إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم .
الفصل الثاني عشر
رجال الدولة وبطانة الملك وكيف يجب أن يكونوا؟
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون . •••
قالوا: تصان البلاد ويحرس الملك بالبروج المشيدة، والقلاع المنيعة، والجيوش العاملة، والأهب الوافرة، والأسلحة الجيدة، قلنا: نعم، هي أحراز وآلات لا بد منها للعمل فيما يقي البلاد، ولكنها لا تعمل بنفسها، ولا تحرس بذاتها، فلا صيانة بها ولا حراسة إلا أن يتناول أعمالها رجال ذوو خبرة، وأولو رأي وحكمة، يتعهدونها بالإصلاح زمن السلم، ويستعملونها فيما قصدت له زمن الحرب.
وليس بكاف حتى يكون رجال من ذوي التدبير والحزم وأصحاب الحذق والدراية يقومون على سائر شئون المملكة، يوطئون طريق الأمن، ويبسطون بساط الراحة، ويرفعون بناء الملك على قواعد العدل، ويوقفون الرعية عند حدود الشريعة، ثم يراقبون روابط المملكة مع سائر الممالك الأجنبية ليحفظوا لها المنزلة التي تليق بها بينها، بل يحملوها على أجنحة السياسة القويمة إلى أسمى مكانة تمكن لها.
ولن يكونوا أهلا للقيام على هذه الشئون الرفيعة حتى تكون قلوبهم فائضة بمحبة البلاد، طافحة بالمرحمة والشفقة على سكانها، وحتى تكون الحمية ضاربة في نفوسهم آخذة بطباعهم، يجدون في أنفسهم منبها على ما يجب عليهم، وزاجرا عما لا يليق بهم، وغضاضة وألما موجعا عندما يمس مصلحة الدولة ضرر، ويوجس عليها من خطر، ليتيسر لهم بهذا الإحساس وتلك الصفات أن يؤدوا أعمال وظائفهم كما ينبغي، ويصونوها من الخلل الذي ربما يفضي قليله إلى فساد كبير في الملك، فهؤلاء الرجال بهذه الخلال هم المنعة الواقية والقوة الغالبة.
يسهل على حاكم في أي قبيل أن يكتب الكتائب ويجمع الجنود ويوفر العدد من كل نوع بنقد النقود وبذل النفقات، ولكن من أين يصيب بطانة من أولئك الذين أشرنا إليهم: عقلاء رحماء، وأباة أصفياء، تهمهم حاجات الملك كما تهمهم ضرورات حياتهم؟ لا بد أن يتبع في هذا الأمر الخطير قانون الفطرة، ويراعي ناموس الطبيعة؛ فإن متابعة هذا الناموس تحفظ الفكر من الخطأ وتكشف له خفيات الدقائق، وقلما يخطئ في رأيه أو يتأود في عمله من أخذ به دليلا، وجعل له من هديه مرشدا، وإذا نظر العاقل في أنواع الخطأ التي وقعت في العالم الإنساني من كلية وجزئية وطلب أسبابها؛ لا يجد لها من علة سوى الميل عن قانون الفطرة، والانحراف عن سنة الله في خلقه.
من أحكام هذا الناموس الثابت أن الشفقة والمرحمة والحمية والنعرة على الملك والرعية؛ إنما تكون لمن له في الأمة أصل راسخ ووشيج يشد صلته بها، هذه فطرة فطر الله الناس عليها، إن الملتحم مع الأمة بعلاقة الجنس أو المشرب يراعي نسبته إليها ونسبتها إليه، ويراها لا تخرج عن سائر نسبه الخاصة به، فيدافع الضيم عن الداخلين معه في تلك النسبة دفاعه عن حوزته وحريمه (راجع رأيك فيما تشهده كثيرا حتى بين العامة عندما يرمي أحدهم أهل البلد الآخر أو دينه بسوء على وجه عام، كسوري ينتقد المصريين أو مصري ينتقد السوريين)، هذا إلى ما يعلمه كل واحد من الأمة أن ما تناله أمته من الفوائد يلحقه حظ منها، وما يصيبها من الأرزاء يصيبه سهم منه، خصوصا إن كان بيده هامات أمورها وفي قبضته زمام التصرف فيها؛ فإن حظه من المنفعة أوفر ومصيبته بالمضرة أعظم، وسهمه من العار الذي يلحق الأمة أكبر، فيكون اهتمامه بشئون الأمة التي هو منها وحرصه على سلامتها بمقدار ما يؤمله من المنفعة أو يخشاه من المضرة.
فعلى ولي الأمر في الدولة أن لا يكل شيئا من عمله إلا إلى أحد رجلين: إما رجل يتصل به في جنسية سالمة من الضعف والتمزيق موقرة في نفوس المنتظمين فيها، محترمة في قلوبهم، يحملهم توقيرها واحترامها على التفاني في وقايتها من كل شين يدنو منها، ولم توهن روابطها اختلافات المشارب والأديان، وإما رجل يجتمع معه في دين قامت جامعته مقام الجنسية، بل فاقت منزلته من القلوب منزلتها، كالدين الإسلامي الذي حل عند المسلمين - وإن اختلفت شعوبهم - محل كل رابطة نسبية، فإن كلا من الجامعتين - الجنسية على النحو السابق والدينية - مبدآن للحمية على الملك ومنشآن للغيرة عليه.
अज्ञात पृष्ठ