آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (١٥)
عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين
تأليف
الإمام أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية
(٦٩١ هـ - ٧٥١ هـ)
تحقيق
إسماعيل بن غازي مرحبا
إشراف
بكر بن عبد الله أبو زيد
دار عطاءات العلم - دار ابن حزم
المقدمة / 1
رَاجع هَذَا الْجُزْء
سُلَيْمَان بن عبد اللَّه العمير
مُحَمَّد أجمل الإصلاحي
عَليّ بن مُحَمَّد الْعمرَان
المقدمة / 3
مقدمة التحقيق
إن الحمد للَّه نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللَّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢)﴾ [آل عمران/ ١٠٢].
﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (١)﴾. [النساء/ ١].
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (٧١)﴾ [الأحزاب/ ٧٠ - ٧١]
أما بعد؛ فقد جعل اللَّه تعالى للصبر الثواب الجزيل، والأجرَ العظيم، في آياتٍ من الذّكرِ الحكيم، وأحاديثِ رسوله الأمين ﷺ، وجاء فضله في آثار الصحابة والتابعين.
كما أن للشكر فضله الذي لا يخفى، وهو مع الصبر كفرسي رهان وكجناحي الطائر.
لذا فقد كثرت الكتابات فيهما واستفاضت، فتكلم فيهما الفقهاء والمحدثون والأدباء والشعراء، حتى كتب في ذلك العلماء مصنفات مفردة مستقلة، فقد صنَّف أبو الحسن علي بن عبيد البغدادي الكاتب أحد
المقدمة / 5
الأدباء والبلغاء، المتوفى سنة تسع عشرة ومائتين (٢١٩ هـ) كتاب الصبر (^١)، وهذا الإمام عبد اللَّه بن محمد بن أبي الدنيا المتوفى سنة إحدى وثمانين ومائتين (٢٨١ هـ)، أفرد الصبر بكتاب، والشكر بكتاب آخر (^٢).
وما زالت أقلام الأدباء والفصحاء والعلماء والوُعَّاظ لا تكاد تجف من التأليف في هذا الباب إلى عصرنا هذا.
وكان ممن كتب في ذلك فأحسن، وجمع فأجاد، ونظر فحقق، الإمام محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية في كتابه الذي عملت على تحقيقه وهو: "عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين".
وقد قدمت بين يدي الكتاب بعددٍ من المباحث، وباللَّه وحده الإعانة والتوفيق.
_________
(^١) انظر: الفهرست ص ١٧٣.
(^٢) وكلاهما مطبوع.
المقدمة / 6
المبحث الأول: اسم الكتاب، وضبطه:
نصَّ ابن القيم على اسم مؤلَّفه هذا في مقدمته حيث قال: "وسميته: عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين".
إلا أنه وقع في المخطوط الأصل اسم الكتاب على ورقة العنوان هكذا: "كتاب عُدّة (^١) الصابرين وذخيرة الشاكرين في الصبر والشكر".
أي بزيادة: "في الصبر والشكر".
أما النسخ الثلاث الأخرى، فقد جاء اسم الكتاب فيها على صفحة العنوان مطابقًا لنص ابن القيم على تسميته.
وهذه الزيادة لا تضر، ولا تُعدّ خلافًا في اسم الكتاب، إذ هي عبارة عن بيانٍ وتوضيحٍ لمضمون الكتاب ومحتواه، واللَّه أعلم.
بل قد تكون لهذه الزيادة فائدةٌ في بيان سبب وهم الحاج خليفة في جعله هذه الجملة كتابًا آخر لابن القيم حيث قال:
في كشف الظنون ٢/ ١٤٣٢ ما يلي: "كتاب الصبر والشكر لشمس الدين محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية المتوفى سنة ٧٥١ إحدى وخمسين وسبعمائة".
مع أنه ذكره باسمه التامّ "عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين" في ٢/ ١١٢٩.
أما ما ذكره إسماعيل باشا في كتابه هدية العارفين ٢/ ١٥٨ ضمن
_________
(^١) هكذا جاء مضبوطًا فيه، وسيأتي التنبيه عليه.
المقدمة / 7
مؤلفات ابن القيم بعنوان: "كتاب الصبر والسكن". وتبعه عليه جماعة ممن كتب في ترجمة ابن القيم، منهم: أحمد عُبيد (^١)، ومحمد الفقي (^٢)، ومحمد مسلم الغنيمي (^٣)، وغيرهم. فيظهر أنَّ كلمة "السكن" مصحفة من "الشكر"، إذ هما قريبتان في الرسم، كما لا يخفى. وهذا يعني أنه هو الكتاب السابق الذي ذكره حاجي خليفة بعنوان "الصبر والشكر"، وهو بالتالي "عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين"، واللَّه أعلم.
وقد يختصر العلماء اسم الكتاب فيقولون: "عدة الصابرين" حسبُ، وقد ذكر عنوان الكتاب مختصرًا ابنُ رجب (^٤)، وتبعه الداودي (^٥)، وابن العماد (^٦)، والقنوجي (^٧).
أما ضبط اسم الكتاب:
فقال الشيخ بكر بن عبد اللَّه أبو زيد في كتابه "ابن قيم الجوزية: حياته، آثاره، موارده": "والمستفيض في ضبط عين (عدة) هو كسرها مع فتح الدال المهملة مخففة، من الوعد، يُقال: وعده يعده عدة في الخير.
_________
(^١) في مقدمته لكتاب روضة المحبين ص/ ش.
(^٢) في مقدمته لكتاب إغاثة اللهفان (ص ٣٤).
(^٣) في كتابه: "ابن القيم" ص ١١٦.
(^٤) في ذيل طبقات الحنابلة ٢/ ٤٥٠.
(^٥) في طبقات المفسرين ٢/ ٩٦.
(^٦) في شذرات الذهب ٦/ ١٧٠.
(^٧) انظر: التاج المكلل (ص ٤١٩).
المقدمة / 8
وهو ههنا بمعنى: ما وعده اللَّه عباده الصابرين من الأجر الجزيل والثواب العظيم. وهذا يتناسب تمامًا مع الفصل الثاني للعنوان "ذخيرة الشاكرين".
ويصح أن يُقال: (عُدَّة) بضم العين وفتح الدال المشددة؛ لأنه يُقال لغة: أعدّ الشيء بمعنى هيأه وجعله عدّة للدهر، فيكون بمعنى: العدد والأسباب التي بموجبها يتسلح الصابرون، واللَّه أعلم" اهـ.
والحق -كما قال الشيخ- أن كلا الوجهين محتمل، وكذلك كلاهما متناسب مع الفصل الثاني من العنوان، فالذخيرة هي: واحدة الذّخائر، وهي ما ادُخر (^١).
ولعل من يُرجِّح الوجه الثاني يقول: إنه جاء هكذا مضبوطًا على صفحة عنوان النسخة الأصل، كما سبق.
وكذلك يمكن أن يُرجَّح الثاني على الأول من جهة أنه أعم من الأول، فوَعْدُ اللَّه تعالى وما ادّخره للصابرين وللشاكرين، هو من ضمن العُدد والأسباب التي بها يتسلحون، واللَّه تعالى أعلم.
المبحث الثاني: تاريخ تأليف الكتاب:
لم أقف على نصّ لابن القيم أو لأحد تلاميذه يحدد تاريخ تأليفه
لهذا الكتاب.
ولم أقف على نصّ لابن القيم أو لأحد تلاميذه يشير إلى سبق هذا الكتاب لأحد من كتبه، أو أنه كُتب بعد كتابٍ ما من كتبه.
_________
(^١) انظر: لسان العرب ٤/ ٣٠٢.
المقدمة / 9
ولم أقف على إحالة من ابن القيم في أيّ من كتبه إلى هذا الكتاب.
ولم أجد ما يُساعد على ذلك أثناء تحقيقي للكتاب إلا ما كان من نقوله عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه تعالى، التي ستأتي الإشارة إليها في المبحث التالي.
فمن خلال هذه النقول نجزم بأن ابن القيم إنما ألّفه بعد لقائه بشيخ الإسلام والاستفادة منه.
المبحث الثالث: إثبات نسبة الكتاب لمؤلفه:
لا ريب في صحة نسبة هذا الكتاب للإمام ابن القيم، وذلك لأدلة متعددة، منها:
١ - نصّ عدد ممن ترجم لابن القيم على نسبة هذا الكتاب له، كما سبق في المبحث الأولى.
٢ - النقول التي نُقلت عن الكتاب تُؤكد أن هذا الكتاب الموجود بين أيدينا هو الذي ذكر مترجموه أنه له. وسيأتي ذكر هذه النقول في المبحث.
٣ - ورود نسبة الكتاب إلى المؤلف في صفحات عناوين الأصول الخطية.
٤ - النقول عن شيخ الإسلام ابن تيمية بعباراته المعروفة، ومن ذلك قوله في الباب السابع عشر: "أنكره شيخنا"، وقوله في الباب التاسع عشر: "وهذه طريقة شيخنا"، وقوله في الباب الثاني والعشرين: "وقد سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذه المسألة فقال"، وقوله في الباب الرابع والعشرين:
المقدمة / 10
"وسمعت شيخ الإسلام يقول".
٥ - التوافق والتطابق بين بعض مباحث الكتاب، ومباحث ابن القيم في كتبه الأخرى، وقد أشرت إلى بعض ذلك في حواشي الكتاب.
٦ - طريقة المؤلف المعروفة في عرضه وسياقه وترجيحه وتحريره للمسائل ظاهرة في الكتاب لا تخفى.
المبحث الرابع: أهمية الكتاب:
لما كان صاحب الكتاب هو أعلم الناس بحقيقته وأهميته ومكانته، لذا فإن ما يذكره المؤلف من ذلك هو أولى من بالاعتماد بدلًا من الاستنباط، وقد كفانا ابن القيم مؤونة ذلك حيث ذكر أهميته في مقدمته، وسأنقل ما ذكره مفصلًا في النقاط التالية:
١ - أنه "لما كان الإيمان نصفين: نصف صبر ونصف شكر، كان حقيقًا على من نصح نفسه وأحب نجاتها وآثر سعادتها، أن لا يهمل هذين الأصلين العظيمين، ولا يعدل عن هذين الطريقين القاصدين، وأن يجعل سيره إلى اللَّه بين هذين الطريقين ليجعله اللَّه يوم لقائه مع خير الفريقين، فلذلك وضع هذا الكتاب للتعريف بشدّة الحاجة والضرورة إليهما".
٢ - أن فيه "بيان توقف سعادة الدنيا والآخرة عليهما" -الصبر والشكر-.
٣ - كون هذا الكتاب "كتابًا جامعًا حاويًا نافعًا، فيه من الفوائد ما هو حقيق على أن يُعضّ عليه بالنواجذ، وتُثنى عليه الخناصر".
المقدمة / 11
٤ - ومن أهميته أنه جاء "ممتعًا لقارئه، مريحًا للناظر فيه، مسليًا للحزين، ومنهضًا للمقصرين، محرّضًا للمشمّرين".
٥ - أنه جاء "مشتملًا على نكاتٍ حسانٍ من تفسير القرآن"، و"على أحاديث نبوية معزوة إلى مظانها، وعلى "آثار سلفية منسوبة إلى قائلها".
٦ - ومن أهميته اشتماله على "مسائل فقهية حسان مقرَّرة بالدليل".
٧ - وكذلك فمن أهميته وجود "دقائق سلوكية على سواء السبيل، وذكر أقسام الصبر ووجوهه، والشكر وأنواعه، وفصل النزاع في التفضيل بين الغني الشاكر والفقير الصابر، وذكر حقيقة الدنيا وما مَثَّلها اللَّهُ ورسولُه والسلف الصالح به، والكلام على سِرّ هذه الأمثال ومطابقتها لحقيقة الحال، وذكر ما يذم من الدنيا ويحمد، وما يقرّب منها إلى اللَّه ويبعّد، وكيف يشقى بها من يشقى ويسعد بها من يسعد".
٨ - "وغير ذلك من الفوائد التي لا تكاد تظفر بها في كتاب سواه".
٩ - ومن أهميته أنه "كتاب يصلح للملوك والأمراء، والأغنياء والفقراء، والصوفية والفقهاء".
* * *
المبحث الخامس: العلوم التي حواها الكتاب:
العلوم التي حواها كتاب عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين متعددة ومختلفة، كما يلوح ذلك من خلال ذكر أهمية الكتاب في المبحث السابق.
١ - أما الموضوع الرئيس للكتاب والعِلْم الأساس الذي حواه، وهو الذي كُتب من أجله، فهو: علم السلوك والزهد، فمصنفه وضعه ليُعرف قارئه
المقدمة / 12
بالأسباب والعدد وما يمكن أن يدّخره السالك إلى اللَّه والدار الآخرة؛ ليكون على أتم استعداد لمواجهة المحن والابتلاءات التي يمكن أن يواجهها، أو ليُعرفه بما وعده اللَّه تعالى وما أعدّه له من جزيل الثواب وعظيم الأجر.
هذا، ولم يَخْلُ الكتاب من التطرق إلى علوم أخرى أراد بها المؤلف تحقيق ما يذكره، أو تأكيد ما يرجحه، أو توجيه ما يخالفه، ساعده في ذلك سعة علمه، وكثرة اطلاعه، ودقيق فهمه واستنباطه.
٢ - فتجد في هذا الكتاب من دقائق التفسير وفهم التنزيل، ما لا تجده في كتابٍ سواه، "فكان يستحضر من بحاره الزخّارة كل فائدة مهمة، ومن كواكبه السيارة كلّ نيّر يجلو حنادس الظلمة" (^١).
فانظر في الباب الثالث والعشرين قول المصنف: "وقد حام أكثر المفسرين حول معنى هذه الآية وما أوردوا، فراجع أقوالهم تجدها لا تشفي عليلًا ولا تُرْوي غليلًا، ومعناها أجل وأعظم مما فسروها به. . . ". وراجع فهرس الآيات التي فسرها المصنف.
٣ - وفيه من فقه السنة وتفسير الأحاديث والاستنباط منها ما لا يكاد يوجد في غيره من الكتب، ففي كلامه على حديث: "خير الرزق ما يكفي، وخير الذكر الخفي"، قال: "وتأمل جمعه في هذا الحديث بين رزق القلب والبدن، ورزق الدنيا والآخرة وإخباره أن خير الرزقين ما لم يتجاوز الحد، فيكفي من الذكر إخفاؤه فإن زاد على الإخفاء، خيف على صاحبه الرياء والتكبر به على الغافلين، وكذلك رزق البدن إذا زاد على الكفاية خيف على
_________
(^١) قاله الصفدي في مدحه لابن القيم في ترجمته من أعيان العصر ٤/ ٣٦٧.
المقدمة / 13
صاحبه الطغيان والتكاثر". وللاستزادة من استنباطات المؤلف راجع الفهارس.
٤ - وفيه من علوم الحديث طرفٌ لا بأس به من تصحيح أحاديث وتضعيف أخرى. وانظر في ذلك فهرس الأحاديث التي صححها أو ضعفها.
٥ - كما حوى الكتاب بعضًا من مسائل الفقه مُستدلًا لها بالدليل.
٦ - كما ذكر فيه مؤلفه بعضَ مذهب السلف في التوحيد والعقيدة "فذاك عُشّه الذي منه درج، وغابه الذي ألِفَه لَيثُه الخادر ودخل وخرج" (^١).
٧ - وبعض مسائل العربية، التي تدل على سعة اطلاع المؤلف ومعرفته بهذا الفن، كيف لا وهو الذي "تبحر في العربية وأتقنها، وحرر قواعدها ومكّنها" (^٢).
المبحث السادس: مجمل ترتيب الكتاب:
أما ترتيب الكتاب، فكأن ابن القيم يكتب بمنهج كتابة البحوث المعاصرة، فنجده قد مهد لكتابه هذا بمقدمة لطيفة يُستشف منها أسباب اختياره للكتابة فيه، ثم عقد فصلًا ذكر فيه أهمية كتابه ومزاياه، وأتبع ذلك بذكر خطة كتابه التي سار عليها، وهي تقع في ستةٍ وعشرين بابًا وخاتمة، ثم نص على تسميته لكتابه.
_________
(^١) قاله الصفدي في أعيان العصر ٤/ ٣٦٧.
(^٢) المصدر السابق.
المقدمة / 14
أما أبواب الكتاب، فكانت على النحو التالي:
خصص الأبواب من الأول إلى الثامن عشر للصبر وما يتعلق به من تعريفه وحقيقته وأسمائه بالإضافة إلى متعلقه، والفرق بين الصبر والتصبر والاصطبار والمصابرة، وتقسيمه باعتبار محله، وبحسب اختلاف قوته وضعفه، وباعتبار متعلقه، وباعتبار تعلق الأحكام الخمسة به، وبيان تفاوت درجاته، وانقسامه إلى محمود ومذموم، والفرق بين صبر الكرام وصبر اللئام، وفي الأسباب التي تعين عليه، وبيان أن الإنسان لا يستغني عن الصبر، وفي بيان أشقِّه على النفوس، وفيما ورد فيه من نصوص الكتاب والسنة والآثار، ثم أمور تتعلق بالمصيبة من البكاء والندب وشق الثياب ودعوى الجاهلية ونحوها.
ثم في الأبواب من التاسع عشر إلى الرابع والعشرين أدخل الشكر وأشركه في موضوع الكتاب، فتحدث فيها أن الإيمان نصفان صبر وشكر، وفي تنازع الناس في الأفضل منهما، ثم حكم بين الفريقين، وتكلم عن اختلاف الناس في الغني الشاكر والفقير الصابر، ثم ذكر حجة كلٍ.
وخصص البابَ الخامسَ والعشرين لبيان أمور تضاد الصبر وتنافيه وتقدح فيه، وكأنه أراد إخراج من يقع في شيء من ذلك من الدخول في خلاف الأفضلية بين الفقير الصابر والغني الشاكر، فذكر أمورًا قد تخفى على كثير ممن يدعي الصبر؛ من الشكوى إلى المخلوق والأنين والهلع.
ثم في الباب السادس والعشرين -وهو آخر الأبواب- أراد بيان فضيلة عظيمة لكلٍ من الصبر والشكر، ألا وهي دخولهما في صفات الرب ﷻ وأنه لو لم يكن للصبر والشكر من الفضيلة إلا ذلك لكفى.
المقدمة / 15
ثم ختم الكتاب بخاتمة ماتعة، أراد فيها حثّ الناس وشحذ هممهم في مسيرهم إلى اللَّه والدار الآخرة.
فمن خلال هذا الكتاب وما حواه من آيات كريمات، وأحاديث نبوية، وآثار سلفية، وتحقيقات مرضية، يستلهم الصابرون والشاكرون منها أخذ عدتهم وتهيئة أسلحتهم في مسيرهم في هذه الدنيا إلى اللَّه والدار الآخرة، فكان هذا الكتاب بحق عُدّة للصابرين وذخيرة للشاكرين. واللَّه تعالى أعلم.
ومع جودة ترتيب هذا الكتاب، وحسن سياق أبوابه، أسجّل ملاحظتين هما:
الأولى: أنَّ الباب الثامن عشر: وهو "في ذكر أمور تتعلق بالمصيبة من البكاء والندب وشق الثياب ودعوى الجاهلية ونحوها"، والباب الخامس والعشرين: "في بيان الأمور المضادة للصبر والمنافية له والقادحة فيه" كان يمكن دمجهما في باب واحد لتقارب موضوعهما.
ويظهر ذلك بالمقارنة.
الثانية: من الملاحظ أن المؤلف لم يُفرد للشكر بابًا مستقلًا، كما فعل في الصبر، حيث أفرد له بابًا في معناه واشتقاقه، وبابًا آخر في حقيقته، وغير ذلك.
فكما أن المصنف جعل عنوان الكتاب في فصلين، أحدهما للصبر "عدة الصابرين"، والآخر للشكر "وذخيرة الشاكرين"، كان من المتوقع أن يُفرد للشكر أبوابًا مستقلة كالتي أفردها للصبر، خاصة في الأمور التي ذكرها ضمنًا كتعريف الشكر واشتقاقه، فكان من المناسب أن يفرد لذلك بابًا عنوانه: "معنى الشكر لغة، واشتقاق هذه الكلمة وتصريفها"، كما فعل في الصبر، وآخر عنوانه: "حقيقة الشكر وكلام الناس فيه"، كما فعل في الصبر.
المقدمة / 16
لا سيما أن مضمون هذين البابين موجود في كلام المصنف في الباب الحادي والعشرين: "في الحكم بين الفريقين والفصل بين الطائفتين"، إذ قد ذكر فيه تعريف الشكر واشتقاقه وحقيقته وكلام الناس فيه. واللَّه تعالى أعلم.
المبحث السابع: سمات الكتاب ومعالم منهجه:
بالنظر في الكتاب وجدت أن أهم سماته ما يلي:
١ - أن ترتيب الكتاب جاء ترتيبًا منطقيًا، كما سبق ذكره في المبحث السابق، فخلا الكتاب عن التكرار في المواضيع، أو تداخلها بعضها في بعض، إذا استثنينا الملاحظتين في المبحث السابق.
٢ - أن ترتيب المصنف لكتابه كان على الأبواب، فيقول: "الباب
الأول. . . "، "الباب الثاني. . . " وهكذا.
٣ - أن ترتيب المواضيع داخل الأبواب كان ترتيبًا منطقيًّا أيضًا، ففي الباب الثامن مثلًا: "في انقسامه باعتبار تعلق الأحكام الخمسة به"، ذكر أن الصبر ينقسم بذلك إلى خمسة أقسام: واجب، ومندوب، ومحظور، ومكروه، ومباح، ثم أتى على ذكر هذه الأقسام واحدًا تلو الآخر.
وفي الباب العاشر: "في انقسام الصبر إلى محمود ومذموم" ذكر أنه ينقسم إلى القسمين: مذموم وممدوح، ثم أتى على القسم الأول، ثم القسم الثاني.
وهكذا في سائر أبواب الكتاب.
٤ - من سمات هذا الكتاب أيضًا كثرة الفصول في كثير من الأبواب، ولذلك عدة أسباب منها:
المقدمة / 17
أ- إذا أراد المصنف الانتقال من جزئية معينة من الموضوع إلى الجزئية التالية عقد فصلًا. فمثلًا في الباب العاشر: "في انقسام الصبر إلى محمود ومذموم" تكلّم أولًا على الصبر المذموم، ولما أراد أن يتكلم على الشق الثاني من الموضوع، وهو الصبر الممدوح قال: "فصل: وأما الصبر المحمود فنوعان. . . " وذكرهما.
ب- عندما يريد ذكر فائدة أو نكتة مهمة لها علاقة بما يذكره، فإنه قد يعقد لذلك فصلًا تنبيهًا لذلك، كما فعل في الباب السادس: "في بيان أقسامه بحسب اختلاف قوته وضعفه ومقاومته لجيش الهوى وعجزه عنه"، فلما ذكر أن لباعث الدين بالإضافة إلى باعث الهوى ثلاثة أحوال، قال في أثناء ذكره للحالة الثانية منها: "فصل: وهاهنا نكتة بديعة يجب التفطن لها. . . " وذكر هذه النكتة، ثم انتقل إلى الحالة الثالثة عاقدًا لها فصلًا جديدًا.
ج - وقد يعقد فصلًا من الفصول إذا عاد إلى الموضوع الرئيس بعد استطراد، كأنه يريد تنبيه القارئ على أنه قد رجع إلى إكمال ما كان بدأه، ومثاله في الباب الثامن.
د- عندما يريد التأكيد على أمرٍ ذكره أو يتعلق به، فإنه قد يعقد لذلك فصلًا، ومثاله في الباب السابع عشر.
٥ - ومن سمات الكتاب ومعالم منهجه الواضحة، كثرة الاستطرادات، ما بين طويل أو قصير، وقد يعتذر المؤلف عن طول الاستطراد بأهميته ونفعه.
ففي الباب الثالث والعشرين: "في ذكر ما احتجت به الفقراء من الكتاب والسنة والآثار والاعتبار" بعد أن استطرد قال: "ولا تستطل هذا الفصل المعترض في أثناء هذه المسألة، فلعله أهم منها وأنفع، وباللَّه التوفيق".
المقدمة / 18
٦ - وكذلك من سمات الكتاب محاولة المؤلف التوضيح والبيان للقارئ بحيث لا يدع شبهة إلا ويحاول كشفها، ويجتهد في ذلك اجتهادًا كبيرًا.
ففي الباب التاسع: "في بيان تفاوت درجات الصبر" عندما أراد بيان أن الصبر على فعل المأمور أفضل من الصبر على ترك المحظور ذكر لذلك عشرين وجهًا.
وفي الباب الثالث والعشرين "في ذكر ما احتجت به الفقراء من الكتاب والسنة والآثار والاعتبار"، عقد فصلًا لذكر أمثلة تُبيّن حقيقة الدنيا، فذكر اثنين وعشرين مثالًا.
٧ - ومن معالم هذا الكتاب: توسع المؤلف في ذكر الأدلة والمرجحات ونحوها، بحيث يحاول استيعاب ما يمكن ذكره في ذلك.
وأمثلته في الباب الثاني عشر والخامس عشر.
٨ - ومن معالم الكتاب عناية المؤلف رحمه اللَّه تعالى الظاهرة بالتفسير وعلومه، كما سيظهر للقارئ بالنظر إلى فهرس الآيات التي فسَّرها المؤلف.
٩ - ومنها أيضًا عناية المؤلف الكبيرة بالاستدلال بالأحاديث والآثار، وأقوال السلف.
١٠ - ومن سمات الكتاب، عناية المؤلف التي لا تخفى باستشهاده بالأبيات الشعرية. يُراجع فهرس الأبيات الشعرية.
١١ - ومنها اهتمام المؤلف بالترجيح بين الأقوال المختلفة، وعدم ترك الأمر دون تحقيق أو ترجيح أو توجيه للأدلة الواردة، وذلك واضح ظاهر.
المقدمة / 19
المبحث الثامن: النقول من الكتاب:
لما كان موضوع الكتاب قد أُفرد بالتأليف والكتابة، وكُتب في موضوع الصبر والشكر ضمنًا في فنون مختلفة؛ كان من الطبيعي أن تقل نقول العلماء من هذا الكتاب، إلا أنه لأهمية الكتاب وما فيه من تحريرات وفوائد غزيرة لا توجد عند غير ابن القيم، قد أفاد بعض العلماء منه ونقلوا منه بعض الفوائد، وهذا ما وقفت عليه من ذلك.
١ - محمد المنبجي، في كتابه تسلية أهل المصائب (ص ١٨٥ و٢١٠، ٢١٦).
٢ - عبد الرؤوف المناوي (ت ١٠٣٣)، في كتابه فيض القدير (١/ ٢٢٤، ٤٤٠) و(٤/ ٧٣، ٢٣٤، ٢٨٦)، و(٥/ ٤٢٨).
٣ - منصور البهوتي (ت ١٠٤٦) في كتابه كشاف القناع (ص ١٤).
٤ - سليمان بن عبد اللَّه بن محمد بن عبد الوهاب (ت ١٢٣٣)، في كتابه تيسير العزيز الحميد (ص ٥١٢، ٦٢٧، ٥٢٣ - ٦٢٨).
٥ - عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب (ت ١٢٨٥)، في كتابه فتح المجيد (٢/ ٦٠٣، ٦١٤، ٧٢٩).
المقدمة / 20
المبحث التاسع: الثناء على الكتاب:
قال العلامة الصنعاني (ت ١١٨٢) في "مختصر عدة الصابرين" (ق ١ - ٢) (^١): "فإني لما وقفت على كتاب عدّة الصابرين وذخيرة الشاكرين الذي ألفه فارس الحفاظ. . . = رأيتُ كتابًا لم يُنْسَج على منواله، ولا سَمحت القرائح بمثاله، قد بثّ فيه من درر الفوائد ما يحيّر الناظر، ومن كنوز الشوارد ما يغني البصائر، فهو جدير بأن يُصان في الأجفان وأن تكتحل بفوائده عيون الأذهان، حقيقٌ بقول مؤلفه في ديباجته مثنيًا عليه: فجاء كتابًا حاويًا نافعًا. . . " وذكر كلام المصنف إلى آخره.
ثم قال: "وقد كنت قلت عند الوقوف على محاسن ما فيه:
عُدّة الصابرين إن نابَ خطبٌ ... وزمان الفتى كثير الخطوب
جمعت في غضونها كل معنًى ... فهي نعم الجليس للمكروبِ
كم بها من فوائدٍ فاغتنمها ... فنكات العلوم كنز القلوب
فارتشفها ثم اقتطف من رُباها ... وتضمّخ بعطرها والطيب
ثم سرّح أجفان فكرك إن كنـ ... ـت فتًى ناظرًا بفكر اللبيب
تلقَ فيها دواءَ جهلك بالصبـ ... ـر وبالشكر من حكيم طبيب
واضعًا للهِناء في موضع النقـ ... ـب مزيلًا للبس والتنقيب
جالبًا للتحقيق في كل فنٍّ ... فتغنّم من ذلك المجلوب
يا له من مؤلف حاز علمًا ... وأتانا بكل معنى غريب
_________
(^١) نسخة الجامع الكبير بصنعاء، تفضَّل بتصوير ورقاتٍ منه الشيخ وليد الربيعي، ونقلنا منه هنا ما يناسب المقام. (علي العمران).
المقدمة / 21
فاللبيب اللبيب من أشعر القلـ ... ـب من الصبر كل ثوبٍ قشيب
جاعلًا للدثار أثواب شكر ... نسجت بالترغيب والترهيب
ولعمري لم أختصره لحشوٍ ... قد حواه ولا لأمرٍ مريب
ثم قال:
فهو لا شك سلوة لحزينٍ ... ولذي الروح فيه أوفى نصيب
فتمسّك به إذا شئت تلقى ... كل خطب بكل سيف ضروب".
المبحث العاشر: موارد ابن القيم في كتابه:
يمكن تقسيم موارد ابن القيم في الكتاب إلى قسمين:
القسم الأول: الكتب التي نص ابن القيم على أسمائها.
القسم الثاني: الكتب التي لم ينصّ على أسمائها، بل ذكر أسماء مؤلفيها.
أما القسم الأول: الكتب التي نصّ على أسمائها:
اسم الكتاب ومؤلفه. . . الصفحة
بعض الكتب القديمة. . . ١٥٠
بعض المسانيد. . . ١٤٥، ١٥٢
بعض كتب اللَّه سبحانه. . . ١٧٢
التمام - محمد بن محمد بن الحسين الفراء. . . ٣٤١، ٣٤٤، ٣٤٥
جامع الترمذي. . . ٦٠، ١٥٠، ١٥١ وغيرها
الزهد - أحمد بن حنبل. . . ٣٣١، ٤٢٠
المقدمة / 22