وما الله بغافل عما تعملون .
ولعل أمراء المسلمين قد وعظوا بسوء مغبة أعمال السالفين وهموا بملافاة أمرهم، قبل أن يقضى عليهم، بما رزئ به المفرطون من قبلهم، ورجاؤنا أن أول صيحة تبعث إلى الوحدة وتوقظ من الرقدة، تصدر عن أعلاهم مرتبة، وأقواهم شوكة، ولا نرتاب في أن العلماء العاملين ستكون لهم اليد الطولى في هذا العمل الشريف، والله يهدي من يشاء ولله الأمر من قبل ومن بعد.
الفصل العاشر
الوحدة والسيادة أو الوفاق والغلب «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا.» •••
أمران خطيران، تحمل عليهما الضرورة تارة، ويهدي إليهما الدين تارة أخرى، وقد تفيدهما التربية وممارسة الآداب، وكل منهما يطلب الآخر ويستصحبه، بل يستلزمه، وبهما نمو الأمم وعظمها ورفعتها واعتلاؤها؛ وهما: الميل إلى وحدة تجتمع، والكلف بسيادة لا توضع، وإذا أراد الله بشعب أن يوجد ويلقي بوانيه (يثبت ويقيم) إلى أجل مسمى؛ أودع في ضآضئه (أصوله) هذين الوصفين الجليلين، فأنشأه خلقا سويا، ثم استبقى له حياته بقدر ما مكن فيه من الصفتين إلى منتهى أجله.
كل أمة لا تمد ساعدها لمغالبة سواها لتنال منها بالغلب ما تنمو به بنيتها، ويشتد به بناؤها؛ فلا بد يوما أن تقضم وتهضم وتضمحل ويمحى أثرها من بسيط الأرض، إن التغلب في الأمم كالتغذي في الحياة الشخصية، فإذا أهمل البدن من الغذاء وقفت حركة النمو، ثم ارتدت إلى الذبول والنحول، ثم أفضت إلى الموت والهلاك، وليس من الممكن لأمة أن تحفظ قوامها، وتصول على من يليها لتختزل منه ما يكون مادة لنمائها، إلا أن تكون متفقة في تحصيل ما تحتاج إليه هيئتها.
إذا أحسست من أمة ميلا إلى الوحدة فبشرها بما أعد الله لها في مكنون غيبه من السيادة العليا والسلطة على متفرقة الأمم.
إذا تصفحنا تاريخ كل جنس واستقرينا أحوال الشعوب في وجودها وفناها؛ وجدنا سنة الله في الجمعيات البشرية: حظها من الوجود على مقدار حظها من الوحدة، ومبلغها من العظمة على حسب تطاولها في الغلب، وما انحرف شأن قوم وما هبطوا عن مكانتهم، إلا عند لهوهم بما في أيديهم، وقناعتهم بما تسنى لهم، ووقوفهم على أبواب ديارهم، ينظرون طارقهم بالسوء، وما أهلك الله قبيلا إلا بعدما رزئوا بالافتراق، وابتلوا بالشقاق، فأورثهم ذلا طويلا وعذابا وبيلا، ثم فناء سرمديا.
الوفاق تواصل وتقارب، يحدثه إحساس كل فرد من أفراد الأمة بمنافعها ومضارها، وشعور جميع الآحاد في جميع الطبقات بما تكسبه من مجد وسلطان، فيلذ لهم كما يلذ أشهى مرغوب لديهم، وبما تفقده من ذلك، فيألمون له كما يألمون لأعظم رزء يصابون به، وهذا الإحساس هو ما يبعث كل واحد على الفكر في أحوال أمته، فيجعل جزءا من زمنه للبحث فيما يرجع إليها بالشرف والسؤدد، وما يدفع عنها طوارق الشر والغيلة.
ولا يكون همه بالفكر في هذا أقل من همه بالنظر في أحواله الخاصة، ثم لا يكون نظرا عقيما حائزا بين جدران المخيلة، دائرا على أطراف الألسنة، بل يكون استبصارا تتبعه عزيمة يصدر عنها عمل يثابر على استكماله بما يمكن من السعة، وما تحتمله القدرة على نحو ما يكون في استحصال مواد المعيشة بلا فرق، بل تجد الأنفس أن شأن الأمة في المكان الأول من النظر، والدرجة الأولى من الاعتبار، والشئون الخاصة في المنزلة الثانية منهما.
अज्ञात पृष्ठ