هذا فزع ألمت بدايته بنفوس الدول من صيحة الطبيعة، وزاد عليه ما خدش خواطرها من الإهانات المتتباعة اللاحقة بها من غرور الإنجليز. دولة إنجلترا هي التي تركت الدول تأتر في الأستانة، واستبدت بإطلاق النيران على مدينة الإسكندرية.
هذه الدولة هي التي دعت الدول العظام إلى مؤتمر للمداولة في مسألة مصر، معترفة بحقوقها فيها، فلما لم تجبها الدول إلى مطلبها الباطل، صرفت نوابهم، وانطلقت في أعمالها غير مبالية بهم، وعزمت على إرسال «اللورد نورث بروك»، و«الجنرال ولسلي»، في آن واحد إلى مصر.
هذا كله حرك خواطر الدول، وصار من أعظم البواعث على اجتماع الأباطرة الثلاثة في شهر سبتمبر - كما أنبأت الجرائد - وأكد أن موضوع المداولة بينهم هذه المسألة المهمة، لهذه المسألة كانت مدينة وارزين دار ندوة سياسية، وبها وجد البرنس بسمارك مجالا واسعا للسياسة.
تلاقى الكونت كالنوكي مع البرنس بسمارك، وطالت مدة الاجتماع ولحق بهما مسيو دي جيرس وزير دولة روسيا، وكان البحث فيما ألم بالدول بعد مؤتمر لندن، ثم عقب ذلك سفر مسيو كورسيل سفير فرنسا في برلين إلى وارزين لملاقاة بسمارك (وإن أولت بعض الجرائد الإنجليزية حركة هذا السفير بمقصد آخر)، فهذه الزيارات المتتالية بين هؤلاء الوزراء العظام، بعد خيبة المؤتمر، تفتح للمتأمل بابا واسعا من الفكر، وتشف عن أمور عظيمة سيكشفها الزمان عن قريب.
هذا إلى جانب الأمر الجديد الذي صدر من دولة ألمانيا وهو تعيين وزير في سفارة مبجلة لدى شاه إيران وفي أعضاء سفارته بروكش باشا المشهور بعلم الخط المصري القديم، وهي أول مرة كان لهذه الدولة سفير عند الشاه، ثم ذهاب ميرزا خان سفيرا خصوصيا من الدولة الفارسية إلى الدولة الروسية، ونيله غاية التبجيل والتكريم.
كل هذا ينبئنا أن في كمين الغيب مصيبة كبرى ستنقض على دولة الإنجليز ... إن الأحقاد قد أخذت بقلوب الأمم الأوروبية وامتلأت الأفئدة غيظا حتى طفحت، ولهذا لا ترى جريدة ألمانية أو نمساوية أو فرنسية أو روسية إلا وهي مشحونة بالطعن والتنديد، والوعيد والتهديد، والإنذار بسوء عاقبة حكومة الإنجليز.
ليس ببعيد على عدل الله أن ينكس أعلام العاتين، الذين يعبثون في الأرض مفسدين ويسلبون ممالك العالم غيلة، ويهضمون حقوق الأمم بغيا وعدوانا، ويسيمونها عذاب الرق والعبودية عتوا واستكبارا، أظلم جو السياسة على سابلة الإنجليز، وزأرت عليهم ضارية الويل من كل جانب، ولهم في هذه الأهوال حركة الخابط، إما سترا لضعفهم، أو غرورا ببأسهم.
ويتعلقون بحبال الوسائل لامتلاك مصر والسودان، اللورد نورث بروك وسميع الله خان الدهري يذهبان إلى مصر لتأليف القلوب، وجميع الخواطر على ولاء الحكومة الإنجليزية، وإن ولسلي بعدما نال من حسن الصيت بصرف الدنانير في التل الكبير؛ عزم على أن يفتح فتحا آخر بمثل تلك الوسيلة، ولكنا لا نظن في السودان مثل شهيد الخيانة وأبى سلطان باشا إضرابه، وهذا من جهة أخرى يسعون لإجبار الحكومة المصرية على إعلان الإفلاس وإشهار العجز عن القيام بنفقات الحكومة؛ ليجدوا في ذلك وسيلة لتقرير حمايتهم على القطر المصري، وتخفيض فائدة الدين والاستبداد بشئون المملكة.
إنهم نالوا في الحرب المصرية من الدولة العثمانية فرمانا سلطانيا بعصيان عرابي، فحقنوا به دماء رجالهم، وصانوا كثيرا من أموالهم، واليوم يسعى اللورد دوفرين بمواعيده العرقوبية، وأيماناته الكاذبة عند الباب العالي ليحمله على إرسال عشر مدرعات إلى الإسكندرية، وسوق جيش إلى سواحل البحر الأحمر؛ ليكون هذا بدل الفرمان بعصيان محمد أحمد، ويفوز الإنجليز بالتسلط على مصر والسودان، ويحلفون - وهم الكاذبون - إنهم لا يمسون حقوق السلطان (هل أبقوا حقوقا تمس؟) حتى إذا ثبتت أقدامهم تحت ظل العلم العثماني، قلبوا للعثمانيين ظهر المجن وأجابوهم بهز الرءوس وكشرة الأنياب.
ولا نظن أن الدولة العثمانية تغتر بوعود الإنجليز مرة ثانية، فلا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، وقد جربت منهم حلاوة الوعد، وذاقت في إخلافه مضاضات الإهانة، ومرارات التحقير. نعم، هذا وقت يتسنى للدولة العثمانية أن تتفق مع سائر الدول لصون مصالحها، ولا يخطر ببال عثماني أن ينال خيرا بالاتفاق مع الإنجليز.
अज्ञात पृष्ठ