ليس من الهينات أن يتحمل الرجل دفع الأجور والقيام بأود ثلاثة أجساد تتطلب عناية وقوتا!
ليس من المشاكل البسيطة أن يقوم الإنسان بتثقيف أبنائه الصغار! ففارس كسائر عملة السكة يحلم أحلاما شتى بمستقبل أولاده، والفتاة الزرقاء التي وهبها الله ذكاء ناضجا قبل أوانه سيقدر لها يوما أن تدخل في عداد الموظفات، وبطرس ذو الروح المفطورة على النشاط سينخرط في سلك عملة السكة، وبما أنه أكثر علما من أبيه سيتفوق عليه ولا يعتم أن يتوصل بسهولة إلى مركز سام؛ وأما بولس الصغير ذو الطباع السليمة والعريكة اللينة فسينال معاش تلميذ في الجامعة.
كل هذه الأحلام كانت تتناوب السيدة فارس، فقالت في نفسها: إذا أفلح الأولاد وتيسر لهم كل هذا فأكون قد سعدت بعض السعد، ولكني لا أطلب إلا أن أراهم كرماء الأخلاق نبلاء النفوس يتمتعون بصحة قوية وبمهنة حسنة كمهنة والدهم.
أما فارس فكان أكثر طماعية من امرأته؛ إذ إنه كان يدرك أية صعوبة يكابدها الإنسان في الحصول على قوته الضروري، لذلك كان يتمنى لأولاده حياة أقل عناء من حياته.
إن سائق القطار لنوع من الرجال الأشقياء، فهو يصرف وقته في إضرام النار وحراسة الأساطين؛ ويلعب بالخطر المحدق به، وينشق مسحوق الفحم، ويشرق الدخان المتصاعد في الهواء، إنه يقضي ساعات عمله منتصبا على قدميه لا يملك مقعدا يستريح عليه أو منضدة يجلس إليها في ساعة فطوره.
إلا أن فارس كان ذا قوة هائلة ولولا ذلك لذهب ضحية جهاده كما ذهب غيره من ضعفاء البنية.
كان عليه أن يقاسي ما استطاع في سبيل أولاده ومستقبلهم، في سبيل كيانهم وراحتهم؛ والذي شجعه على احتمال تلك المصاعب هو يقينه أن وراء الجهاد حدا تكلله عذوبة العزلة.
أي رجل لم يسمع هذه العبارة صادرة من أفواه العملة: عندما أحظى بعزلتي! ومن لا يدرك أية آمال عذبة تلامس أرواح العملة الأشداء الذين يرون مساء العمر من خلال أحلامهم مذهبا بأشعة الراحة والطمأنينة؟
كان فارس قد أوقف في مخيلته مقاصد عزلته ككثير من رفاقه، وكان يملك في نواحي البقاع قطعة أرض ورثها عن عم قديم كان يحترف الحراثة، ففكر أن يبني بيتا صغيرا في وسط الحديقة يقيم به مع امرأته وأولاده ويصرف شيخوخته بقلب الحقل والعناية بثماره تاركا امرأته تتولى زرع البنفسج، وهو زهر يباع أكثر من غيره في أسواق بيروت.
كان يرى الحقل اللامع من تلك الحديقة، ومياه البردوني الزرقاء، ومدينة زحلة الضاحكة تحت قباب أجراسها المرتفعة تطفو أخيلة جدرانها الوردية على تموجات النهر الجميل.
अज्ञात पृष्ठ