يغلب على الظن أن ما لهم من سرعة الاعتقاد بالظافر خصوصا إن كان قائما بدعوة دينية، وما ضاقت به صدورهم من الاستبداد الإنجليزي، وما ذاقوه من آلام الفقر والفاقة والذل والهوان من نحو سنتين، وما يتوقعونه من رزايا دينهم ودنياهم في المستقبل إذا رسخت قدم الإنجليز في مصر؛ كل هذا يبعثهم على تقبل دعوة الداعي بقبول حسن وانحيازهم إليه.
إذا جاء هذا الوقت - وهو ليس ببعيد - فربما تجد إنجلترا في مصر أفغانا أخرى، وتخشى من ظهور عجزها فتوارى خلف بعض من الحيل والتعللات، وتستدعي من المسلمين من يكون قوي الشكيمة شديد البأس؛ لتقرير السلم وتمكين الراحة، وتعود إلى جزائرها راضية من السلامة بالإياب، ولعل ذلك غير بعيد عن العقل، وإلى الله المآب.
الفصل الرابع والثلاثون
إنجلترا والجيش
وردت الأخبار أن الأميرال هفت وصل إلى مصوع حاملا هدايا ثمينة إلى ملك الحبشة، وكنا في العدد السابق بينا ماذا يريد الأميرال من مواصلة الملك يوحنا، وأن الدولة الإنجليزية بعدما فشلت عساكرها في سواحل البحر الأحمر، وعجزت عن تجهيز جنود جديدة تسوقها إلى أواسط السودان؛ التجأت للاستنجاد بملك الحبشة واستمداد مساعدته على مسلمي السودان، وكان حسن ظننا بدولة متمدنة كدولة بريطانيا يمنعنا من التصديق بعزمها على إثارة حرب خشنة، لكن من الأسف أن الإفادات التي وردت هذا الأسبوع تؤكد أن إنجلترا عازمة على النكاية بالمسلمين في السودان، من حيث هم مسلمون لا لإطفاء ثورة، ولا لترويج مدنية.
وفي الظن أن هذا هو الذي بسط يدها بالهدايا الثمينة تتحف بها ملك الحبش، وإلا فخلائقها من حيث هي دولة تجارية لا تسمح لها بهذا السخاء، وتنهاها عن البذل إلا أن ينقد لها الربح أضعافا مضاعفة، أي ربح لها أعظم من توددها إلى دولة خشنة ترمي بها طائفة من المسلمين بغية الفتك والنكاية حتى تخيف بذلك بعض من تخشى بأسهم من أبناء ملتهم.
على أنا لا نزال في ريب من نجاح مسعاها، ولو أنها نجحت في إقناع ملك الحبشة بالتهور في حرب مع السودانيين فما عساها تسمي هذه الحرب؟ لا نرتاب في أنها ليست لكسر شوكة التوحش ووضع قواعد المدنية؛ فإن أحد المتحاربين لا يمتاز عن الآخر في أخلاقه وعوائده وأفكاره، بل ربما كان السودانيون بما استفادوه من الحكومة المصرية مدة سنين؛ أقرب إلى المدنية من الحبشيين، ولا يمكن أن تكون حربا للفتح وتوسيع الملك؛ فإن الحبشة لا مطمع لها في توسيع ممالكها إلى الجهات الغربية من السودان ولم يعهد لها ذلك في التاريخ، وغاية ما كانت تبتغيه أن تكون حدودها الطبيعية محفوظة من تعدي جيرانها عليها.
فلا اسم لهذه إلا الحرب الدينية، تذكر الملل بما كاد يمحى أثره من المحاربات الصليبية، وتوقد في الأفئدة نار التعصب الديني، فلو فتحت دولة إنجلترا باب هذه الفتنة أفلا تحترق قلوب المصريين بهذه النار؟ وهل ترجو هذه الدولة من بعد ذلك أن يستقر لها قدم بينهم، وهل تأمن أن يثور سكان جزيرة العرب تحت هذا العلم الذي يظل ملايين كثيرة تعلم عددها وتحس بحاجتها إلى مسالمتها، نظن أن حكومة بريطانيا تسعى بتخبطها هذا إلى ما لا محيد لها عنه، وتجتهد في تقريب البعيد وما كان أغناها عن هذا كله.
الفصل الخامس والثلاثون
رأي المستر بلونت في المسألة المصرية (إنجليزي حر ينصف المصريين)
अज्ञात पृष्ठ