Correct Statement on the Issue of Traveling
صحيح المقال في مسألة شد الرحال
प्रकाशक
الجامعة الإسلامية
संस्करण संख्या
السنة الحادية عشرة-العدد الثالث
प्रकाशन वर्ष
ربيع الأول ١٣٩٩هـ/ ١٩٧٨م
प्रकाशक स्थान
المدينة المنورة
शैलियों
مدْخل
...
صَحِيح الْمقَال فِي مَسْأَلَة شدّ الرّحال
لفضيلة الشَّيْخ عبد الْعَزِيز الربيعان مدير المعهد الْمُتَوَسّط بالجامعة الإسلامية
الْحَمد لله وَصلَاته وَسَلَامه على رَسُوله ومصطفاه، وعَلى آله وصحابته والمهتدين بهداه..
أما بعد.. فَهَذَا هُوَ الْموضع الثَّانِي الَّذِي وعدت ببحثه ومناقشة فَضِيلَة الْأَخ الْكَرِيم الشَّيْخ عَطِيَّة مُحَمَّد سَالم فِيهِ، وَالَّذِي قلت فِي مُقَدّمَة الْمَوْضُوع السَّابِق المنشور فِي مجلة الجامعة الْعدَد السَّابِق لهَذَا الْعدَد تَحت عنوان (الْبَحْث الْأمين فِي حَدِيث الْأَرْبَعين) .. قلت هُنَاكَ: إِن فَضِيلَة الشَّيْخ عطيه وَقع فِي أخطاء تقليدية يجب التَّنْبِيه عَلَيْهَا وَبَيَان الْحق فِيهَا، وَمعنى قولي تقليدية أعنى أَنَّهَا أخطاء قديمَة فِي مسَائِل قد بحثت وَظهر وَجه الْحق فِيهَا؛ فَلَا دَاعِي لإعادة بحثها وبلبلة الأفكار حولهَا؛ كَيفَ وعلماء بِلَادنَا لَا اخْتِلَاف بَينهم فِي حكمهَا، وَأَنه الْمَنْع وَالتَّحْرِيم؛ فَكيف سَاغَ لفضيلته أَن يضْرب بمذهبهم عرض الْحَائِط ويعلن من بَينهم مذهبا يعتبرونه بِدعَة، بل مَعْصِيّة الله وَرَسُوله؛ لمصادمتة الحَدِيث الصَّحِيح ومحالفته مَذْهَب السّلف الصَّالح وَمن تَبِعَهُمْ بِإِحْسَان.
وَهَذَا الْوَصْف الْأَخير أَعنِي بِهِ موضوعنا هَذَا، وموضوعا آخر تذبذب فِيهِ فَضِيلَة الشَّيْخ؛ فَلَا تكَاد تجزم بِرَأْيهِ الثَّابِت فِيهِ، وأعنى بذلك مَوْضُوع الاحتفال بالمولد النَّبَوِيّ، إِحْدَى الْبدع الَّتِي جارى فِيهَا المسمون النَّصَارَى؛ مصداق قَوْله ﵇: "لتتبعن سنَن من كَانَ قبلكُمْ.." الحَدِيث.
وَقد تعرض الشَّيْخ لهَذَا الْمَوْضُوع أثْنَاء كَلَامه على سُورَة الْإِنْسَان.. وَمن هُنَا ندخل فِي الْمَوْضُوع متوكلين على الله ومستعينين بحوله وقوته.
الْمَسْأَلَة الأولى ... بَدَأَ الشَّيْخ فِي بَحثه فِي مَسْأَلَة حكم شدّ الرّحال لزيارة قبر النَّبِي ﷺ بترجمة هَذَا نَصهَا: "شدّ الرّحال إِلَى الْمَسْجِد النَّبَوِيّ للسلام على رَسُول الله ﷺ"، ثمَّ أتبع ذَلِك بقوله: "وَمِمَّا اخْتصَّ بِهِ الْمَسْجِد النَّبَوِيّ - بل من أهم خَصَائِصه بعد الصَّلَاة فِيهِ - السَّلَام على رَسُول الله ﷺ من دَاخل هَذَا الْمَسْجِد قَدِيما وحديثا"..
الْمَسْأَلَة الأولى ... بَدَأَ الشَّيْخ فِي بَحثه فِي مَسْأَلَة حكم شدّ الرّحال لزيارة قبر النَّبِي ﷺ بترجمة هَذَا نَصهَا: "شدّ الرّحال إِلَى الْمَسْجِد النَّبَوِيّ للسلام على رَسُول الله ﷺ"، ثمَّ أتبع ذَلِك بقوله: "وَمِمَّا اخْتصَّ بِهِ الْمَسْجِد النَّبَوِيّ - بل من أهم خَصَائِصه بعد الصَّلَاة فِيهِ - السَّلَام على رَسُول الله ﷺ من دَاخل هَذَا الْمَسْجِد قَدِيما وحديثا"..
1 / 181
مناقشة:
ونريد أَن نناقش فضيلته فِيمَا تقدم فَنَقُول:
هَذِه الخاصية الَّتِي أثبتها فضيلته لِلْمَسْجِدِ النَّبَوِيّ، وَجعلهَا من أهم خَصَائِصه مَا الدَّلِيل عَلَيْهَا؟.. وَمن الَّذِي قررها أصلا وَجعلهَا كَمَا ذكر فضيلته؟.. هَل قررها الْقُرْآن؟.. فليتكرم على الْمُسلمين بِذكر الْآيَة الَّتِي بيّنت ذَلِك أَو أشارت إِلَيْهِ، هَل قرر ذَلِك الرَّسُول؟.. فليتكرم بِذكر الحَدِيث الَّذِي أَفَادَ هَذَا الحكم؛ فإننا بأمس الْحَاجة إِلَى مَعْرفَته لأسباب لَا تخفى على من يهمه أَمر الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين.
هَل أجمع على ذَلِك أَصْحَاب رَسُول الله وَعمِلُوا بِهِ؟ أم ذهب إِلَيْهِ جمهورهم أَو كَثْرَة مِنْهُم أَو حَتَّى وَلَو بضعَة من كبارهم وفقهائهم؟.. إِن كَانَ كَذَلِك فعلى الرَّأْس وَالْعين، وَلَكِن نُرِيد من فضيلته أَن يرشدنا إِلَى الْمصدر الَّذِي ذكر ذَلِك من المصادر الْمُعْتَبرَة عِنْد عُلَمَاء الْإِسْلَام، ونعنى بعلماء الْإِسْلَام أَئِمَّة السّلف خَاصَّة، ونعى بالسلف الْقُرُون الثَّلَاثَة الأولى من هَذِه الْأمة؛ لشهادة الْمُصْطَفى ﵇ بفضلهم، وَلما عرف لَهُم من أَحْوَال فِي الْعلم وَالدّين تخْتَلف عَنْهَا أَحْوَال من جَاءُوا بعدهمْ، وَلِأَن فبمَا بعدهمْ كثرت الْأَهْوَاء والابتداع فِي الدّين وَلم يسلم من ذَلِك إِلَّا الْقَلِيل، وَمن ثمَّ فإننا لَا نطمئن إِلَى نقل كثير من الْمُتَأَخِّرين وَلَا بآرائهم مَا لم يكن الْمصدر الَّذِي نقلوا عَنهُ مَوْجُودا بَين أَيْدِينَا، خَاصَّة فِي الْأُمُور الَّتِي فِيهَا خلاف جوهري يمس العقيدة، أَو يخْشَى أَن يَمَسهَا، أَو لَهُ صلَة ببدعة فتن بهَا كثير من الْمُسلمين كمسألتنا هَذِه.
كَمَا نذكِّر مسبقا بأننا لَا نعتبر عمل الصَّحَابِيّ الْوَاحِد حجَّة فِي الدّين إِذا انْفَرد بِهِ دون غَيره من الصَّحَابَة، وَلم يرد أَنهم وافقوه قولا وَلَا عملا وَمَا لم نعلم لَهُ مُسْتَندا من الْكتاب أَو السّنة؛ ذَلِك لِأَن التشريع من حق الله وَرَسُوله فَقَط وَلَا نصيب لأحد بعد الله وَرَسُوله فِيهِ، أما المجتهدون من الْعلمَاء فهم معرّضون لِأَن يُصِيبُوا وَلِأَن يخطئوا، وصوابهم أَن يوافقوا حكم الله وَرَسُوله بفهم مُقْتَضى نَص شَرْعِي، وخطؤهم أَن لَا يوافقوا حكم الله وَرَسُوله بِأَن لَا يوفّقوا لفهم النَّص الشَّرْعِيّ الَّذِي يُرِيدُونَ فهمه.
أما التخرص والاعتماد على وَاقع النَّاس، وَالِاسْتِدْلَال بِمَا تَفْعَلهُ الجماهير فَلَيْسَ حجَّة فِي الدّين عِنْد أحد يعرف أَن الْإِسْلَام هُوَ دين الله الَّذِي أنزلهُ على رَسُوله ورضيه لَهُم منهجا فِي الْعِبَادَات والمعاملات والأخلاق والآداب والسلوك؛ فأكمله وَأتم بِهِ النِّعْمَة على الْمُسلمين وبيّنه رَسُوله صلى الله عله وَسلم لأمته أتم بَيَان، كَانَ ذَلِك قبل أَن يقبض الله رَسُوله ﷺ إِلَيْهِ، فَمَا من خير إِلَّا دلّ عَلَيْهِ أمته وَمَا من شَرّ إِلَّا نَهَانَا عَنهُ وحذرها من الْوُقُوع فِيهِ، خَاصَّة مَا يتَعَلَّق بتوحيد الله وحمايته من شوائب الشّرك وسد الذرائع الَّتِي يخْشَى أَن تتدرج بأمته إِلَى الْوُقُوع فِيمَا وَقعت فِيهِ الْأُمَم السَّابِقَة، فجزاه الله عَنَّا خير مَا جزى نَبيا عَن أمته.
أما زعم الشَّيْخ أَن السَّلَام على رَسُول الله ﷺ مَا كَانَ إِلَّا من دَاخل الْمَسْجِد قَدِيما وحديثا؛
1 / 182
فتعبيره بقديم وَحَدِيث يدل على أَنه يسْتَدلّ بالواقع، ويؤكد ذَلِك كَون فضيلته لم يُورد أَي دَلِيل شَرْعِي على صِحَة مَا ذهب إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا اسْتدلَّ عَلَيْهِ بِمَا ظن أَنه عمل النَّاس، ثمَّ إِن زَعمه ذَلِك قَول بِلَا علم، وَدَعوى بِلَا بَيِّنَة؛ إِذْ إِن فضيلته لم يُوجد إِلَّا مُنْذُ خمسين سنة تَقْرِيبًا، فَكيف علم مَا عَلَيْهِ النَّاس فِي هَذَا الْأَمر مُنْذُ ألف سنة؟.. لَا يعلم ذَلِك، من عَاشَ هَذِه الْقُرُون كلهَا.
إِذا كَيفَ علم فضيلته أَن السَّلَام على رَسُول الله مَا كَانَ يَوْمًا من الْأَيَّام إِلَّا من دَاخل الْمَسْجِد؟
أَظن كل هَذَا من أجل محاولة الرَّبْط الوثيق بَين الْقَبْر وَالْمَسْجِد، كَمَا سَيَأْتِي تصريحه بذلك وَالِاسْتِدْلَال العجيب عَلَيْهِ بِحَدِيث: "مَا بَين بَيْتِي ومنبري رَوْضَة من رياض الْجنَّة".. وَنسي - سامحه الله - أَن الْمَسَاجِد تخْتَلف عَن الأضرحة، وَلَيْسَ بَينهمَا وَجه شبه وَلَا جَامع مُشْتَرك.
وَقَالَ الشَّيْخ: كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيح: "مَا من أحد يسلّم عَليّ إِلَّا رد الله عَليّ روحي فأرد ﵇"، ثمَّ قَالَ: ومجمعون على أَن ذَلِك يحصل لمن سلم عَلَيْهِ من قريب، ثمَّ أكد مَا ادّعاه أَولا بقوله: وَمَا كَانَ هَذَا السَّلَام يَوْمًا من الْأَيَّام إِلَّا من الْمَسْجِد النَّبَوِيّ، سَوَاء قبل وَبعد إِدْخَال الْحُجْرَة بِالْمَسْجِدِ.
مناقشة:
وَهنا نناقش الشَّيْخ من نواح حول مَا نقلنا من كَلَامه:
١- مَا مُرَاده بِالصَّحِيحِ؟.. أيعني البُخَارِيّ وَمُسلم أَو أَحدهمَا كَمَا هُوَ اصْطِلَاح الْعلمَاء غَالِبا، وكما يُشِير إِلَيْهِ اكتفاءه هُوَ بِكَلِمَة الصَّحِيح دون كلمة الحَدِيث؛ إِذْ حسب فهمي أَنه لَو كَانَ مُرَاده غير الصَّحِيحَيْنِ لقَالَ: كَمَا فِي الحَدِيث الصَّحِيح، وَلَكِن - كَمَا يَقُولُونَ - (لَا مشاحة فِي الِاصْطِلَاح) لَو كَانَ الحَدِيث الْمشَار إِلَيْهِ صَحِيحا، وَلَكِن هَذَا الحَدِيث لَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَلَيْسَ واردا بِسَنَد صَحِيح؛ فَأَيا مَا كَانَ قصد الشَّيْخ بِهَذَا الْوَصْف فَهُوَ خطأ؛ لِأَن الحَدِيث فِي أبي دَاوُد وَبَعض الْكتب الْأُخْرَى غير البُخَارِيّ وَمُسلم بِسَنَد حسن فَقَط؛ إِذْ إِن فِي سَنَده أَبَا صَخْر حميد بن يزِيد قَالَ فِيهِ ابْن حجر فِي التَّقْرِيب: (صَدُوق يهم) .
٢- فِي الحَدِيث الَّذِي نَحن بصدده قَوْله ﵇: "مَا من أحد يسلم عَليّ"، وَكلمَة (أحد) نكرَة مسبوقة بِنَفْي وَلم تُوصَف بِمَا يميزها وَلم تقيد بِمَا يخصصها؛ فَمن ثمَّ تكون عَامَّة تَشْمَل جَمِيع من يصدقها عَلَيْهِ بِأَنَّهُ أحد، فَإذْ كَانَ الْأَمر كَذَلِك من أَيْن تكون الْفَضِيلَة الْخَاصَّة الَّتِي يدندنون حولهَا محاولين تَأْوِيل النُّصُوص من أجلهَا؟ ... وَقد ذهب شيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية إِلَى أَنه لَا فَضِيلَة هُنَا للمردود عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْفَضِيلَة للراد ﷺ؛ لِأَن ذَلِك من بَاب الْمُكَافَأَة على الْإِحْسَان ورد الْجَمِيل بِمثلِهِ.
ثمَّ إِن الشَّيْخ وفقنا الله وإياه! يمِيل بِقُوَّة - حسب فهمي من كَلَامه - إِلَى أَن رد السَّلَام مِنْهُ ﵇
1 / 183
الْمشَار إِلَيْهِ فِي الحَدِيث إِنَّمَا يصل لمن سلم من قريب دون من سلم من بعيد، وَدَلِيل ذَلِك كَونه حكى الْإِجْمَاع على أَن ردّ السَّلَام يحصل لمن سلم من قريب وَسكت عَن رَأْي من يرى أَنه لَا فرق بَين الْبعيد والقريب، مِمَّا يُشِير إِلَى أَنه غير مُعْتَد بذلك الْمَذْهَب وَلَا ملتفت إِلَيْهِ.
مَعَ أَن مَا أعرض عَنهُ فضيلته هُوَ الصَّحِيح للأدلة الْآتِيَة:
أ- دَعْوَى الِاخْتِصَاص لَا دَلِيل عَلَيْهَا، لَا من النَّقْل وَلَا من الْعقل، وكل دَعْوَى لَا تؤيدها الْأَدِلَّة مآلها للرَّدّ والبطلان.
ب- الحَدِيث مُطلق من الْقُيُود، وَمَا أطلقهُ المشرع لَا يجوز تَقْيِيده بِدَلِيل سوى الظَّن؛ فقد وصف الله الظَّن بِأَنَّهُ لَا يغنى من الْحق شَيْئا.
ج- فِي هَذَا التَّخْصِيص قِيَاس لحَال مَا بعد الْمَوْت على حَال الْحَيَاة، وَهُوَ قِيَاس فَاسد؛ لبعد الْفَارِق بَين الْحَالين؛ إِذْ حَال الْحَيَاة محسوس مشهود، وَحَال مَا بعد الْوَفَاة غيب لَا يعلم حَقِيقَته إِلَّا الله، وَالَّذِي يظْهر أَنه لَا فرق هُنَا بَين الْبعيد والقريب.
ثمَّ إِن الله تَعَالَى مكّن رَسُوله ﵊ من رد السَّلَام على من سلم عَلَيْهِ من قريب وَهُوَ فِي حَال وَفَاة ومفارقة للحياة الدُّنْيَا، لَا يعجز أَن يُمكنهُ من ذَلِك بِالنِّسْبَةِ للبعيد أَيْضا؛ إِذْ إِن الْقَضِيَّة غيب وقدرة إلهية خارقة - وَالله أعلم -.
ثمَّ لَو كَانَ الْأَمر كَمَا ظن الْبَعْض وَهُوَ أَن الردّ لَا يحصل إِلَّا من قريب لَكَانَ المسلّم يحْتَاج من أجل الْحُصُول على ذَلِك إِلَى أَن يدْخل الْحُجْرَة وَيقف على شَفير الْقَبْر، أما وَهُوَ دَاخل الْمَسْجِد فَقَط فَذَلِك بعيد وَلَيْسَ بقريب، وَالشَّيْخ جعل الْفَارِق بَين الْبعيد والقريب هُوَ الْمَسْجِد؛ فَمن سلم من دَاخل الْمَسْجِد فَهُوَ فِي نظره قريب، وَمن سلم من خَارجه فَهُوَ بعيد، وَلم يخصص مَكَانا من الْمَسْجِد دون مَكَان، وَنحن نتساءل: كَيفَ يكون من سلم وَهُوَ فِي غربي الْمَسْجِد - خَاصَّة بعد الزِّيَادَات الْأَخِيرَة، وَبَينه وَبَين الْقَبْر مئات الأمتار - يكون قَرِيبا، وَمن سلم من خَارج الْمَسْجِد من النَّاحِيَة الشرقية أَو الْقبلية - وَبَينه وَبَين الْقَبْر أمتار محدودة قد لَا تبلغ الْخَمْسَة عشر أَو الْعشْرين مترا - يكون بَعيدا، مَعَ أَن الْمُعْتَمد فِي ذَلِك والأساس الَّذِي بنى عَلَيْهِ فضيلته هَذَا الحكم هُوَ الِاجْتِهَاد الْمُجَرّد من الدَّلِيل؟.. أما أَنا فَلَا أجد جَوَابا لهَذَا التساؤل سوى مَا ذكرت قبل، وَهُوَ حرصه على أَن يرْبط بَين الْمَسْجِد والقبر.
٤- قد ورد حَدِيث عَن النَّبِي ﷺ بطرق مُتعَدِّدَة وشواهد كَثِيرَة يَرْوِيهَا أَئِمَّة أهل الْبَيْت النَّبَوِيّ الطَّاهِر وَغَيرهم؛ يُفِيد هَذَا الحَدِيث بِطرقِهِ وشواهده أَن لَا فرق بَين الْقَرِيب والبعيد بِالنِّسْبَةِ للسلام على رَسُول الله ﷺ كَمَا يُفِيد أَيْضا أَن النَّبِي ﵇ نهى عَن اتِّخَاذ قَبره عيدا، وَقد فهم رُوَاة هَذَا الحَدِيث من آل الْبَيْت النَّبَوِيّ أَن من اتِّخَاذ قَبره ﵇ عيدا
1 / 184
التَّرَدُّد على الْقَبْر؛ فقد أنكر كل من عَليّ بن الْحُسَيْن زين العابدين وَابْن عَمه الْحسن بن الْحسن على من يتَرَدَّد على الْقَبْر مستدلين عَلَيْهِ بِالْحَدِيثِ الْمشَار إِلَيْهِ، وَالَّذِي يرويانه بإسناديهما إِلَى جدهما سيد الْخلق ﷺ كَمَا أخبرا أَنه لَا فرق فِي السَّلَام عَلَيْهِ ﷺ بَين أَن يكون من قريب أَو من بعيد.
وَهَذَا نَص الحَدِيث: قَالَ أَبُو يعلى فِي سَنَده: حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة.. ثمَّ سَاق السَّنَد إِلَى عَليّ بن الْحُسَيْن زين العابدين أَنه رأى رجلا يَجِيء إِلَى فُرْجَة كَانَت عِنْد قبر النَّبِي ﷺ؛ فَيدْخل فِيهَا، فَنَهَاهُ ثمَّ قَالَ: أَلا أحدثكُم حَدِيثا سمعته من أبي عَن جدي عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وسم.. قَالَ: " لَا تَتَّخِذُوا قبرى عيدا، وَلَا تَتَّخِذُوا بُيُوتكُمْ قبورا؛ فَإِن تسليمكم يصلني أَيْنَمَا كُنْتُم". وَفِي بعض الرِّوَايَات: "وصلوا عَليّ؛ فَإِن صَلَاتكُمْ تبلغني حَيْثُ كُنْتُم! ".. وَفِي رِوَايَة: "فَإِن صَلَاتكُمْ وتسليمكم ".
وَفِي مُسْند سعيد بن مَنْصُور: حَدثنَا عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد أَخْبرنِي سُهَيْل بن أَنِّي سُهَيْل قَالَ: رَآنِي الْحسن بن الْحسن بن عَليّ بن أَنا طَالب رضى الله عَنْهُم عِنْد الْقَبْر؛ فناداني وَهُوَ فِي بَيت فَاطِمَة يتعشى فَقَالَ: هلمّ إِلَى الْعشَاء! قلت: لَا أريده، فَقَالَ: رَأَيْتُك عِنْد الْقَبْر؟.. قلت: سلمت عَليّ النَّبِي ﷺ، فَقَالَ: إِذا دخلت الْمَسْجِد فَسلم، ثمَّ قَالَ: إِن رَسُول الله ﷺ قَالَ: "لَا تَتَّخِذُوا قبرى.. وَفِي رِوَايَة: بَيْتِي عيدا، وَلَا بُيُوتكُمْ قبورا؛ لعن الله الْيَهُود اتَّخذُوا قُبُور أَنْبِيَائهمْ مَسَاجِد، وصلوا عَليّ فَإِن صَلَاتكُمْ تبلغني حَيْثُمَا كُنْتُم"، ثمَّ قَالَ الْحسن بعد رِوَايَته لهَذَا الحَدِيث: " مَا أَنْتُم وَمن بالأندلس إِلَّا سَوَاء".
قَالَ شيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية: "وَرَوَاهُ القَاضِي إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق فِي فضل الصَّلَاة على النَّبِي ﷺ".
وَفِي سنَن أبي دَاوُد نَص الحَدِيث الْمُتَقَدّم - لفظا بِلَفْظ - عَن أبي هُرَيْرَة.
وَقَالَ شيخ الْإِسْلَام فِي كتاب الرَّد على الاخنائي: "هَذَا حَدِيث حسن رُوَاته ثِقَات مثساهير، لَكِن عبد الله بن نَافِع الصَّائِغ فِيهِ لين لَا يمْنَع الِاحْتِجَاج بِهِ، خَاصَّة وَأَن لهَذَا الحَدِيث شَوَاهِد مُتعَدِّدَة"، ثمَّ ذكر وَاحِدًا من شواهده فِي سنَن سعيد بن مَنْصُور.
قلت: وَسَيَأْتِي إِن يَشَاء الله نقل احتجاج الْعَلامَة مُحَمَّد بشير السهسواني بِهَذَا الحَدِيث بِرِوَايَاتِهِ فِي رده على زيني دحلان.
مَاذَا نستفيد من هَذَا الحَدِيث؟
ونستفيد من هَذَا الحَدِيث مَا يَلِي:
١- الرَّد على من زعم أَن السَّلَام على رَسُول الله بعد وَفَاته ﵇ مَا كَانَ يَوْمًا من الْأَيَّام إِلَّا من دَاخل الْمَسْجِد النَّبَوِيّ، وَأَن السَّلَام من قريب أفضل وأنفع مِمَّا إِذا كَانَ من بعيد.
1 / 185
٢- أَن عَليّ بن الْحُسَيْن وَالْحسن بن الْحسن اعتبرا التَّرَدُّد على الْقَبْر دَاخِلا فِي اتِّخَاذه عيدا نُهِىَ عَنهُ فِي الحَدِيث، وَأَن ذَلِك التَّرَدُّد يتعارض مَعَ مُقْتَضى ذَلِك النَّهْي الصَّادِر عَن الْمُصْطَفى ﷺ.
٣- يدل نهيهما وإنكارهما على من تردد إِلَى الْقَبْر أنّ عمل جُمْهُور الْمُسلمين فِي زمانهما - وخاصة الْعلمَاء - عدم التَّرَدُّد إِلَى الْقَبْر؛ إِذْ لَو كَانَ الْأَمر بِالْعَكْسِ لما استنكر كل وَاحِد مِنْهُمَا تردد من أَتَى إِلَى الْقَبْر، وَلما نَهَاهُ عَن أَمر يَفْعَله سَائِر الْمُسلمين وَلَا يُنكر بَعضهم على بعض، ولاحتج الْمنْهِي بِأَن مَا فعله يَفْعَله سَائِر النَّاس وَلَا يُنكر عَلَيْهِم من قبل الْعلمَاء، علما بِأَن مَا أنكرهُ هَذَانِ الإمامان لم ينفردا بإنكاره بل نقل عَن جُمْهُور عُلَمَاء السّلف وأئمتهم، كَالْإِمَامِ مَالك؛ إِذْ ثَبت عَنهُ أَنه يكره قَول الرجل: زرت قبر النَّبِي أَو سلمت على النَّبِي ﷺ.. يعْنى عِنْد قَبره.
وَلم يكن مَعْرُوفا عَن أحد من الصَّحَابَة ﵃ أَنهم كَانُوا يَتَرَدَّدُونَ على الْقَبْر، إِلَّا مَا عرف عَن عبد الله بن عمر من أَنه إِذا أَرَادَ سفرا أَو قدم من سفر جَاءَ إِلَى الْقُبُور الثَّلَاثَة بعد مَا يُصَلِّي فِي الْمَسْجِد رَكْعَتَيْنِ؛ فَيَقُول: "السَّلَام عَلَيْك يَا رَسُول الله، السَّلَام عَلَيْك يَا خَليفَة رَسُول الله، السَّلَام عَلَيْك يَا أبتاه"، وَلَا يزِيد على هَذَا؛ فَمَاذَا يَقُول من يزْعم أَن السَّلَام على رَسُول الله ﷺ من أخص خَصَائِص الْمَسْجِد النَّبَوِيّ؟.. وَأَن السَّلَام على رَسُول الله مَا كَانَ يَوْمًا من الْأَيَّام إِلَّا من دَاخل الْمَسْجِد.. وماذا يَقُول من يرى وجوب أَو اسْتِحْبَاب أَو إِبَاحَة شدّ الرّحال لزيارة الْقَبْر الشريف، مُعَارضا بذلك نَهْيه ﵇، ومحاولا تَأْوِيل ذَلِك النهى، غير ملتفت لعمل السّلف الصَّالح من الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ فِي هَذِه الْمَسْأَلَة ... بل حاول أَن ينْسب إِلَيْهِم مَا لم يَقُولُوا أَو يَفْعَلُوا.
لَا أعلم لَهُم جَوَابا إِلَّا أَن يدعوا إِحْدَى ثَلَاث دعاوى:
الأولى: أَن يدعوا ضعف الحَدِيث الَّذِي أَفَادَ النَّهْي عَن اتِّخَاذ قَبره ﵇ عيدا، وَأفَاد أَن لَا فرق فِي السَّلَام عَلَيْهِ ﵇ بَين أَن يكون من قريب بعيد، وَهَذِه الدَّعْوَى لَو لجأوا إِلَيْهَا لقلنا لَهُم: إِن طَرِيقا وَاحِدَة من طرق هَذَا الحَدِيث تساوى طرق حَدِيث "مَا من أحد يسلم عَليّ.." الخ. وَتبقى بَقِيَّة الطّرق لَا مُقَابل لَهَا بِالنِّسْبَةِ لذَلِك الحَدِيث.. علما بِأَن حَدِيث "لَا تَتَّخِذُوا.." قد اسْتدلَّ بِهِ فِي الْمَوْضُوع أَئِمَّة الْإِسْلَام قَدِيما وحديثا كَمَا تقدم، وكما تَجدهُ فِي أَي كتاب تعرض لهَذِهِ الْمَسْأَلَة، والْحَدِيث إِذا ارْتَفع عَن دَرَجَة الضعْف فَهُوَ أولى بِالْقبُولِ من آراء الرِّجَال.
الثَّانِيَة: أَن يتهموا إمامي أهل الْبَيْت -وَغَيرهم مِمَّن اسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث على عدم جَوَاز التَّرَدُّد على الْقَبْر - بِسوء الْفَهم، وَأَنَّهُمْ نزلُوا الحَدِيث فِي غير منزله، ووضعوه فِي غير مَوْضِعه.
وَالْجَوَاب على هَذِه الدَّعْوَى أَن نقُول: لَا يشك من لَهُ أدنى إِلْمَام بعلوم الشَّرِيعَة وتاريخ الْإِسْلَام أَن السّلف أعلم بنصوص الشَّرِيعَة ومقاصدها وأهدافها من الْخلف مَرَّات متكررة، وخاصة رَاوِي الحَدِيث،
1 / 186
وَمن شَاهد التطبيق العملي لمقتضاه من جِهَة سلف الْأمة والقرون المفضلة أَحْرَى وأجدر بِمَعْرِفَة مُرَاد الله وَرَسُوله مِمَّن جَاءَ بعدهمْ، كَيفَ وَفِيمَا بعدهمْ تدخلت الْأَهْوَاء وتأثر كثير من النَّاس بِمَا حدث من بدع وَنحل وأفكار دخيلة على الْإِسْلَام؟..
الثَّالِثَة: أَن يَقُولُوا: إِذا كَانَ من السّلف من لَا يرى مَشْرُوعِيَّة السَّلَام عِنْد الْقَبْر، أَو يرى ذَلِك مَكْرُوها فقد وجد فيهم من يرى اسْتِحْبَاب ذَلِك وَأَنه من الْأَعْمَال الصَّالِحَة، أَو أَنه مُبَاح على الْأَقَل، وَلَيْسَ من يرى ذَلِك أولى بِاعْتِبَار رَأْيه من الْفَرِيق الثَّانِي.
وَالْجَوَاب على ذَلِك أَن نقُول: إِذا كَانَ من يرى عدم مَشْرُوعِيَّة السَّلَام عِنْد الْقَبْر بِالنِّسْبَةِ للنَّبِي ﷺ قد وجد من يُعَارضهُ من معاصريه وأقرانه؛ فَإِن الله قد أمرنَا أَن نرد مَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ إِلَيْهِ تَعَالَى وَإِلَى رَسُوله ﷺ؛ فعلينا أَن نطبق هَذَا الأَصْل الْعَظِيم وَأَن نسلك هَذَا السَّبِيل القويم؛ فَنَنْظُر من يكون الدَّلِيل بجانبه فنعلم أَنه هُوَ الْمُصِيب وَأَن مخالفه على خطأ وَقد حرم الصَّوَاب، وَلَكِن إِن كَانَت الْمَسْأَلَة فِي فروع الشَّرِيعَة، وَهَذَا الْمُخطئ قد بذل وَسعه فِي تحرى الصَّوَاب والتماس الْحق؛ فَلَا لوم عَلَيْهِ وَلَا إِثْم بِشَرْط أَن يكون أَهلا للِاجْتِهَاد وَمن الحائزين على مؤهلاته، أما إِن كَانَت الْقَضِيَّة قَضِيَّة عقيدة فَالَّذِي نعتقده وَالَّذِي فهمناه عَن عُلَمَاء أهل السّنة أَن الْخَطَأ فِي أُمُور العقيدة غير مَعْذُور فِيهِ إِذا كَانَ الْمُسلم يعِيش فِي بِلَاد الْإِسْلَام الَّتِي يُوجد فِيهَا من يبين العقيدة الصَّحِيحَة؛ إِذْ إِن الْإِنْسَان إِمَّا أَن يكون عَالما قَادِرًا على فهم نُصُوص الْوَحْي؛ فسيكون مؤاخذا على الْخَطَأ؛ لِأَن أُمُور العقيدة وَاضِحَة جلية، وَلذَلِك لم يخْتَلف السّلف فِي أُمُور العقيدة مَعَ أَنهم اخْتلفُوا فِي بعض مسَائِل الْفُرُوع، وَإِمَّا أَن يكون جَاهِلا؛ فَعَلَيهِ أَن يسْأَل أهل الذّكر من عُلَمَاء السّنة الَّذين إِذا ذكرُوا حكما ذكرُوا دَلِيله من الْكتاب أَو السّنة.
وَرُبمَا قَالُوا: صَحِيح أَن هَذَا الحَدِيث يُفِيد أَن السَّلَام يبلغهُ ﵇ من الْبعيد كَالصَّلَاةِ، وَلَكِن لَا يرد إِلَّا على من سلم من قريب!
فَنَقُول لَهُم حِينَئِذٍ: مَا الدَّلِيل على مَا زعمتم؟.. هَذَا مُجَرّد ظن وَتدْخل فِي أُمُور الْغَيْب الَّتِي هِيَ من اخْتِصَاص الله وَحده، وَلَا سَبِيل إِلَى علمهَا من غير طَرِيق الْوَحْي.
النَّاحِيَة الثَّانِيَة: مَاذَا يَعْنِي فَضِيلَة الشَّيْخ حِين يَقُول: وَمَا كَانَ هَذَا السَّلَام يَوْمًا من الْأَيَّام إِلَّا من دَاخل الْمَسْجِد سَوَاء قبل أَو بعد إِدْخَال الْحُجْرَة؟.. إِن كَانَ يَعْنِي هَذَا النَّوْع المبتدع الَّذِي تمارسه الْعَامَّة والدهماء، وَهَذَا الضجيج والأصوات الْعَالِيَة بَين مُنَاد وداع ومتوسل ومستجير وطالب للشفاعة من غير مَالِكهَا.. إِن كَانَ هَذَا هُوَ الَّذِي يقْصد الشَّيْخ فَلْيقل فِيهِ فضيلته مَا شَاءَ، وَلَيْسَ لدينا أَي اعْتِرَاض أَو مناقشة؛ لأننا لَا نعترف بِهَذَا النَّوْع من السَّلَام أصلا وَلَا نعتبره من الدّين الَّذِي أنزلهُ الله على رَسُوله ﷺ، وَلكنه من مخلفات عصور الانحطاط الَّذِي نتج عَنهُ قيام الوثنية فِي أغلب بلدان الْمُسلمين إِلَّا مَا طهره الله - كأرض المملكة الْعَرَبيَّة السعودية - من هَذِه الوثنية، بفضله تَعَالَى ثمَّ ببركة الدعْوَة الصَّالِحَة وَالْحَرَكَة الناجحة
1 / 187
الَّتِي قَامَ بهَا شيخ الْإِسْلَام ومجدده مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب، وَقَامَ بنصره وحمايته أُمَرَاء آل سعود رحم الله أسلافهم وَبَارك فِي أخلافهم ووفقهم لحماية دين الْإِسْلَام من عَبث العابثين وَكيد الكائدين.
أما إِن كَانَ مُرَاد الشَّيْخ السَّلَام على النَّبِي ﷺ الَّذِي أَمر الله بِهِ الْمُسلمين بقوله تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، وَالَّذِي يعنيه الْمُصْطَفى ﷺ حِين يَقُول: "من صلى عليَّ مرّة وَاحِدَة صلى الله عَلَيْهِ بهَا عشرا"، وَالَّذِي يردده الْمُسلم فِي كل صَلَاة مَفْرُوضَة أَو راتبة أَو نَافِلَة ضمن التَّشَهُّد الْمَفْرُوض؛ فَيَقُول: "السَّلَام عَلَيْك أَيهَا النَّبِي وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته"، وَالَّذِي يَأْتِي بِهِ الْمُسلم كلما دخل مَسْجِدا من الْمَسَاجِد أَو خرج مِنْهُ؛ فَيَقُول: "بِسم الله وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على رَسُول الله"، وَكَذَلِكَ كلما ذكر الْمُسلم نبيه أَو سمع ذكره قَالَ: "ﷺ" ... إِن هَذَا النَّوْع من السَّلَام هُوَ الَّذِي يعنيه فَضِيلَة الشَّيْخ فَلَيْسَ صَحِيحا أَن هَذَا السَّلَام مَا كَانَ يَوْمًا من الْأَيَّام إِلَّا من دَاخل الْمَسْجِد النَّبَوِيّ، بل إِن هَذَا السَّلَام يمارسه الْمُسلم فِي كل مَكَان وَفِي كل مُنَاسبَة، وَلم يكن يَوْمًا من الْأَيَّام مَقْصُورا على مَكَان من الْأَمْكِنَة.
وَإِن كَانَ فضيلته يرى أَن هُنَاكَ نَوْعَيْنِ من السَّلَام على رَسُول الله ﷺ: أَحدهمَا عَام فِي كل مَكَان؛ فِي الصَّلَاة، وَعند دُخُول الْمَسَاجِد، وَعند ذكره ﵇، وَالْآخر خَاص بِالْمَسْجِدِ النَّبَوِيّ، وَأَنه هُوَ الَّذِي يعنيه ﷺ بقوله: "مَا من أحد يسلم عَليّ ... " الحَدِيث؛ فليقدم لنا دَلِيله على ذَلِك، وَله منا الشُّكْر، وليعلم فضيلته من جَدِيد أننا لَا نقبل من أحد أَن يَقُول على الله وَرَسُوله وَدينه بِلَا علم وَلَا برهَان؛ إِذْ يَقُول تَعَالَى: ﴿آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ﴾، ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾، ﴿إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى﴾، وَيَقُول النَّبِي ﵊: " من أحدث فِي أمرنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رد"، وَيَقُول: "من عمل عملا لَيْسَ عَلَيْهِ أمرنَا فَهُوَ رد "، وَيَقُول ﵇: "عَلَيْكُم بِسنتي.." إِلَى قَوْله: " وكل محدثة بِدعَة وكل بِدعَة ضَلَالَة وكل ضَلَالَة فِي النَّار".
النَّاحِيَة الثَّالِثَة: وَكَيف علم الشَّيْخ أَن السَّلَام على رَسُول الله ﷺ الَّذِي يُشِير إِلَيْهِ قَوْله ﵇: "مَا من أحد يسلم عَليّ إِلَّا رد الله عَليّ روحي فأرد ﵇" - كَيفَ علم الشَّيْخ - وَفقه الله - أَن هَذَا السَّلَام مَا كَانَ يَوْمًا من الْأَيَّام إِلَّا من دَاخل الْمَسْجِد قبل وَبعد إِدْخَال الْحُجْرَة فِيهِ؟.. وَمن أَيْن علم فضيلته أَن الْمُسلمين مُنْذُ ألف وَأَرْبَعمِائَة سنة إِلَى يَوْمنَا هَذَا نزَّلوا هَذَا الحَدِيث على السَّلَام عِنْد الْقَبْر فِي دون غَيره؟.. وَأَنَّهُمْ مجمعون على ذَلِك وَلم يُخَالف مِنْهُم أحد؟.. وماذا يَقُول عَن الصَّحَابَة الَّذين لم يرد أَن أحدا مِنْهُم يسلم على النَّبِي عِنْد الْقَبْر مَا عدا عبد الله بن عمر؟.
ثمَّ هَل عَاشَ فضيلته ألف وَأَرْبَعمِائَة سنة حَتَّى يرى مَاذَا فعل كل مُسلم عَاشَ على وَجه الأَرْض مُنْذُ
1 / 188
وَفَاة النَّبِي ﷺ إِلَى يَوْمنَا هَذَا؛ حَتَّى يتسنى لَهُ أَن يجْزم بِمَا جزم بِهِ وَيَدعِي مَا ادَّعَاهُ من أَمر لَا يدْرك إِلَّا بالحس والمشاهدة؟..
إِذا كَانَ هَذَا مستحيلا فتحقيق مَا ادَّعَاهُ الشَّيْخ مُسْتَحِيل أَيْضا، فَلَو أَن فضيلته قرر ذَلِك حكما شَرْعِيًّا لكَانَتْ المشكلة أخفّ، سَوَاء أصَاب أَو أَخطَأ؛ لِأَن الحكم الشَّرْعِيّ يدْرك بِالِاجْتِهَادِ فِي نُصُوص الشَّرْع، والمجتهد يُصِيب أَحْيَانًا ويخطئ أَحْيَانًا أُخْرَى، وَلَكِن مَا قَرَّرَهُ فضيلته دَعْوَى علم بِمَا جرى عَلَيْهِ الْمُسلمُونَ مُنْذُ أَرْبَعَة عشر قرنا من الزَّمَان؛ فيا عجب العجاب! وَإِن كَانَ الشَّيْخ - وَفقه الله - بنى حكمه هَذَا على أساس اعتقادي بأنّ هَذَا هُوَ الْحق فِي هَذِه الْمَسْأَلَة شرعا؛ لأننا نقُول لَهُ: حَتَّى وَإِن اسْتَطَعْت أَن تثبت أَن هَذَا هُوَ الْحق شرعا فَإنَّك لَا تَسْتَطِيع أَن تثبت أَن النَّاس جَمِيعًا التزموا بِهِ وحافظوا عَلَيْهِ، فهناك فَرَائض الْإِسْلَام وأركانه ولوازم التَّوْحِيد ومقتضياته قد أخلّ النَّاس بهَا وَلم يحافظ عَلَيْهَا ويؤديها - وفْق مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول ﵇ إِلَّا بعض الْمُسلمين، وهى أُمُور ثَابِتَة بِالْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع إِجْمَالا وتفصيلا؛ فَمَا بالك بِهَذِهِ الْمَسْأَلَة الَّتِي وَقع الْخلاف فِي أَصْلهَا وفروعها، وَوَقع قوم مِنْهَا فِي مهالك مُنْذُ اخْتَلَط على الْكثير من الْمُسلمين الصَّوَاب بالْخَطَأ وَالْحق بِالْبَاطِلِ وَالْهدى بالضلال، علما بِأَن التخرص والتخمين وَقِيَاس الْمَاضِي بالحاضر وَالِاعْتِبَار بواقع النَّاس فِي عصر من العصور مَا كَانَت هَذِه الْأُمُور يَوْمًا من الْأَيَّام مصَادر علم تُقَام على أساسها الْأَحْكَام، خَاصَّة أُمُور الدّين الَّتِي لَا مصدر لَهَا سوى الْوَحْي السماوي والتنزيل الرباني والتشريع الرباني، وَلَو كَانَ الظَّن والتخرص مصدر علم يُوصل إِلَى حقائق الْأُمُور لصار الْعلم من أسهل الْأَشْيَاء تحصلا، ولاستطاع أَجْهَل النَّاس أَن يتَحَمَّل أَيَّة متاعب.
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة: قَالَ الشَّيْخ عَطِيَّة ص ٥٧٧: "ولنتصور حَقِيقَة هَذِه الْمَسْأَلَة يَنْبَغِي أَن نعلم أَولا أَن الْبَحْث فِيهَا لَهُ ثَلَاث حالات: الأولى: شدّ الرّحال إِلَى السجد النَّبَوِيّ للزيارة وَهَذَا مجمع عَلَيْهِ. الثَّانِيَة: زِيَارَة الرَّسُول ﷺ من قريب وَالسَّلَام عَلَيْهِ بِدُونِ شدّ الرّحال، وَهَذِه أَيْضا مجمع عَلَيْهَا. الثَّالِثَة: شدّ الرّحال للزيارة فَقَط، وَهَذِه الْحَال هِيَ مَحل الْبَحْث ومثار النقاش السَّابِق. مناقشة: وَنحن نناقش ففضيلة الشَّيْخ هُنَا فِي فقرة وَاحِدَة من هَذَا الْكَلَام الَّذِي نَقَلْنَاهُ هُنَا من كِتَابه، وهى دَعْوَاهُ بِأَن مَا عبر عَنهُ هُوَ (بالحالة الثَّانِيَة) مجمع عَلَيْهِ، فنسأل فضيلته مَتى انْعَقَد هَذَا الْإِجْمَاع؟.. وَمن هم الَّذين أَجمعُوا على ذَلِك؟.. وَمَا دليلك على حُصُول هَذَا الْإِجْمَاع؟..
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة: قَالَ الشَّيْخ عَطِيَّة ص ٥٧٧: "ولنتصور حَقِيقَة هَذِه الْمَسْأَلَة يَنْبَغِي أَن نعلم أَولا أَن الْبَحْث فِيهَا لَهُ ثَلَاث حالات: الأولى: شدّ الرّحال إِلَى السجد النَّبَوِيّ للزيارة وَهَذَا مجمع عَلَيْهِ. الثَّانِيَة: زِيَارَة الرَّسُول ﷺ من قريب وَالسَّلَام عَلَيْهِ بِدُونِ شدّ الرّحال، وَهَذِه أَيْضا مجمع عَلَيْهَا. الثَّالِثَة: شدّ الرّحال للزيارة فَقَط، وَهَذِه الْحَال هِيَ مَحل الْبَحْث ومثار النقاش السَّابِق. مناقشة: وَنحن نناقش ففضيلة الشَّيْخ هُنَا فِي فقرة وَاحِدَة من هَذَا الْكَلَام الَّذِي نَقَلْنَاهُ هُنَا من كِتَابه، وهى دَعْوَاهُ بِأَن مَا عبر عَنهُ هُوَ (بالحالة الثَّانِيَة) مجمع عَلَيْهِ، فنسأل فضيلته مَتى انْعَقَد هَذَا الْإِجْمَاع؟.. وَمن هم الَّذين أَجمعُوا على ذَلِك؟.. وَمَا دليلك على حُصُول هَذَا الْإِجْمَاع؟..
1 / 189
وَهل انْعَقَد هَذَا الْإِجْمَاع زمن الصَّحَابَة؟.. أم زمن التَّابِعين؟.. أم مَتى كَانَ ذَلِك؟..وَمن الَّذين أَجمعُوا على هَذَا الْأَمر؟.. هَل هم أهل الِاجْتِهَاد من أمة مُحَمَّد ﵇ أم غَيرهم؟.. وَمن نقل إِجْمَاعهم؟.. هَل علم بِهَذَا الْإِجْمَاع الإِمَام مَالك- ﵀ وَمَعَ ذَلِك يكره أَن يَقُول الْإِنْسَان: زرت قبر النَّبِي ﷺ؟.. وَهل علم بِهِ عَليّ بن الْحُسَيْن وَالْحسن بن الْحسن إِمَامًا أهل الْبَيْت النَّبَوِيّ فِي زمانهما؟ ... وَمَعَ ذَلِك ينهيان عَن التَّرَدُّد على الْقَبْر الشريف.. وَهل علم بِهَذَا الْإِجْمَاع قاضى الْمَدِينَة سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَهُوَ أحد أَئِمَّة التَّابِعين وَأحد قُضَاة الْمَدِينَة وَأحد فقهائها وسكانها، وَكَذَلِكَ من ذكرُوا قبله نشأوا فِي بلد رَسُول الله ﷺ وعايشوا وتلقوا الْعلم فِيهَا بجوار قَبره الشريف وشاهدوا بأعينهم عمل الْأَئِمَّة من التَّابِعين وتابعيهم مِمَّن يُقِيمُونَ بِالْمَدِينَةِ، وَمن الوافدين إِلَيْهَا من أقطار الأَرْض، وماذا كَانُوا يعْملُونَ.
فعلى كل حَال هم أعلم مِمَّن يدعى الْإِجْمَاع فِي هَذِه الْمَسْأَلَة من غير أَن يقدم دَلِيلا يثبت صِحَة دَعْوَاهُ.
فإمَّا أَن يَقُول الشَّيْخ: إِن الْإِجْمَاع انْعَقَد قبل هَؤُلَاءِ وهم خالفوه، وَإِمَّا أَن يَقُول: انْعَقَد الْإِجْمَاع فِي زمنهم وَلَا عِبْرَة بخلافهم، وَإِمَّا أَن يَقُول: إِن الْإِجْمَاع انْعَقَد بعدهمْ.
فَالْأول فِي غَايَة البشاعة، وَالثَّانيَِة مثلهَا، وَالثَّالِثَة يحْتَاج لإثباتها إِلَى دَلِيل مَقْبُول عِنْد من يُخَالِفهُ فِي هَذِه الدَّعْوَى، وَلَا أَظُنهُ يثبت وجود إِجْمَاع بعد خلاف؛ إِذْ إِن النَّاس كلما كَثُرُوا وَكلما طَال الأمد بَينهم وَبَين عصر النُّبُوَّة كثر خلافهم وتشعبت آراؤهم وَكَثُرت أهواؤهم؛ فَكيف يتَصَوَّر أَن يتفقوا بَعْدَمَا اخْتلف من فِي قبلهم فِي حكم من الْأَحْكَام أَو مَسْأَلَة من الْمسَائِل؟..
من أجل ذَلِك نكرر الرَّجَاء إِلَى فضيلته ليدلنا على الْمصدر الَّذِي اسْتَفَادَ مِنْهُ فضيلته خبر هَذَا الْإِجْمَاع الَّذِي خَفِي على جهابذة الْعلمَاء قَدِيما وحديثا، ولكننا نشرط مسبقا بأننا سَوف لَا نكتفي بِأَن يَقُول لنا فضيلته ذكر هَذَا الْإِجْمَاع فلَان أَو عَلان فِي كتاب كَذَا، حَتَّى نعلم الْمصدر الأساسي الَّذِي اعْتمد عَلَيْهِ فلَان أَو عَلان فِيمَا نقل من هَذَا الْإِجْمَاع؛ لِأَن مُجَرّد كَلَام مدون فِي كتاب لأحد الْعلمَاء يدعى مُؤَلفه أَن الْإِجْمَاع قد انْعَقَد على كَذَا وَكَذَا - دون أَن يبين مُسْتَند - لَا يكفى لإِثْبَات وَقبُول مَا ادَّعَاهُ، وَمَا الْفرق بَين نِسْبَة الْإِجْمَاع إِلَى الْأمة وَبَين نِسْبَة الحَدِيث إِلَى النَّبِي ﷺ، ألم تَرَ أَن الحَدِيث الْمَنْسُوب إِلَيْهِ ﷺ لَا يقبل وَلَا يعْتَبر حَدِيثا لمُجَرّد وجوده فِي كتاب من الْكتب مهما علت منزلَة صَاحب ذَلِك الْكتاب رُتْبَة فِي الْعلم وَالتَّقوى؛ حَتَّى يقدم السَّنَد الَّذِي عَنهُ تلقى ذَلِك الحَدِيث؛ فَينْظر أهل الْعلم وطلاب الْحق فِي هَذَا السَّنَد، هَل هُوَ مِمَّن يقبل خَبره أم لَيْسَ كَذَلِك؟.. أَلَيْسَ مِمَّا يُؤْخَذ على طَالب الْعلم أَن يتَكَلَّم فِي موعظة أَو خطْبَة أَو كتاب؛ فينسب إِلَى الرَّسُول ﷺ حَدِيثا أَو أَكثر وَهُوَ غير متأكد من صِحَّته سندا إِلَى رَسُول الله ﷺ؟..
إِذا مَا بَال الْإِجْمَاع أمره خَفِيف عِنْد بعض الْمَشَايِخ فيسهل عَلَيْهِ أَن يَقُول: هَذَا مجمع عَلَيْهِ، أَو ثَبت
1 / 190
ذَلِك بِالْإِجْمَاع دون أَن يكون هُنَاكَ مُسْتَند مَقْبُول عِنْد التَّحْقِيق لهَذَا الْإِجْمَاع المزعوم؟.. وَلَو أَن فَضِيلَة الشَّيْخ - وفقنا الله وإياه - سلك الطَّرِيق الَّذِي سلكه بعض الْعلمَاء، وَهُوَ قَول أحدهم عِنْدَمَا يتَعَرَّض للْكَلَام على مَسْأَلَة لَا يعلم فِيهَا خلافًا لأحد فَيَقُول: "حكم هَذِه الْمَسْأَلَة كَذَا من غير خلاف نعلمهُ"؛ - فيقيد ذَلِك بِعَدَمِ علمه - لَكَانَ خيرا لَهُ، وَصدق الإِمَام أَحْمد ﵀ إِذْ يَقُول: "من ادّعى الْإِجْمَاع فقد كذب، وَمَا يدريه لَعَلَّ النَّاس اخْتلفُوا".
ثمَّ إِن فَضِيلَة الشَّيْخ - هداه الله - لم يُوضح لنا على أَي شَيْء انْعَقَد هَذَا الْإِجْمَاع من الْأَحْكَام الثَّلَاثَة؛ إِذْ إِنَّه اكْتفى بقوله: "وَهَذَا أَيْضا مجمع عَلَيْهِ"، وَالْإِشَارَة هُنَا تعود إِلَى الْحَالة الثَّانِيَة - حسب تَعْبِيره - الَّتِي شرحها فضيلته بِأَنَّهَا (زِيَارَة الرَّسُول وَالسَّلَام عَلَيْهِ بِدُونِ شدّ رحال)؛ فقرر أَن هَذِه الزِّيَارَة مجمع عَلَيْهَا، وَلَكِن أَعلَى أَنَّهَا وَاجِبَة أَو مُسْتَحبَّة أَو مُبَاحَة؟..
لَا ندرى؛ فَأَي فَائِدَة من ذكر هَذَا الْإِجْمَاع الَّذِي لم يبين على أَي شئ انْعَقَد؟..
ثمَّ نسْأَل الشَّيْخ هَل ورد على لِسَان المشرع ﷺ كلمة (زِيَارَة فلَان من الْمَوْتَى)؟.. الَّذِي أعتقد أَن الْجَواب بِالنَّفْيِ؛ إِذْ إِن الَّذِي ورد على لِسَانه ﵇.. زِيَارَة الْقُبُور أَو الْمَقَابِر أَو الْقَبْر فَقَط، كَقَوْلِه ﷺ: " كنت نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور فزوروها؛ فَإِنَّهَا تذكركم الْآخِرَة"، وَقَوله: "لعن الله زوارات الْقُبُور"، وَقَوله: " اسْتَأْذَنت رَبِّي فِي زِيَارَة قبر أُمِّي"، وَهَكَذَا ... فالتعبير بزيارة فلَان الْمَيِّت تَعْبِير عَامي غوغائي بدعي لَا يَلِيق بطلبة الْعلم؛ فليتنبه لذَلِك من يحب الِاتِّبَاع وَيكرهُ مَا سواهُ".
الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة: وَقَالَ فَضِيلَة الشَّيْخ حفظه الله ص ٥٧٧: "الثَّالِثَة: شدّ الرّحال للزيارة فَقَط، وَهَذِه الْحَالة الثَّالِثَة هِيَ مَحل الْبَحْث عِنْدهم ومثار النقاش السَّابِق، قَالَ ابْن حجر فِي فتح الْبَارِي على حَدِيث شدّ الرّحال: قَالَ الْكرْمَانِي: "وَقد وَقع فِي هَذِه الْمَسْأَلَة فِي عصرنا فِي الْبِلَاد الشامية مناظرات كَثِيرَة وصنفت فِيهَا الْمسَائِل من الطَّرفَيْنِ". قلت: إِن ابْن حجر يُشِير بذلك إِلَى مَا رد بِهِ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين السُّبْكِيّ وَغَيره على الشَّيْخ تَقِيّ الدّين ابْن تَيْمِية، وَمَا انتصر بِهِ الْحَافِظ شمس الدّين بن عبد الْهَادِي وغبره لِابْنِ تَيْمِية، وَهِي فِي مَشْهُورَة فِي بِلَادنَا، وَهَذَا يُعْطِينَا مدى الْخلاف فِيهَا وتاريخه. وَقد أَشَارَ ابْن حجر إِلَى مُجمل القَوْل فِيهَا بقوله: "إِن الْجُمْهُور أَجَازُوا بِالْإِجْمَاع شدّ الرّحال لزيارة النَّبِي ﷺ، وَأَن حَدِيث "لَا تشد الرّحال.." إِنَّمَا يقْصد بِهِ خُصُوص الصَّلَاة.. الخ".
الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة: وَقَالَ فَضِيلَة الشَّيْخ حفظه الله ص ٥٧٧: "الثَّالِثَة: شدّ الرّحال للزيارة فَقَط، وَهَذِه الْحَالة الثَّالِثَة هِيَ مَحل الْبَحْث عِنْدهم ومثار النقاش السَّابِق، قَالَ ابْن حجر فِي فتح الْبَارِي على حَدِيث شدّ الرّحال: قَالَ الْكرْمَانِي: "وَقد وَقع فِي هَذِه الْمَسْأَلَة فِي عصرنا فِي الْبِلَاد الشامية مناظرات كَثِيرَة وصنفت فِيهَا الْمسَائِل من الطَّرفَيْنِ". قلت: إِن ابْن حجر يُشِير بذلك إِلَى مَا رد بِهِ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين السُّبْكِيّ وَغَيره على الشَّيْخ تَقِيّ الدّين ابْن تَيْمِية، وَمَا انتصر بِهِ الْحَافِظ شمس الدّين بن عبد الْهَادِي وغبره لِابْنِ تَيْمِية، وَهِي فِي مَشْهُورَة فِي بِلَادنَا، وَهَذَا يُعْطِينَا مدى الْخلاف فِيهَا وتاريخه. وَقد أَشَارَ ابْن حجر إِلَى مُجمل القَوْل فِيهَا بقوله: "إِن الْجُمْهُور أَجَازُوا بِالْإِجْمَاع شدّ الرّحال لزيارة النَّبِي ﷺ، وَأَن حَدِيث "لَا تشد الرّحال.." إِنَّمَا يقْصد بِهِ خُصُوص الصَّلَاة.. الخ".
1 / 191
مناقشة:
ومناقشتنا للشَّيْخ هُنَا حول قَول فضيلته: "وَهَذَا يُعْطِينَا مدى الْخلاف فِيهَا وتاريخه"؛ إِذْ إِن عِبَارَته تِلْكَ تفِيد أَنه يرى أَن مبدأ الْخلاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة كَانَ على يَد ابْن تَيْمِية، وَكَذَلِكَ مَا نَقله عَن ابْن حجر من قَوْله: إِن الْجُمْهُور أَجَازُوا بِالْإِجْمَاع.. الخ.
لهَذَا نسْأَل فضيلته فَنَقُول: إِذا كَانَ مبدأ الْخلاف فِي مَسْأَلَة شدّ الرّحال لزيارة قبر النَّبِي ﷺ على يَد ابْن تَيْمِية وَمن فِي زَمَنه، وَمَعْلُوم أَن ابْن تَيْمِية عَاشَ- ﵀ بَين الْقرن السَّابِع وَالثَّامِن، فَمَاذَا كَانَ عَلَيْهِ عُلَمَاء الْأمة الإسلامية قبل وجود ابْن تَيْمِية بِخُصُوص هَذِه الْمَسْأَلَة؟.. هَل كَانُوا مُجْمِعِينَ على مَشْرُوعِيَّة شدّ الرّحال لزيارة الْقَبْر الشريف، أَو لزيارة النَّبِي ﷺ، كَمَا هُوَ تَعْبِير فضيلته؟.. وَهل إِجْمَاعهم على أَن هَذَا الْعَمَل وَاجِب أَو على أَنه مُسْتَحبّ أَو على أَنه مُبَاح؟. إِن كَانَ الْأَمر كَذَلِك أَلا يكون ابْن تَيْمِية خَارِجا على إِجْمَاع الْأمة هُوَ وَمن وَافقه؟.
أم أَنهم مجمعون على الْمَنْع؛ فَيكون السبكى وَمن وَافقه خَارِجين على الْإِجْمَاع؛ فيستحقون مَا يسْتَحقّهُ من خرق الْإِجْمَاع وَخرج عَلَيْهِ؟.. لَا ندرى أَي ذَلِك يكون الْجَواب عَلَيْهِ بنعم، فَأَي من هَذِه الأسئلة أجَاب عَلَيْهِ فضيلته بنعم؛ فَهِيَ ورطة لَا يَسْتَطِيع التَّخَلُّص مِنْهَا.
إِن الْخلاف قَائِم فِي هَذِه الْمَسْأَلَة مُنْذُ تكلم فِيهَا، وَإِن الْكَلَام فِيهَا وَالْخلاف حولهَا حَادث بعد الْقُرُون الثَّلَاثَة من هَذِه الْأمة، أما زمن الْقُرُون الثَّلَاثَة فَلم يُوجد أحد يَقُول بِجَوَاز شدّ الرّحال لزيارة قبر من الْقُبُور؛ فضلا عَن الْوُجُوب أَو الِاسْتِحْبَاب.
والَّذِي أعتقده أَن فَضِيلَة الشَّيْخ لَا ينْسب وَلَا يرضى أَن ينْسب إِلَى مثل شيخ الْإِسْلَام ابْن تيمبة أَنه يخرج على إِجْمَاع الْأمة وَيضْرب بِهِ عرض الْحَائِط، وَيَأْتِي بِمذهب يُخَالِفهُ.
وَأَنا أعجب كثيرا كَيفَ فهم فَضِيلَة الشَّيْخ من عبارَة ابْن حجر وَمَا نَقله ابْن حجر عَن الْكرْمَانِي؛ كَيفَ فهم من ذَلِك أَن مبدأ الْخلاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة كَانَ على يَد ابْن تيميه؟.. أما أَنا فَأَقُول: هَذَا الْفَهم لَا وَجه لَهُ وَلَا مَأْخَذ من كَلَام الرجلَيْن، وَإِنَّمَا ذكرا أمرا وَقع فِي ذَلِك الزَّمَان دون أَن يَقُولَا فِيهِ إِنَّه مبدأ الْخلاف فِي تِلْكَ الْقَضِيَّة، وَكَيف يزعمان مَا فهمه فَضِيلَة الشَّيْخ مَعَ أَن الْخلاف فِيهَا قد نَشأ مُنْذُ وجد من يَقُول بِجَوَاز شدّ الرّحال لزيارة قُبُور الْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحِينَ، وَمِمَّنْ نُقل عَنهُ هَذَا القَوْل الْغَزالِيّ وَمن لف لفه من المبتدعة، وَمِمَّنْ نُقل عَنْهُم القَوْل بِالْمَنْعِ قبل ابْن تَيْمِية بمئات من السنين القَاضِي عِيَاض، وَالْقَاضِي حُسَيْن، وَإِسْحَاق ابْن إِسْمَاعِيل، وَأَبُو مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ وَغَيرهم كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله، فَهَل خَفِي ذَلِك على الْكرْمَانِي وَابْن حجر؟.. أَنا أَقُول: لَيْسَ فِي كَلَامهمَا مَا يدل على أَن ذَلِك خَفِي عَلَيْهِمَا، وَلكنه خَفِي على فَضِيلَة الشَّيْخ فَليُرَاجع مكتبته من الْآن إِن أحب أَن يقف على الْحَقِيقَة، علما بِأَن الثَّلَاثَة الْمَذْكُورين أَعْلَاهُ كلهم من الْمَالِكِيَّة، وَمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ هُوَ مَذْهَب مَالك نَفسه فِي هَذِه الْمَسْأَلَة.
1 / 192
تمّ قَالَ فَضِيلَة الشَّيْخ - نقلا عَن ابْن حجر-:" إِن الْجُمْهُور أَجَازُوا بِالْإِجْمَاع شدّ الرّحال.. الخ.."
فنسأل فضيلته: هَل هَذَا التَّعْبِير صَحِيح؟ ....هَل هُنَاكَ إِجْمَاع لِلْجُمْهُورِ وَإِجْمَاع للْأمة كلهَا؟.. وَهل الْجُمْهُور عدد مَحْدُود معِين حَتَّى نعلم أَنهم اتَّفقُوا فَنَقُول أجمع الْجُمْهُور؟.. وَهل مَذْهَب الْجُمْهُور يُسمى إِجْمَاعًا؟ أَلَيْسَ إِذا قيل: (يرى الْجُمْهُور) فَمَعْنَى هَذَا أَن هُنَاكَ من يخالفهم مِمَّن يعْتد بِرَأْيهِ ويحسب لمذهبه؟.. وَهل خطأ الأول يسوغ الْخَطَأ للثَّانِي؟.. أَلَيْسَ على كل وَاحِد من الْعلمَاء أَن يحرص على أَن لَا يَقع فِيمَا وَقع فِيهِ غَيره من الأخطاء؟..
الصَّحِيح فِي نَظرنَا أَن هَذَا التَّعْبِير خطأ، وَأَن الْإِجْمَاع مَا اتّفق عَلَيْهِ المجتهدون من عُلَمَاء هَذِه الْأمة قاطبة، فِي عصر من العصور دون أَن يُخَالف وَاحِد مِنْهُم، وَبِدُون ذَلِك لَا ترد كلمة إِجْمَاع، وَإِنَّمَا يُقَال: يرى الْجُمْهُور كَذَا، أَو ذهب الْجُمْهُور إِلَى كَذَا.
ثمَّ مَن هَؤُلَاءِ الْمعبر عَنْهُم بالجمهور الَّذين يرَوْنَ جَوَاز شدّ الرّحال لزيارة قبر النَّبِي ﷺ؟ هَل هم جُمْهُور الصَّحَابَة، أم جُمْهُور التَّابِعين، أَو تابعيهم، أَو الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَمن فِي عصرهم، أَو جُمْهُور عُلَمَاء الْقرن الثَّالِث؟
لَا نَدْرِي أَي جُمْهُور هَذَا، غير أننا لَا نستبعد أَن يكون المُرَاد هُنَا جُمْهُور الْعَامَّة فِي الْقرن الرَّابِع وَمَا بعده، بِمَا فيهم بعض المبتدعة من الْعلمَاء أَو المنسوبين للْعلم.
إِن كَانَ أُولَئِكَ هم الْجُمْهُور المُرَاد فِي هَذَا الْمَوْضُوع فالنقل صَحِيح.
أما إِن كَانَ المُرَاد بِهِ جُمْهُور الْعلمَاء من أهل الْقرن الأول أَو الثَّانِي أَو الثَّالِث، أَو الملتزمين بِالسنةِ من الْعلمَاء إِلَى يَوْمنَا هَذَا فالنقل غلط وَالدَّعْوَى مَرْدُودَة، بل الصَّحِيح الْعَكْس على طول الْخط؛ فَفِي الْقُرُون الثَّلَاثَة لم يُوجد من يَقُول بِجَوَاز شدّ الرّحال لزيارة الْقُبُور من الْعلمَاء المعتبرين، وَبعد الثَّلَاثَة وجد من يرى ذَلِك، وَلَكِن مِمَّن شاركوا فِي الابتداع فِي الدّين وَمن لَا يتقيدون بالنصوص الشَّرْعِيَّة، وَلَا يميزون بَين الحَدِيث الصَّحِيح من غَيره، أَمْثَال أبي حَامِد الْغَزالِيّ، وَمَعَ الْأَيَّام اسْتَقَرَّتْ هَذِه الْبِدْعَة - بل الْمعْصِيَة - حَتَّى صَارَت عِنْد كثير من المنتسبين للْعلم أمرا وَاقعا لَا يجوز الْجِدَال فِيهِ، بل يساء الظَّن بِمن يُنكره أَو يتَرَدَّد فِي الْجَزْم بمشروعيته؛ فأولوا الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي النَّهْي مِنْهُ وَمَا أثر عَن الْأَئِمَّة من إِنْكَاره كلما احْتج عَلَيْهِم المتمسكون بِالسنةِ بِحَدِيث أَو قَول إِمَام، كَقَوْلِهِم: إِن مَالِكًا كره اللَّفْظ فَقَط، وَإِلَّا فزيارة قبر النَّبِي ﵊ من أفضل الْأَعْمَال وَأجل القربات الموصلة إِلَى ذِي الْجلَال، دون أَن يقدموا أدنى دَلِيل من السّنة على صِحَة مَا زَعَمُوا.
ثمَّ نوجه هَذَا السُّؤَال إِلَى فَضِيلَة الشَّيْخ فَنَقُول: حسب علمنَا لَا يجوز أَن يعْتَبر الْجُمْهُور بِكَثْرَة الْعدَد فِي الشؤون العلمية والمذاهب الْفِقْهِيَّة والعقيدة الإبراهيمية المحمدية، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَن ينظر إِلَى الكيف أَولا، وَبعد أَن نميز الْعلمَاء على الْحَقِيقَة لَا على الإدعاء والألقاب نَنْظُر بعد ذَلِك إِلَى مذاهبهم فِي مَسْأَلَة مَا، فَإِذا
1 / 193
وجدنَا كثرتهم ذَهَبُوا مذهبا، وقليلًا مِنْهُم ذهب مذهبا آخر قُلْنَا عَن مَذْهَب الْكَثْرَة: إِنَّه مَذْهَب الْجُمْهُور، أَي جُمْهُور الْعلمَاء الَّذين يسْتَحقُّونَ أَن يوصفوا بِالْعلمِ، أما مُجَرّد الْكَثْرَة فتسميتهم بالجمهور فِيهِ شئ من المغالطة والتغرير بِالنَّاسِ، أَرَأَيْت فِي زمن الإِمَام أَحْمد لما تبنى الْمَأْمُون فكرة القَوْل بِخلق الْقُرْآن وَسقط فِي تِلْكَ الْفِتْنَة آلَاف الْعلمَاء بَين مقتنع ومداهن، ووقف بالمقابل عدد قَلِيل من الْعلمَاء قد لَا يبلغ عَددهمْ أَصَابِع الْيَد على رَأْسهمْ إِمَام أهل السّنة أَحْمد بن حَنْبَل، أَيجوزُ أَن يُقَال عَن مَذْهَب الْمَأْمُون وشلته مَذْهَب الْجُمْهُور، وَمذهب هَؤُلَاءِ الْقلَّة مَذْهَب شَاذ يُخَالف لجمهور الْمُسلمين؟..
وواقع الْأَمر فِي مَسْأَلَتنَا هَذِه هُوَ أَنه عبر بِكَلِمَة (الْجُمْهُور) عَمَّن هبّ ودب من عَالم مُبْتَدع وجاهل متعلم، وَصَارَ مَذْهَب فطاحل الْعلمَاء وأئمة الْهدى - أَمْثَال شيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية - مذهبا شاذا مُخَالفا لِلْجُمْهُورِ.
وَصدق من قَالَ: "لَا تفتر بِالْبَاطِلِ لِكَثْرَة الهالكين وَلَا تزهد بِالْحَقِّ لقلَّة السالكين".
(ابْن تَيْمِية فِي زَمَنه هُوَ الْجُمْهُور حَتَّى وَلَو كَانَ وَحده خَاصَّة فِي مَوْضُوعَات العقيدة) ..
ونقول لفضيلة الشَّيْخ: نَحن نعتقد أَن ابْن تَيْمِية وَمن وَافقه فِي زَمَنه هُوَ الْجُمْهُور، خُصُوصا فِي أُمُور العقيدة؛ لالتزامهم بِالسنةِ الصَّحِيحَة مهما كلفهم الْأَمر، وَمن خَالفه فَهُوَ صَاحب الْمَذْهَب الشاذ وَحَتَّى وَلَو وَافقه أَكثر النَّاس؛ لِأَن الْحق بالبرهان وَالدَّلِيل لَا بكرَة الآخذين بِهِ وَقلة المتنكرين لَهُ.
وبرهانا على مَا قُلْنَا بِالنِّسْبَةِ لِابْنِ تيميه أَن من قَرَأَ كتبه وتتبع فَتَاوَاهُ وبحوثه ورسائله - وَهُوَ من أهل البصيرة فِي الدّين - يجد أَنه على مَذْهَب السّلف الصَّالح والرعيل الأول من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وتابعيهم وَالْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَمن على شاكلتهم من معاصريهم، فَهُوَ دَائِما يَدْعُو مخالفيه إِلَى الْكتاب وَالسّنة؛ فَيَقُول لَهُم: بيني وَبَيْنكُم كتاب الله وَسنة رَسُوله ﷺ، فَمَا أثبتا فَهُوَ الثَّابِت وَمَا بطلا فَهُوَ الْبَاطِل، وَيَقُول لَهُم: إِذا اخْتَلَفْنَا فِي فهم آيَة أَو حَدِيث رَجعْنَا إِلَى فهوم الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّة المهديين من بعدهمْ؛ فَنَنْظُر بِمَاذَا فسروا تِلْكَ الْآيَة أَو ذَلِك الحَدِيث؛ فهم أعلم منا وأفْقَهُ للغة وَالشَّرْع.
فَمن كَانَ هَذَا مذْهبه وَهَذِه طَرِيقَته فَهُوَ وَمن وَافقه هم الْجُمْهُور مهما قلوا وَكثر مخالفوهم؛ لِأَن من تبع جُمْهُور السّلف من الْخلف فمذهبه مَذْهَب الْجُمْهُور، وَمن خَالف جُمْهُور السّلف من الْخلف فمذهبه خلاف مَذْهَب الْجُمْهُور، بل مَذْهَب شَاذ لَيْسَ حريًا بِالصَّوَابِ.
وَالْخُلَاصَة:
أَن من كَانَ مَعَ الدَّلِيل فَهُوَ على الصَّوَاب وَلَو كَانَ وَاحِدًا بَين جَمِيع أهل الأَرْض، وَمن قَالَ أَو عمل بِغَيْر دَلِيل فَهُوَ بعيد عَن الصَّوَاب وَلَو أَنهم أهل الأَرْض جَمِيعًا،
1 / 194
وبصرف النّظر عَن كل مَا تقدم وَعَن كل من تقدم قبل زمن ابْن تَيْمِية، وَعَن كل مَا هُوَ الْوَاقِع عِنْد التَّحْقِيق فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، بل يَصح مَا قيل من أَن مَذْهَب جُمْهُور الْعلمَاء فِي هَذِه الْمَسْأَلَة جَوَاز شدّ الرّحال لزيارة الْقَبْر الشريف - وأعني بذلك زمن ابْن تَيْمِية دون غَيره من الْأَزْمِنَة - الصَّحِيح أَن الْوَاقِع بِالْعَكْسِ، وَهُوَ أَن مَذْهَب جُمْهُور الْعلمَاء فِي ذَلِك الزَّمَان هُوَ مَا ذهب إِلَيْهِ شيخ الْإِسْلَام، وَهُوَ طَاعَة الله وَرَسُول بِالْتِزَام مُقْتَضى حَدِيث "لَا تشد الرّحال ... " الخ.
وَقد ذكرنَا فِيمَا سبق أَن مَسْأَلَة شدّ الرّحال لزيارة الْقَبْر سَوَاء قبر النَّبِي ﷺ أَو غَيره لم يتَكَلَّم فِيهَا أحد من أهل الْعلم، وَلم تخطر على بَال أحد مِنْهُم فِي الْقُرُون الثَّلَاثَة الأولى من تَارِيخ الْإِسْلَام؛ عملا مِنْهُم بِحَدِيث "لَا تشد الرّحال إِلَّا إِلَى ثَلَاثَة مَسَاجِد"؛ وَلذَلِك لما سُئِلَ الإِمَام مَالك عَمَّن نذر السّفر لزيارة الْقَبْر الشريف، نهى عَن الْوَفَاء بِهَذَا النّذر قَائِلا: إِن كَانَ مُرَاده الْمَسْجِد فليأت الْمَسْجِد وَليصل فِيهِ، وَإِن كَانَ مُرَاده الْقَبْر فَلَا يَأْته؛ لحَدِيث "لَا تعْمل الْمطِي ... ". انْظُر: الرَّد على الأخنائي
ص٣٥ قَالَ شيخ الْإِسْلَام - يَعْنِي الإِمَام مَالك-: ومذهبه الْمَعْرُوف فِي جَمِيع كتب أَصْحَابه الْكِبَار وَالصغَار الْمُدَوَّنَة لِابْنِ قَاسم، والتفريع لِابْنِ الْجلاب أَنه من نذر إتْيَان الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة إِن كَانَ أَرَادَ الصَّلَاة فِي مَسْجِد النَّبِي ﷺ وفَّى بنذره، وَإِن كَانَ أَرَادَ غير ذَلِك لم يوفّ بنذره.
قلت: وَمَعْلُوم أَن النّذر إِذا كَانَ فِيهِ طَاعَة الله وَجب الْوَفَاء بِهِ، وَإِذا كَانَ فِيهِ مَعْصِيّة حرم الْوَفَاء بِهِ، وَإِذا كَانَ فِي أَمر مُبَاح فَلَا يلْزم الْوَفَاء بِهِ، وَإِذا وفى بِهِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَفِيد شَيْئا عِنْد الله؛ وَلِهَذَا لما كَانَ مَالك ﵀ -يرى أَن شدّ الرّحال لزيارة قبر الني ﷺ دَاخل فِي النَّهْي الَّذِي تضمنه حَدِيث "لَا تشد الرّحال.." نهى عَن الْوَفَاء بِنذر من نذر السّفر لهَذِهِ الزِّيَارَة، وَاسْتدلَّ لذَلِك بِالْحَدِيثِ نَفسه.
أما الَّذِي حصل فِيهِ الْخلاف بَين أَئِمَّة السّلف حول مَوْضُوع الزِّيَارَة فَهُوَ مَسْأَلَة الْفرق بَين الْقَرِيب والبعيد بِالنِّسْبَةِ للسلام على رَسُول الله ﷺ؛ إِذْ قد رأى بَعضهم أَن السَّلَام من قريب يحصل بِهِ الرَّد مِنْهُ ﵇ دون السَّلَام عَلَيْهِ من بعيد؛ لِأَن هَذَا الْبَعْض أوّل حَدِيث "مَا من أحد يسلم عَليّ.." الخ. على أَنه خَاص بِمن سلم من قريب، وَكَذَلِكَ استأنسوا بِفعل عبد الله بن عمر ﵄؛ نُقل ذَلِك عَن الإِمَام أَحْمد وَابْن حبيب.
كَمَا ذهب الْبَعْض الآخر إِلَى عدم الْفرق بَين الْقَرِيب والبعيد كَمَا تقدم، وَمَعْلُوم أَن هَذَا لَا يدْخل فِي مَسْأَلَة شدّ الرّحال.
وَتقدم أَن ذكرنَا عددا من عُلَمَاء الْأمة الإسلامية قبل زمن ابْن تَيْمِية يحرمُونَ شدّ الرّحال لزيارة أَي قبر من الْقُبُور، ويستدلون بِحَدِيث " لَا تشد الرّحال.." مِنْهُم القَاضِي عِيَاض وَالْقَاضِي حُسَيْن وَأَبُو مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ وَإِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق، وَهُوَ مَذْهَب الإِمَام مَالك ﵀ كَمَا تقدم، بل ورد عَنهُ قَوْله
1 / 195
لما سُئِلَ عَن نذر السّفر الزِّيَارَة الْقَبْر الشريف: لَا وَفَاء لنذر الْمعْصِيَة وَهَذَا مَعْصِيّة؛ لِأَن الحَدِيث يَقُول...وَذكره.
ونعود الْآن إِلَى الْمَوْضُوع الَّذِي بدأنا الْكَلَام فِيهِ، وَهُوَ إِثْبَات كَون مَذْهَب ابْن تَيْمِية فِي هَذِه الْمَسْأَلَة هُوَ مَذْهَب جُمْهُور عُلَمَاء زَمَانه فَنَقُول:
إِنَّه لما حصلت المناظرة بَين ابْن تَيْمِية وَبَعض الْقُضَاة الرسميين فِي مَسْأَلَة شدّ الرّحال، وَاخْتِلَاف بَعضهم مَعَه فِيهَا أثاروا الْحُكُومَة ضِدّه، وأغروها بِهِ فسجن ظلما بسببهم، - ودائمًا الْعَاجِز عَن إِقَامَة الْحجَّة يلجأ إِلَى قُوَّة الْحَاكِم؛ فيوهمه أَن خَصمه مجرم يَنْبَغِي التنكيل بِهِ وإهانته وإرغامه على الرُّجُوع عَن رَأْيه بِالْقُوَّةِ - فَلَمَّا سجن هبَّ الْعلمَاء من أقطار الْعَالم الإسلامية يطالبون الْحُكُومَة بالإفراج عَنهُ معلنين أمامها أَن مَا ذهب إِلَيْهِ هَذَا الرجل هُوَ وَالْحق وَالصَّوَاب، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّة الْإِسْلَام قَدِيما وحديثًا.
انْظُر لذَلِك مَا دونه الإِمَام الْحَافِظ ابْن عبد الْهَادِي فِي كِتَابه الْعُقُود الدرية فِي مَنَاقِب شيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية، وَانْظُر هُنَاكَ كم كتابا نَقله عَن عُلَمَاء بَغْدَاد وَحدهَا لتعرف صِحَة مَا قَررنَا.
ملخصات لبَعض خطاباتهم:
وَأَنا أورد هُنَا مقتطفات مِمَّا تضمنته خطاباتهم:
قَالَ ابْن عبد الْهَادِي ص٣٤٢ من الْكتاب الْمشَار إِلَيْهِ - العنوان (انتصار عُلَمَاء بَغْدَاد للشَّيْخ فِي مَسْأَلَة شدّ الرّحال للقبور) - ثمَّ قَالَ: "وَقد وصل مَا أجَاب بِهِ الشَّيْخ فِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِلَى عُلَمَاء بَغْدَاد؛ فَقَامُوا فِي الِانْتِصَار لَهُ وَكَتَبُوا بموافقته، وَرَأَيْت خطوطهم بذلك وَهَذِه صُورَة لما كتبُوا:
ملخص الْخطاب الأول:
ولَا ريب أَن الْمَمْلُوك وقف على مَا سُئِلَ عَنهُ الإِمَام الْعَلامَة وحيد دهره وفريد عصره تَقِيّ الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن تَيْمِية، وَمَا أجَاب بِهِ فَوَجَدته خُلَاصَة مَا قَالَه الْعلمَاء فِي هَذَا الْبَاب حسب مَا اقْتَضَاهُ الْحَال من نَقله الصَّحِيح، وَمَا أدّى إِلَيْهِ الْبَحْث من الْإِلْزَام والالتزام لَا يداخله تحامل وَلَا يَعْتَرِيه تجاهل، وَلَيْسَ فِيهِ - وَالْعِيَاذ بِاللَّه - مَا يَقْتَضِي الإزراء والتنقيص بِمَنْزِلَة الرَّسُول ﷺ.
وَهل يجوز أَن يتَصَوَّر مُتَصَوّر أَن زِيَارَة قَبره تزيد فِي قدره؟.. وَهل تَركهَا مِمَّا ينقص من تَعْظِيمه؟ حاشا للرسول من ذَلِك..
إِلَى أَن قَالَ:
مَعَ أَن الْمَفْهُوم من كَلَام الْعلمَاء وأنظار الْعُقَلَاء أَن الزِّيَارَة لَيست عبَادَة وَطَاعَة لمجردها، حَتَّى لَو حلف أَنه يَأْتِي بِعبَادة أَو طَاعَة لم يبر بهَا - يَعْنِي الْقيام بزيارة الْقَبْر الشريف - مَا اعْتبر بارا بِيَمِينِهِ.
1 / 196
لَكِن القَاضِي ابْن كج - من متأخري أَصْحَابنَا - ذكر أَن نذر هَذِه الزِّيَارَة عِنْده قربَة تلتزم ناذرها.
وَهُوَ مُنْفَرد بِهِ لَا يساعده فِي ذَلِك نقل صَرِيح وَلَا قِيَاس صَحِيح، وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ مُطلق الْخَبَر النَّبَوِيّ فِي قَوْله ﵇: "لَا تشد الرّحال" إِلَى آخِره.. أَنه لَا يجوز شدّ الرّحال إِلَى غير مَا ذكر؛ فَإِن فعله كَانَ مُخَالفا لصريح النَّهْي، وَمُخَالفَة النَّهْي إِمَّا كفر أَو غَيره على قدر الْمنْهِي عَنهُ ووجوبه وتحريمه وَصفَة النَّهْي، والزيارة أخص من وَجه؛ فالزيارة بِغَيْر شدّ الرّحال غير مَنْهِيّ عَنْهَا وَمَعَ الشد مَنْهِيّ عَنْهَا.
حَرَّره ابْن الكتبي الشَّافِعِي..
ملخص كتاب آخر:
مَا أجَاب بِهِ الشَّيْخ الْأَجَل الأوحد، بَقِيَّة السّلف وقدوة الْخلف رَئِيس الْمُحَقِّقين وخلاصة المدققين تَقِيّ الْملَّة وَالْحق وَالدّين من الْخلاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة صَحِيح مَنْقُول فِي غير مَا كتاب أهل الْعلم لَا اعْتِرَاض عَلَيْهِ فِي ذَلِك؛ إِذْ لَيْسَ فِيهِ ثلب للرسول ﷺ وَلَا غض من قدره ﵇، وَقد نَص الشَّيْخ أَبُو نَاصِر الْجُوَيْنِيّ فِي كتبه على تَحْرِيم السّفر لزيارة الْقُبُور، وَهَذَا اخْتِيَار القَاضِي الإِمَام بن مُوسَى فِي إكماله، وَهُوَ من أفضل الْمُتَأَخِّرين من أَصْحَابنَا.
تمّ قَالَ: وَمن الْمُدَوَّنَة: "وَمن قَالَ عَليّ الْمَشْي إِلَى الْمَدِينَة أَو بَيت الْمُقَدّس؛ فَلَا يَأْتِيهَا أصلا إِلَّا أَن يُرِيد الصَّلَاة فِي مسجديهما فليأتهما، فَلم يَجْعَل نذر زِيَارَة قَبره ﷺ طَاعَة يجب الْوَفَاء بهَا؛ إِذْ من أصلنَا أَن من نذر طَاعَة لزمَه الْوَفَاء بهَا، وَكَانَ من جِنْسهَا مَا هُوَ وَاجِب بِالشَّرْعِ، كَمَا هُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة، أَو لم يكن قَالَ القَاضِي أَبُو إِسْحَاق عقيب هَذِه الْمَسْأَلَة: لَوْلَا الصَّلَاة فيهمَا لما لزمَه إتيانهما"، ثمَّ ذكر أَن ذَلِك فِي كتب الْمَالِكِيَّة كالتقريب للقيرواني، والتنبيه لِابْنِ سِيرِين.
كتبه مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الْبَغْدَادِيّ، الْخَادِم للطائفة الْمَالِكِيَّة بِالْمَدْرَسَةِ الشَّرِيفَة المستنصرية.
ملخص كتاب ثَالِث:
بعد الْبَسْمَلَة وَالْحَمْد لَهُ وَالصَّلَاة وَالتَّسْلِيم على خير الْبَريَّة وَآله وصحابته قَالَ: مَا ذكره مَوْلَانَا الإِمَام الْعَالم الْعَامِل جَامع الْفَضَائِل بَحر الْعُلُوم، ومنشأ الْفضل جمال الدّين - جمل الله بِهِ الْإِسْلَام وأسبغ عَلَيْهِ سوابغ الْأَنْعَام - أُتِي فِيهِ بِالْحَقِّ الْجَلِيّ الْوَاضِح، وَعرض فِيهِ عَن أَعْضَاء الْمَشَايِخ؛ إِذْ السُّؤَال وَالْجَوَاب اللَّذَان تقدماه لَا يخفى على ذِي فطنة وعقل أَنه أُتِي فِي ذَا الْجَواب المطابق للسؤال بحكاية أَقْوَال الْعلمَاء الَّذين تقدموه، وَلم يبْق عَلَيْهِ فِي ذَلِك إِلَّا أَن يَعْتَرِضهُ معترض فِي نَقله فيبرزه لَهُ من كتب الْعلمَاء الَّذين حكى أَقْوَالهم، والمعترض لَهُ بالتشنيع إِمَّا جَاهِل لَا يعلم مَا يَقُول، أَو متجاهل ليحمله حقده وحمية الْجَاهِلِيَّة على رد مَا هُوَ عِنْد الْعلمَاء مَقْبُول، أعاذنا الله من غوائل الْحَسَد، وعصمنا من مخائل النكد.
كتبه الْفَقِير إِلَى رضوَان ربه: عبد الْمُؤمن ابْن عبد الْحق الْخَطِيب.
1 / 197
هَذِه ثَلَاثَة خطابات من مَجْمُوع عدد كَبِير من الخطابات الموجهة من عُلَمَاء بَغْدَاد إِلَى حُكُومَة الشَّام؛ للدفاع عَن ابْن تَيْمِية ومذهبه فِي مَسْأَلَة شدّ الرّحال، وَالشَّهَادَة مِنْهُم بِأَن مذْهبه فِيهَا هُوَ الْحق المتمشي مَعَ الحَدِيث الصَّحِيح، وَأَنه مَذْهَب جَمَاهِير عُلَمَاء الْأمة وَأَن من خَالفه فَلَا حجَّة مَعَه وَلَا بَيِّنَة لدعواه.
وَأَنا أُحِيل على كتاب (الْعُقُود الدرية فِي مَنَاقِب شيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية) لِابْنِ عبد الْهَادِي؛ من أَرَادَ مزيدًا من الإطلاع والتأكد بِالنِّسْبَةِ لما لخصت من خطابات هَؤُلَاءِ الْعلمَاء، وبالنسبة لما تركت تجنباَ للإطالة؛ فَإِنَّهُ سَيَقُولُ معي إِن الْجُمْهُور المزعوم - يَا فَضِيلَة الشَّيْخ - إِنَّمَا يُوجد فِي الخيال فَقَط، أما فِي عَالم الْحَقِيقَة فَلم يُوقف لَهُ على أثر وَلم يعثر لَهُ على خبر، هَذَا الْجُمْهُور الَّذِي يضْرب بِالْحَدِيثِ الصَّحِيح عرض الْحَائِط أَو يؤوله حسب مزاجه وعاطفته؛ ليشرع للنَّاس مَا لم يَأْذَن بِهِ الله وَلم يكن من هدى رَسُول الله ﷺ!.
الْعَلامَة السهواني وَالشَّيْخ دحلان:
وَإِلَى فَضِيلَة الشَّيْخ خَاصَّة وطلبة الْعلم عَامَّة أنقل مَا سطره الْعَلامَة مُحَمَّد بشير السهواني الْهِنْدِيّ فِي كِتَابه (صِيَانة الْإِنْسَان عَن وَسْوَسَة الشَّيْخ دحلان)، قَالَ ﵀ وَهُوَ يُنكر أَن يكون ثَبت عَن أحد من السّلف عمل الزِّيَارَة مُطلق حَتَّى وَلَو بِدُونِ شدّ رحال - قَالَ: وَكَذَلِكَ دَعْوَاهُ إِجْمَاع السّلف وَالْخلف على قَوْله - يَعْنِي قَول دحلان - فَإِن أَرَادَ بالسلف الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَالَّذين تبعوهم بِإِحْسَان فَلَا يخفى أَن دَعْوَى إِجْمَاعهم مجاهرة بِالْكَذِبِ، وَقد ذكرنَا غير مرّة فِيمَا تقدم أَنه لم يثبت عَن أحد من الصَّحَابَة شَيْء فِي هَذَا، إِلَّا عَن عبد الله بن عمر وَحده؛ فَإِنَّهُ ثَبت عَنهُ إتْيَان الْقَبْر للسلام عِنْد الْقدوم من سَفَره، وَلم يَصح هَذَا عَن أحد غَيره وَلم يُوَافقهُ أحد من أَصْحَاب رَسُول الله ﷺ؛ لَا من الْخُلَفَاء الرَّاشِدين وَلَا من غَيرهم، وَقد ذكر عبد الرازق فِي مُصَنفه عَن معمر عَن عبيد الله بن عمر أَنه قَالَ: مَا نعلم أحدا من أَصْحَاب رَسُول الله ﷺ فعل ذَلِك إِلَّا عبد الله، ثمَّ قَالَ ﵀: وَكَيف ينْسب مَالك إِلَى مُخَالفَة إِجْمَاع السّلف وَالْخلف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، وَهُوَ أعلم أهل زَمَانه بِعَمَل أهل الْمَدِينَة قَدِيما وحديثًا، وَهُوَ يُشَاهد التَّابِعين الَّذين شاهدوا الصَّحَابَة وهم جيرة الْمَسْجِد وأتبع النَّاس للصحابة، ثمَّ يمْنَع النَّاذِر من إتْيَان الْقَبْر، وَيُخَالف إِجْمَاع الْأمة؟ هَذَا لَا يَظُنّهُ إِلَّا جَاهِل كَاذِب على الصَّحَابَة وَأهل الْإِجْمَاع.
ثمَّ قَالَ: وَقد نهى عَليّ بن الْحُسَيْن زين العابدين - الَّذِي هُوَ أفضل أهل بَيته وأعلهم فِي وقته - ذَلِك الرجل الَّذِي كَانَ يَجِيء إِلَى فُرْجَة كَانَت عِنْد الْقَبْر فَيدْخل فِيهَا فيدعو، وَاحْتج عَلَيْهِ بِمَا سَمعه من أَبِيه عَن جده عَليّ بن أبي طَالب ﵃ عَن رَسُول الله ﷺ أَنه قَالَ: "لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عيدًا، وَلَا بُيُوتكُمْ قبورا؛ فَإِن تسليمكم يبلغنِي أَيْنَمَا كُنْتُم"، وَكَذَلِكَ ابْن عَمه الْحسن بن الْحسن بن عَليّ شيخ أهل بَيته كره أَن يقْصد الرجل الْقَبْر للسلام عَلَيْهِ وَنَحْوه عِنْد غير دُخُول الْمَسْجِد، وَرَأى أَن ذَلِك من اتِّخَاذه عيدًا، وَقَالَ للرجل الَّذِي رَآهُ عِنْد الْقَبْر: مَالِي رَأَيْتُك عِنْد الْقَبْر؟.. فَقَالَ: سلمت على النَّبِي
1 / 198
ﷺ، فَقَالَ: إِذا دخلت الْمَسْجِد فَسلم، ثمَّ قَالَ: إِن رَسُول الله ﷺ قَالَ: "لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عيدًا وَلَا تَتَّخِذُوا بُيُوتكُمْ مَقَابِر، لعن الله الْيَهُود اتَّخذُوا قُبُور أَنْبِيَائهمْ مَسَاجِد، وصلوا عَليّ؛ فَإِن صَلَاتكُمْ تبلغني حَيْثُمَا كُنْتُم"، ثمَّ قَالَ: مَا أَنْتُم وَمن بالأندلس إِلَّا سَوَاء.
تمّ قَالَ: الْعَلامَة السهسواني ﵀: "كَذَلِك سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الزُّهْرِيّ أحد الْأَئِمَّة الْأَعْلَام، وقاضي الْمَدِينَة فِي عصر التَّابِعين ذكر عَنهُ ابْنه إِبْرَاهِيم أَنه كَانَ لَا يَأْتِي الْقَبْر قطّ، وَكَانَ يكره إِتْيَانه".
ثمَّ قَالَ ﵀: "أفيظن بهؤلاء السَّادة الْأَعْلَام أَنهم خالفوا الْإِجْمَاع، وَتركُوا تَعْظِيم رَسُول الله ﷺ وتنقصوه؛ لما لم يرَوا مَشْرُوعِيَّة زِيَارَة قَبره، عاملين بِالْحَدِيثِ الثَّابِت عَنهُ ﵇؟ "
ثمَّ قَالَ: "فَهَذَا لعمر الله هُوَ الْكَلَام الَّذِي تقشعر مِنْهُ الْجُلُود".
تمّ قَالَ: "وَلَيْسَ مَعَ عباد الْقُبُور من الْإِجْمَاع إِلَى مَا رَأَوْا عَلَيْهِ الْعَوام والطغاة فِي الْأَعْصَار الَّتِي قل بهَا الْعلم وَالدّين، وضعفت فِيهَا السّنَن ... الخ مَا كتبه ﵀ من كَلَام صَحِيح وَتَحْقِيق يعجز عَن نقضه من ادّعى سواهُ".
قلت: إِن هَؤُلَاءِ الْعَوام والطغاة فِي الْأَعْصَار الْمُتَأَخِّرَة - كَمَا أَشَارَ الْعَلامَة مُحَمَّد بشير السهسواني ﵀ هم الجذور الَّذِي يعنيه من زعم أَن جَوَاز شدّ الرّحال لزيارة الْقَبْر الشريف هُوَ مَذْهَب الْجُمْهُور، وَالَّذِي نَقله فَضِيلَة الشَّيْخ عَطِيَّة مُوَافقا عَلَيْهِ أَو مستدلا بِهِ١.
وَأَقُول مرّة أُخْرَى: أَلَيْسَ مَذْهَب ابْن تَيْمِية أقرب إِلَى مَذْهَب خصومه مِمَّا نقل عَن هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة من التَّابِعين وتابعيهم؟.. الْجَواب بِلَا؛ ذَلِك لِأَن ابْن تَيْمِية لَا يمْنَع زِيَارَة الْقَبْر الشريف مُطلقًا، بل يُصَرح بِأَن زيارته بِدُونِ شدّ رَحل عمل صَالح إِذا لم يصل الْأَمر إِلَى الْمُبَالغَة والغلو، كالإكثار من التَّرَدُّد عَلَيْهِ بِحَيْثُ يصل ذَلِك بالإنسان إِلَى اتِّخَاذه عيدًا، أَو يتَجَاوَز ذَلِك إِلَى دُعَائِهِ ﵇ والإستغاثة بِهِ، وَنَحْو ذَلِك من أُمُور الْعِبَادَة الَّتِي صرفهَا لغير الله كفر وشرك.
أما هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة فَكَمَا ترى النَّقْل عَنْهُم يرَوْنَ عدم مَشْرُوعِيَّة هَذِه الزِّيَارَة ونمها لَيست عملا صَالحا
_________
١ يفهم من كَلَام الْكَاتِب وَمن كَلَام السهسواني الَّذِي نقل عَنهُ أَن زِيَارَة قبر النَّبِي ﷺ غير مَشْرُوعَة، وَلم تثبت عَن أحد من السّلف مُطلقًا، وَأَن مُجَرّد إِتْيَانه يعْتَبر اتِّخَاذه عيدا.
وَهَذَا خلاف مَا يدل عَلَيْهِ عُمُوم قَوْله ﷺ: " كنت نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور، أَلا فزروها فَإِنَّهَا تذكر الْآخِرَة"، وَقد خلط الْكَاتِب - عَفا الله عَنهُ - بَين حكم شدّ الرّحال وَبَين حكم زِيَارَة الْقَبْر نَفسه، وَالْفرق وَاضح بَين الْحكمَيْنِ لمن تَأمل؛ لِأَن شدّ الرّحال غير جَائِز لقصد الْقَبْر عِنْد التَّحْقِيق، أما زِيَارَة الْقَبْر بِدُونِ شدّ الرّحال فمشروعة، وَالله أعلم.. "الْمجلة".
1 / 199
وَينْهَوْنَ عَنْهَا، ويستدلون على ذَلِك بالأحاديث١.
فَلْينْظر الْمنصف، ولتأمل طَالب الْحق، وليتراجع المندفع على غير هدى، وليعلم أَن الدّين لَيْسَ بالعواطف وَلَيْسَ بالتقليد الْأَعْمَى، وَأَن أَي عَالم مهما ارْتَفَعت دَرَجَته وعلت مَنْزِلَته لَا يَنْبَغِي أَن يعْتَبر قَوْله ومذهبه واختياره أمورًا مسلمة غير قَابِلَة للمناقشة والتمحيص.
سُؤال موجه يُرْجَى الْجَواب عَلَيْهِ:
وَهَذَا سُؤال نوجهه إِلَى فَضِيلَة الشَّيْخ نرجوه الْجَواب عَلَيْهِ وَهُوَ:
إِذا كَانَ ابْن حجر قَالَ: يرى الْجُمْهُور بِالْإِجْمَاع جَوَاز شدّ الرّحال ... الخ، فبصرف النّظر عَمَّا تقدم من مناقشتنا لهَذِهِ الدَّعْوَى أصلا وفروعًا أَقُول الْآتِي: مادام أَن الْقَضِيَّة قَضِيَّة جَوَاز - أَعنِي إِبَاحَة فَقَط - فَمَا فَائِدَة هَذِه الزِّيَارَة؟.. أتريدون من الْإِنْسَان أَن يُسَافر من أقْصَى الأَرْض إِلَى أدناها يجوب المسافات الشاسعة والفيافي الْبَعِيدَة والقفار الموحشة، وَينْفق الْأَمْوَال ويعرض نَفسه للمخاطر؛ ليتوصل إِلَى أَمر مُبَاح غَايَة مَا فِيهِ أَنه غير محرم وَلَا مَكْرُوه؟..
يَا للعجب العجاب - يَعْنِي مُجَرّد سياحة لَا أقل وَلَا أَكثر -، هَذَا إِذا ثَبت أَن الصَّحِيح هُوَ هَذَا الْمَذْهَب الْمَنْسُوب لِلْجُمْهُورِ - كَمَا زَعَمُوا - فَمَعْنَى هَذَا أَن هُنَاكَ مذهبا آخر لغير الْجُمْهُور يرى عدم الْإِبَاحَة، وَهَذَا الْمَذْهَب الآخر قد يكون هُوَ الصَّوَاب٢؛ إِذْ إِنَّه لَا يلْزم أَن يكون الْحق دَائِما مَعَ الْجُمْهُور.
_________
١ بل الحَدِيث الصَّحِيح وَهُوَ " كنت نَهَيْتُكُمْ.. الخ"، يدل على عكس مَا يرَاهُ الْكَاتِب، وَمَا نقل عَنْهُم وَسَمَّاهُمْ أَئِمَّة، وَقد أثبت شيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية الْحق الَّذِي دلّ عَلَيْهِ الحَدِيث الْمَذْكُور، والعجيب من الْأَمر أَن الْكَاتِب نقل كَلَام شيخ الْإِسْلَام فِي هَذَا الْمَعْنى فِي نفس هَذِه الصفحة، ثمَّ تَركه دون تَعْلِيق، وَنقل كَلَام من تبنى فكرتهم من عدم مَشْرُوعِيَّة زِيَارَة الْقُبُور مُطلقًا، وَأَنه عمل غير صَالح وحبذه، ودعا إِلَيْهِ كَمَا ترى ٠٠"الْمجلة".
٢ بل الصَّوَاب هُوَ مَا ذكر فِي التَّعْلِيق رقم (١) .. "الْمجلة".
الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة: وَقَالَ فَضِيلَة الشَّيْخ صَحَّ٥٧٨ نقلا عَن ابْن حجر: وَمِمَّا اسْتدلَّ بِهِ على عدم شدّ الرّحال لمُجَرّد الزِّيَارَة، وَمَا روى عَن مَالك من كَرَاهِيَة أَن يُقَال: "زرت قبر النَّبِي ﷺ"، وَأجِيب على ذَلِك بِأَن كَرَاهِيَة مَالك للفظ فَقَط تأدبا، لَا أقل وَلَا أَكثر، لَا أَنه كره الزِّيَارَة؛ فَإِنَّهَا من أفضل الْأَعْمَال وَأجل القربات الموصلة إِلَى ذِي الْجلَال، وان مشروعيتها مَحل إِجْمَاع. سطر الشَّيْخ هَذَا الْكَلَام وَلم يتعقبه بِحرف وَاحِد، بل إِن صَنِيعه فِيمَا كتبه بعد ذَلِك يدل على تَنْبِيه لهَذَا الْكَلَام وَرضَاهُ؛ فَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم!!.
الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة: وَقَالَ فَضِيلَة الشَّيْخ صَحَّ٥٧٨ نقلا عَن ابْن حجر: وَمِمَّا اسْتدلَّ بِهِ على عدم شدّ الرّحال لمُجَرّد الزِّيَارَة، وَمَا روى عَن مَالك من كَرَاهِيَة أَن يُقَال: "زرت قبر النَّبِي ﷺ"، وَأجِيب على ذَلِك بِأَن كَرَاهِيَة مَالك للفظ فَقَط تأدبا، لَا أقل وَلَا أَكثر، لَا أَنه كره الزِّيَارَة؛ فَإِنَّهَا من أفضل الْأَعْمَال وَأجل القربات الموصلة إِلَى ذِي الْجلَال، وان مشروعيتها مَحل إِجْمَاع. سطر الشَّيْخ هَذَا الْكَلَام وَلم يتعقبه بِحرف وَاحِد، بل إِن صَنِيعه فِيمَا كتبه بعد ذَلِك يدل على تَنْبِيه لهَذَا الْكَلَام وَرضَاهُ؛ فَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم!!.
1 / 200