فرحم الله من نظر في أمره، وقاس شبره بفتره، فقد أسفر الحق عن وجهه قناعه، ونادى بأعلى صوته أتباعه، وقامت الحجة للرحمن، على كل من خلق من الإنسان، {فماذا بعد الحق إلا الضلال}[يونس: 32] ولا دون المعتدل إلا المائل، ولا بعد الجدة والشدة والقوة والشباب؛ إلا الضعف والإنبتات والزوال والذهاب، ولا بعد دار الدنيا الفانية؛ إلا الآخرة الدائمة الباقية، وما بعد العمر إلا انقطاع الأجل، وما بعد الموت إلا البلاء والإمحاق، ولا بعد الإمحاق إلا يوم التلاق، {يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد}[آل عمران: 30] ذلك يوم وقوع الجزاء؛ على ما تقدم من العمل في الدنيا، فيفوز المحقون بأعمالهم، ويخسر المبطلون ويهلك المسرفون بأفعالهم، {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا}[الفرقان: 23]، {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون}[الأنعام: 160]، ذلك يوم الحسرة والندامة، وطلب الإقالة حين لا إقالة: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} [الزلزلة: 6 7]، ذلك يوم تشخص فيه الأبصار، وتظهر فيه الأسرار، ويحكم فيه بالحق الجبار، {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم وأزلفت الجنة للمتقين وبرزت الجحيم للغاوين} [الشعراء: 88 91]، وهم فيها يصطرخون نادمين، يقولون: {ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون}[المؤمنون: 107]، فيقول لهم الجبار: {اخسئوا فيها ولا تكلمون}[المؤمنين: 108]، فيطلبون حينئذ الرجوع إلى ما كانوا فيه من الفناء(1)، ويتمنون الموت والبلاء، ويقولون: {يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون}[الزخرف: 77] فحينئذ تقطع قلوبهم حسرات، وتتراكم عليهم الغموم والندامات، على ما فرطوا فيه من العمل بما أمرهم الله به ، والقيام بأكبر فرائضه، من الجهاد في سبيله، والمعادات لأعدائه، والموالاه لأوليائه.
فليعلم كل عالم أو جاهل، أو من دعي إلى الحق والجهاد فتوانى، وتشاغل، وكره السيف والتعب، وتأول على الله التأويلات، وبسط لنفسه الأمل، وكره السيف والقتال، والملاقاة للحتوف والرجال، وأثر هواه على طاعة مولاه، فهو عند اللطيف الخبير، العالم بسرائر الضمير؛ من أشر الأشرار، وأخسر الخاسرين، إن صلاته وصيامه، وحجه وقيامه بور، لا يقبل الله منه قليلا ولا كثيرا، ولا صغيرا ولا كبيرا. وأنه ممن قال الله سبحانه فيه حين يقول: {وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية}[الغاشية: 2 4]. وكيف يجوز له الإقبال على صغائر الأمور من الصالحات، وهو رافض لأعظم الفرائض الواجبات(2)؟! وكيف لا يكون الجهاد أعظم فرائض الرحمن؛ وهو عام غير خاص لجميع المسلمين؟!
وعمل من عمل به شامل لنفسه ولغيره من المؤمنين؛ لأن الجهاد عز لأولياء الله، مخيف لأعداء الله، مشبع للجياع(3)، كاس للعراة النياع(4)، ناف للفقر عن الأمة، مصلح لجميع الرعية، به يقوم الحق، ويموت الفسق، ويرضى الرحمن، ويسخط الشيطان، وتظهر الخيرات، وتموت الفاحشات.
والمصلي فإنما صلاته وصيامه لنفسه، وليس من أفعاله شيء لغيره. وكذلك كل فاعل خير فعله لنفسه لا لسواه.
पृष्ठ 629