وأراد الفارس أن يذيع ما حدث له في الناس، فدعا جمعا من أصدقائه إلى مائدة وشراب أعدهما عند بائع حلوى وفطير شهير في المدينة يدعى لكوك (وتعريب لفظه: الديك).
وكان لكوك معروفا بحسن طعامه وجودة شرابه، فأعد لقاصديه مائدة جمعت أشهى الألوان وأغلى الخمور، وقام عليها بنفسه يسقي ويخدم، فأكل المدعوون وشربوا وطربوا ولعبوا حتى ولى الليل وأقبل الصباح، وكان الفارس قد أذاع فيهم ما أذاع.
ولما هم القوم بالخروج وقد لعبت برأسهم بنت الحان، لاحت منهم التفاتة، فوجدوا صاحب المكان واقفا يحييهم بالباب مشرق الوجه ضاحك السن، فاقترب منه الفارس وسكب له كأسا ودعاه أن يقرع معهم الكأس، فامتنع الخمار أدبا، فألحوا عليه؛ ففعل وشرب نخبهم شاكرا فضلهم وتنازلهم بمنحه ذلك الشرف، فقال له الفارس: إني أراك يا صاح مفرط السمن ويدعونك الديك ولا يكون الديك سمينا إلا أن يخصى، فمن الواجب أن أخصيك.
فهلل أصحاب الفارس لهذا الاقتراح الغريب، وكانوا قوما لا يهتدون بهدي وهم برشدهم، فكيف وقد ذهبت برشدهم بنت الكروم؟! فأمسكوا بالخمار المسكين وربطوه في المائدة وشرعوا بتنفيذ اقتراح صاحبهم، فمات الخمار بين أيديهم وهم لا يشعرون.
وسمع بعض الخدم صياح صاحب الحان فأسرع إليه؛ فوجده مضرجا في دمائه والسكارى حوله يضحكون، فتوجه في الحال وأبلغ الأمر لنائب الرسول البابوي حاكم المدينة، فأراد النائب أن يقبض على الفارس ليذيقه الجزاء الأوفى، ولكن رأى ما لعمه الكردينال من المكانة العليا بروما؛ فخشي أن يغضبه إن أساء إلى ابن أخيه، فرأى خيرا أن يأمر الفارس بالرحيل من المدينة قبل أن تمتد له يد العدالة وإلا أمر بالقبض عليه ومحاكمته، وكان الفارس قد بلغ من أفينيون ما أزهده فيها، فما كاد يبلغه الأمر حتى أوصى بإعداد المركبة والخيل.
وعرض للفارس قبل الرحيل أن يتزود بوداع خليلته، فقصد منزلها ولم يصادف عقبة في سبيل الوصول إليها؛ إذ كانت وصيفتها أمينة له بفضل درهمه. ولما رأت المركيزة الفارس مقبلا فرحت بمقدمه فرح المحب بلقاء حبيبه إذا حرم عليه لقاؤه، فرحبت به وأكرمته، ولكنه ما لبث أن قال لها: إنه يزورها زيارة مودع لا مقيم، وأخذ يشرح لها الأسباب التي اضطرته إلى الرحيل، فعجبت المركيزة وهي من بنات الأشراف كيف يهددون فتى شريفا لقتل رجل من صعاليك الناس!
وارتبك الفارس في ساعة الوداع فلم يدر ما يقول وليس في قلبه عاطفة ليعبر عنها، فخطر له أن يشتكي لبعده عن المركيزة ولما يتزود بما يذكره بها فيذكرها به، فأسرعت المركيزة وتناولت صورة لها كبيرة كانت معلقة على الحائط، فنزعت عنها بروازها ولفتها وأعطتها للفارس تذكارا منها، فترك الفارس الصورة على المائدة ولم يهتم بها عند الخروج. وانشغلت المركيزة عنها بوداعه، فلم تفطن إلى تركه إياها إلا بعد نصف ساعة من مبارحته لها، فتأثرت وظنت أن صاحبة الصورة شغلته عن الصورة، وتمثل لديها الفارس آسفا لنسيان هذا التذكار الثمين؛ فاستدعت أحد الخدم وأمرته أن يأخذ فرسا فيطير وراء الفارس ليعطيه الصورة، فأسرع الفارس وامتطى فرسا تسابق الريح، وما لبث أن رأى ركب الفارس عن بعد فصاح به وأشار له بالوقوف، فالتفت سائق العربة للفارس قائلا: إن رجلا يلحق بهم مطلقا لجواده العنان ويشير لهم بالوقوف، فظن الفارس أنه بعض رجال الشحنة، فأمر السائق أن يضاعف السير؛ فأسرع الركب، واندفع وراءه الخادم المسكين وقد ضاقت الأنفاس به من كثرة التعب، وما لبث أن لحق بالعربة بعد فرسخ ونصف من ذلك، فأوقف السائق وترجل ثم اقترب من باب العربة وأبلغ المركيز بكل أدب واحترام رسالة سيدته، وقدم له الصورة، فاطمأن الفارس لما علم غرض الخادم، وقال له: إنه لا يدري ماذا يصنع بالصورة، فخير له أن يعود بها لمولاته، فقال الخادم: إنه لا يستطيع أن يعود بها؛ إذ أمر مولاته صريح بتسليم الصورة له، فلما رأى الفارس إصرار الخادم أمر سائق العربة أن يحضر له حدادا كان كوره على مقربة منهم، فأمره أن يدق الصورة على مؤخر العربة بأربعة مسامير، ففعل الحداد ثم صعد الفارس إلى العربة، وسارت به وخادم المركيزة باهت ينظر ما آلت إليه صورة مولاته، ولا يملك ضرا ولا نفعا.
وكان من عادة البريد أن تغير خيله درجا له في كل محطة، فلما بلغ ركب الفارس المحطة التالية طلب السائق أجرته ليعود، فقال له الفارس: إنه ليس لديه دراهم ليعطيها له، فألح السائق فترجل الفارس ونزع صورة المركيزة من مؤخر العربة، ودفع بها إليه قائلا: إنه لو عرضها للبيع في أفينيون وروى قصتها لأتت له بضعف عشرة أمثال أجرته، فاضطر السائق أن يقتنع بالصورة، وعاد إلى المدينة فعرضها في الغد على باب دكان لأحد الباعة وذكر تحتها قصة وصولها إليه، فاشتريت الصورة قبل أن ينقضي النهار بخمسة وعشرين دينارا.
وذاعت القصة طبعا في المدينة، وفي الغد اختفت المركيزة ولم يعلم أحد بمكانها. واجتمع أهل المركيزة فقرروا فيما بينهم أن يسألوا الملك إصدار أمره بالقبض على الفارس وسجنه، وسافر مندوب منهم إلى باريس لهذا الغرض، ولكن لم يبلغ غايته؛ إما لتقصير منه في السعي أو لعدم التشهير بالمركيزة لدى الملك.
أما المركيزة فإنها قصدت بعض قريباتها فأقامت لديها، وسعت في الصلح لدى زوجها، فنجحت مساعيها، وعادت بعد شهر إلى قصر زوجها وقد صفح عما أتته.
अज्ञात पृष्ठ