع من الحياء والطهر، مما أحنق عامة الجمهور وأثار غضبهم، غير أن العديد من نقاد الفن وجدوا في «الأوليمبيا» عملا عظيما، وقال عنها إميل زولا بحق إنها أعظم ما أنتج مانيه؛ ذلك أنها تضع تحت أبصارنا جسدا رقيقا يثير في نفوسنا مشاعر الهيبة والجلال، وكأننا بإزاء جسد روحي قد تطهر من أدرانه فاستحال إلى شيء قدسي له كرامة الموضوع السحري الذي لا يمس، إنه «الفن» وقد أحال نموذجه المفضل فكتورين ميران، على حد قول م. فلورنسون، «إلى صنم أو كاهنة أو مومياء، فهذه اليد السحرية التي تباعدت أصابعها فوق أعلى الساق، وذلك الرباط الأسود الذي يحيط بالرقبة فيفصلها عن باقي أجزاء الجسم، وتلك النظرة الفاحصة التي تحدق في المجهول بكل ثبات واتزان، وذلك البياض الناصع الذي يكسو جسد الغانية، كل هذا يضفي على الأوليمبيا حالة مجيدة من الطهارة والروحانية.»
4
وليس ما يمنع، من الجهة الأخرى، أن يصنع فن هابط حول موضوعات سامية، وأن تكتب قصائد تافهة في موضوعات جليلة؛ ومن أمثلة ذلك ما كان يكتب لثوار الجزائر إبان التحرير، فقد دبجت مئات القصائد في هذا الغرض العظيم، كتبت بشعور صادق وانفعال مشبوب، غير أنها، ببساطة، قصائد تافهة؛ لأنها لم تجد الشكل الدال ولم تتحول إلى «رموز حقيقية»، لقد أمدتنا بمعاني الحياة وانفعالات الحياة، ولكنها لم تمدنا بالشكل الدال ولم تبث فينا انفعالا إستطيقيا وما كان لها أن تفعل، وقد صدق الشاعر نزار قباني حين قال عن هذه القصائد «وددت لو لم تصل هذه المخلوقات الشوهاء إلى ثوار الجزائر فإنهم بدونها بألف خير»، وصفوة القول أن طبيعة ما يتمثل في العمل الفني وقيمته تختلفان تماما عما هما عليه خارج نطاق الفن. (2) يبقى الموضوع خارج القصيدة
وهنا أيضا يلتقي بل وبرادلي على صعيد واحد، وإن كان بل يتحدث في فن التصوير على وجه الخصوص: «على كل فنان أن يختار «مشكلته» الخاصة، وله أن يستمدها من حيثما شاء ما دام قادرا على أن يجعل منها البؤرة لتلك الانفعالات الفنية التي شرع في التعبير عنها، والحافز لتلك الطاقات التي سيحتاج إلى التعبير عنها، وما يجب علينا أن نتذكره هو أن «المشكلة» (موضوع اللوحة في حالة فن التصوير بصفة عامة) أمر غير ذي بال في حد ذاته. إنها لا تعدو أن تكون إحدى وسائل الفنان للتعبير أو الإبداع، وفي أي حالة خاصة قد تكون إحدى المشكلات خيرا من الأخرى كوسيلة، تماما مثلما أن قماشة لوحة أو صنفا من الألوان قد يكون أفضل من غيره، فذاك أمر يتوقف على مزاج الفنان وقد لا ننازعه فيه، ليس «للمشكلة» قيمة بالنسبة لنا، أما بالنسبة للفنان «فالمشكلة» هي الاختبار العامل «للصواب» المطلق: هي المقياس الذي يقيس ضغط البار. إن الفنان يذكي ناره ليجعل المقبض الصغير يدور، وهو يعرف أن آلته لن تتحرك حتى يجعل المؤشر يبلغ العلامة، إنه يتقدم تدريجيا إليها وبواسطتها، غير أنها لا تدير المحرك.»
5 (3) الشعر التجريدي
وقد بلغ التجريد عند أحد الشعراء مبلغا جعل الناقد د. علي أحمد سعيد (أدونيس) يقول فيه: إن شعره «يحيد عن الموضوع، بالمعنى الذي اصطلح عليه، أو لنقل إن «المعنى» وفقا للمصطلح الشائع، ليس بالنسبة إليه شيئا تفصح عنه اللغة، شيئا ماديا موجودا لذاته خارجها، ليست اللغة، بتعبير آخر، وسيلة لنقل شيء منفصل عنها قائم في الطبيعة أو العالم الخارجي ... إنما المعنى في شعره محايث
6
للكلمة، بل هو الكلمة ذاتها؛ إذ ليس لقصيدته موضوع أو مرجع خارجها، وإذا كان لا بد من الكلام على «المعنى» في هذا الشعر، فهو حوار الكلمة مع جارتها، أو هو ما تتهامس به اللغة، إنه نوع من الصلاة تتعالى في أصوات الكلمات
7 ... الشعر هنا، بتعبير آخر، موسيقى: لا يقوم على فكرة محددة واضحة، وإنما يقوم على عناصر تترابط إيقاعيا، في ما يشبه الترابط الهندسي، والقصيدة، إذن، هي هنا إيقاع كلمات ... كأن قصيدته طراز معماري بالكلمات، وحين تدخل إليه تشعر كأنك تدخل هيكلا: تدخل في غلالة من الزمن لكي تعانق جسد الأبدية، ربما نلتمس هنا صحة القول: إن القصيدة شكل، وإن الشكل هو وحده الدال.»
8 «واضح إذن كيف أن هذا الشعر يحيد عن العالم - عالم الأشياء الدبقة العابرة، وكيف أنه حوار بين الكائن والكلام، وكيف أن الدلالة فيه هي ما تتبادله الكلمات من همس حينا، ومن صراخ حينا، ومن صمت حينا.»
9 «في هذا المنظر يتضح معنى التجريد، كمفهوم فني، فهو كبحث عن الجوهر، محاولة لرؤية ما لا يرى، وهو إذن تجاوز للطبيعة وأشكالها، وخلق عالم من الأشكال المحضة، أو هو رد الأشكال كلها إلى جوهرها، إنه تشفيف للمادة، لا يريد منها غير الجوهر، الأشياء المادية فوضى تشوش وزوال، رماد مبعثر، من هذا الرماد يلتقط التجريد إشارة النار، فمشروعه بصيري لا بصري، إنه مشروع اكتناه.»
10 «نحو ما لا يرى: تلك هي طريق التجريد، الطريق إلى الله، لا مجال، إذن، لمحاكاة الطبيعية أو مخلوقات الله، فهذه المحاكاة هي، إبداعيا، انخراط في رؤية تظل، مهما كملت، دون الأشياء وتحتها،
11
وهي، دينيا، عمل يغلب النفس (الأمارة بالسوء) على الروح، والفردي على الكوني، والمادة على الرمز، ولئن كان لا بد هنا من الكلام على المحاكاة، فإنها محاكاة لفعل الخلق، دلالة وحركية، وليست محاكاة للشيء أو للمخلوق.»
12 «هكذا نصفه بأنه شعر - هندسة: شكل جميل بذاته ولذاته، وهو، في جماليته هذه، فعال ودال - مع أنه لا يعكس «واقعا» ولا يحمل «قضية»، والكتابة هنا ليست ترويضا للغة وحسب، شأن الترويض الذي يمارس على الخطوط، وإنما هي أيضا إرادة تنظيم وتناغم، إرادة تشكيل جمالي، والقصيدة هنا بنية/نسق، إنها العلم بالجمال، إنها علم جمال.»
13 (4) تصنيف سوريو للفنون
يصنف إتيين سوريو
E. Souriau
الفنون وفقا للكيفيات الحسية الغالبة في الأعمال الفنية والتي يسميها
qualia ، فاللون مثلا هو الصفة الغالبة على التصوير، والبروز أو الحجم هو الصفة الغالبة في النحت، والحركة في الرقص، والصوت الخالص في الموسيقى، وقد خلص سوريو إلى حصر سبع كفيات أساسية هي الخطوط والأحجام والألوان والإضاءة والحركة والأصوات المفسرة في اللغة والأصوات الموسيقية الخالصة، وعلى أساس كل كيفية من هذه الكيفيات قدم سوريو فنين اثنين أحدهما ينتمي لفئة الفنون المحاكية أو التمثيلية والآخر ينتمي لفئة الفنون التجريدية أو الموسيقية؛ أي أنه سلم ضمنيا، ولمتطلبات مذهبه في الفنون، بهذه التفرقة بين فنون تحاكي أو تمثل موضوعا وفنونا تجريدية لا تمثل شيئا، واستخرج ارتباطا قائما على أساس الكيفيات الحسية بين أزواج من الفنون التمثيلية والفنون غير التمثيلية:
فبالنسبة للخطوط هناك فن تجريدي هو الزخرفة (الأرابسك) وفن تمثيلي هو الرسم.
وبالنسبة للأحجام هناك العمارة (فن تجريدي) والنحت (فن تمثيلي).
وبالنسبة للألوان هناك تلوين خاص (تجريدي) وتصوير ملون (تمثيلي).
وبالنسبة للإضاءة هناك إضاءة إسقاط ضوئي (تجريدي) وسينما (تمثيلي).
وبالنسبة للحركة هناك الرقص (تجريدي) والتمثيل الصامت (تمثيلي).
وبالنسبة لأصوات اللغة هناك قواعد النظم (تجريدي) وهناك الأدب والشعر (تمثيلي).
وبالنسبة للأصوات الموسيقية هناك الموسيقى (تجريدي) والموسيقى الدرامية أو الوصفية (تمثيلي).
ولست أعني حين أعرض تصنيف سوريو للفنون أنه التصنيف الأفضل أو الصحيح، وإنما أعرضه لأنه يحصر الفنون بطريقة تفي بغرضي وتفيدني في تبيان ما أريد تبيانه، لقد حصر سوريو الفنون جميعا وفقا لمقولتي «التمثيل»
representation
و«التجريد»
abstraction
اللتين تتعلقان بالضرورة بمقولة ثالثة هي مقولة «الكيفية» وهي قريبة حتى التطابق مما نعنيه بالوسيط الحسي
medium ، وما أريد أن أقوله هو أننا حتى لو استخدمنا مصطلح سوريو تبقى الشكلية نظرية صائبة ويبقى «الشكل الدال» هو القاسم المشترك بين الفنون جميعا، تمثيلية وغير تمثيلية؛ فالفنون التمثيلية نفسها ستكون في النهاية فنونا بما هي شكل لا بما هي تمثيل، وستؤدي إلى الانفعال الإستطيقي بفضل الشكل الدال وحده، والفنون التمثيلية جميعا، وأولها الأدب، هي فنون بقدر ما تندمج عناصرها التمثيلية في شكل دال.
وبتعبير آخر يمكن أن أقول: إنه في جميع الفنون التمثيلية ينبغي أن يتحول العنصر التمثيلي ذاته إلى وسيط حسي آخر! أقترح أن نسميه «وسيط الدرجة الثانية»
second-order medium ، يصاغ في شكل دال، ذلك الشكل الذي سيقع عليه الإدراك الإستطيقي، والذي سيسبغ على العمل قيمته الجمالية، فإذا كانت الفنون بطبيعتها هي إما فنون تمثيلية وإما فنون تجريدية، ففي جميع الأحوال لن يكون الفن فنا إلا بالشكل الدال.
هذه إذن صياغة أخرى للنظرية الشكلية تتجنب المصاعب وتسد الثغرات، أطرحها لا كبديل لصياغة بل، وإنما كنموذج إضافي يكملها ويسهل عليها أن توضح اللبس وتصمد لكل الانتقادات القائمة على سوء الفهم أو غموض الألفاظ، وبذلك تبقى الشكلية نظرية وافية تنطبق على جميع الفنون بما فيها فن الأدب؛ فالشكل الدال قاسمها المشترك، كل ما في الأمر أن الوسيط في الفنون التجريدية بسيط وفي الفنون التمثيلية مركب.
الفصل السابع
شمول الشكل
فأشار إلي أنه فطر على ألا يكلم أحدا إلا رمزا.
ابن عربي
الطبيعة هيكل له دعامات حية،
تبث أحيانا أقوالا غامضة،
والإنسان يمر فيها عبر غابات من الرموز،
ترنو إليه بنظرات عائلية أليفة.
بودلير (1) معان متعددة للشكل
للشكل معان متعددة يجب أن نكون متفطنين إليها حتى لا نقع في الخلط كلما عرضت لنا اللفظة في سياق معين.
فقد ترد كلمة «شكل» لتشير إلى «قالب» أو «نمط» معين من التنظيم معروف وتقليدي، مثل قالب السونيت بأنواعه في الشعر الإنجليزي، وقالب القصيدة التقليدية والأرجوزة والموشح في الشعر العربي، ومثل قالب السوناتا والفوجه في الموسيقى، وقالب الدور والمونولوج والموشح والموال والطقطوقة في الغناء العربي، ومثل بحور الشعر ومقامات الموسيقى ... إلخ، هنا تدل كلمة «الشكل» على قوالب مسبقة أو أوعية معدة سلفا لاحتواء الوسيط المستخدم وتوجيهه في وجهة معينة تفرض بالضرورة إمكانات تعبيرية معينة، وغني عن القول أن هذا الصنف من الشكل ألي على حد تعبير كولريدج، وأنه قالب خارجي تحكمي مسبق.
وقد ترد كلمة «شكل» بمعنى شديد العمومية والشمول لتدل على تنظيم عناصر الوسيط المادي التي يتضمنها العمل (الأنغام، الخطوط، الأحجام ... إلخ) وتحقيق الارتباط المتبادل بينها، أي الطريقة التي تتخذها العناصر المادية، أو العلاقات القائمة بينها، في عمل فني بعينه، والشكل بهذا المعنى ليس قالبا مسبقا أو وعاء بل هو أشبه بنسيج العنكبوت الذي يتألف من مواد وينظم هذه المواد، وقد تأتي كلمة «شكل» لتدل على كل هذا بالإضافة إلى عملية تنظيم الدلالة التعبيرية لعناصر الوسيط، ذلك التنظيم الذي يؤدي إلى زيادة الدلالة الفكرية والانفعالية للعمل ويضفي عليه وحدة ويشيع فيه روحا عامة تسوده وتجمع بين أطرافه، إنه الشكل الداخلي العضوي الذي يصدر عن الفنان ويتألف من الانفعال الذي يبثه في العمل ويؤدي إلى نمو العمل وفقا لطبيعته الخاصة وضرورته الباطنة.
في فصل «الإبداع والشكل» من كتابه «الصوفية والسوريالية» يقول أدونيس: «الشكل هو الصورة المحددة للعمل الفني المحدد، وهو إذن محايث أبدا، إنه جسد العمل الفني ... لم يعد الشكل قالبيا: لم يعد ممكنا القول بوجود شكل (أو بحر أو وزن) وجودا مسبقا، جاهزا، مستقلا بذاته، صار الشكل، شعريا، شكلا محددا لعمل شعري محدد، وكما أنه لا نهاية للشعر، فلا نهاية لأشكاله.»
1
وينبغي حين نقوم بتحليل العمل الفني إلى عناصره المكونة ألا يغيب عن ذهننا لحظة أن العمل الفني كل لا يتجزأ، ولا يمكن رده إلى عناصره دون خسائر؛ لأننا حين نفصل عنصرا واحدا منه لكي نتحدث عنه ونصفه فلن يعود له نفس الخصائص التي كانت له حين كان مدمجا في الكل وكانت له علاقات ببقية العناصر، وهذه العلاقات تؤثر فيه وتحدث اختلافا في طبيعته، عملية الفصل والعزل إذن هي ضرورة لغوية ذهنية نقدية، غير أنها لا تصف واقعة معطاة، وقد صدق من قال «إننا نقتل لكي نشرح.» فالعمل الفني هو في النهاية وحدة عضوية حية، كل يتجاوز أجزاءه. (2) الشكل الدال صرامة وتقشف
ليست هناك كآبة وإفلاس ككآبة الفن وإفلاسه حين ينهمك في نفسه لا في موضوعه.
جورج سنتيانا
يظن بعض الناس ممن يلقون الكلام على عواهنه أن الشكلية تعني صدارة الشكل، أي شكل، على المضمون، ويتوهمون أن الشكلية هي التركيز على الزخرف والزينة دون اكتراث بالمعنى والوظيفة، وهو تعس لم يقل به أحد، وقلب للقضايا لا يرتكبه إلا مأفون، فالشكل الذي ألح عليه بل هو الشكل «الدال»
significant ، و«الدلالة» مفهوم «قصدي»
intentional
بامتياز: فالشكل لا بد أن يدل على شيء ويشير إلى شيء ويقول شيئا، على أن يقول ويشير ويدل بالشكل وفي الشكل، ونقول بالشكل وفي الشكل لأن الشكل الدال، ببساطة، هو وحده ما يقوى على إحداث الانفعال الإستطيقي، وغيره لا يحدث إلا انفعالات الحياة.
هل الاهتمام بالشكل يأتي على حساب المضمون؟ كلا بل يأتي لحسابه، الشكل هو كل شيء في العمل الفني، الشكل هو المضمون في حضوره الإستطيقي، والشكل الدال هو الشكل الذي تطابق مع انفعال مبدعه تجاه الواقع النهائي، والذي وجد فيه هذا المضمون الانفعالي جسدا للمثول الموضوعي ومنفذا إلى الذوات الأخرى، وآيته في ذلك أنه يثير في المتلقين انفعالا مضاهيا لانفعال مبدعه، وهذا الانفعال الناجم هو معرفة ونشوة معا، هو كشف كبير ومتعة عالية في آن.
الشكل الدال حق متى جاء، ونحن نعرفه متى صادفناه ونعرف أنه حق، إنه هو ... يحمل آية صدقه (الوجد الإستطيقي) ويومئ إلى رصيده الأنطولوجي (الواقع النهائي)؛ ومن ثم فهو نقيض اللعب والتبطل، فأنت في كل الأحوال لكي تأتي بشكل دال فلا بد أن يكون لديك ما تقوله، الشكل الدال ليس زينة بل نقيض الزينة، وهو بالتأكيد تقشف وتبسيط وكفاف
2
من التمثيل والتفصيل، وطرح للزائد ونبذ لكل ما لا دلالة له، الشكل الدال ليس لهوا أو فراغا أو عجة بلا بيض.
يقول كلايف بل في فصل «التبسيط والتصميم»: «التفصيل هو لب الواقعية، وهو «الانحلال
3
الدهني»
fatty degeneration
للفن، أما الحركة المعاصرة فقد اتجهت إلى التبسيط، وإلى التخلص من كل هذه الفوضى من التفاصيل التي أقحمها الرسامون في لوحاتهم من أجل إثبات الوقائع وتقريرها، غير أن المهمة كانت أكبر من ذلك؛ فقد كانت هناك عناصر خارجة عن الموضوع يقحمها الرسامون في لوحاتهم لأغراض أخرى غير تقرير الوقائع، من هذه الأغراض الاستعراض التكنيكي، فمنذ القرن الثاني عشر أخذت التعقيدات التكنيكية في التوسع المطرد، وأخذ الكتاب الذين ليس لديهم ما يقولونه يعتبرون التلاعب بالألفاظ كغاية في ذاته؛ فهم أشبه بطهاة ليس لديهم بيض فجعلوا يعتبرون وتيرة صنع العجة كفن جميل؛ خلط التوابل وفرم الخضرة وإحماء النار وتهيئة الطواقي البيضاء، أما البيض فما لنا وما له؟ ذلك أمر الله، ومن ذا يريد العجة حين يكون بوسعه أن يمارس الطهي؟ لقد بسطت الحركة الجديدة هذه الأمور واختزلت عدة الطهي، وعمدت إلى أن تطهر العمل الفني من أي عنصر لا يعدو أن يكون عرضا لحرفية الصانع.»
4 (3) شمول الشكل
لقد تعرض مفهوم الشكل حقا لابتذال كثير وسوء فهم فادح، والتصقت به دلالات سلبية ليست منه وليس منها، وتقول عليه المتقولون وكأنه نقيض المضمون لا جسده، أو كأنه ضد التجديد لا شرطه وحاديه وروحه الحارس.
ليس لمفهوم الشكل الدال علاقة بالصراع الأزلي بين الجموح والعقل، بين التلقائية والنظام، بين الجانب الديونيزي والجانب الأبولوني في الفن؛ ففي ذلك خلط بين الشكل الخارجي الآلي والشكل الداخلي العضوي، فليتمرد من شاء على القوالب المستهلكة، وليجدد ما شاء له تدفقه واندفاعه؛ فكل تجديد يحمل في ثناياه شكله الخاص، ولن يتسنى لأحد أن يتمرد على الأشكال القديمة إلا بأشكال جديدة، ولن يكون له أن يجدد في الشكل إلا بالشكل.
إن الشكل بحاجة إلى إعادة فهم ورد اعتبار، وليس أقدر على رد اعتباره من أن نبين أن الشكل حقيقة واقعة عتيدة كلية الوجود، فالخلق نفسه شكل، والوجود ذاته هو بزوغ الشكل من العماء
chaos
وخروج النظام من الفوضى، والرمز شكل، والرموز، كما بين كاسيرر، هي موطن الذهن الإنساني وبيئته الطبيعية وعالمه الذي لا عالم غيره سوى الذهان والتناثر، فالصحة العقلية شكل، والحياة الصالحة، كما أكد فيكتور فرانكل، هي في النهاية حياة اتخذت معنى واعتصمت بالشكل. (4) هل نمضي قدما ونقول: إن العلم شكل؟
يقول توماس كون
T. Kuhn
في «بنية الثورات العلمية»: «شيء يشبه البرادايم
paradigm (النموذج الشارح) هو متطلب أساسي حتى في الإدراك الحسي ذاته، فما يراه الشخص لا يتوقف فحسب على ما ينظر إليه لتوه، بل يتوقف أيضا على خبرته البصرية التصورية السابقة وما علمته أن يراه»، فنحن لا نرى في واقع الأمر موضوعات محددة من مثل البشر والحيوانات والموائد والكراسي، فكل ما يقدمه البصر في حالة رؤية كلب مثلا هو بقعة سمراء تتحرك وتطوف في مجالنا البصري، ما تمدنا به الحواس هو إحساسات خالصة (بقع ملونة، أصوات ... إلخ) يقال لها أحيانا «المعطيات الحسية»
sense data (sense) ، ونحن من هذه المعطيات الحسية «نستدل»
infer
عندئذ على العالم المعتاد أو «نشيده»
construct ، إن حواسنا لا تعمل في واقع الأمر بمعزل عن بقية جهازنا العصبي؛ فنحن نرى الكلب بالفعل لأن «الإدراك الحسي»
perception
غير مقتصر على التسجيل الفوتوغرافي، بل يتضمن أيضا كل قدراتنا التمييزية والتصنيفية، ليست عيوني هي التي ترى بل «أنا» الذي يرى، مستخدما العينين بالإضافة إلى المخ، وقد جرت العادة على أن يدخر مصطلح «الإدراك الحسي» لمعنى الرؤية الذكية والسمع الذكي ... إلخ، الإحساس إذن هو عامل واحد، وواحد فقط، من عوامل الإدراك الحسي.
وفي مجال سيكولوجيا الإدراك بينت مدرسة الجشطلت أن الظواهر السيكولوجية، من إدراك حسي وسلوك ... إلخ، لا يمكن أن تفهم إلا كأشكال كلية لها الصدارة على أجزائها وليست مجرد مجموع غفل لها، أشكال تعمل لحسابها وينبغي أن تدرس في ذاتها وليس بتحليلها إلى أجزائها المكونة، فنحن ندرك اللحن الموسيقي على سبيل المثال كشكل كلي لا كنغمات متراصة، وبميسورنا أن نميز اللحن نفسه لو أعيد على سمعنا ألف مرة معزوفا بآلات أخرى وبسرعات مختلفة أو مؤدى بصوت بشري أو مكتوبا بمفتاح جديد ومطمورا في تنويعات متعددة، ذلك أننا ندركه في جميع الأحوال كشكل كلي يتجاوز أجزاءه ولا يمكن رده إلى مكوناته دون أن نسلبه جوهره الحقيقي وكنهه الأصيل، والتعلم أيضا لم يعد مجرد ارتباط آلي أعجم بين منبهات واستجابات كما تبشر السلوكية، بل هو إعادة بناء وتنظيم للموقف ككل، يمثل «التبصر»
insight
ملمحها الحاسم، ولم تعد فسيولوجيا الدماغ قائمة على لحاء مخي ثابت مستقر، بل هي عملية دينامية تقوم على التساوق والتجاوب، ويمثل لحاء المخ فيها ذلك المكان الذي تتفاعل فيه المنبهات الواردة في حقل من القوى.
كان أصحاب التجريبية الساذجة يظنون أن ما يجعل العلم علما هو أن العلماء - على عكس الفلاسفة التأمليين الكسالى - يلاحظون الطبيعة ويجمعون ملاحظاتهم ليكونوا بها صورة صادقة للأشياء؛ مركبا من كل الحقائق وليس من شيء غير الحقائق، والمشكلة الكامنة في هذه النظرة هي أن هناك ما لا نهاية له من الملاحظات التي يمكن أن نقوم بها ونسجلها، الأمر الذي يجعل الوصف الصادق للطبيعة طويلا لا آخر له، ومضجرا كدليل التليفون، فبإمكان المرء أن يشرع مثلا في وصف هيئة كل خبة رمل على شاطئ معين، ولكن لا أحد، ولا بيكون نفسه زعيم التجريبيين، يمكن أن يتصور كيف تكون مهمة العلم إذا سار بهذه الطريقة.
ورغم ذلك فقد كان على العلماء أنفسهم أن ينفقوا زمنا (وكذلك مراقبو العلم من الفلاسفة) حتى يدركوا بوضوح أن الملاحظة لكي تكون ذات معنى يجب أن تسترشد بنظرية، وقد ظل كثير من الناس يصرون على أن الملاحظات يجب دائما أن تأتي أولا، وبعدها وبناء عليها يمكن للنظريات أن تنشأ، ولكن ما يحدث في عامة الأحوال هو أن نظرية ما هي التي تخبر العالم على وجه التحديد أي الملاحظات هي الجديرة بأن يقوم بها، أضف إلى ذلك بطبيعة الحال أن النظرية تمد العالم أيضا بالمفردات اللغوية التي يصف بها ملاحظاته، فللأشياء والأحداث والمواقف التجريبية وما شابه، ما لا ينتهي من الخواص القابلة للملاحظة والوصف، إن النظريات هي التي تحدد للعالم أي هذه الخواص هي التي تعنيه وتتصل بموضوعه خلال وحدة محددة من العمل العلمي.
في كتابه «التبصر والفهم» (1961) يقول س. تولمن
S. Toulmin
إن العلماء الذين يقبلون أفكارا ونماذج معينة سوف يشاهدون ظواهر مختلفة؛ ذلك أن هذه النماذج وتلك الأفكار هي التي تسبغ على الوقائع المشاهدة معناها، ليس هذا فحسب، بل إنها لتحدد لهم أيضا أي الوقائع يجب اختيارها، وهذا يفضي بنا إلى أننا نرى العالم من خلال تصوراتنا الأساسية للعلم، ويقول فيرابند
Feyerbend
في مقاله «مشكلات المذهب التجريبي» (1965): إن ما هو مدرك يتوقف على ما هو معتقد، وإن كل نظرية علمية تفرض خبرتها الخاصة، ويقول في دراسته «التفسير والرد والمذهب التجريبي»: إن النظريات العلمية ليست سوى طرق معينة للنظر إلى العالم، وإن تبني هذه النظريات يؤثر على توقعاتنا وخبراتنا، وفي كتابه «بنية الثورات العلمية» (1962) يقول توماس كون: «إن العلماء خلال الثورات العلمية يشاهدون أشياء جديدة ومختلفة حين ينظرون بالآلات المألوفة من المواضع نفسها التي نظروا منها من قبل؛ إذ إن تغيرات «النموذج الشارح»
paradigm
تجعل العلماء بالفعل يشاهدون عالم أبحاثهم الخاصة بطريقة مختلفة تماما عن ذلك العالم الذي كانوا ينتمون إليه من قبل.»
ذلك أن الإحساس البصري المحض، على المستوى الذري، لا يقدم أثناء المشاهدة أكثر من بقع فسيفسائية مبعثرة، ثم يأتي «النموذج» أو «الجشطلت» - وهو شيء محمل بالنظرية
theory laden
أو هو نظرية - فيضفي هيئة ومعنى ووضعا بعينه على هذا الإحساس الغفل، وإن ظواهر شهيرة مثل «تبدل الأمامية/الخلفية» ومثل «التحول الجشطلتي» لتبين بوضوح أن رؤية منظر ما بطريقة أو بأخرى يتجاوز كثيرا مجرد الإحساس الغفل؛ فالتأويل المسترشد بنظرية من شأنه أن يغير الخبرة ذاتها.
الفصل الثامن
الفرضية الميتافيزيقية
الفن هو أعم وأبقى صور التعبير الديني جميعا، فما من أداة أخرى لنقل الانفعال قد أسعفت الإنسان مثلما أسعفه الفن، وما من فيض من طرب الروح إلا هو واجد في الفن قناة تتولاه وتحدوه.
كلايف بل
الفن بعامة هو، بالضبط، تعبير، لا عن الأشياء، بل عن نشوة الجسد-الحياة في التحامها بمعنى العالم وأسراره عبر الأشياء.
أدونيس
ما غروب الشمس يعطي فكرة
عنك بل نكهة أن ثم غروب
سعيد عقل
يفرق كلايف بل تفريقا حاسما بين نطاق الإستطيقا ونطاق الميتافيزيقا، وبينما هو يؤكد ثقته الكبيرة في فرضيته الإستطيقية (وهي أن الخاصية الجوهرية في العمل الفني هي الشكل الدال؛ أي ضروب معينة من حبكة الخطوط والألوان من شأنها أن تثير في المتلقي وجدا إستطيقيا) فإنه يدفع بفرضيته الميتافيزيقية بتحفظ وحذر، ويؤكد مرارا وتكرارا أنها مجرد احتمال لا يبلغ مرتبة اليقين على الإطلاق، من ذلك مثلا ما قاله في فصل «الفن والتاريخ» بالنص الحرفي: «لقد كانت فرضيتي الإستطيقية (أن الصفة الجوهرية في أي عمل فني هي الشكل الدال) قائمة على خبرتي الإستطيقية، وأنا من خبرتي الإستطيقية على ثقة. أما عن فرضيتي الثانية (أن الشكل الدال هو التعبير عن انفعال خاص تجاه الواقع) فلست واثقا منها بحال.»
لماذا تتأثر مشاعرنا كل هذا التأثر حيال ضروب معينة من تضام الأشكال؟
هذا سؤال ميتافيزيقي.
إنه سؤال شائق للغاية ولكنه خارج عن الموضوع، فليس لنا في الإستطيقا المحضة أن ننظر فيما سوى انفعالنا وموضوعه، إننا «في حدود أغراض الإستطيقا ليس من حقنا، ولا هو من الضروري، أن ننبش وراء الموضوع في الحالة الذهنية للذي صنعه، ولسوف أحاول لاحقا أن أجيب عن هذا السؤال حتى يتسنى لي أن أقول كلمتي في علاقة الفن بالحياة، غير أنني لن أوهم نفسي عندئذ أن ذلك تتمة لنظريتي الإستطيقية، فكل ما يلزم في مبحث الإستطيقا هو أن أثبت فحسب أن الأشكال إذ تنتظم وتجتمع وفقا لقوانين معينة مجهولة وغامضة، فهي تحرك مشاعرنا فعلا بطريقة معينة.»
1
يبدو ممكنا في رأي كلايف بل أن الشكل المبدع يهزنا بهذا العمق؛ لأنه يعبر عن انفعال مبدعه ويوصل إلينا هذا الانفعال؛ أي إن من المحتمل أن يكون التعبير عن انفعال هو ما يمنح العمل الفني تلك القدرة على إثارة الوجد الإستطيقي. فتجاه أي شيء إذن يشعر الفنان بذلك الانفعال الذي يفترض أنه يعبر عنه؟ يبدو من وجهة نظر بل أن الفنان في لحظات إلهامه يحس انفعالا تجاه الأشياء بوصفها «أشكالا خالصة»؛ أي بوصفها غايات في ذاتها، لا بوصفها وسائل ملفعة بالارتباطات؛ أي إن الفنان في لحظة الرؤية الإستطيقية يرى الأشياء مبرأة من كل ضروب الاهتمام السببي والطارئ، ومن كل ما يمكن أن تكون قد اكتسبته من طيلة صحبتها لبني البشر، ومن كل دلالة لها كوسيلة؛ ومن ثم يحس دلالتها كغاية في ذاتها.
وحين يتحدث بل عن دلالة الشيء بوصفه غاية في ذاته، فإنه يقترب كثيرا من مفهوم المثاليين عن «الشيء في ذاته» (النومين) أو عن «الواقع النهائي»
ultimate reality ،
2
ويكون جوابه عن سؤاله الميتافيزيقي: «لماذا نطرب كل هذا الطرب لتجمعات معينة من الخطوط والألوان؟» هو: «لأن بقدرة الفنانين أن يعبروا بتجمعات الخطوط والألوان عن انفعال نحو الواقع يكشف عن نفسه من خلال الخط واللون.» ويترتب على ذلك أن «الشكل الدال»
Significant Form
هو الشكل الذي نظفر من ورائه بحس بالواقع النهائي.»
هذه هي الفرضية الميتافيزيقية باختصار شديد، دفع بها كلايف بل بتحرز وتردد ينمان عن حنكة منطقية وتواضع فلسفي. على أن ما همس به بل همسا قد صادف فيما بعد من يصدع به ويعلنه بحسم وتوكيد، فهذا فيدلر
Fiedler
يؤكد أن أعمال الفن البصري تجسم في موضوعات عينية صورة قائمة بذاتها من صور التجربة الحسية، وهناك أشخاص ممتازون قد جادت عليهم الطبيعة بمنحة نادرة، فوهبتهم من رهافة الحس ورقة الشعور ما يستطيعون معه أن يحققوا ضربا من الاتصال المباشر بالطبيعة، ومثل هؤلاء الأشخاص لا يدركون من أي موضوع من الموضوعات بعض العلاقات الجزئية المنبعثة من بعض التأثيرات المحدودة، بل هم يدركون - على العكس من ذلك - صميم وجود الموضوع؛ وبالتالي فإنهم يشعرون به ككل قبل أن يعمدوا إلى تجزئة هذا الشعور العام وإحالته إلى بعض الإحساسات المنفصلة. ويبين هربرت ريد أن الإنسان حين يقدم على إبداع أي عمل فني، فإنه إنما يقبل على معركة يصارع فيها الطبيعة، ولكن لا من أجل وجوده المادي، بل من أجل وجوده الذهني. ومن هنا فإن بداية العمل الفني ونهايته إنما تكمنان في عملية إبداع الأشكال أو الصور التي يستطيع الفنان من خلالها الوصول إلى قلب الوجود! وليس من شأن الفنان أن يخلق عالما ثانيا يضعه إلى جوار ذلك العالم الآخر الذي يوجد بذاته دون حاجة إلى نشاط الفنان، وإنما يجيء الفن فيقدم لنا العالم نفسه وقد أعاد خلقه الوعي الفني، وكأنما هو قد صنع خصيصا من أجل الفنان وبفضل الفنان! وهذا كارل ياسبرز يقول: إننا لا نكون خبرة صحيحة عن الطبيعة والإنسان، اللهم إلا حين نلتقي بهما في صميم ماهيتهما على نحو ما تكشف لنا عنها فنون النحت والرسم والتصوير.
3 (1) بين الفرضية الميتافيزيقية والمحاكاة الأرسطية
إن فرضية بل الميتافيزيقية بمثابة عقد رباط وثيق بين الفن والحياة، قد يظن «ردة» إلى نظرية المحاكاة، وعودة صاغرة إلى حظيرة أرسطو بعد تمرد طفولي على المعلم الكبير، والحق أن الفرضية الميتافيزيقية تحمل شبهة التناقض مع الفرضية الإستطيقية، ولكن لا تناقض هناك إلا لمن يخلط الأمور، ويقع في الخطأ المقولي الذي ألمعنا إليه آنفا؛ فقد فصل بل فصلا صارما بين نطاق الإستطيقا ونطاق الميتافيزيقا، وجعل كل حديث ميتافيزيقي شيئا خارجا عن الموضوع من الوجهة الإستطيقية، ونفى نفيا قاطعا أن يكون حديثه عن علاقة الفن بالحياة تتمة لنظريته الإستطيقية، إنه حقا يتلقى على أرض الميتافيزيقا بالمحاكاة الأرسطية، محاكاة الماهيات، غير أن هذا اللقاء العابر القلق لا يمس الإستطيقا الشكلية من قريب أو بعيد.
يقول رولو ماي
R. May ، عالم النفس والمفكر الوجودي الأمريكي، في كتابه «شجاعة الإبداع»: إن الإبداع يحدث «في فعل من المواجهة»، بذلك يكون ماي قد دخل هو أيضا أرض الميتافيزيقا ليرتحل، على حد تعبير كلايف بل، في مناخ غير مستقر، ويردف ماي: «ها هو سيزان يرى شجرة، إنه يراها بطريقة لم يرها بها أحد من قبله قط، والتجربة التي يمر بها، والتي من الممكن أن يقول عنها بلا ريب هي «أن الشجرة قد أطبقت عليه.» شموخ الشجرة وتسامقها وانتشارها الحاني الأمومي، والتوازن الرقيق في تشبثها بالأرض، كل هذا، وكثير غيره، من سمات الشجرة قد امتصها إدراكه الحسي، وشعر بها من خلال بنيته العصبية كلها، وهذا كله شطر من الرؤية التي تجتازها تجربته، هذه الرؤية تقتضي حذفا لبعض جوانب المشهد وتوكيدا أكبر على جوانب أخرى، وما ينتج عن إعادة ترتيب هذا كله، غير أنه أكثر من مجموع هذا كله، ويأتي في المقام الأول أن الرؤية لم تعد الآن شجرة، بل «الشجرة»؛ ذلك أن الشجرة العينية التي نظر إليها سيزان قد تشكلت فأصبحت ماهية الشجرة، ومهما تكن رؤيته أصيلة لا تتكرر، فما برحت رؤية للأشجار جميعا أطلقتها مواجهته لهذه الشجرة الجزئية المعينة، وهذا التصوير، الذي يصدر عن هذه المواجهة بين إنسان هو سيزان وواقع موضعي هو الشجرة، هو مواجهة جديدة وفريدة وأصيلة بمعنى الكلمة، فها هو شيء يولد، يأتي إلى الوجود، شيء لم يكن له وجود من قبل، وهذا تعريف جيد للإبداع نستطيع أن نضع عليه أيدينا، وكل من يأتي بعد ذلك ليشاهد اللوحة بشدة في الوعي، ويتركها تتحدث إليه، سيرى الشجرة بالحركة القوية الفريدة، وبالحميمية بين الشجرة والمنظر الطبيعي، والجمال المعماري الذي لا يوجد بمعنى الكلمة في علاقتنا بالأشجار حتى جاء سيزان بتجربته ورسمها، وأستطيع أن أقول بلا مغالاة إنني لم أشاهد قط شجرة حقا حتى رأيت واستوعبت رسوم سيزان لها.»
4
قبل أن يخلص كلايف بل إلى فرضيته الميتافيزيقية كان يسأل الفنانين عن طبيعة عملهم، فقال له مرة واحد من أعظم الفنانين إن ما يحاول أن يعبر عنه في لوحة فنية هو «فهم انفعالي للشكل»، وقد طالما حير بل هذا «الفهم الانفعالي»، حتى ظفر بمعناه بعد حديث كثير مع الفنانين وإصغاء أكثر، ولعل ما حير بل هو أننا درجنا على أن الفهم يكون بالعقل، وأن العقل نقيض الانفعال؛ ومن ثم فإن علينا لكي نفهم شيئا ما فهما موضوعيا أمينا أن نكبت انفعالنا نحوه أو نحيده، غير أن رولو ماي يبدهنا بعكس ذلك فيقول: «لقد كنا ننحو إلى أن نضع العقل في مقابل الانفعالات، وافترضنا نتيجة لتضخم زائد في هذه القسمة أننا نتمكن من ملاحظة الشيء بدقة أكثر لو استبعدنا انفعالاتنا، أعني أننا سنكون أقل تحيزا لو أن انفعالاتنا لم تتدخل على الإطلاق في الموضوع الذي بين أيدينا، وأنا أعتقد أن هذا خطأ فادح؛ إذ توجد الآن بيانات في استجابات رورشاخ
Rorschach
تشير إلى أن الناس يستطيعون أن يلاحظوا بمزيد من الدقة إذا كانوا مدفوعين بانفعالاتهم، أعني أن العقل يعمل بطريقة أفضل في حضور العواطف، فالإنسان يرى ببصر أكثر حدة ودقة حين تشترك العواطف، والحق أننا لا نستطيع أن نرى شيئا رؤية حقيقية إلا إذا كنا مرتبطين به ارتباطا عاطفيا، فربما كان العقل يؤدي عمله على أحسن وجه في حالة الوجد (النشوة)
ecstasy ،
5
ويرى ماي أن الوجد هو المصطلح الدقيق لشدة الوعي التي تحدث في الفعل الإبداعي، على ألا نفكر فيه بوصفه «سماحا بتحرير شيء ما بالمعنى الباخوسي، وإنما هو شيء يشمل الشخص كله بحيث يعمل ما تحت الشعور واللاشعور في وحدة مع الشعور، ومن ثم فهو ليس لا عقلانيا، بل هو بالأحرى فائق لما هو عقلي؛ فهو يمزج بين الوظائف العقلية والإرادية والعاطفية في عمل واحد.»
يذكر بل في فرضيته الإستطيقية أن عالم الرياضيات المستغرق في دراساته يخبر حالة ذهنية شبيهة غاية الشبه بالنشوة الإستطيقية التي تغشي الفنان في لحظات الإلهام: «وربما يذهب بي الظن أحيانا إلى أن مدركي الفن ومدركي الحلول الرياضية قد يكونون أكثر قربا وأوثق صلة حتى من ذلك، فأتساءل: قبل أن يأخذنا انفعال إستطيقي تجاه تجمع من الأشكال، ترانا ندرك بالفكر صواب هذا التجمع وضرورته؟»
6
أليس هذا قريبا حتى الانطباق من فكرة هربرت ريد عن «القابلية للتحقق»
verifiability
بوصفها عنصرا ضروريا من عناصر الإبداع الفني كما هي في الوقت نفسه مقوم أساسي من مقومات المنهج العلمي؟
وكأني برجل من أفذاذ العلم ومن نوابغ الرياضيات هو جول هنري بوانكاريه
G. H. Poincaré
ينعم بحضرته ويكمل لنا الوجه الآخر من الأمر، ويقول (من كتابه «أساس العلم»): إن التركيبات المفيدة (التي تنبثق من اللاشعور) هي بالضبط أجملها، أعني أقدرها على إمتاع تلك الحساسية الخاصة التي يعرفها الرياضيون جميعا، والتي يجهلها غيرهم جهلا تاما بحيث يغريهم بالابتسام عليها ... ومن بين الأعداد الكبيرة من التوليفات التي صنعت عشوائيا بوساطة الذات المتسامية، يظل معظمها بلا أهمية وبلا نفع، وهذا بالضبط هو السبب الذي يجعلها أيضا بلا تأثير على الحساسية الجمالية، ولن يدركها الوعي أبدا، ولا يتسم بالانسجام سوى بعض منها، وبالتالي تكون في الحال مفيدة وجميلة، وتكون قادرة على المساس بهذه الحساسية الخاصة برجل الهندسة التي تحدثت عنها آنفا، والتي إن أثيرت مرة فسوف تجذب الانتباه إليها؛ ومن ثم تتيح لها الفرصة لكي تصبح واعية.»
7
ويعلق ماي على قول بوانكاريه بأن «هذا هو الذي يدعو الرياضيين والفيزيائيين للحديث عن «أناقة»
elegance
نظرية ما، أما المنفعة فتأتي في مرتبة أدنى بوصفها جزءا من الخاصية التي يتمتع بها الشكل الجميل؛ فالانسجام الذي يسري في شكل داخلي، والاتساق الباطن في نظرية ما، وسمة الجمال التي تمس حساسية المرء - هذه كلها عوامل دالة تحدد لماذا تبزغ في الوعي بصيرة معينة دون غيرها، وبوصفي محللا نفسيا لا يسعني سوى أن أضيف أن تجربتي في مساعدة الناس على تحقيق استبصارات من الأبعاد اللاشعورية داخل أنفسهم تكشف عن هذه الظاهرة نفسها؛ وهي أن البصائر لا تبزع أصلا لأنها «صادقة عقليا» أو لأنها مفيدة، ولكن لأنها تتميز بشكل معين هو الشكل الجميل الذي يستكمل ما ليس كاملا فينا، هذه الفكرة، هذا الشكل الجديد الذي يقدم نفسه بغتة، يأتي لكي يكمل جشطلتا كان حتى الآن ناقصا، وكنا حتى الآن نناضله في إدراك واع، ويستطيع المرء أن يتحدث بدقة شديدة عن هذا النموذج الذي لم يكتمل، هذا الشكل الذي لم يتشكل، بوصفه المكون لذلك «النداء» الذي يعطيه ما قبل شعورنا من جيشانه العنيف الإجابة المنشودة.»
8
يا لله كأني بالجمال يلوح للحق، وبالحق يلوح للجمال !
فها هو فيلسوف إستطيقي (بل) يرى الجمال جمالا لأنه صواب، وها هو عالم رياضي (بوانكاريه) يرى الصواب صوابا لأنه جميل، وكأني بفيلسوف المثالية الترانسندنتالية (إيمانويل كانت) يباركهما من وراء الغيب. لا بدع؛ فالعقل ليس كيانا سلبيا تدور حوله الأشياء فيعكسها كما هي، إنما الأشياء تعنو للعقل وتلائم نفسها وفق قوالبه ومقولاته، فالعقل ليس متفرجا سلبيا في لعبة المعرفة، العقل يجبل العالم على طريقته ويشكل العالم على صورته ويشيد الأشياء تشييدا. (2) ضرورة المواضعات الفنية
وعلى ذلك فإذا أردنا الارتقاء بموسيقانا فلا بد أن نضع لها قانونا وقاعدة.
أفلاطون: القوانين
هذه مسألة يستدعيها الحديث وإن تكن مسألة غير إستطيقية وغير ميتافيزيقية (فهي في الحقيقة مسألة تكنيكية)، إن مهمة الفنان كما يبين بل هي إما أن يخلق شكلا دالا وإما أن يعبر عن حس بالواقع - حسبما تفضل من تعبير، غير أننا لا نرى أبدا فنانا حقيقيا يمكن أن يقعد أو يقوم لا لشيء إلا ليبدع شكلا دالا أو ليعبر عن حس بالواقع، دون أي تحديد أبعد من ذلك، إنما يتوجب على الفنانين أن يتخذوا لأفعالهم مجرى معينا، أن يركزوا طاقاتهم على مشكلة محددة؛ فالشخص الذي يشرع في رحلة صوب العالم كله هيهات له أن يبلغ مكانا، هذه الحقيقة تفسر لنا الضرورة المطلقة للمواضعات الفنية، وتفسر لنا لماذا تعد كتابة شعر جيد أيسر من كتابة نثر جيد، ولماذا تكون كتابة الشعر المرسل
9
الجيد أصعب من كتابة مقاطع من شعر الدوبيت المقفى، هذا هو مغزى القوالب الفنية مثل السونيتة والبالاد والروندو: إن الحدود الصارمة تركز طاقات الفنان وتكثفها.
10
يقول الأستاذ العقاد: إن الجمال هو الحرية،
11
وإن حب الأمم للحرية يقاس بحبها للفنون الجميلة.
والحرية عند العقاد لا تعني التخلص من القيود، لأن القيود والقوانين هي أساس اختيار الحرية، انظر إلى بيت من الشعر وتصرف الشاعر فيه، إنه مثل حق لما ينبغي أن تكون عليه الحياة من قوانين الضرورة وحرية الجمال، فهي قيود شتى من وزن وقافية، غير أن الشاعر يعرب عن طلاقة نفس لا حد لها حين يخطو بين كل هذه السدود خطوة اللعب، ويطفر من فوقها طفرة النشاط، ويطير بالخيال في عالم لا قائمة فيه للعقبات والعراقيل، وإذا كانت سنة الله في خلق هذا الكون قد شاءت أن تجعل من قوانينه دعامة للحرية، وأصلا لكل شعور انطلاقي، فليس عجيبا أن يتلاقى في فن الشعر قيد الوزن وفرح اللعب، وليس من الغرابة في شيء أن يتعانق على يديه الخيال الشارد والقافية المحبوسة.
والفنون الجميلة جميعا هي «الفنون التي تشبع فينا حاسة الحرية وتتخطى بنا حدود الضرورة والحاجة، وما من شيء تستجمله وتخف نفسك إليه وهو مغلول الحياة منقبض عن وظائفها، حتى الأخلاق، ما من جميل فيها إلا كان جماله على قدر ما فيه من غلبة على الهوى وترفع عن الضرورة وقوة على تصريف أعمال النفس في دائرة الحرية والاختيار.»
12
إن قيود الضرورة هي مسبار ما في النفوس من جوهر الحرية الصحيحة، كما أن القيود التي تثقل بها أعضاء البهلوان الماهر هي مسبار مهارته وقدرته على الخطران والوثب واللعب، فليس النشاط الفني خروجا على كل قاعدة، أو انطلاقا في فضاء مطلق ليس به أدنى مقاومة، وإنما النشاط الفني طلاقة نفس تحيل العوائق إلى وسائط، وتتخذ من الضرورات أدوات للتحرر، وليست الضرورات والقوانين سوى القالب الذي تحصر فيه الحياة عند صبها وصياغتها، ليكون لها خير محدود في هذا الوجود، ولتسلم من العدم المطلق الذي تصير بها الفوضى إليه، وإلا فتصور عالما لا موانع فيه ولا أثقال، ثم انظر ماذا لعله يكون؟ إنه لا يكون إلا فضاء بغير فاصل أو هيولي بغير تكوين.
13
هذا ما يقوله أستاذنا العقاد، ونريد أن نذهب أبعد من ذلك، فنقول إن الحدود الفنية ليست إعاقة مجانية ولا حفزا سلبيا آليا؛ فالأمور في الفن أدق من ذلك وأعمق، فحين نقول إن الحدود الفنية (الأطر، المواضعات، القيود ...) ضرورة، فلسنا نعني بذلك أنها مجرد مصاعب لا مناص من تجشمها أو شر لا بد منه، ولسنا نعني حتى إنها (على طريقة أدلر أو توينبي) عثرات تحفز النشاط ومحن تلهب العزيمة، كلا. إن قيمة الحدود أعظم من ذلك بكثير؛ الحدود «تيسر» الإبداع الحقيقي! و«تلهم» الفنان الحقيقي، إنها مجرى يتولى انفعاله وينظم تدفقه ... شبكة تصيد له الأشكال الدالة، وعين ترمق له المعاني السانحة، وفرس قيد الأوابد تمكنه من شوارد المضامين، وبدونها يكون أشبه بنافخ في رماد، أو بكبش تعس أطلق في برية عراء وأرض مذابة، أو بطفل توحدي
autistic
يعبر عن نفسه بحركات مضطربة لا يفقهها غيره، ولغة مغتربة لا يفهمها سواه.
وليس بدعا أن نقول إن الوعي نفسه يتطلب الحدود وينشأ من إدراك الحدود: في بدايات الوعي يخلق كل فرد ذاتا أولية (أنا ترانسندنتالية) بأن يدع وعيه يلتف على نفسه فيفرق نفسا ما عن بقية العالم، عندئذ فقط يشرع الفرد - وقد صار الآن واعيا بذاته - في تأسيس الذوات الأخرى،
14
وعندئذ فقط يشرع المرء في رحلته الدائمة صوب المعرفة، وتأتي الإبستمولوجيا التكوينية (النشوئية)
Genetic Epistemology
عند بياجيه لتكمل لنا القصة، وتصور لنا المعرفة جدلا بناء بين البنيات الباطنة للذات العارفة وبين الموضوع المعروف؛ فالبنيات الباطنة للذات هي حصيلة إنشاء فعلي متواصل يقوم على خبرتها بالموضوع، والخصائص التي يتحدد بها الموضوع لا تعرف إلا بفضل تدخل تلك البنيات التي تغني خصائص الموضوع وتؤطرها، هكذا تحمل كل معرفة جانبا جديدا من التكوين والإنشاء، وهكذا تبقى المعرفة على الدوام مسلسلا تطوريا لا يتوقف وجشطلتا ناقصا لا يتم. «وعندما تكتب قصيدة، تكتشف أن ضرورة ملاءمة معناك في هذا الشكل أو ذاك تتطلب في حد ذاتها أن تبحث في خيالك عن معان جديدة وأنت ترفض طرائق معينة لقول هذه المعنى وتنتقي غيرها، محاولا صياغة القصيدة من جديد دائما وأبدا، وفي هذا التشكيل تصل إلى معان جديدة أكثر عمقا لم تكن تحلم بها، فليس الشكل مجرد تهذيب لمعنى لا تجد له مكانا في قصيدتك، ولكنه معين لك في العثور على معنى جديد، ومنشط لتركيز معناك، ولتبسيطه وتنقيته، ولتكتشف في بعد أكثر شمولا الماهية التي تود التعبير عنها، وما أكثر المعاني التي كان شكسبير يستطيع أن يضمها في مسرحياته لأنه نظمها شعرا ولم يكتبها نثرا، أو يضعها في سونيتاته؛ لأنها مكونة من أربعة عشر بيتا.»
15
إن مما يشبه المحال على فنان لم يضع لنفسه مهمة أكثر تحديدا من إبداع شكل دال دون شروط أو حدود مادية أو فكرية، أن يركز طاقاته بحيث ينجز هدفه، إن مشروعه سيكون مفتقرا إلى الدقة، وجهوده من ثم ستكون مفتقرة إلى القصد، وأدنى إلى اليقين أنه سيكون غامضا ومتراخيا في عمله، وقد يلوح له باستمرار أن هناك احتمالا بأن يعيد للشيء عافيته بضربة حظ، وقلما يبصر بوضوح أنه قد ضل السبيل ... إن من يشعر أنه لا عمل له إلا أن يصنع شيئا ما جميلا، يندر أن يعرف من أين يبدأ أو أين ينتهي.
16
مرة ثانية نقول إن القيود في الفن عون وتيسير! فالحدود الفنية تذلل طريق الفنان الحقيقي ولا تعيقه.
إنها أم رءوم ترتب خزانته،
ورفيقة شفافة حيية تفكر له وتعينه على عجزه،
وتتحفه بالطرف حتى لا يكاد يرى وجهها المتواري خلف أكداس الهدايا.
الفصل التاسع
الفن والأخلاق
عارف التقديس روحي وإن قدس جسما.
العقاد
الشعر يتيح لقاء الفرادات، معيدا خلقنا باستمرار في وحدة إنسانية كونية، إنه يدخلنا في نشوة هي حالة من النوم اليقظ، وفي هذا النوم الذي هو الصحو الأكمل، يعمل البشر بأخوة لصيرورة العالم.
أدونيس
كم من حرية عارمة تمنح لمن يتحدث إلى الغوغاء بمسلماتها المقبولة! فأقل ما يمكن للدولة أن تفعله هو أن تحمي من لديهم قول يحتمل أن يسبب شغبا، إن ما لا يؤدي إلى الشغب ربما لا يستحق أن يقال.
كلايف بل (1) الفن خير
يقدم كلايف بل في فصل «الفن والأخلاق» تحليلا لمفهوم «الخير» يسترشد فيه بحدسية جورج مور
G. Moore
في كتابه الذائع الصيت «مبادئ علم الأخلاق»
، ويخلص منه إلى نتيجة مفادها أن الحالات الذهنية الخيرة هي وحدها خير كغاية في ذاتها، ويترتب على ذلك أن علينا لكي نبرر أي نشاط إنساني تبريرا أخلاقيا أن نتساءل: هل هذا النشاط هو وسيلة إلى حالات ذهنية خيرة؟ أما في حالة الفن فإن جوابنا سيكون فوريا وقائما على خبرة وجدانية حقيقية؛ فالفن ليس فقط وسيلة إلى حالات ذهنية خيرة، بل ربما يكون أقوى الوسائل التي في حوزتنا وأكثرها مباشرة، إنه أكثرها مباشرة لأنه لا شيء أسرع منه تأثيرا في الذهن، وأكثرها قوة لأنه لا توجد حالة ذهنية أكثر امتيازا وشدة من حالة التأمل الإستطيقي، وأنت حين تعد أي شيء عملا فنيا فإنك إذن تقيم حكما أخلاقيا خطيرا؛ لأنك بذلك تعده وسيلة إلى الخير مباشرة وفعالة بحيث لا يعوزنا أن نكرث أنفسنا بأي شيء من نتائجه المحتملة، وحتى لو لم يكن الأمر كذلك، فإن عادة إقحام اعتبارات أخلاقية في عملية الحكم بين أعمال فنية معينة لن يكون لها ما يبررها، فليقم الداعية الأخلاقي حكما على الفن ككل، وليقيض له ما يرى أنه مكانه الصحيح بين وسائل الخير، ولكن إذا كان المقام مقام أحكام إستطيقية، أي أحكام مقارنة بين أعضاء فئة واحدة، أي بين الأعمال الفنية بوصفها أعمالا فنية، فليمسك هذا الداعية لسانه.
1 (2) المفارقة
كلنا يعرف قصيدة «بانت سعاد» لكعب بن زهير، ويعرف قصتها، وهي قصيدة جادة في مدح الرسول والاعتذار له، يقول مطلع هذه القصيدة:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
متيم إثرها لم يفد مكبول
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا
إلا أغن غضيض الطرف مكحول
هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة
لا يشتكى قصر منها ولا طول
تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت
كأنه منهل بالراح معلول
شجت بذي شبم من ماء محنية
صاف بأبطح أضحى وهو مشمول
تقول هذه الأبيات فيما تقول: إن بطلة القصيدة، سعاد، نحيلة إذا نظرت من الأمام، وكبيرة العجز إذا نظرت من الخلف، أسنانها حين تبتسم تنم عن ثغر بارد، كأنه تناول قدحين من خمر ممزوج بماء شديد البرودة ...
كيف تلقى النبي هذه القصيدة؟
لم يجتزئ، ولم يخلط «المقولات»
categories ، ولم يحمل الأبيات ما لا تحتمل، بل قام، ببساطة، وخلع بردته على مبدعها، تعبيرا عن أعلى درجات التكريم. •••
بين الفن والأخلاق علاقة منطقية دقيقة حتى المفارقة
paradox ، وتحتاج منذ البداية إلى حنكة كبيرة في ترسيم الحدود وفض الاشتباك، وإلا فهي تفضي إلى جدل عقيم لا يثمر، ونزاع طويل لا ينتهي.
فالفن موكل بمقولة «الإستطيقي» والأخلاق موكلة بمقولة «الخير»، وبديه أن مقولة «الإستطيقي» غير مقولة «الخير»، وأن الفن يوصف بالجودة أو الرداءة (الفنية)، ولا يصح أن يوصف بالشر أو الخير (الأخلاقي)، ومن يفعل ذلك يقع في «خطأ مقولي»
category mistake
أو «نظم لغوي فاسد»
bad syntax ، حسبما تفضل من تعبير، ومن الجهة الأخرى تعد الأخلاق هي القانون الذي يحكم نطاق الأفعال البشرية، والفن فعل أو نشاط بشري، فهو من ثم خاضع للنقد الأخلاقي شأنه شأن غيره من الأفعال والأنشطة.
هذه مفارقة واضحة، حلها أن الفن، من حيث هو فعل بشري، مطالب تماما بتبرير نفسه، غير أن مقولات الأخلاق يجب ألا تدخل أرض الإستطيقا؛ إذ إن نطاق الإستطيقا نطاق محايد أخلاقيا أو «خامل أخلاقيا»
amoral ، ولا حكم فيه إلا لمقولة «الإستطيقي»، ولكن بمجرد أن نحكم على عمل بأنه «عمل فني» حقيقي، أي ذو قيمة إستطيقية، أي ذو شكل دال، نكون قد بررناه أخلاقيا أيضا؛ ذلك أن «الانفعال الإستطيقي» أو «الوجد» أو «النشوة»، هي «بحكم طبيعتها ذاتها»
ipso facto
حالة نفسية أو ذهنية خيرة؛ ومن ثم فإن كل ما هو «إستطيقي» هو خير أو وسيلة إلى الخير.
يعرف ذلك معظم الناس ويأتونه بالسليقة، فحتى أكثر الناس تعففا وترفعا عن الهذر واللغو لا يجدون في أنفسهم غضاضة ولا يستشعرون ذنبا في تلقي النكات الجريئة في السياق الحياتي المناسب؛ فالضحك البريء «خير» وجلاء لصدى القلوب، والنكتة البارعة بمثابة عمل فني ينطوي على حبكة متقنة ودلالة شكلية وأداء فني، فهي في ذاتها خير، ولا تصير شرا إلا إذا أريد بها غير ذلك، وغني عن القول أن النكتة السخيفة أو البذاءة المجانية ليست فنا ولا تؤدي إلى انفعال فني، وهي إذن شر لا شك فيه، وعمل لا أخلاقي دون جدال.
وفي تراثنا العربي إشارات كثيرة تدل على أن المتأدبين من السلف قد فطنوا إلى هذه الفروق الدقيقة، من ذلك ما ورد في كتاب «المختار من شعر بشار للخالديين». «... فمن تلك الأخبار ما روي عن أبي الهيثم خالد بن يزيد أنه قال: لما بويع لإبراهيم بن المهدي بالخلافة طلبني وكان يعرفني، فأدخلت عليه فلما مثلت بين يديه وسلمت عليه أجلسني وقال: يا خالد أنشدني، فقلت: يا أمير المؤمنين ليس شعري مما قال فيه رسول الله «إن من الشعر لحكما.» وإنما أعبث وأمزح به، فقال: يا خالد لا تقل هكذا فالعلم جد كله. وروي عنه أيضا أنه قال له: جد الأدب جد وهزله جد. وقال الأصمعي يوما في مجلسه: لا تحقرن شيئا قيل في جد أو هزل فربما نيل بهزل العلم ما لم ينل بجده ... وروي أن بعض التابعين سئل عن إنشاد الرفث في الشعر وقيل له إن قوما يقولون إنه لمما ينقض الوضوء ويفسد الصلاة، فنهض قائما وتوجه إلى القبلة ثم أنشد (شعرا على الرجز بذيئا ولكن جيدا) وأتبعه: الله أكبر، فصلى صلاة ثم استقبل السائلين، فناب لهم ما رأوا من فعله عن استدعاء المجاوبة عما سألوا عنه بقوله.»
2
وبعد؛ فقد أوردت ما أوردت من حديث الهذر والمجون لأنه مثال صارخ يبين لنا أن كل ذي حساسية فنية من الناس يعي في دخيلته تلك العلاقة الدقيقة بين مقولتي «الإستطيقي» و«الأخلاقي»، ويبطن في نفسه كلا من المفارقة وحلها، وتأويل ذلك أنه يعرف «الوجد الإستطيقي» (النشوة الإستطيقية)
aesthetic ecstasy
ويعرف بالبداهة أنه خير.
وقد نوه بل إلى هذه المسألة منذ البداية، ومنذ البداية هدته دقته المنطقية إلى أن يفصل فصلا قاطعا بين الفن واللافن؛ فالعمل الذي ينطوي على شكل دال هو عمل فني وهو خير بطبيعته أيا كان موضوعه؛ إذ هو يؤدي إلى حالة ذهنية خيرة هي الانفعال الإستطيقي، ويفلت بفضل ذلك من طائلة الناقد الأخلاقي، أما العمل الذي لا يحوز على شكل دال ولا يؤدي إلى انفعال إستطيقي بل يثير انفعالات الحياة، فهو ليس عملا فنيا، إنه «عمل» كأي عمل، وهو خاضع بالتالي للحكم الأخلاقي، ولا يشفع له موضوعه ولا مقصده، وربما اعتبر شرا حتى لو كان يتحدث عن موعظة الجبل؛ لأنه يثير انفعالا رديئا ورضا ذاتيا زائفا، يقول كلايف بل في فقرة صارت مأثورة: «إن الفن فوق الأخلاق، أو بالأحرى كل فن هو أخلاقي؛ ذلك أن الأعمال الفنية كما أود أن أبين هي وسائل مباشرة إلى الخير، فما إن نحكم على شيء بأنه عمل فني حتى نكون قد حكمنا بأنه ذو أهمية قصوى أخلاقيا وجعلناه دون منال الداعية الأخلاقي، غير أن الأعمال الوصفية التي ليست أعمالا فنية، وبالتالي ليست بالضرورة سبلا إلى حالات ذهنية خيرة، هي جديرة أن تقع تحت طائلة الفيلسوف الأخلاقي، وما دامت لوحة «الطبيب» ليست عملا فنيا، فهي تفتقر إلى القيمة الأخلاقية الهائلة التي تتحلى بها جميع الموضوعات التي تبعث النشوة الإستطيقية، وإن الحالة الذهنية التي تفضي إليها بوصفها صورة إيضاحية تبدو لي غير مرغوب فيها.»
3
إن لوحة «الطبيب» للسير لوك فيلدز ليست، في رأي كلايف بل، عملا فنيا؛ ذلك أن الشكل فيها لا يستخدم كموضوع للانفعال بل كوسيلة لاقتراح انفعالات والإيعاز بعواطف، وهذا يكفي وحده لجعلها تافهة، بل إنها أكثر من تافهة لأن العاطفة التي توعز بها هي عاطفة كاذبة. إن ما توعز به ليس الشفقة والإعجاب بل إحساس بالرضا الذاتي عن شفقتنا نحن وكرمنا، إنها ابتذال أو إسفاف عاطفي.
ويتفق ألكسندر إليوت مع كلايف بل تمام الاتفاق حول لوحة «الطبيب» وأشباهها؛ «فالطبيب الجالس في الظلام قرب فراش الطفل المريض فيه من النبل ما لا يتحمله المرء، وكذلك الصورة كلها، فوراء النبل السكري اللزج الذي في محتواها الظاهر، ينبض قلب من حجر، راض عن نفسه، لكان أليق بهذا الطبيب أن يكون عنكبوتا أسود سمينا يحوك للطفل كفنا! ... هل من أذى في محتوى كامن من هذا القبيل؟ قد يكون الأمر باعثا على بعض المرح، إلا أنه مؤذ؛ لأن تجربة المحتوى الكامن في صورة «الطبيب» دون رفضها، تعني مشاركة المشاهد، عن وعي أو غير وعي، في أمر فارغ سخيف كشريك سخيف راض عن نفسه.»
4 «بيد أن للمحتوى الكامن في الروائع أثرا في النفس كأثر الخير، إن الرائعة تجربة خيرة دائما، ولا حاجة بالمرء إلى إدراك محتواها الكامن في سبيل استمداد خيرها، فخيرها آت مع التجربة نفسها، وإذا استطاع المرء بعد ذلك أن ينظم تفكيره بشأنها، كان ذلك خيرا على خير.»
5
تلك هي الجراحة المنطقية البارعة التي يقوم بها كلايف بل، فيفصل المقولات المشتبكة، ويحدد المصطلحات الملتبسة، ويوضح العلاقات الغامضة، ويضع كل شيء في نصابه، فإذا بالمشكلات القديمة تتبدد، وتحفظات أفلاطون وتولستوي على الفن تأخذ مجراها وحجمها، ومغالطات النزعة الجمالية
aestheticism (التي كان بل أكبر مناوئيها) تتكشف ولا تختلط بالشكلية ولا تتشبه بها، وإذا «الرقابة» ذاتها تعرف مكانها ومضمارها وعملها وتأتي بصيرة كأنما ألقي على وجهها قميص يوسف.
إن الفن هو أقدر الأشياء جميعا على تبرير وجوده الخاص، يقول برول
prall
في كتابه «الحكم الجمالي»
Aesthetic Judgement : «وإذا كان النشاط الإستطيقي هو ذاته مرض على نحو مباشر بدلا من أن يسعى إلى تبرير مستمد من مجال خارج عنه، فإن له هذا المركز الفريد الذي لا يحتاج فيه لشيء غيره، وهو في واقع الأمر النمط النموذجي للشيء الوحيد الذي يمكن أن يبرر أي شيء آخر.»
6
يقول وولتر باتر
Walter Pater
في خاتمة كتابه «عصر النهضة»
Renaissance : «إن الغاية ليست هي ثمرة التجربة، بل الغاية هي التجربة ذاتها ... والفلاح في الحياة إنما هو أن يحترق المرء دائما بهذا اللهيب الحاد، الذي هو أشبه بالجوهرة النفيسة، ويبقي على هذه النشوة ... وفي الوقت الذي يذوب فيه كل شيء تحت أقدامنا، فإننا نستطيع أن نمسك بزمام أي انفعال رائع ... يبدو أنه يحرر الروح لحظة واحدة ويرفع آفاقها، أو نتمسك بأية إثارة للحواس. إن فرصتنا الوحيدة تكمن في الحصول على أكبر قدر ممكن من النبضات في وقت واحد، وأبدع مصدر لهذه التجربة هو حب الفن لذاته ... إذ إن الفن يأتي إليك وقد اعترف صراحة بأنه لا يزمع إعطاءك إلا أرفع مستوى للحظاتك وهي تمر؛ وذلك من أجل هذه اللحظات فحسب.»
7 (3) فائدة الفن
ما فائدة الفن؟
وهل يبقى بعد كل ذلك مكان لمثل هذا السؤال؟ ... ربما.
كثيرا ما يماري الأشخاص «العمليون» من الناس في قيمة الفن وفائدته، وكذلك يفعل الأشخاص «غير المستنيرين»
philistine
ممن لم تتكون لديهم ذائقة فنية تفتح لهم عالم التجربة الإستطيقية، يسأل هؤلاء: ما نفع هذا العبث وما هو مردوده وجدواه في الحياة العملية الواقعية؟ ويظنون لعماهم الإستطيقي أن سؤالهم مسكت مفحم لكل متحمس للفن إنتاجا أو تلقيا، وربما كان الأبلغ أن نجيب على سؤالهم بسؤال مثله: ما جدوى الجهد البشري العملي المكرور إذا كانت كل أفعال الحياة اليومية هي وسائل لغايات هي بدورها وسائل أخرى لغايات أبعد يقف الموت من ورائها جميعا ساخرا مقهقها؟! الحق أن كل جهد بشري «عملي» هو من هذا المنظور الأعرض عبث لا جدوى منه ما لم يؤد في نقطة معينة إلى تجربة تكون طريفة ممتعة «في ذاتها»؛ ومن ثم فإذا سأل سائل «ما قيمة التجربة الجمالية؟» لكان الجواب في حقيقة الأمر أوضح وأيسر مما لو وجه السؤال نفسه بخصوص أي نوع آخر من التجربة؛ فقيمة التجربة الجمالية ملموسة في التجربة ذاتها لكل من تعهد ذائقته الجمالية بالتنمية والصقل، إنها فيض هائل من القيمة وضروب عديدة من الجدوى، ليس أقلها أنها طرافة خالصة مكتفية بذاتها، ومتعة عالية ممتدة لا تشوبها أكدار ولا أوزار، ولا تعقب وراءها ألما ولا ندما. (4) الفن والمجتمع
وبدلا من أن يقولب الطبيعة، كالساحر أو العالم، فإنه يعيد صياغة الطبيعة الإنسانية؛ فهو بالأغاني والصور يرأب الصدع الذي يقع دوما بين الإنسان الواحد وبقية الخلق.
ألكسندر إليوت
للفن آثار اجتماعية هائلة لعلنا ألمحنا إليها جميعا خلال حديثنا عن الجوانب الأخرى للفن؛ فهي منبثة في تضاعيفه منذ البداية؛ فالفن يغير شخصيتنا وتجربتنا في المجالات غير الإستطيقية للحياة، ويجعلنا أكثر حكمة وسموا، ويعمق رؤيتنا لذاوتنا وذوات الآخرين. إن للفن وجها موضوعيا أساسيا وبعدا «بينذاتيا»
intersubjective
يدخل في صميم ماهيته؛ فالفن اقتراب لا اغتراب، ولقاء معقود وموعد مضروب. إن المبدع والمتلقي «متضايفان»
correlatives (كالأستاذ والتلميذ، والزوج والزوجة، والأب والابن ... إلخ) يأخذ كل منهما من الآخر حقيقته ومعناه، بل إن البشر جميعا في اللحظة الإستطيقية يغدون ذوبا من تضايف عام وامتزاج كلي.
إن الفن يطلعنا على دينامياتنا النفسية وديناميات الآخرين، ويعتقنا من «مركزية الذات»
egocentrism
ويؤهلنا للاندماج العاطفي أو «المواجدة»
empathy
أي القدرة على اتخاذ الإطار المرجعي للآخرين بسهولة ويسر، ومشاركتهم وجداناتهم مشاركة حقيقية مبرأة من إسقاطاتنا الخاصة. الفن هو أقدر ضروب النشاط البشري تعبيرا عن التواصل بين الأفراد وبين الأجيال وبين الأمم؛ لأن الوجد الإستطيقي لا يحده الزمان ولا ترده الحدود الجغرافية، إنه انعتاق من كل صنوف المركزية وانطلاق من كل كهوف التعصب والتحزب والتحيز، وأذان للأرواح بأن تنعطف وتأتلف، وتتقاسم رحابة الوجود.
والفن بوظيفته المعرفية التي أشرنا إليها في فصل سابق، يفتح لنا مغاليق العالم الوجداني، فإلى جانب العلم الذي يزيد من تمكننا الفكري والتصوري من العالم، فإن الفن يزيد من تمكننا الإدراكي والانفعالي، فبفضل كتاب من طراز شكسبير وبروست أمكننا أن نفطن إلى دقائق سيكولوجية ما كان لنا أن نراها، وبالتالي نحسها، لولا قدرتهم على اقتناصها والتعبير عنها، وبفضل مصورين من طراز سيزان ومانيه تعلمنا كيف ننظر إلى الأشياء ونلاحظ العالم، وكيف ننتشي بالتحامنا بالوجود والتقائنا بماهية الأشياء، ومهما أمدنا العلم من معرفة عن حقائق العالم الخارجي، سنبقى بحاجة إلى الفن لكي يزودنا بمعرفة عن عالمنا الداخلي وفضاءات أعماقنا السحيقة.
أقترح، بناء على ذلك، أن يكون الفن (والأدب) علاجا لبعض المصابين بالألكسيثيميا
alexithymia ؛ أي عدم قدرة المرء على فهم مشاعره ووصفها ومعالجتها
processing ، وما يصحب ذلك من مصاعب شخصية وبينشخصية؛ مثل فقر الخيال، وضعف الحدس، والمواجدة، والذكاء الانفعالي، والانفصال العاطفي، وضعف التواصل، وفقدان اللذة والإشباع الحياتي، بالإضافة إلى تحول هذه المشاعر المختلطة والمهوشة وغير المتميزة وغير المترجمة؛ تحولها إلى الجسد في صورة اضطرابات نفسجسمية
psychosomatic
وآفات جسدية حقيقية؛ فمن المعروف أن العجز عن تنظيم الانفعالات معرفيا (عدم إدراكها وتمييزها وعرفانها وتصنيفها وبالتالي تنظيمها والتعامل معها) يرفع وتيرة الجهاز العصبي المستقل
autonomic nervous system
والجهاز العصبي الهرموني
neuroendocrinal system
على نحو مستدام، مما يؤدي إلى المرض الجسمي، لكأنما الطوفان المختلط لم يجد له قناة سيكولوجية تتولاه فاقتحم الجسد يدمر ويتلف، أو كأن المشاعر المجهولة لم تجد لها ترجمة سيكولوجية فاضطرت إلى الترجمة الجسدية الموبقة! إلى هذا الحد إذن تبلغ أهمية شكسبير وبروست، وشوبان وموتسارت، وسيزان وجوجان؟! إلى هذا الحد يكون لزوم الفن وضرورته؟! •••
ولا يفوتنا في هذا المقام أن ننبه إلى أن النتائج غير الإستطيقية للفن تترتب تلقائيا على التجربة الإستطيقية الحقيقية، وأنها تأتي طوعا لا كرها، وعلينا ألا نتكلف اكتسابها فنخسرها، وألا نلتفت إليها فنجفل ظبيتها، ونضيعها حرصا وتعملا وإلحاحا. إن شأنها كالإيمان أو كالحب، تجيء ولا تطلب، تأتي ولا يؤتى بها.
ولا يفوتنا أن ننبه أيضا إلى أن التماس أي منفعة للفن من طريق آخر غير طريق الدلالة الإستطيقية هو إبطال للفن ونفي لماهيته ذاتها؛ فالفن الدعاوي والإرشادي والتزييني ليس فنا، بل تناقضا ذاتيا، شأنه شأن «النقطة الممتدة» أو «المربع المستدير»، والإصرار على توظيف الفن لخدمة أغراض حياتية مباشرة هو خسران لوظيفة الفن الحقيقية التي لا يقدر على الاضطلاع بها أي نشاط آخر، وتحميله في الوقت نفسه دورا تستطيع مرافق أخرى - كالإعلام والفكر والسياسة والجامعة ومراكز البحث - أن تقوم به على نحو أفضل. (5) تصحيح الواقع
الإبداع تمرد بحكم التعريف.
يقول نيتشه «ما من فنان يتحمل الواقع.» أما فان جوخ فقد كتب: «أزداد اقتناعا يوما بعد يوم أن هذا العالم الأرضي هو مخطط دراسي غير ناجح.» وما من فنان حق إلا جعل شغله الأول أن يعيد رسم هذا المخطط الدراسي، وأن يمنحه الأسلوب الذي إليه يفتقر، وما من روائي حق إلا جعل عالمه الروائي تصحيحا دائما لهذا العالم وفق رغبة الإنسان الصميمية، فهو يستخدم الواقع ولكنه يضيف إليه ما يبدله، «ودائما بانحراف طفيف هو علامة الفن والاحتجاج.» على حد قول كامي؛ «فالخلق وعطاء التمرد هما في هذا الانحراف الذي يمثل أسلوب عمل ما ولهجته.» وما من شاعر حق إلا جعل همه الأكبر أن ينفصل عما استنفدته الكلمات واستهلكته، وأن يعلم الألفاظ أن تنسى ماضيها وتقول ما لم تتعود أن تقوله، وتتمرد على سجن النموذج الذهني القديم، وهو إذ يفعل ذلك إنما يخلخل الفكر أيضا ويخلصه ويلهمه، ويجعله حريا بالكشف جديرا بالنور.
كان نيتشه يحلم بمجتمع مستقبلي يوجهه الفنانون، ورغم تهافت هذه الفكرة واستحالة أن يدير شكسبير مجتمع الحذائين على كل حال، فمن الوبال أيضا على مجتمع الحذائين أن يدعي الاستغناء عن شكسبير، فشكسبير بلا إسكاف، يتخذ ذريعة للطغيان، والإسكاف بلا شكسبير، يبتلعه الطغيان، هذا إذا لم يسهم في توسيعه! إن كل إبداع هو بطبيعته رفض لعالم السادة والعبيد، ومجتمع الطغاة والعبيد الفظيع الذي ما يزال جاثما علينا لن يزول ولن يحول إلا عند مستوى الإبداع. (6) خلق الضمير
وللفن تأثير اجتماعي أبعد من كل ما ذكرناه، ولعله أسماها جميعا وأهولها، إنه ... خلق الضمير! «إن الفنان الحقيقي كائن تنتظم علاقته بمجتمعه الخاص في صورة تعارض واختلاف، يصحبه الشعور بالحاجة إلى إنهاء هذا الخلاف وإقناع الآخرين بالحقيقة التي يراها.»
8
والفن الحقيقي جدل مع الثوابت، وتمرد على الوضع القائم لا سدانة له وتزيين. الفن الحقيقي هو إضافة «ذوات» جديدة إلى الوجود، هي الأعمال الفنية. الفن الحقيقي يتحدى القيم القديمة، ويخالف المدونة الأخلاقية السائدة في سبيل أخلاق أسمى وأرفع، أي في سبيل مثل أعلى لم يسد بعد ولكنه حقيق أن يسود، يقول روبرتو متى الرسام التشيلي المعروف في كلمة ألقاها في مؤتمر هافانا إلى مثقفي العالم: «الشعر سلاح خفي، حرب عصابات داخل النفس على الأعراف والمصالح الذاتية المصطنعة، والرياء في النقد الذاتي، حرب على الأفكار الاتفاقية المبتذلة، في سبيل الذكاء المبدع.»
الفن لا يقلد الحياة، الحياة هي التي تقلد الفن وتستلهمه، الفن يخلق أبطالا جددا في الحياة، ولنا أن ندعو الفنانين رواد التطور الإنساني الواعي، «أولم يكن هوميروس بطلا أعظم من هكتور، بله أخيل العديم الشفقة؟ لقد كان بطلا لا ليجزر أبطالا آخرين بل ليخلقهم، ويهبهم الخلود، والأبطال الذين من خلقه يظهرون لنا المدى العجيب لما يستطيع الإنسان أن يستشعره ويفعله، وبهذا يخلقون أبطالا جددا في الحياة. لقد كان هوميروس أستاذ الإسكندر، بقدر ما كان أرسطو؛ فالنماذج التي فرض الإسكندر على نفسه تقليدها والعيش على غرارها كانت هرقل وأبطال هوميروس.»
9
في قصة جيمس جويس «صورة الفنان في شبابه»، وهي سيرة ذاتية ترجم فيها لنفسه أيام كان شابا يتلقى العلم، يصور جويس الصراع العنيف الذي نشب بين شخصيته وشخصية مجتمعه، بين ما يريده لنفسه وما يريده له النظام القائم، فيتمرد على ثقافة مجتمعه وقيمه، ويلتمس آفاقا أرحب وثقافة لا تحد بلغة أو وطن أو جيل، فيتعلم ما يقرب من عشرين لغة، ويتمثل ثقافات وحضارات بائدة وحية، وينذر نفسه للفن ويضحي في سبيله برضا والديه وإخوته، ويطلق على نفسه اسم ديدالوس اعتزازا بصنعته وفنه، فقد كان ديدالوس في الميثولوجيا اليونانية سيد الحرفيين الصناع ومعلمهم، وهو الذي بنى قصر التيه (اللابرنت) الشهير لملك كريت، وهو قصر لا يعرف من يدخله كيف يخرج منه، وقد بناه للملك ليستعمله عند الخطر، فسجنه الملك فيه هو وابنه إيكاروس، واستطاعا الطيران والهروب (وبقية القصة معروفة، إذ يصعد إيكاروس مقتربا من الشمس في نشوة الطيران والوثوب، ويسقط هالكا على صخرة في البحر، تبكيه من حولها حوريات الماء).
لعل هذا هو تأويل قول جويس في ختام «صورة الفنان»: «مرحبا أيتها الحياة ... ها أنا ذا أخرج للمرة بعد المليون، لأواجه واقع التجربة، ولأصوغ لقومي في مصهر (ورشة الحدادة) روحي ضميرا لم يخلق بعد (ما زال خاما).
الضمير إذن ليس إرثا تسلمناه عن أسلافنا كاملا مكتملا، ليس شيئا جاهزا نمنحه ونؤتمن عليه، ليس الوضع القائم
status quo ، ليس البيئة المدخلة
internalized environment ، ليس الأنا الأعلى
superego ، إنه الشطر الإنساني من العالم، ومهمة خلقه تقع على عاتق الإنسان؛ ذلك المخلوق الخالق الذي كتب عليه أن يوجد خارج واقعه وخارج ماهيته، وأن يصنع مصيره الخاص ويبدع قيمه بنفسه.
الضمير ليس شيئا جاهزا؛ إن الفنان «يخلقه» بأشكاله الدالة، حتى لو لم يكن يفطن لذلك، وكلنا يشارك في خلقه بالتلقي الإستطيقي والإبداع الخاص مهما كان ضئيلا، ونحن إذ نفعل ذلك إنما نشارك في تشكيل عام جديد نفترض أنه يسير في ارتقاء قيمي دائم. (7) قيمة القيم
يقولون ما فائدة نظرية علمية بلا تطبيق عملي، فهي تئود الذهن ولا تريح الكاهن؟ وما فائدة نغمة لا تغمس لقمة ... وكلمة لا تدفع نقمة؟
وأزيدهم: وما فائدة تمسيدة حنان؟ في ميناء الحياة، على جبين مكدود لن أراه مرة ثانية؟
وأقول إن السؤال الصحيح لم يسأل:
ما فائدة عمل طاحوني يبدأ من حيث ينتهي؟
وما فائدة لقمة ما يزال يجادلها الجوع؟
وسلامة هي حسبك من داء دفين، ما دمنا في الحياة زائرين غير مقيمين.
لا فائدة في العمل واللقمة والسلامة، ما لم تنته بنا سلاسلها إلى نهايات من معدن آخر ... نهايات تقوم في ذاتها قيمة.
الحق والجمال والخير ليست سلاسل بل نهايات.
ليست وسائل، بل غايات.
إنها قيم.
إنها ... مطلقات. (8) بعد الوجد «إن من قدر له يوما أن يعرف الوجد ويتبدد في «أوه ألتيتودو»
O Altitudo
واحدة، لن يكون له أن يؤخذ بإثارات العمل الفارغة ويغالي في تقديرها، ومن وهب القدرة على أن يأوي إلى عالم الوجد سيعرف كيف يتعامل مع الوقائع الخارجية بحجمها، جدير ذلك الذي يختلف كل يوم إلى عالم الانفعال الإستطيقي أن يعود إلى عالم الشئون البشرية مسلحا لمواجهتها بشجاعة، وربما بشيء من الازدراء.»
10
وبعد؛ فإن دخول العمل الفني ليس مثل خروجه،
ربما يكون دخولك تزجية للوقت،
أو دفعا للسأم أو محض صدفة،
غير أنك تخرج دائما من الرائعة الفنية بكيمياء مختلفة،
وخطوة مختلفة،
وطريق مختلف.
الفصل العاشر
الفن: مقاربات نثرية
وإذا ما فقد الإنسان صراط الجمال مرض. لقد كان الغرض الأول من الفن البدائي أن يسعف الإنسان في شفاء مثل هذا المرض، بل إن ميزة الشفاء هذه هي قاعدة الفن كله.
ألكسندر إليوت
عود
منعما بالكفاف مزدانا بالتقشف،
ترقد أنت بين أشياء أخرى،
بعضها من خشب مثلك؛
مقعد، طاولة، خزانة ...
وبعضها غير ذلك،
وبعضها أطعمة وأشربة،
أخاطبها جميعا ب «هو»،
وأخاطبك ب «أنت»!
جميعها «موضوعات» وأنت «ذات»،
جميعها محطات وأنت نهاية،
جميعها وسائل وأنت غاية،
جميعها ربقة وأنت خلاص،
جميعها سجن وأنت انعتاق،
جميعها تعصب وتحجب، وأنت تكشف وتبين،
جميعها تخيب وترهق وتدوخ (مثل خرقة الماتادور)،
وتسلق أحجارا لجوعى الروح
وتتركهم كالذي كانوا،
وأنت تغمرهم في الوجد،
وتسقيهم شرابا لا ظمأ بعده،
وتتركهم خلقا آخر. ... ... ...
ترقد أنت بين الأشياء الأخرى وكأنك بعضها،
وأنت تعلم أن البون بعيد
بين بلادة السفح وعزة الذرى،
بين طين السقوط وأثير الصعود،
بين رتابة الظلام
وفجأة البرق.
جرامافون
لم يحدث قط أن صدر عن دماغ أي مشعوذ نظرية أكثر شؤما من نظرية التطور في الفن.
كلايف بل: الفن
البحر أقدم والنفوس قديمة
فالنفس تألفه ولا تنساه
العقاد
ولو كنا نعرف خطوة الرقصة لتمكنا ربما من مد خيط في اللابرنث.
1
ألكسندر إليوت
لماذا يأسرنا هذا النغم الخارج من التاريخ؟
لماذا تعرفه الروح وتأنس إليه؟
ألأنه يتولى عنها شيئا تريد أن تقوله؟
لأنه يخاطبها بلغتها التي لا نعرفها؟
لأنه يرد إليها شيئا سرقته؟
ويغمرها بشجون قديمة لا نذكرها ولا ننساها؟ ... ... ...
لماذا يبدو هذا النغم جديدا كأنه ابن اليوم؟
وطليعيا كأنه ابن الغد؟
أهو قديم حقا؟
أم هو، ببساطة، شيء لا زمن له؟ ... ... ...
أهو خيط أريان؟
الذي يرد المرء إلى نفسه،
وينتزع عنه عصابة الحس وهذيان الجسد،
ويخلصه من ظله ويعيد إليه التوجه؛
فيفرح بالخلاص،
وينتشي بالعرفان كأنما أطبقت عليه حقيقة كل شيء،
وتأخذه الدهشة،
وتأخذه الغبطة،
ويأخذه الوجد؟
عازف
لا تدق على الوتر هذه الدقات ما دمت لا تعرف ماذا تفعل بنا: ... ... ...
تؤوب بنا إلى اللغة البدئية الأولى؛
اللغة الأصل التي تخط الحقيقة كما هي قبل أن تأتي اللغات وتطمس،
اللغة التي كنا نتحدثها في وطننا الأول،
قبل أن «نرمى بظلنا»،
قبل أن تغربنا الحياة وتصيبنا باللكنة،
تذكر الروح بأشياء قديمة وشجون أصلية،
تفضح زيف كل شيء، وتكشف أننا لا نرى إلا الغطاء من دون الصميم، ولا نسمع سوى اللغط من دون الحق، الحق الراسخ ذي الأقدام، والباقي بعد زوال الأوهام.
بل أنت تعرف ... وإلا لما كنت تضرب هذه الضربات بعينها من بين ما لا حد له من الضربات الممكنة.
أنت تعرف اللغة الأصلية،
أنت تعرف السر.
حلول
ليس في الألوان بل في التناسق،
ليس في الأصوات بل في التوافق،
ليس في الكتل بل في النسب،
ليس في الكلمات بل في السياق،
ليس في المعاني بل في أفق المعاني،
ليس في الأعضاء بل في حوار الأعضاء، ... ... ...
يقطن المطلق.
قلب الحجاز
2 «خبرات الأجيال لا تزدرى، القواعد يسر وإلهام، وتنقية وتطهر.»
خلجات كثيرة مرت من هنا
منذ أحقاب سحيقة،
فعبدته لأفواج تأتي،
وردته ذلولا للسالكين. ... ... ...
قلب الحجاز خزانة الشجن،
ومجمع النشوات.
صراط الجمال من حاد عنه خيب وأعثر،
ومن لزمه بلغ الوجد،
وارتوى ارتواء الأبد،
وانطفأ الانطفاء الصحيح.
أم كلثوم
قلما يفشل إنسان في بلوغ النجاح والازدهار في مثل هذا الوقت والبلد، إذا كان يحمل في جنباته بذورا.
ول ديورانت (عن العصر الإليزابيثي)
زورة من عصر بناة الأهرام! (وإن كانت الأهرام نغما متجمدا وأم كلثوم عمارة في الزمان.)
زورة طارئة، موسم نادر.
ثمة أعصر تنبغ فيها الأنفس وتستفيق أرواح الأمم،
أعصر يغفل زبانيتها فترتع الكائنات وتتعهد ذاتها!
ويشطأ النبت ويعشب الحجر ويدب العصير في عروق الخلائق،
تعجب فيها كم تبلغ الهامات وتسمق القامات،
وتدرك فيها أن الوجد هو الأصل،
أن الإبداع هو الأصل،
أن الجمال هو الأصل.
يوم كانت مصر وهابية ... وأن أتصوره أبدا هوى سابحا، وروحا هائما، وصوتا هافيا يشرب بالأذن صرفا ...
إبراهيم عبد القادر المازني
عبد الوهاب
سماء فراديسية معطرة
كانت مسبلة على مصر لنصف قرن من الزمان.
نصف قرن من الزمن ومصر نصفها بلد،
ونصفها حلم!
بسمة
لن يفلح التصنع إلا في أن يعيق اتحادنا.
طاغور
فيض أبيض،
مطمئن كحليب الجوز،
صحو كسريرة الرضيع،
الله ينفخ فيها
من صدقه،
فترفع ككتف أطلس،
وتحيي ككف المسيح،
وتلج إلى الروح كمن يدخل داره،
وتلتئم بالقلب كأنها بعضه. ... ... ...
الصدق
كلمة السر التي تفتح لها المغاليق وتفسح الطرق،
وتحتكم في المملكة الحقيقية؛
المملكة الحقيقية المحجوبة داخل ممالك الزيف وتيجان الكذب. ... ... ...
الصدق
ما أندره!
وما أعصاه!
وما ألغزه!
رصانة
لم يقرض الفن شيئا فيأخذ منه،
وشب ولم تتخلق لديه ذائقة الفن ولم تبرعم فيه مستقبلات الجمال،
وها هو يعبر على بدائع الفن واطئا كخنزير على خبز البنين،
ويقبع بين روائع الفن رصينا كالخصي بين الحريم. •••
كلما هلك الإبداع الحقيقي حلق البغاث الأكاديمي.
فتوق في الزمن
الجمال يكره الفائض،
مثلما تكره الشموع النزق.
البلاغة إيجاز،
والشعر لمح،
والفن إيماء وإشارة
وطرح للزائد،
ونبذ لكل معلوم ومفهوم ومستبق،
وتجليات الجميل بروق خاطفة،
لا تستهلك زمنا
لأنها فتوق في الزمن.
أنثوية الفن!
في الجمال كثير من صفات الأنوثة؛
فهو لمح وإيماء وإغواء،
وغيب وبعد ووعد،
ونداء حيي، وهمس نافذ، وبوح صامت،
ودلال محظي وغموض محبب،
يتنكب العنف والاقتحام،
ويبغض التصريح والمباشرة،
وهو إمكان يكره الجزم،
وولاف يضم النقائض ويحتملها،
وهو لطف وعطف وصفح،
وانسيابية ونداوة وطراوة.
الفصل الحادي عشر
قطوف من كتاب «الفن» لكلايف بل
إن نقطة البدء في كل نسق إستطيقي ينبغي أن تكون هي الخبرة الشخصية بانفعال خاص، ونحن نطلق على الأشياء التي تثير هذا الانفعال اسم «الأعمال الفنية»
works of art ، ويتفق كل ذي حس مرهف من الناس على أن هناك انفعالا خاصا تثيره الأعمال الفنية، ولست أعني بطبيعة الحال أن كل الأعمال الفنية تثير نفس الانفعال؛ إذ، على العكس، يولد كل عمل من أعمال الفن انفعالا مختلفا، غير أنه من الممكن إدراك أن هذه الانفعالات جميعا هي من نفس الصنف، وعلى أية حال فالرأي الأرجح حتى هذا الحد هو في صفي. إن هناك صنفا معينا من الانفعال تثيره الأعمال الفنية البصرية، وهو انفعال يثيره كل نوع من الفن البصري: الصور وأعمال النحت والمباني والجرار وأعمال الحفر والنسيج، وأعتقد أن هذا شيء لا يماري فيه أي شخص لديه القدرة على أن يحس هذا الانفعال، ويطلق على هذا الانفعال «الانفعال الإستطيقي»
aesthetic emotion ، ولو أمكننا أن نكتشف صفة ما مشتركة ومميزة لجميع الأشياء التي تثير هذا الانفعال نكون قد ظفرنا بحل لما أعتبره المشكلة المركزية في الإستطيقا، أي نكون قد وقفنا على الصفة الجوهرية في العمل الفني، تلك الصفة التي تميز الأعمال الفنية عن جميع الفئات الأخرى من الموضوعات.
ذلك أنه لو لم تكن للأعمال الفنية صفة مشتركة تشملها جميعا، لكان حديثنا عن «الأعمال الفنية» لغوا وثرثرة، كلنا يتحدث عن «الفن» واضعا بذلك تصنيفا ذهنيا يفرق به بين فئة «الأعمال الفنية» وجميع الفئات الأخرى، فما هو المبرر العقلي لهذا التصنيف؟ وأيا ما كانت هذه الصفة فمما لا شك فيه أنها كثيرا ما توجد مصاحبة لصفات أخرى، غير أن هذه الصفات عرضية بينما الصفة التي نلتمسها جوهرية، لا بد أن هناك صفة مفردة محددة لا يمكن أن يوجد بدونها عمل فني، وإذا حاز عليها أي عمل فستكون له بعض القيمة على أقل تقدير، فما هي هذه الصفة؟ ما الصفة التي تشترك فيها جميع الأشياء التي تثير انفعالاتنا الإستطيقية؟ ما الصفة التي تجمع بين كنيسة القديسة صوفيا، والنوافذ في كاتدرائية شارتر، والنحت المكسيكي، والآنية الفارسية، والسجاد الصيني، وجداريات جوتو الجصية في بادوا، وروائع بوسان وبييرو دلا فرانشسيكا وسيزان؟ يبدو أن ليس هناك سوى جواب واحد ممكن، هو «الشكل ذو الدلالة» (الشكل الدال)
Significant Form ، ففي كل منها فإن الخطوط والألوان إذ تتضام بطريقة معينة، وإن أشكالا معينة وعلاقات الأشكال، تثير انفعالاتنا الإستطيقية، هذه العلاقات والحبكات من الخطوط والألوان، هذه الأشكال المحركة إستطيقيا، أطلق عليها «الشكل الدال»، و«الشكل الدال» هو الصفة الفريدة التي تشمل كل أعمال الفن البصري. •••
تتمتع فرضية «الشكل الدال بوصفه الخاصية الجوهرية للعمل الفني» بمزية تفتقر إليها كثير من الفرضيات الأكثر شهرة وإثارة؛ وهي أنها تسعفنا بالفعل في تفسير أمور كثيرة، كلنا مثلا نألف لوحات تثير اهتمامنا وإعجابنا دون أن تهزنا كأعمال فينة، تحت هذه الفئة من اللوحات يندرج ما أسميه «التصوير الوصفي»
Descriptive Painting ؛ أي ذلك الصنف من التصوير الذي يستخدم فيه الشكل لا كموضوع للانفعال بل كوسيلة لنقل معلومات واقتراح عواطف، في هذا التصنيف تدخل البورتريهات
1
ذات القيمة السيكولوجية والتاريخية، وتدخل الأعمال الطوبوغرافية واللوحات التي تروي حكايات وتوحي بمواقف، وتدخل وسائل الإيضاح بجميع أنواعها. إن الفرق واضح لنا جميعا؛ فمن منا لم يتفق له يوما أن يقول إن هذه أو تلك من اللوحات هي رسم ممتاز كوسيلة إيضاح ولكنه لا قيمة له كعمل فني؟ هناك بالطبع كثير من اللوحات الوصفية التي تتحلى، فيما تتحلى به، بالشكل الدال، غير أن هناك عددا أكبر لا يتحلى بذلك. إنها تروقنا وتطرفنا وقد تحركنا بمائة طريقة متنوعة، عدا أن تحركنا إستطيقيا. إنها وفقا لفرضيتي ليست أعمالا فنية، فهي لا تمس انفعالاتنا الإستطيقية؛ ذلك لأن ما ينالنا منها ليس الشكل بل الأفكار التي يقترحها الشكل أو المعلومات التي ينقلها.
قلما حظيت لوحة بالشهرة أو النجاح الذي حظيت به لوحة فريث
Frith «محطة بدنجتون»
،
2
ومن المؤكد أنني آخر من ينفس عليها شهرتها ورواجها، ولكم تريثت إزاءها وأطلت تأملها لأحلل تفصيلاتها الفاتنة وأصوغ لكل منها ماضيا متوهما ومستقبلا مستحيلا، ولكن رغم أنه من المؤكد أن رائعة فريث أو طبعات منها قد غمرت الآلاف بآماد من المتعة المدهشة والعجيبة، فليس أقل توكيدا أنها لم تبث في خبرة أي مشاهد آنة واحدة من النشوة الإستطيقية؛ ذلك وإن اللوحة لتتضمن العديد من الانتقالات اللونية البارعة، وأنها أبعد ما تكون عن أخطاء الرسم. إن لوحة «محطة بدنجتون» ليست عملا فنيا بل وثيقة طريفة ومسلية؛ فالخطوط والألوان فيها تستخدم لكي تردد حكايات وتوعز بأفكار وتشير إلى طرائق وعادات عصر من العصور، إنها لا تستخدم لتبث انفعالا إستطيقيا؛ فالأشكال وعلاقات الأشكال لم تكن بالنسبة لفريث موضوعات انفعال، بل وسائل لاقتراح انفعالات وتوصيل أفكار. •••
أود ألا يتصور أحد أن التمثيل شيء سيئ في ذاته؛ فليس هناك ما يحول دون أن يكون شكل واقعي ما، وهو منتظم في مكانه كجزء من التصميم، مضاهيا في الدلالة لآخر تجريدي، ولكن إذا كان لشكل تمثيلي قيمة فبوصفه شكلا لا بوصفه تمثيلا، فالعنصر التمثيلي في العمل الفني قد يضر وقد لا يضر، ولكنه دائما خارج عن الموضوع؛ ذلك أننا لكي ندرك عملا من أعمال الفن لا نحتاج إلى أن نأتي معنا بشيء من الحياة، أو بمعرفة بأفكارها وشئونها أو بإلف بانفعالاتها؛ فالفن ينتشلنا من عالم الدأب البشري إلى عالم الوجد الإستطيقي، ونحن في اللحظة الإستطيقية تنقطع أسبابنا بالاهتمامات البشرية، وتتوقف تطلعاتنا وذكرياتنا؛ إذ يشيل بنا الفن فوق تيار الحياة.
إن عالم الرياضيات البحتة المستغرق في دراساته يعرف حالة ذهنية أعتبرها شبيهة بذلك إن لم تكن مطابقة، فهو يشعر إزاء تأملاته بانفعال لا ينجم عن أي علاقة مدركة بينها وبين حياة البشر، بل ينبع - غير بشري أو فوق بشري - من قلب علم مجرد، وربما يذهب بي الظن أحيانا إلى أن مدركي الفن ومدركي الحلول الرياضية قد يكونون أكثر قربا وأوثق صلة حتى من ذلك، فأتساءل: قبل أن يأخذنا انفعال إستطيقي تجاه تجمع من الأشكال، ترانا ندرك بالفكر صواب هذا التجمع وضرورته؟ فإن صح ذلك فهو حري أن يفسر واقعة أننا إذ نمر سراعا خلال غرفة فنحن نميز جودة إحدى اللوحات، رغم أننا لا نستطيع أن نقول إنها أثارت فينا انفعالا كبيرا، فيبدو أننا نكون قد تبينا بالفكر صواب الأشكال باللوحة دون أن نتريث لنركز انتباهنا ونقبض على دلالتها الانفعالية كيفما كانت، فإذا كان الأمر كذلك فإن لنا أن نتساءل ما إذا كانت الأشكال ذاتها هي ما أدى إلى الانفعال الإستطيقي أم إدراكنا لصواب الأشكال وضرورتها؟ ولكن لا أظن أني بحاجة إلى أن أطيل الوقوف هنا لاستقصاء هذه المسألة، لقد كنت بصدد البحث عن سبب انفعالنا بتجمعات معينة من الأشكال، وما كنت لأستدرج إلى مسالك أخرى لو أنني تساءلت بدلا من ذلك: لماذا تدرك تجمعات معينة كصواب وضرورة، ولماذا يطربنا إدراكنا لصوابها وضرورتها؟ والجواب عندي هو هذا: إن الفيلسوف المستغرق، وذلك الذي يتأمل عملا من أعمال الفن، كلاهما يستوطن عالما ذا دلالة كثيفة وخاصة، دلالة لا شأن لها بدلالة الحياة. في هذا العالم لا محل لانفعالات الحياة؛ إنه عالم له انفعالاته الخاصة به وحده. •••
ليس من المستغرب على الإطلاق أن هناك عنصرا تمثيليا أو وصفيا خارجا عن الموضوع في الكثير من الأعمال الفنية العظيمة، وسوف أحاول في موضع آخر أن أبين لماذا هو غير مستغرب. إن التمثيل ليس موبقا بالضرورة، وليس هناك ما يمنع أن تكون بعض الأشكال البالغة الواقعية هي أشكال بالغة الدلالة، إلا أنه في أغلب الأحوال يكون التمثيل علامة ضعف في الفنان، فمن دأب الفنان الذي لا يقوى على خلق أشكال قادرة على إثارة انفعال إستطيقي كبير أن يتحايل على ضآلة ما يثيره باللجوء إلى انفعالات الحياة، وهو لكي يثير انفعالات الحياة فلا بد له أن يستخدم التمثيل؛ مثال ذلك أن يشرع رسام في تنفيذ مخططه، ولأنه يخشى أن تحيد رميته الأولى عن إصابة شكل جمالي فسوف يحاول الإصابة بالثانية بأن يوقظ انفعالا بالخوف أو الشفقة، ولكن إذا كان الميل إلى العزف على عواطف الحياة لدى الفنان هو علامة على خبو الإلهام في كثير من الأحوال، فإن ميل المشاهد إلى التماس عواطف الحياة وراء الشكل هو علامة على قصور الحساسية في جميع الأحوال؛ فهو يعني أن انفعالاته الإستطيقية ضعيفة أو غير تامة على كل حال، فإزاء العمل الفني يشعر الأشخاص الذين لا ينفعلون بالشكل الخالص إلا قليلا، أو لا ينفعلون على الإطلاق، بالحيرة الشديدة؛ فهم أشبه بالصم في حفل موسيقي. إنهم يعرفون أنهم ينبغي أن يشعروا إزاء هذا الشيء بانفعال هائل، غير أن الصنف الخاص من الانفعال الذي يمكن أن يثيره فيهم هو شيء يحسونه بالكاد أو لا يحسونه على الإطلاق، وهكذا يقرءون في أشكال العمل تلك الوقائع والأفكار التي يملكون القدرة على أن يشعروا بها؛ وهي الانفعالات المألوفة في الحياة، وعندما يواجهون بإحدى اللوحات فهم يردون أشكالها تلقائيا إلى العالم الذي أتوا منه، فهم يعاملون الشكل المبتكر كما لو كان شكلا مقلدا، ويعاملون اللوحة كما لو كانت صورة فوتوغرافية، وبدلا من أن يترحلوا على تيار الفن إلى عالم جديد من الخبرة الإستطيقية، فهم يولونه أظهرهم ويعودون أدراجهم إلى عالم الاهتمامات البشرية. إن دلالة العمل الفني بالنسبة لهم تتوقف على ما يجلبونه له؛ ولذلك لا يضيف الفن شيئا جديدا إلى حياتهم، إن هي إلا المادة القديمة قد أثيرت. إن العمل الفني الجيد ليحمل الشخص القادر على تذوقه ويخرج به من الحياة إلى الوجد، واستخدام الفن كوسيلة إلى انفعالات الحياة هو مثل استخدام تلسكوب لقراءة جريدة، وسوف تلاحظون أن الأشخاص الذين لا يقدرون على الشعور بانفعالات إستطيقية خالصة يتذكرون اللوحات بموضوعاتها، أما القادرون فكثيرا ما لا تكون لهم أي فكرة عما يكونه موضوع لوحة ما؛ ذلك أنهم لم يعيروا العنصر التمثيلي انتباها قط؛ ومن ثم فحين يناقشون اللوحات الفنية فهم يتحدثون عن الهيئة التي تتخذها الأشكال، وعن علاقات الألوان وكمياتها، وكثيرا ما يكون بإمكانهم أن يحكموا من خلال خط واحد ما إذا كان الفنان قديرا أو غير قدير. إن اهتمامهم بكامله منصب على الخطوط والألوان وعلاقاتها وكمياتها وكيفياتها، غير أنهم من خلال هذه الأشياء يظفرون بانفعال أكثر عمقا وأكثر جلالا بكثير من أي شيء يمكن أن يمنحه وصف الوقائع والأفكار. •••
يا لرداءة حالتي الذهنية المعتادة حين أكون في حقل موسيقي، ضجرا كنت أو محيرا فإنني أدع إحساسي بالشكل يفلت مني، وأفشل في فهم التآلفات الهارمونية فأظل أنسج بها أفكار الحياة، وأعجز عن الشعور بالانفعالات الصارمة للفن فأظل أقرأ في الأشكال الموسيقية عواطف بشرية من رعب وغموض وحب وكراهية، وأنفق اللحظات - مستمتعا إلى حد مرض - في عالم من المشاعر الآسنة المتدنية، فلو أن نتفا من أبشع ضروب التمثيل الأونوماتوبي
3
قد أقحمت داخل السيمفونية في هذه اللحظات، لما تأذيت، بل الأرجح جدا أنني سأبتهج لها وأسر، فهي حرية أن تقدم لي منطلقات جديدة لتيارات المشاعر الرومانسية والتفكير البطولي. إنني أدري تماما ما الذي حدث؛ لقد كنت أتخذ الفن سبيلا إلى انفعالات الحياة وأقرأ فيه أفكار الحياة. لقد كنت أقطع جلاميد صخر بموسى حلاقة، لقد ترديت من الذرى العالية للنشوة الإستطيقية إلى السفوح الحميمية للحياة البشرية الدافئة. إنها وطن بهيج، ولا يخجلن أحد من إمتاع نفسه هناك، كل ما في الأمر أن من عرف يوما عز الأعالي فعسير عليه ألا يستشعر في الأودية الدافئة شيئا من الهوان، ولا يتصورن أحد، لمجرد أنه قد جعل يمرح حينا في أرض الرومانسية الذلول الدافئة وأركانها الطريفة، أن بإمكانه حتى أن يحرز بما تكونه المواجيد الصارمة والمثيرة لأولئك الذين ارتقوا القمم البيضاء الباردة للفن. •••
ولكن رغم أن أصداء الفن وظلاله تثري حياة السهول فإن روحه تسكن أعالي الجبال. إن من يتودد إلى الفن ودا مشوبا فحسب، فإن الفن يرد له صنيعه مضاعفا؛ فالفن كالشمس تدفئ البذرة الصالحة في تربة صالحة وتتيح لها أن تؤتي ثمارا صالحا، ولكن وحده العاشق الكامل من يذخر له الفن هدية عجيبة جديدة - هدية فوق كل ثمن. إن أصحاب الود الممذوق يجلبون إلى الفن ويغنمون منه أفكار عصرهم الخاص وعواطف حضارتهم، فلعل امرءا في أوروبا القرن الثاني عشر قد تأثر غاية التأثر بكنيسة رومانسكية بينا لم يجد شيئا في إحدى لوحات أسرة تانج، ولعل النحت الإغريقي كان يعني الكثير لامرئ من عصر لاحق في حين لا يحرك النحت المكسيكي فيه ساكنا؛ إذ كان بمقدوره أن يجلب للأول حشدا من الأفكار المتداعية لتكون موضوعات لانفعالات مألوفة، أما العاشق الكامل، ذلك الذي يملك الشعور بالدلالة العميقة للشكل، فإنه يربأ فوق عوارض الزمان والمكان. إن مشكلات الأركيولوجيا والتاريخ وسير القديسين هي بالنسبة إليه أمر خارج عن الموضوع، فمتى كان شكل العمل دالا أصبح مصدره غير ذي صلة، إنه محمول أمام جلال تلك الصور السومرية في اللوفر على نفس التيار الانفعالي وإلى نفس النشوة الإستطيقية التي كانت تحمل العاشق الكلداني منذ أربعة آلاف عام خلت. إن آية الفن العظيم أن جاذبيته عالمية خالدة، فالشكل الدال يبقى مشحونا بالقدرة على إثارة انفعال إستطيقي في أيما شخص قادر على الشعور به. إن أفكار البشر لتموت عاجلا كالجراجس
4
وتذهب أدراج الرياح، وإن البشر ليبدلون مؤسساتهم ويغيرون عاداتهم مثلما يغيرون ستراتهم، فما كان يعد نصرا فكريا في عصر يعد حماقة في عصر آخر، وحده الفن العظيم يبقى ثابتا لا يذهب بهاؤه؛ لأن المشاعر التي يوقظها مستقلة عن الزمان والمكان؛ ذلك أن مملكة الفن ليست من هذا العالم، فماذا يهم بالنسبة لأولئك الذين يملكون حسا بدلالة الشكل إن كانت الأشكال التي تحركهم قد أبدعت في باريس أمس الأول أم في بابل منذ خمسين قرنا؟ إن أشكال الفن لا تنضب ولا تستنفد، بل تؤدي جميعا عن الطريق نفسه؛ طريق الانفعال الإستطيقي، إلى العالم نفسه؛ عالم الوجد الإستطيقي. •••
إن «ما بعد الانطباعية» شأنها شأن جميع الثورات الصحيحة، ليست أكثر من عودة وإنابة إلى المبادئ الأولى؛ ففي عالم يتوسم في الرسام أن يكون إما مصورا فوتوغرافيا وإما بهلوانا، ينبري الفنان «بعد الانطباعي» قائلا بأنه فوق كل شيء يجب أن يكون فنانا، «لا يكن همك التمثيل أو التتميم، النقل أو الصقل، فكر في خلق الشكل الدال، فكر في الفن.» هكذا يقول. إن خلق عمل فني هو مهمة جسيمة بحيث لا تترك منصرفا لتصيد شبه أو عرض براعة، وكل تقدمة على مذبح التمثيل هي شيء مسلوب من الفن. إن «ما بعد الانطباعية» ليست بحال ذلك الصنف المتعجرف من الثورة كما يفترض السوقة، بل هي في حقيقة الأمر عودة ومتاب، عودة لا إلى أي تقليد معين في الرسم بل إلى التقليد العظيم للفن البصري. إنها تضع نصب عين كل فنان ذلك المثل الأعلى الذي كان يضعه البدائيون نصب أعينهم، وهو مثل لم يعد يتعلق به منذ القرن الثاني عشر سوى عدد استثنائي من أهل العبقرية، ليست «ما بعد الانطباعية» سوى إعادة توكيد للوصية الأولى من وصايا الفن: «اخلق الشكل»
Thou shalt create form ، وهي بهذا التوكيد إنما تصافح - عبر العصور - البدائيين البيزنطيين وكل حركة حية جاهدت للبقاء منذ بداية الفن. •••
إذن، أن نرى الأشياء كأشكال خالصة هو أن نراها كغايات في ذاتها؛ فرغم أن الأشكال بالطبع مرتبطة بعضها ببعض كأجزاء في كل، فهي مرتبطو على قدم المساواة، إنها ليست وسيلة لأي شيء عدا الانفعال، ولكن ألا نشعر نحو الأشياء التي نراها كغايات في ذاتها بانفعال أعمق وأكثر إثارة من أي انفعال سبق لنا نحوها كوسائل؟ في تصوري أننا جميعا نحظى فعلا من وقت لآخر برؤية للأشياء كأشكال خالصة، إننا نرى الأشياء كغايات في ذاتها؛ أي إننا ننظر إليها - وهو ما يبدو في تلك اللحظات ممكنا بل مرجحا - بعين فنان، من منا لم يظفر، مرة في حياته على أقل تقدير، برؤية مفاجئة لمنظر طبيعي كشكل خالص؟ إنه لم ينظره في هذه المرة الفريدة كحقول وأكواخ، بل أحس به بالأحرى كخطوط وألوان، ألم يظفر من الجمال المادي في تلك اللحظة بهزة لا تفرق عن تلك التي يمنحها الفن؟ وإذا كان الأمر كذلك، ألا يتضح أنه قد ظفر من الجمال المادي بهزة لا يقدر على منحها بصفة عامة سوى الفن، لأنه قد اتخذ سبيلا إلى رؤيتها كتضام شكلي خالص للخطوط والألوان؟ ألا نمضي قدما ونقول إنه إذ رآها كشكل خالص، وبرأها من كل ضروب الاهتمام السببي والعارض ومن كل ما يمكن أن تكون قد اكتسبته من صلاتها ببني البشر، ومن كل دلالة لها كوسيلة، فقد أحس دلالتها كغاية في ذاتها؟
ما هي دلالة أي شيء بوصفه غاية في ذاته؟ ما الذي يتبقى عندما نجرد شيئا ما من جميع ارتباطاته؟ ماذا عساه أن يتبقى لكي يثير انفعالنا؟ ماذا غير ذلك الذي درج الفلاسفة على تسميته «الشيء في ذاته»
the thing in itself
ويسمونه الآن «الواقع النهائي»
ultimate reality ؟ هل أكون خياليا تماما إذا اقترحت ما اعتقده نفر من أعمق المفكرين من أن دلالة الشيء في ذاته هي دلالة «الواقع»
Reality ؟ هل من المحتمل ان يكون جواب سؤالي «لماذا نطرب كل هذا الطرب لتجمعات معينة من الخطوط والألوان؟» هو «لأن بقدرة الفنانين أن يعبروا بتجمعات الخطوط والألوان عن انفعال نحو الواقع يكشف عن نفسه من خلال الخط واللون»؟ •••
يتخيل السوقة أن ليس هناك سوى بؤرة واحدة؛ وهي أن «صواب» تعني دائما تحقيق تصور دقيق للحياة، وليس بإمكانهم أن يفهموا أنه قد تكون المشكلة المباشرة للفنان هي أن يعبر عن نفسه داخل مربع أو دائرة أو مكعب، أو أن يساوق توافقات هارمونية معينة، أو أن يوفق بين تنافرات معينة، أو أن يحقق إيقاعات معينة، أو أن يقهر صعوبات معينة خاصة بالوسيط
medium ، وهي مشكلات تقف على قدم المساواة مع مشكلة اقتناص مشابهة، هذا الخطأ يقع في الصلب من النقد السخيف الذي جعله الأستاذ شو موضة الكتابة . إن في مسرحيات شكسبير تفاصيل من السيكولوجيا ورسم الشخصيات شديدة الواقعية بحيث تذهل الجموع وتسحرهم، ولكن التصور
conception ، ذلك الشيء الذي نذر شكسبير نفسه لتحقيقه، لم يكن تمثيلا طبق الأصل للحياة، لا لم يكن خلق الإيهام
illusion
هو المشكلة التي اتخذها شكسبير قناة لانفعاله وبؤرة لطاقاته، لم يكن عالم مسرحيات شكسبير بأي حال من الأحوال شبيها بالحياة قدر عالم السيد جولزورثي
Galsworthy ؛ ومن ثم يحق لأولئك الذين تخيلوا أن مشكلة الفنان يجب أن تكون دائما هي تحقيق تطابق بين الكلمات المطبوعة أو الأشكال المرسومة وبين العالم كما يعرفونه؛ يحق لهم أن يحكموا بأن مسرحيات شكسبير أدنى مستوى من مسرحيات السيد جولزورثي، حقيقة الأمر أن تحقيق الصدق الواقعي، وهو ليس المشكلة الوحيدة الممكنة بأية حال، يتنازع هو وتحقيق الجمال (الملاحة) على نيل لقب أسوأ المشكلات الممكنة. إن التشبه بالحياة أمر سهل بحيث إن الاكتفاء به يترك أعلى قوى الفنان الانفعالية والفكرية عاطلة ولا يستنفرها أبدا أو يهيب بها، وبالضبط كما أن المشكلة الإستطيقية شديدة الغموض فإن المشكلة التمثيلية شديدة البساطة. •••
ما هي إذن زبدة القول في هذا الأمر كله؟ إنها في اعتقادي لا تزيد على هذا، يؤدي تأمل الشكل الخالص إلى حالة من النشوة العالية غير العادية وإلى انسلاخ تام عن هموم الحياة، عن هموم أثق أنها (وإنني لأتحدث عن نفسي) كثيرة جدا. إن من المغري أن نفترض أن الانفعال الذي يطرب هو شيء يوصله إلينا من خلال الأشكال التي نتأملها ذلك الفنان الذي أبدع الأشكال، فإذا صح هذا فإن الانفعال الموصل، أيا ما كان هذا الانفعال، لا بد أن يكون من ذلك الصنف الذي يمكن أن يعبر عنه في أي ضرب من ضروب الشكل؛ في لوحات، منحوتات، مبان، آنية، نسيج ... إلخ، الانفعال الذي يعبر عنه الفنان إذن يحل في بعض هذه الأشكال؛ ومن ثم فهي تؤثر فينا من خلال فهم الدلالة الشكلية للأشياء المادية، وما الدلالة الشكلية لأي شيء مادي سوى دلالة ذلك الشيء معتبرا كغاية في ذاته، ولكن إذا كان من شأن موضوع ما إذ ينظر إليه كغاية في ذاته أن يهزنا بعمق أكبر (أي تكون له دلالة أكبر) مما لو نظرنا إليه هو نفسه بوصفه وسيلة إلى غايات عملية أو كشيء متصل بالاهتمامات البشرية - وهو وجه الأمر بلا شك - فلا يسعنا إلا أن نفترض أننا متى نتأمل أي شيء كغاية في ذاته نصبح على وعي بتلك الخاصة الأبقى في ذلك الشيء من أي خاصة يمكن قد اكتسبها من دوام صحبته ببني الإنسان، وبدلا من أن نميز أهميته العرضية والمشروطة، فنحن نغدو على وعي بواقعه الجوهري، على وعي بالإله في كل شيء، بالكلي في الجزئي، بالإيقاع الذي يغمر الكل، فلتطلق عليه ما شئت من أسماء، فالشيء الذي أتحدث عنه هو ذلك الذي يقبع وراء المظهر من جميع الأشياء، ذلك الذي يضفي على جميع الأشياء دلالتها الفردية، الشيء في ذاته، الواقع النهائي، وإذا كان إدراك معين (لاشعوري تقريبا) لهذا الواقع الكامن للأشياء المادية هو حقا سبب ذلك الانفعال الغريب، ذلك الولوع بالتعبير الذي هو إلهام كثير من الفنانين، فمن المعقول أن نفترض أن أولئك الذين يخبرون نفس الانفعال دون عون من الأشياء المادية، قد وصلوا من طريق آخر إلى البلد نفسه.
تلك هي الفرضية الميتافيزيقية، هل علينا أن نبتلعها كاملة، أو نقبل بعضها، أو نرفضها كليا؟ على كل شخص أن يقرر ذلك بنفسه، فأنا لست مصرا إلا على صحة فرضيتي الإستطيقية، كما أنني متيقن من شيء واحد آخر. إن أولئك الذين يبلغون النشوة (الوجد)، وليكونوا فنانين أو عاشقين أو متصوفة أو رياضيين، هم أولئك الذين حرروا أنفسهم من الكبر والغطرسة البشريين، فمن شاء أن يحس دلالة الفن فعليه أن يتضع أمامه، أما أولئك الذين يرون الأهمية الأولى للفن أو الفلسفة هي في علاقتهما بالسلوك أو بالنفع العملي، أولئك الذين لا يستطيعون أن يقدروا الأشياء كغايات في ذاتها، أو كسبيل مباشر إلى الانفعال على أية حال، فما يكون لهم أن يظفروا من أي شيء بخير ما يمكن أن يمنحه، وأيا ما كان عالم التأمل الإستطيقي فما هو بعالم المشاغل والأهواء البشرية، إنه عالم لا تسمع فيه لغو الوجود المادي وصخبه، أو تسمعه كمجرد صدى لتوافق آخر أكثر جوهرية. ••• «ما هكذا الأمر»، كذلك يرد القديسون والفنانون وعقليو كمبردج وكل ذي معدن طيب؛ لأنهم يشعرون بأن عواطفهم الدينية والجمالية والأخلاقية ليست مشروطة بشكل مباشر أو غير مباشر بحاجات جسمية، ولا هي في الحقيقة مشروطة بأي شيء في العالم الفيزيائي. إنهم يحسون أن بعض الأشياء خير لا لأنها وسائل إلى الهناءة الجسمية، بل لأنها خير في ذاتها، فليست قيمة النشوة الإستطيقية أو الدينية متوقفة بأي حال على ما تقدمه من إشباع جسمي، ثمة أشياء في الحياة لا يمكن لقيمتها أن تتعلق بالعالم الفيزيائي، أشياء قيمتها ليست نسبية بل مطلقة، عن هذه الأمور أتحدث بحذر ودون سلطة: ولا يعوزني في غرضي المباشر - وهو أن أعرض تصوري للشخصية الدينية - سوى أن أقول إن من الناس من يبدو لهم التصور المادي للعالم مفسرا لتلك العواطف التي يحسونها بيقين أعلى ونزاهة مطلقة، حقيقة الأمر هي أن رجال العلم بعد أن دفعوا بنا إلى عادة محاولة تبرير مشاعرنا وحالاتنا الذهنية بردها إلى العالم الفيزيائي، قد حملوا بعضنا بالترهيب على أن يعتقدوا بأن ما لا يمكن تبريره بهذه الطريقة فهو غير موجود.
إنني أدعوه دينيا ذلك الإنسان الذي يوقن أن هناك أشياء هي خير في ذاتها وأن الوجود الفيزيائي ليس من بينها، فيسعى على حساب الوجود الفيزيائي إلى ما يبدو له خيرا؛ ومن ثم فإن كل أولئك الذين يعتقدون بإخلاص عنيد أن الحياة الروحية أهم من الحياة المادية، هم في فهمي دينيون. لقد رأيت في باريس على سبيل المثال رسامين صغارا، مفلسين ضامرين مقرورين مهلهلي الثياب، وليست زوجاتهم ولا أولادهم بأفضل منهم حالا؛ رأيتهم طيلة يومهم في نشوة محمومة منغمسين في رسم لوحات لا يؤمل لها رواج، ومن الجائز تماما أنهم كانوا حريين بأن يقتلوا أو يصيبوا أي شخص يقترح عليهم التوفيق بين فنهم ومتطلبات السوق، وحين كانت أدواتهم تنفد ورصيدهم ينقطع بالكامل كانوا يبيعون الجرائد خفية ويمسحون الأحذية حتى يمكنهم أن يواصلوا خدمة ولوعهم المسيطر. لقد كانوا دينيين بامتياز، فجميع الفنانين دينيون، وكل اعتقاد عنيد هو اعتقاد ديني. إن إنسانا تملكه حب الحقيقة بحيث آثر السجن أو الموت على الاعتراف بإله لا يؤمن بوجوده، هو إنسان ديني وشهيد في سبيل الدين، شأنه شأن سقراط ويسوع؛ ذلك أنه جعل لقيمه معيارا خارج العالم الفيزيائي.
يقال في مجال الأشياء المادية إن نصف رغيف خير من انعدام الخبز، لكن الأمر في مجال الأشياء الروحية غير ذلك، إن رجل السياسة سوف يؤيد مشروع قانون يعرف قصوره إذا ما رأى أن هذا القانون قد يعود بفائدة ما، إنه يدلي باعتراضاته ثم يصوت مع الأغلبية، وربما يكون تصرفه سليما، أما في المسائل الروحية فمثل هذه التسويات غير ممكنة. إن الفنان لا يسعه أن يقدم تنازلا لكي يرضي الجمهور؛ لأنه إذا فعل ذلك يكون قد ضحى بالشيء الذي يجعل للحياة قيمة، فإذا كان عليه أن يكذب ويعبر عن شيء غير ما يشعر به فلن يعود مسكونا بالحقيقة، وماذا يجديه أن يربح العالم كله ويخسر روحه الخاص؟ إنه يعرف أن في دخيلته شيئا أهم من الوجود الفيزيائي، شيئا ليس الوجود الفيزيائي إلا وسيلة إليه؛ فوجود احتمال بأن يحس هذا الشيء ويعبر عنه يجعل من الخير له أن يتشبث بالحياة، ولكنه ما لم يشعر بهذا الشيء ويعبر عنه على خير وجه فمن الأفضل له أن يموت. •••
أن ننقد عملا من أعمال الفن نقدا تاريخيا هو أن نتصرف بسخف من أسكره العلم، فلم يحدث قط أن صدر عن دماغ مشعوذ نظرية أكثر شؤما من نظرية التطور في الفن. إن جوتو لم يزحف، يرقة، حتى يرفرف تيتيان فراشة. إن من إساءة الفهم لفن شخص ما أن نعتبره مؤديا إلى فن شخص آخر، فإطراء عمل فني أو تسفيهه أو الاهتمام به لأنه يؤدي أو لا يؤدي إلى عمل فني ثان، هو بمثابة اعتباره شيئا آخر غير عمل فني؛ فقد تكون للصلة بين عمل فني وآخر شأن كبير بالتاريخ، ولكن هيهات أن يكون لها شأن بالتذوق الفني، فما إن نشرع في النظر إلى عمل ما دون اعتباره غاية في ذاته حتى نكون قد غادرنا عالم الفن، فرغم أن التطور في فن التصوير من جوتو إلى تيتيان قد يكون ذا أهمية من الوجهة التاريخية، فما كان له أن يؤثر على القيمة الفنية لأية لوحة معينة، فذاك أمر غير ذي بال على الإطلاق من الوجهة الإستطيقية. إن كل عمل من أعمال الفن ينبغي أن يقيم وفق حالته الموضوعية ودون تأثر بأي اعتبارات أخرى. •••
اعمر الكوكب الموحش بعقل إنساني واحد، يصبح كل جزء من هذا الكوكب ذا قيمة كامنة كوسيلة؛ لأنه قد يكون وسيلة إلى ذلك الشيء الذي هو خير كغاية؛ أعني حالة ذهنية خيرة. إن الحالة الذهنية لشخص في حالة حب أو مستغرق في التأمل تكفي في ذاتها، فنحن لا نعود نتساءل «أي غرض نافع تقدمه هذه الحالة، أي شخص تفيده، وكيف؟» بل نقول بمباشرة واقتناع: «هذا خير.» •••
حين تعد أي شيء عملا فنيا، فإنك إذن تقيم حكما أخلاقيا خطيرا؛ لأنك بذلك تعده وسيلة مباشرة وفعالة إلى الخير بحيث لا نحتاج إلى أن نكرث أنفسنا بأي شيء من نتائجه المحتملة، وحتى لو لم يكن الأمر كذلك، فإن عادة إقحام اعتبارات أخلاقية في عملية الحكم بين أعمال فنية معينة لن يكون لها ما يبررها، فليقم الداعية الأخلاقي حكما على الفن ككل، وليقيض له ما يرى أنه مكانه الصحيح بين وسائل الخير، ولكن إذا كان المقام مقام أحكام إستطيقية؛ أي أحكام مقارنة بين أعضاء فئة واحدة، أي بين الأعمال الفنية بوصفها أعمالا فنية، فليمسك هذا الداعية لسانه. إن الفن مساو لأعظم الوسائل إلى الخير، ولو ظن الداعية الأخلاقي أن الفن أقل من ذلك بأي شيء فقد أخطأ، ولو سلمنا على سبيل الموادعة أن الفن أدنى من بعض هذه الوسائل فسوف أذكره رغم ذلك أن أحكامه الأخلاقية حول قيمة أعمال فنية معينة لا شأن لها بقيمتها الفنية، ليس من حق الحكم في إبسوم أن يغمط الفائز في الدربي حقه لمصلحة الحصان الذي جاء قبل الأخير، لا لشيء إلا لأن هذا الحصان هو لأسقف بروجهام كنتربري.
عرف الفن كما تهوى، مؤثرا أن يكون ذلك وفقا لما طرحته من أفكار، وأنزله المنزلة التي تشاء في النسق الأخلاقي، ثم فاضل بين الأعمال الفنية حسب امتيازها بتلك الخاصية أو تلك الخصائص التي وضعتها في تعريفك باعتبارها الخصائص الجوهرية والمميزة للأعمال الفنية. قد تقيم بالطبع أحكاما أخلاقية حول أعمال معينة، ليس بوصفها أعمالا فنية بل بوصفها أعضاء في فئة أخرى، أو بوصفها أجزاء مستقلة وغير مصنفة من العالم، وقد ترى أن لوحة معينة لرئيس الأكاديمية الملكية هي وسيلة أعظم إلى الخير من إحدى لوحات نادي الفن الإنجليزي الجديد بكل مجده، وأن كعكة بقرش هي أفضل من الاثنتين، فأنت في مثل هذه الحالة إنما تقيم حكما أخلاقيا لا حكما إستطيقيا؛ ومن ثم سيكون من الصواب أن تأخذ بالاعتبار مساحة القماشة، وسمك الإطار والقيمة الممكنة لكل منها كوقود أو وقاء من تقلبات مناخنا القاسية، وعليك في عملية جمع الحسابات ألا تغفل آثارهما الممكنة على الكهول الذين يزورون برلنجتون هاوس وصالة عرش سافوك ستريت، وألا تغفل أيضا ضمائر أولئك الذين يمسون موارد الأوقاف أو أولئك الذين تدفعهم الرغبة في الربح إلى المحاكاة والتقليد؛ إنك عندئذ تقيم حكما أخلاقيا لا حكما إستطيقيا، وإذا كنت قد خلصت إلى أن كلتا اللوحتين ليست عملا فنيا، فأنت رغم مظنة تضييع وقتك ستكون بمنأى من السخرية، ولكن حين تتعامل مع لوحة بوصفها عملا فنيا تكون قد أقمت - ربما على نحو لاشعوري - حكما أخلاقيا أهم بكثير، لقد أدرجتها في فئة من الأشياء تعد وسائل قوية ومباشرة إلى النشوة الروحية بدرجة تمحي إلى جانبها جميع المزايا الصغرى، ورغم المفارقة الظاهرة، فإن الخصائص الوحيدة ذات الصلة بالعمل الفني بوصفه عملا فنيا هي الخصائص الفنية، فنحن إذا خصلنا إلى أن الخصائص الفنية هي وسيلة إلى الخير، فإن أي خصائص أخرى تغدو غير ذات بال، فليس ثمة خصائص تفوق الخصائص الفنية من حيث القيمة الأخلاقية، ذلك أن ليس هناك وسيلة إلى الخير أعظم من الفن. •••
سر الفن البدائي هو سر كل فن، في كل زمان، وفي كل مكان؛ الحساسية للدلالة العميقة للشكل قوة الخلق، لكليهما تفتقر عصبة الإخوة السعداء؛ ولذا فلا عجب أنهم تعين أن يجدوا المادة في أفعال التقوى وفي الأساطير والرموز، ويجدوا في الكهنوت الصحيح الجوهر نفسه للفن القروسطي، ومن أجل إلهامهم نظروا إلى الماضي بدلا من أن ينظروا حولهم، وبدلا من أن يغوصوا التماسا للحقيقة فقد التمسوها على السطح. الحق أن «قبل الرفائيليين» لم يكونوا فنانين بل أركيولوجيين يحاولون أن يجعلوا الفضول الذكي يقوم بعمل التأمل المشبوب العاطفة، وهم كفنانين لا يختلفون اختلافا جوهريا عن حشد المصورين الفيكتوريين، ولسوف يعيدون إنتاج الزخرف البراق للفن القوطي المتأخر بالتزام عبودي مثلما يعيد الأكاديمي الصارم إنتاج نفطات برتقالة، وإذا حاولوا فعلا أن يبسطوا - إذ إن بعضهم لاحظ تبسيط البدائيين - فقد فعلوا ذلك لا بروح فنان بل بروح قرد مجتهد.
التبسيط هو تحويل التفصيل غير ذي الصلة إلى شكل دال، كان بوسع واحد من «قبل الرفائيليين» شديد الجرأة أن يمثل قوس قزح بواسطة ورقتي نجيل دقيقتين دقة بالغة، غير أن ورقتي نجيل بالغتي الدقة هما خارجتان عن الموضوع خروج مليوني ورقة، إنما الدلالة الشكلية لورقة النجيل أو قوس قزح هي ما يعني الفنان، إن منهج قبل الرفائيليين هو في أفضل الأحوال رمزية وفي أسوئها سخف محض، ولو كان «قبل الرفائيليين» ينعمون بعقول عميقة التخيل لكانوا استردوا روح العصور الوسطى بدلا من تقليد مظاهرها الأقل دلالة، ولكنهم لو كانوا فنانين عظاما لما رغبوا في استرداد أي شيء، بل ابتكروا أشكالا لأنفسهم أو استقوها من محيطهم، تماما كما فعل فنانو القرون الوسطى، الفنانون العظام لا ينظرون وراءهم البتة. •••
عندما يشرف الفن على الموت كما كان في منتصف القرن التاسع عشر، ينظر للدقة العلمية على أنها الغاية الصحيحة للتصوير، يقول «الانطباعيون الأكاديميون»: حسن جدا، كن دقيقا، كن علميا. في أفضل الأحوال يسجل المصور الأكاديمي تصوراته، ولكن تصوره ليس واقعا علميا، ينبئنا أهل العلم أن الواقع المرئي للعالم هو اهتزازات ضوء، فلنتمثل الأشياء كما هي - علميا، لنمثل الضوء، لنرسم ما نراه، لا البناء الفوقي الذي نشيده فوق إحساساتنا، كانت تلك هي النظرية، ولو كانت غاية الفن هي التمثيل لكانت صحيحة بدرجة كافية، غير أن غاية الفن ليست التمثيل، كما عرف الانطباعيون العظام رنوار
Renoir
وديجا
Degas
ومانيه
Manet (اثنان منهما لا يزالان يعرفان لحسن الحظ) في اللحظة التي أقلعوا فيها عن الجدل وأرتجوا باب الاستديو على ذلك المنظر النابغ كلود مونيه
Claude Monet ، واعلم أن بعضهم (مونيه قرب النهاية مثلا) صنع مخططات متعددة الألوان فاجعة البلادة، ولم ينتج «الانطباعيون الجدد»
Neo-Impressionists
سورا
Seurat
وسينياك
Signac
وكروس
Cross
شيئا آخر، كان بمكنة أي «انطباعي»، تحت تأثير مونيه و«وتو»
Watteaw ، أن يصنع شيئا هزيلا رخوا لا شكل له، غير أن الأغلب حدوثا هو أن الأساتذة الانطباعيين، في سعيهم الخيالي والفاشل تماما إلى الصدق العلمي، خلقوا أعمالا فنية مقبولة من حيث التصميم ومجيدة من حيث اللون، هذه الواحة في صحراء أواسط القرن أبهجت، بطبيعة الحال، الأشخاص الغريبي الأطوار الذين يهتمون بالفن، ولقد تظاهروا في البداية بأنهم مستغرقون في الدقة العلمية للشيء، ولكن لم يمض وقت طويل حتى أدركوا أنهم يخدعون أنفسهم وكفوا عن الادعاء؛ ذلك أنهم رأوا بوضوح شديد أن هذه اللوحات تختلف اختلافا عميقا جدا عن النجاحات النادرة لورش العمل الفيكتورية، لا في احترامها المقدر للنظرية العلمية، بل في حقيقة أنها، رغم انصرافها الكبير أو التام عن اهتمامات الحياة العادية، تثير انفعالا أقوى وأعمق بكثير، وبرغم النظريات العملية، أثار الانطباعيون انفعالا يثيره كل فن عظيم، انفعالا لم يكن معظم الفنانين والنقاد الفيكتوريين، لأسباب واضحة، قادرين على الاعتقاد في وجوده، لم تعتمد ميزة هذه الصور الانطباعية، أيا ما كانت، على العالم الخارجي، ماذا عساها أن تكون؟ قال المشاهدون المسحورون: «الجمال المحض»، ولم يكونوا بعيدين كثيرا عن الصواب. •••
وكما حاولت أن أبين في موضع آخر فليس من الصعب أن نجد خطأ في النظرية القائلة بأن الجمال هو الصفة الجوهرية في العمل الفني، أي إذا كانت كلمة «جمال» تستعمل، كما يبدو أن ويسلر وتابعيه قد استعملوها، لتعني الجمال غير الدال؛ إذ يبدو أن الجمال الذي كانوا يتحدثون عنه هو جمال زهرة أو جمال فراشة، أما إنني قلما قابلت شخصا حساسا للفن لم يوافق في النهاية على أن العمل الفني يحركه بطريقة مختلفة تماما، وأعمق بكثير، من الطريقة التي تحركه بها زهرة أو فراشة؛ ولذا فإذا شئت أن تسمي الصفة الجوهرية في العمل الفني «جمالا» فإن عليك أن تميز بعناية بين جمال عمل من أعمال الفن وجمال زهرة، أو، على أية حال، بين الجمال الذي يدركه أولئك الذين ليسوا فنانين عظاما من بيننا في عمل فني وبين ما يدركه نفس الأشخاص في زهرة، ألا يكون من الأبسط أن نستخدم كلمات مختلفة؟ التمييز على أية حال هو تمييز حقيقي؛ قارن بين بهجتك بزهرة أو جوهرة، وبين ما تشعر به إزاء عمل فني عظيم، ولن تجد صعوبة، فيما أرى، في الاختلاف عن ويسلر.
ولأي شخص تهمه النظرية أكثر مما تهمه الحقيقة مطلق الحرية في أن يقول إن فن «الانطباعيين»، بأفكاره الباطلة عن التمثيل العلمي، هو فطر جميل ينمو بطريقة طبيعية تماما على خرائب المنحدر المسيحي، ولا يصح أن يقال الشيء نفسه عن ويسلر، الذي كان بالتأكيد في ثورة ضد نظرية عصره، إذ ينبغي ألا ننسى أبدا أن التمثيل الدقيق لما يحسب البقال أن يراه كان هو الدوجما المركزية للفن الفيكتوري. إن القبول العام لهذا الرأي - أن المحاكاة الدقيقة للأشياء صفة جوهرية للعمل الفني - والعجز العام عن خلق، أو حتى عن تمييز، كيفيات إستطيقية، هو ما يسم القرن التاسع عشر بوصفه نهاية منحدر، وإذا استثنيت فنانين متفرقين وهواة منعزلين فقد يسعك أن تقول إنه في منتصف القرن التاسع عشر لم يعد للفن وجود، وها هنا أهمية الفن الرسمي والأكاديمي لذلك العصر. إنه يثبت لنا أننا قد لمسنا القعر وبلغنا الحضيض. إن له أهمية الوثيقة التاريخية، في القرن الثامن عشر كان لا يزال هناك موروث فني، ما من مصور رسمي وأكاديمي، حتى في نهاية القرن الثامن عشر، معروف الاسم لدى عامة المثقفين ومرعية أعماله من قبل الجامعيين، إلا ويعلم جيدا جدا أن غاية الفن ليست المحاكاة، وأن الأشكال يجب أن تحوز بعض الدلالة الإستطيقية، أما أخلاقهم في القرن التاسع عشر فلم يعلموا، حتى الموروث مات، يعني ذلك أنه بصفة عامة وبصفة رسمية كان الفن ميتا، ولقد رأيناه يموت، وقد أخذت «الأكاديمية الملكية» و«الصالون» على تأدية غرضهما التاريخي المفيد، ولسنا بحاجة إلى أن نقول المزيد عنهما، وماذا عن تلك الزمرة الفنية بالتأكيد للقرن التاسع عشر، أولئك الذين جعلوا الشكل وسيلة إلى الانفعال الإستطيقي وليس وسيلة لذكر الحقائق ونقل الأفكار؛ أعني «الانطباعيين» و«الجماليين» (المتطرفين)
Aesthetes
مانيه ورينوار وويسلر وكوندر
Conder
و... و...؟ أنعتبرهم زهورا عرضية تتفتح على قبر أم بشارات بعصر جديد؟ ذاك شيء يتوقف على مزاج من يعتبرهم.
ولكن مخططا للمنحدر المسيحي قد يحسن أن ينتهي ب «الانطباعيين»؛ فالنظرية الانطباعية طريق مسدود، ومآلها المنطقي الوحيد هو «آلة فن»
art-machine ، آلة لتأسيس القيم على نحو صحيح، وتحديد ما تراه العين على نحو علمي، جاعلة إنتاج الفن بذلك يقينا ميكانيكيا، وقد أنبئت أن مثل هذه الآلة قد اخترعها رجل إنجليزي، أما لو أن آلة الصلاة هي حقا النقلة الأخيرة لديانة شائخة، فإن آلة جلب القيمة هي حقا بمثابة حادي روح الفن إلى عالم الموتى، لقد مر الفن من الخلق البدائي للشكل الدال إلى التقرير الشديد التحضر للحقيقة العلمية، وأعتقد أن هذه الآلة، التي هي النهاية الذكية والمحترمة، ينبغي الاحتفاظ بها، إذا كانت لا تزال موجودة، في سوث كنسينجتون، أو في اللوفر، إلى جانب الآثار الأقدم للمنحدر المسيحي، أما عن تلك النهاية غير الشائقة وغير المحترمة - أي الفن الرسمي للقرن التاسع عشر - فيمكن أن تدرس في مائة جاليري عام وفي معارض سنوية عبر العالم، إنها النهاية المتعفنة، والواضحة بالتالي. إن الروح التي ولدت مع انتصار الفن على الواقعية الإغريقية-الرومانية تموت مع إزاحة الفن وحلول الصورة التجارية محله.
ولكن إذا كان «الانطباعيون»، بعدتهم العلمية، وتكنيكهم المدهش، ونزعتهم الذهنية، يسمون نهاية حقبة، أليسوا مرهصين بمجيء حقبة أخرى؟ ثمة اليوم قلق بالتأكيد في مختبر الزمن السري، ثمة شيء مات، ولكن كما لاحظ ذلك الروماني الحكيم:
5
لا شيء يفنى حقا من الأشياء المنظورة، إنما يجبل الشيء من الشيء، والطبيعة لا تسمح بخلق جديد إلا بثمن من الموت.
ألا يحمل «الانطباعيون»، بقدرتهم على خلق أعمال فنية تقف على أقدامها الخاصة، ألا يحملون على أذرعهم عصرا جديدا؟ فإذا كان الذنب المغتفر للانطباعية هو نظرية شائهة، وشفيعها هو ممارسة مجيدة، فإن أهميتها التاريخية تتمثل في أنها قد علمت الناس أن تلتمس دلالة الفن في العمل ذاته، بدلا من التفتيش عنها في انفعالات العالم الخارجي واهتماماته. •••
إن سيزان نمط من الفنان الكامل، وهو النقيض التام لمحترفي صناعة اللوحات، ومحترفي صناعة القصائد، ومحترفي صناعة الموسيقى. لقد كان يخلق الأشكال لا لشيء إلا لأنه بهذا الفعل وحده يمكنه أن يحقق غاية وجوده؛ وهي التعبير عن إحساسه بدلالة الشكل، وعندما نكون بصدد الحديث عن الإستطيقا، فإن خير ما نفعله هو ألا نبالي بكل هذا، وأن ننصرف فحسب إلى الموضوع وتأثيره الانفعالي علينا، ولكننا حين نحاول أن نفسر التأثير الانفعالي للوحات، فإننا نلتفت تلقائيا إلى أذهان الأشخاص الذين صنعوها، ونجد في قصة سيزان معينا لا ينضب من الإلهام؛ فقد كانت حياته جهدا متصلا لخلق الأشكال التي يسعها أن تعبر عما أحس به في لحظة الإلهام. إن فكرة فن بلا إلهام، فكرة وصفة لصنع اللوحات، كان لا بد أن تبدو له ممتنعة، فلم يكن هم سيزان الحقيقي في حياته هو أن يصنع لوحات بل أن يصنع خلاصه، ومن حسن حظنا أنه لم يمكنه ذلك إلا بواسطة الرسم. إن أي لوحتين لسيزان من المتعين أن تختلفا فيما بينهما اختلافا بعيدا، فلم يحلم سيزان قط بأن يكرر نفسه، ولم يكن بإمكانه أن يتجمد في مكانه، وهذا هو السر في أنه استطاع بأعماله أن يلهم جيلا بكامله من الفنانين المتباينين الذين لم يتفقوا في شيء عدا استلهام سيزان؛ ولذا فلست أغض من شأن أي من الفنانين الأحياء حين أقول إن السمة الرئيسية للحركة الفنية الجديدة هي أنها مستمدة من سيزان. •••
لقد أمعنت الحركة المعاصرة في التبسيط وبلغت به شأوا أبعد بكثير مما بلغه مانيه
Manet
ورفاقه، وبذلك ميزت نفسها وافترقت عن أي شيء شهدناه منذ القرن الثاني عشر، فمنذ القرن الثاني عشر في فنون النحت والزجاج، ومنذ القرن الثالث عشر في فنون التصوير والرسم، أخذ التحول ينحو إلى الواقعية وينأى عن الفن، وإن جوهر الواقعية هو التفصيل، فمنذ زولا
Zola
أدرك كل روائي أن لا شيء يضفي على العمل صبغة واقعية جليلة مثل أن تدفع فيه بحشد من الوقائع الطفيلية (الخارجة عن الموضوع)، وقلما نجد من الروائيين من حاد عن هذه الطريقة وحاول أن يحذو حذوا آخر؛ فالتفصيل هو في الصميم من الواقعية، وهو الانحلال الدهني
fatty degeneration
للفن، أما الحركة المعاصرة فقد اتجهت إلى التبسيط وإلى التخلص من كل هذه الفوضى من التفاصيل التي أقحمها الرسامون في لوحاتهم من أجل إثبات الوقائع وتقريرها، غير أن المهمة كانت أكبر من ذلك؛ فقد كانت هناك عناصر خارجة عن الموضوع يقحمها الرسامون في لوحاتهم لأغراض أخرى غير تقرير الوقائع، من هذه الأغراض الاستعراض التكنيكي؛ فمنذ القرن الثاني عشر أخذت التعقيدات التكنيكية في التوسع المطرد، وأخذ الكتاب الذين ليس لديهم ما يقولونه يعتبرون التلاعب بالألفاظ كغاية في ذاته؛ فهم أشبه بطهاة ليس لديهم بيض فجعلوا يعتبرون وتيرة صنع العجة كفن جميل؛ خلط التوابل وفرم الأعشاب وإحماء النار وتهيئة الطواقي البيضاء، أما البيض فما لنا وماله، هذا أمر الله، ومن ذا يريد العجة حين يكون بوسعه أن يمارس الطهي؟ لقد بسطت الحركة الجديدة هذه الأمور واختزلت عدة الطهي، وعمدت إلى أن تطهر العمل الفني من أي عنصر لا يعدو أن يكون عرضا لحرفية الصانع. •••
من وجهة نظر المشاهد كان فنانو «ما بعد الانطباعية» موفقين بشكل خاص في تبسيطهم؛ فمن الممكن، كما نعلم، أن يتكون التصميم من أشكال واقعية كما أنه من الممكن أن يتكون من أشكال مخترعة، غير أن التصميم الجميل المكون من أشكال واقعية معرض بدرجة كبيرة لخطر التدني الإستطيقي؛ إذ يستلفت العنصر التمثيلي فيه نظرنا على الفور فتفوتنا دلالته الشكلية. إن من العسير جدا أن ندرك بالنظرة الأولى تصميم لوحة لفنان شديد الواقعية، أنجر
Ingres
على سبيل المثال، ذلك أن فضولنا البشري يغشي انفعالاتنا الإستطيقية، ولا نعود نرى الصور بوصفها أشكالا؛ لأننا سرعان ما نتأملها بوصفها أشخاصا، وفي المقابل فإن التصميم المكون من أشكال تخيلية خالصة خلو من أي مفتاح معرفي (سجادة فارسية مثلا) حري إذا كان شديد التركب والتعقيد أن يربك المشاهدين ذوي الحساسية المحدودة. أما الفنانون بعد الانطباعيين فإنهم باستخدامهم أشكالا محرفة بحيث تحبط وتحير الاهتمام والفضول البشريين، وتمثيلية رغم ذلك بحيث تسترعي الانتباه المباشر إلى طبيعة التصميم؛ قد وجدوا طريقا مختصرة إلى انفعالاتنا الإستطيقية. إن هذا لا يجعل اللوحات بعد الانطباعية أفضل من غيرها ولا أسوأ، بل يجعلها أيسر في إدراكها كأعمال فنية، ربما سيظل صعبا دائما على أغلب الناس أن يتأملوا الصور كأعمال فنية، غير أن اللوحات بعد الانطباعية ستكون في ذلك أقل عسرا من اللوحات الواقعية، بينما هم إذا كفوا عن تأمل الأشياء غير المزودة بمفاتيح تمثيلية (مثل بعض أعمال النسيج الشرقي) بوصفها آثارا تاريخية، فقد يجدون من العسير عليهم أن يتأملوها على الإطلاق.
لكي يبرز الفنان تصميمه فإنه يجعل همه الأول أن يبسط، غير أن مجرد التبسيط، أي التخلص من التفاصيل، لا يكفي؛ إذ لا بد للأشكال الإخبارية المتبقية أن تكون دالة، ولا بد للعنصر التمثيلي لكي لا يفسد التصميم أن يصبح جزءا منه، ويتعين عليه إلى جانب تقديم المعلومات أن يثير انفعالا إستطيقيا، وها هنا الموطن الذي تفشل فيه الرمزية. إن الرمزي يتخلص ولكنه لا يهضم ويتمثل، ورموزه، في عامة الأحوال، ليست أشكالا دالة بل ناقلات خبر شكلية؛ فالرموز ليست أجزاء مدمجة لتصور تشكيلي، وإنما هي اختصارات فكرية، والرموز لا يبثها انفعال الفنان بل يخترعها فكره، إنها مادة ميتة في كائن عضوي حي، وهي جاسئة
6
مغلقة؛ لأنها غير مغمورة في إيقاع التصميم. وليست الأساطير الشارحة التي اعتاد رسامو الصور التوضيحية أن يضعوها على أفواه شخصياتهم بأدخل على الفن البصري من الأشكال الرمزية التي أفسد بها كثير من الرسامين القديرين تصاميمهم. لقد تمكن دورر
Durer
في لوحته الشهيرة «ميلانكوليا»، وتمكن إلى حد ما في نقوش أخرى قليلة مثل «القديس يوستيس» و«العذراء والطفل» (المتحف البريطاني
B. 34. ) من أن يحول كتلة من التفاصيل إلى شكل مقبول الدلالة، غير أننا في الشطر الأكبر من أعماله (مثل «الفارس» و«القديس جيروم») نجد أن التصور الجميل قد أفسدته كتلة من الرموز غير المهضومة وأتت عليه. •••
إن التصميم هو تنظيم الأشكال، والرسم هو صوغ الأشكال ذاتها، ومن الواضح أن هناك نقطة يمتزج عندها الاثنان، ولكن هذا أمر لا يهمنا الآن، عندما أقول إن الرسم رديء فإنني أعني أنني لم أهتز لحدود الأشكال التي تكون العمل الفني، وباعتقادي أن أسباب رداءة الرسم مماثلة لأسباب رداءة التصميم، تأتي رداءة الرسم عندما لا يتطابق الشكل المرسوم مع جزء من تصور انفعالي؛ فالهيئة التي يتخذها كل شكل في العمل الفني يجب أن يمليها الإلهام ويفرضها، وأرى أن يد الرسام يجب أن تقودها ضرورة التعبير عن شيء ما قد أحسه لا إحساسا شديدا فقط بل إحساسا محددا أيضا، إن على الرسام أن يعرف مهمته، ومهمته إن كنت صائبا هي أن يترجم إلى شكل مادي شيئا ما قد أحس به في نوبة من النشوة؛ ولذا فإن الأشكال التي لا ترسم إلا لملء فجوات هي أشكال رديئة الرسم، وإن الأشكال التي لا تمليها أي ضرورة انفعالية، والأشكال التي تثبت وقائع، والأشكال التي تنتج عن نظرية في فن الرسم أو عن تقليد الأشياء الطبيعية أو تقليد أشكال الأعمال الفنية الأخرى؛ كل هذه أشكال لا قيمة لها، إنما يجب أن يكون الرسم ملهما، وأن يكون تجليا طبيعيا لتلك الهزة التي تصاحب الفهم الانفعالي للشكل. •••
ينصرف النساء والرجال الذين اهتزوا من فورهم للدلالة الإستطيقية الخالصة لأحد الأعمال الفنية، ويمضون إلى الحياة الخارجية وهم في حالة من الإثارة والطرب تجعلهم أكثر حساسية لكل ما يجري حولهم، وهكذا يدركون بحدة زائدة معنى الحياة وإمكانها، وليس من المستغرب أنهم لا بد أن يتأولوا هذا الحس الجديد بالحياة ويقرءوه في ذلك الشيء الذي أنتجه، لا بأس بذلك الفعل على الإطلاق، ولن أنازعهم في شأنه، فأن تتحرك مشاعرك للفن أهم بكثير من أن تعرف على وجه التحديد ما الذي يحركها، فقد أريد أن أذكرهم رغم ذلك بأنه إذا كان الفن لا يعدو ما يتخيلون أحيانا أنه الفن، لما كان له أن يحرك مشاعرهم بهذه الطريقة، إذا كان الفن مجرد إيعاز بمشاعر الحياة فلن يمنح العمل الفني لكل شخص أكثر مما جلبه كل شخص معه، إنما يحركنا الفن بهذا العمق وهذه السرية لأنه يضيف إلى خبرتنا الانفعالية شيئا ما جديدا، شيئا يأتي لا من الحياة البشرية بل من الشكل الخالص، أما أن الفن بالنسبة للكثيرين لا يكتفي بإضافة شيء جديد بل يبدو أنه يغير القديم ويثريه، فهو أمر مؤكد ولا يدعو إلى أدنى ابتئاس. •••
أطلقوا يد الفنان.
ها هو شيء يمكن أن يفعله للفن أولئك النفر ذوو النفوذ والشأن الذين يؤكدون دائما أنهم يودون أن يقدموا للفن أي شيء. •••
إذا كان المجتمع الشيوعي العظيم عاقدا العزم على إنتاج الفن - والمجتمع الذي لا ينتج الفن الحي مجتمع ملعون - فهناك شيء واحد، وواحد فقط، يستطيع أن يفعله، اضمن لكل مواطن، سواء أكان يعمل أم كان متبطلا، مجرد حد أدنى من العيش، ولنقل ستة بنسات في اليوم وفراشا في منيم عام، اجعل الفنان شحاذا يعيش على الإحسان العام، وامنح العاملين العمليين المجتهدين تلك الأشياء التي يحبونها؛ الرواتب الكبيرة، ساعات عمل قصيرة، المكانة الاجتماعية، المباهج المكلفة، واعط الفنان كفافه وأدوات عمله، لا تطالبه بشيء، واجعل حياته من الناحية المادية بائسة بحيث لا تجذب أحدا، بذلك لن يلجأ أحد إلى الفن عدا أولئك الذين يسكنهم الروح الحارس المقدس حقا لا ريب فيه، واجعل للجميع خيارا بين حياة الوظيفة المرموقة السلسلة العالية الأجر وحياة المتشرد المزرية، ليس لدينا شك يذكر حول اختيار الأغلبية، وليس لدينا شك على الإطلاق حول اختيار الفنان الحقيقي. إن الشبه كبير جدا بين الفن والدين، وفي الشرق، حيث يفهمون هذه الأشياء، كان هناك دائما انطباع بأن الدين يجب أن يكون شأن هواية. إن دعاة الهند شحاذون، فليكن فنانو العالم جميعا شحاذين أيضا. الفن والدين ليسا حرفتين، ليسا مهنتين يمكن أن يؤجر عليهما الناس. إن الفنان والقديس يفعلان ما يجب عليهما أن يفعلا، لا كسبا للعيش، بل امتثالا لضرورة سرية، إنهما لا ينتجان ليعيشا، بل يعيشان لينتجا، ولا مكان لهما في نظام اجتماعي يقوم على نظرية أن ما يصبو إليه الإنسان هو حياة ممتدة ممتعة، ليس بإمكانك أن تسلكهما في الآلة، بل يجب عليك أن تجعلهما غريبين عنها، يجب أن تجعلهما منبوذين، ذلك أنهما ليس جزءا من المجتمع، بل ما ملح الأرض. •••
يقال أحيانا، بحجج معقولة: إن الشعب المرهف الحس لن تكون به حاجة إلى المتاحف، ويقال إن من الخطأ أن تذهب في طلب الانفعال الإستطيقي، وأن الفن يجب أن يكون جزءا من الحياة، شيئا شبيها بجرائد المساء أو فاترينات المحال التجارية التي يستمتع بها الناس وهم ماضون في شئونهم، ولكن إذا كانت الحالة الذهنية لشخص يدلف إلى صالة عرض طلبا للانفعال الإستطيقي هي حالة غير مرضية بالضرورة، فبالمثل تكون حالة الشخص الذي يجلس ليقرأ شعرا، يغلق عاشق الشعر باب غرفته ويلتقط مجلدا لملتون وقد عقد النية على أن يخرج نفسه من عالم ويدخلها في عالم آخر. إن شعر ملتون ليس جزءا من الحياة اليومية، وإن يكن عند البعض مما يجعل الحياة اليومية محتملة. إن قيمة الصنف الرفيع من الفن لا تتمثل في قدرته على أن يصبح جزءا من الحياة العادية بل في قدرته على أن يخرج بنا منها. أعتقد أن وليم موريس هو الذي قال إن الشعر يجب أن يكون شيئا يستطيع إنسان أن يخترعه ويغنيه لرفاقه بينما هو يعمل على النول، لعل كثيرا جدا مما كتبه موريس قد اخترع أيضا بهذه الطريقة، ولكن لكي تخلق الفن الأعظم وتدركه فإن أقصى درجات الانفصال عن شئون الحياة تغدو أمرا ضروريا، ومثلما أن الرجال والنساء عبر العصور كانوا يذهبون إلى المعابد والكنائس بحثا عن نشوة لا صلة لها بمشاغل الحياة والكدح البشري، كذلك قد يذهبون إلى معابد الفن لكي يخبروا، خارج هذا العالم بعض الشيء، انفعالات تنتمي إلى عالم آخر. إن المتاحف والصالات تغدو مؤذية لا عندما تكون حرما نلوذ إليه من الحياة، حرما مكرسا لعبادة الانفعال الإستطيقي، بل عندما تكون فصولا ومعاهد بحث ومستودعات للتراث المنقول. •••
إذا شئتم أن يكون لديكم فن جميل وتذوق جميل للفن، ينبغي أن يكون لديكم حياة حرة جميلة لفنانيكم ولأنفسكم، ذلك شيء آخر يمكن للمجتمع أن يسديه إلى الفن، يمكن أن يقتل المثل الأعلى للطبقة الوسطى، وهل وجد قط مثل أعلى بهذه الهشاشة؟ ذلك الممهن الدءوب الذي يشق طريقه إلى النجاح المادي بالكدح والمثابرة على الاشتغال بالتوافه، ديك ويتنجتون
Dick Whittington ، أي مثل بطولي لأمة شجاعة! أي أحلام يحلمها عجائزنا، وأي رؤى تطوف برءوس عرافينا! ثماني ساعات من الإنتاج الذكي، وثماني ساعات من الاستجمام اليقظ، وثماني ساعات من النوم المنعش للجميع! يا لها من رؤية تتخايل أمام أعين شعب جائع، إذا كان ما تريدونه هو الفن العظيم والحياة الجميلة، فلا بد أن تتخلوا عن هذه الوسطية (النصفية)
mediocrity
الآمنة:
الراحة هي العدو، وما الإسراف إلا بعبع البورجوازية، الإسراف لم يحطم نفسا قط، ولا حتى الانغماس، إنما التآكل الدقيق المطرد الذي تحدثه الدعة هو ما يدمر، ذلك هو انتصار المادة على العقل، ذلك هو الطغيان الأخير، أتراهم أفضل حالا من العبيد أولئك الذين يتوجب عليهم أن يتوقفوا عن عملهم لأن حصة الغداء قد حانت، وأن يقطعوا حوارهم لكي يلبسوا للعشاء، وأن يغادروا على عتبتهم الصديق الذي لم يروه لسنوات من أجل ألا يفوتهم الترام المعتاد؟
بوسع المجتمع أن يفعل شيئا للفن؛ لأن بوسعه أن يزيد مساحة الحرية، وحتى السياسيون يمكنهم أن يقدموا إلى الفن خدمة؛ يمكنهم إلغاء قوانين الرقابة ورفع القيود عن حرية الفكر والقول والسلوك، ويمكنهم حماية الأقليات، ويمكنهم حماية الأصالة من سخط الدهماء الأنصاف، ويمكنهم أن يضعوا نهاية للمذهب القائل بأن من حق الدولة أن تقمع الآراء غير الشائعة لمصلحة النظام الشائع، كم من حرية عارمة تمنح لن يتحدث إلى الغوغاء بمسلماتها المقبولة! فأقل ما يمكن للدولة أن تفعله هو أن تحمي من لديهم قول يحتمل أن يسبب شغبا. إن ما لا يؤدي إلى الشغب ربما لا يستحق أن يقال، وفي الوقت الراهن، لعل أفضل شيء يمكن أن يفعله أي شخص عادي من أجل تقدم الفن هو أن يثور من أجل مزيد من الحرية. •••
والفن ماذا عساه أن يسدي إلى المجتمع؟
يضيف إليه روحا، بل ربما يطلق سراحه؛ فالمجتمع يلزمه خلاص.
مع نهايات القرن التاسع عشر بدت الحياة كأنها تفقد نكهتها، وبدا العالم رماديا مفتقر الدم، يعوزه الوهج، الرصانة أصبحت زيا سائدا، ليس غير الأغبياء من يهمهم أن يبدوا روحيين. إن أواخر القرن التاسع عشر في أفضل جوانبها تذكر المرء بهزلية (فارس) مسفة عاطفيا، وفي أسوأ جوانبها تذكر بنكتة متحجرة القلب. ولكن، كما رأينا، فقبل منعطف القرن بدأت حركة انفعالية جديدة تعبر عن نفسها، في فرنسا أولا ثم في أوروبا، تطلبت هذه الحركة، كي لا تذهب سدى، قناة أو مجرى عساها تتدفق فيه إلى غاية ما، كانت مثل هذه القناة في العصر الوسيط دانية قريبة المأخذ؛ إذ اعتادت الخميرة الروحية أن تعبر عن نفسها من خلال الكنيسة المسيحية، رغم أنف المعارضة الرسمية في عامة الأحوال، أما في العصر الراهن فمن غير الممكن لأي حركة حديثة على أي قدر من العمق أن تعبر عن نفسها بهذه الطريقة، وأيا ما كانت الأسباب فتلك حقيقة مؤكدة، وفي اعتقادي أن السبب الرئيسي هو أن عقول أهل العصر الحديث لا يمكن أن تجد غناء في الدين الدوجماوي، ومن المؤسف أن المسيحية لم تشأ أن تقلع عن ألوان من الدوجما بعيدة عن جوهرها كل البعد. إن تورط الدين في الدوجما هو الذي أبقى العالم لا دينيا في ظاهره، ولكن، رغم أن مآل كل دين أن تعترشه الدوجما، فهناك واحد يمكنه أكثر من غيره أن ينفضها عنه دون عناء أو اكتراث، ذلك الدين هو الفن؛ فالفن دين، إنه تعبير عن، ووسيلة إلى، حالات ذهنية لا تقل قداسة عن أية حالة ذهنية يمكن للبشر أن يخبروها، وإنما إلى الفن يتجه الذهن الحديث، لا من أجل التعبير الكامل عن انفعال متعال فحسب، بل أيضا من أجل إلهام يعيش به.
وجد الفن منذ البدء بوصفه دينا متزامنا مع كل الأديان الأخرى، ومن البين أنه لا يمكن أن يكون هناك تضاد جوهري بينه وبينها، فالفن الأصيل والدين الأصيل مظهران لروح واحدة، كذلك شأن الفن الزائف والدين الزائف، ومنذ آلاف السنين والبشر يعبرون بالفن عن انفعالاتهم الفائقة الإنسانية، ويجدون فيه الغذاء الذي تعيش عليه الروح. الفن هو أعم وأبقى صور التعبير الديني جميعا؛ لأن دلالة التضافرات الشكلية يمكن أن يدركها أحد الأجناس وأحد العصور بنفس الكفاءة التي يدركها به جنس آخر وعصر آخر؛ ولأن تلك الدلالة هي شيء مستقل عن التقلبات البشرية، شأنها في ذلك شأن الحقيقة الرياضية. وعلى الإجمال، ليست هناك أداة أخرى لنقل الانفعالات، ولا وسيلة أخرى إلى النشوة قد أسعفت الإنسان مثلما أسعفه الفن، وما من فيض من طرب الروح إلا هو واجد في الفن قناة تتولاه وتحدوه، وحين يفشل الفن فإنما يفشل لافتقاد الانفعال وليس لافتقاد التكيف الشكلي. واليوم إذ تشرع الحركة الناشئة في البحث عن موئل تلجأ إليه وتعيش، فمن الطبيعي أن تتجه إلى الديانة الوحيدة ذات الأشكال اللانهائية والثورات الدائمة.
ذلك أن الفن هو الديانة الوحيدة التي تشكل نفسها بما يوافق الروح، والديانة الوحيدة التي لن يطول تقيدها بالدوجما على الإطلاق؛ إنه ديانة بلا كهنوت، ومن الخير ألا تودع الروح الجديدة في أيدي الكهنة، فالروح الجديدة في أيدي الفنانين، ذلك خير؛ فالفنانون، كقاعدة عامة، هم آخر من ينظمون أنفسهم في طوائف رسمية، وإذا نظمت هذه الطوائف فهي قلما تنطلي على أرواح الصفوة ؛ فالمتمردون من الرسامين أكثر شيوعا بكثير من المتمردين من رجال الدين، وفي حالة «التوفيق» (الذي هو تلف كل ديانة؛ لأن الإنسان لا يمكنه أن يخدم سيدين) تصاب كل طوائف أوروبا تقريبا بالبدانة. عن طريق التوفيق نجح الكهنة بأعجوبة في الاحتفاظ بوعائهم سليما، أما الفنانون الأصلاء في كل حركة جديدة فإنهم يزدرون الوعاء ويقدسون الروح، وإن ازدراءهم الرقيق للوعاء لا يقل فائدة عن اعتقادهم الجليل في الروح. ونحن حين ننظر إلى تاريخ الفن فقد تبدو لنا فترات القنوط والتوفيق طويلة، إلا أنها بالمقارنة بالأديان الأخرى تدهشنا بقصرها؛ إذ لا يلبث فنان حقيقي أن يظهر عاجلا أو آجلا، وكثيرا ما ينجح بمقدرته وحدها في أن يعيد تشكيل الوعاء بحيث يحتوي الروح احتواء كاملا. •••
تعلم المشي أولا قبل أن تحاول العدو، فإذا كان بوسع صانع ذي حساسية فائقة أن يفيد فائدة ما من روائع الجاليري القومي (شريطة ألا يقترب منه مثقف يريد أن يخبره بما يجب أن يحسه، أو يمنعه أن يحس على الإطلاق بأن يدعوه إلى التفكير)، فإن من الأفضل كثيرا للصانع ذي الحساسية العادية ألا يرتاد المعرض حتى يكتسب، بمحاولة التعبير عن نفسه في الشكل، بصيصا من الرأي الصائب عما يصبو إليه الفنانون، ومن المؤكد أن بمقدور كل إنسان تقريبا، رجلا كان أو امرأة، أن يكون فنانا صغيرا ما دام كل طفل تقريبا هو فنان. ثمة حس بالشكل يمكن أن نلمسه في معظم الأطفال، فماذا يحل به؟ إنها الحكاية القديمة: الطفل أبو الرجل، وإذا شئت أن تحتفظ للرجل بالهبة التي ولد بها، فلا بد أن تتعهده صغيرا، أو بالأحرى تحميه أن يتعهد! فهل نستطيع أن نرفع عنه أيدي الآباء والمعلمين وأنظمة التعليم التي تحول الأطفال إلى رجال ونساء عصريين؟ هل نستطيع أن ننقذ الفنان الكامن في كل طفل تقريبا؟ إننا نستطيع على الأقل أن نقدم بعض النصائح العملية: لا تعبثوا برد الفعل الانفعالي المباشر تجاه الأشياء الذي هو عبقرية الأطفال، لا تتصوروا أن البالغين هم بالضرورة أفضل من يقضي بما هو خير وما هو هام، لا تبلغ بكم الغفلة أن تفترضوا أن ما يثير انفعال العم هو أطرف مما يثير تومي، لا تظنوا أن طنا من الخبرة تعدل ومضة من البصيرة، ولا تنسوا أن معرفة الحياة لا تسعف أحدا في فهم الفن؛ ولذا لا تعلموا الأطفال أن يكونوا أي شيء أو يحسوا أي شيء، فقط ضعوهم على الطريق؛ طريق اكتشاف ماذا يريدون وماذا يكونون.
अज्ञात पृष्ठ