ولما أتم دروسه سافر إلى الهند، وأقام سنة تعلم في خلالها شيئا من العلوم الأوروبية وأساليبها.
وقصد بعد ذلك إلى الأقطار الحجازية لأداء فريضة الحج، فقضى نحو عام يتنقل في بلاد العرب حتى وافى مكة سنة 1273ه/1857م.
وعاد إلى بلاد الأفغان فانتظم في خدمة الأمير دست محمد خان، وعلت منزلته عنده، ورافقه في بعض غزواته، ولما مات الأمير انحاز جمال الدين إلى الأمير محمد أعظم خان، الذي أثار حربا عوانا على شير علي، وهو أخوه أصغر منه سنا، تولى عرش الأفغان بتأييد الإنجليز.
وكان جمال الدين زعيم القواد في جيش محمد أعظم خان، فميزته كفاية باهرة، ولكن الأمير أوجس في نفسه خيفة أن يساميه إلى العرش؛ فجعل لا يصغي إلى نصائحه، وعلى أثر الهزيمة شخصا معا إلى الهند، وكانت الهند يومئذ تفور بالفتن، وخشيت الحكومة الإنجليزية أن يتصل الثوار بالسيد جمال الدين؛ فردته من حيث جاء.
ولم يأمن الأمير شير على مقام السيد في الأفغان، وأحس السيد ما توسوس به نفس الأمير؛ فاستأذن في الخروج للحج وارتحل من طريق الهند مع خادمه أبي تراب.
ولما بلغ التخوم الهندية تلقته حكومتها بحفاوة وإجلال، ولكنها لم تسمح له بطول المكث، ولم تأذن في لقائه إلا على عين من رجالها، وبعد نحو شهر سيرته من سواحل الهند في بعض مراكبها على نفقتها إلى السويس، فجاء مصر وأقام بها أربعين يوما، تردد في خلالها على الجامع الأزهر، وخالط كثيرين من طلبة العلم السوريين، وألقى عليهم محاضرات في مسكنه.
ثم تحول عن الحجاز عزمه، وصرف عنانه إلى الأستانة سنة 1287ه/1870م، وكانت سبقته شهرته الذائعة فحومت إليه - لفضله - قلوب الأمراء والوزراء، وعلا ذكره بينهم، واتصل برجال الأدب والعلم.
وبعد ستة أشهر سمي عضوا في مجلس المعارف برعاية عالي باشا الصدر الأعظم، فأدى حق الاستقامة والنصح في آرائه، وأشار إلى طرق لتعميم المعارف لم يوافقه عليها رفقاؤه، ومن تلك الطرق ما أحفظ عليه قلب شيخ الإسلام لذلك العهد حسن أفندي فهمي؛ لأنها كانت تمس شيئا من رزقه، وأضمر له السوء وأرصد له العنت، حتى كان رمضان سنة 1287ه فرغب إلى السيد مدير دار الفنون أن يلقي خطابا في الحث على الصناعات، واحتشد الناس لسماع المحاضرة في تلك الدار من جميع الطبقات العالية، وكان فيما ذكره السيد تشبيه المعيشة الإنسانية ببدن حي، وأن كل صناعة بمنزلة عضو من ذلك البدن، ثم قال: هذا ما يتألف منه جسم السعادة الإنسانية ، ولا حياة لجسم إلا بروح، وروح هذا الجسم إما النبوة وإما الحكمة.
هنالك راح شيخ الإسلام يقيم من الحق باطلا؛ ليصيب غرضه من الانتقام، فأشاع أن جمال الدين يزعم أن النبوة صنعة، محتجا بأنه ذكرها في خطاب يتعلق بالصناعات، ثم أوعز إلى الوعاظ في المساجد أن يذكروا ذلك محفوفا بالتفنيد والتبديد، وأكثرت الجرائد من الخوض في المسألة، وانقسم الناس فيها شيعا.
وأشار بعض أصحاب السيد عليه بأن يغضي على الكريهة ويلزم السكون، والزمن كفيل باضمحلال هذه الإشاعة وتلاشي أثرها، ولكن جمال الدين كان عصبيا دمويا، في مزاجه حدة، فلج في مخاصمة شيخ الإسلام وطلب محاكمته، حتى صدر الأمر إليه بالجلاء عن الأستانة ريثما تسكن الخواطر، وحمله بعض من كان معه على أن يهبط مصر، فجاءها أول سنة 1288ه/1871م وكان ذلك في زمن إسماعيل، واستمالته مساعي رياض باشا للمقام؛ حيث لم يكن ينويه، وأجرت عليه الحكومة المصرية راتبا سنويا مقداره 120 جنيها نزلا، أكرمته به لا في مقابلة عمل.
अज्ञात पृष्ठ