Contemporary Arabic Literature in Egypt
الأدب العربي المعاصر في مصر
प्रकाशक
دار المعارف
संस्करण संख्या
الثالثة عشرة
शैलियों
مقدمات
مقدمة الطبعة الثانية
...
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الثانية:
حين رجعتُ أعِد هذا الكتاب للطبعة الثانية، استأنفت النظر في فصوله وفي التراجم التي عرضتها فيه، ورأيت أن أضيف هنا وهناك زيادات لغرض التوضيح وإكمال البيان، وهي لا تُحدث أي تعديل في آرائي؛ بل تدعمها وتوثق دلالاتها.
وأعترف بأنني تجشمت كثيرًا من العناء في تأليف هذا الكتاب، وترتيب مقدماته، وجمع الأسباب التي تعين على صحة نتائجه، وأنني بذلت جُهْدًا شاقًّا في دراسة من ترجمت لهم من أدبائنا النابهين، سواء في استقصاء حياتهم حتى تتضح ظروفُهم الثقافية والاجتماعية والنفسية، أو في نقد آثارهم وتحليلها حتى تنجلي خصائصهم، وحتى يأخذ كل منهم مكانه الدقيق من أدبنا المعاصر ونهضته القوية الرائعة.
ولم أترجم لبعض مَن نالوا حظًّا بيننا من الشهرة الأدبية؛ اقتناعًا مني بأن أثرهم في تطور أدبنا المعاصر كان محدودًا، وأنا إنما أتابع هذا التطور لا كتابة دائرة معارف أدبية تستوعب أدباءنا على اختلاف حظوظهم وأقدارهم، فتلك وجهة أخرى، وليست على كل حال وجهةً للكتاب ولا غرضًا من أغراضه.
ورأيت في هذه الطبعة أن أترجم لثلاثة؛ هم: إسماعيل صبري، وأحمد زكي أبو شادي من الشعراء، ومصطفى صادق الرافعي من الكُتَّاب. وليس لأولهم دور كبير في تطور شعرنا المعاصر؛ ولكنه تتمة طريفة لشعراء النهضة والإحياء من أمثال: البارودي وشوقي وحافظ بما امتاز به من شعره الوجداني. أما أحمد زكي أبو شادي فمن شعراء جماعة أبولو، وسيرى القارئ أن قيادته لهذه الجماعة أقوى من شعره. وأما مصطفى صادق الرافعي، فكان مثلًا قويًّا
1 / 5
للطرف المحافظ في أدبنا طوال العقدين الثالث والرابع من هذا القرن، إلى جانب ما امتاز به في نثره من عمق معانيه وروعة أسلوبه.
وعجب كثيرون من أنني وضعت عباس محمد العقاد بين الشعراء، ولم أضعه بين الكُتَّاب، وهو حقًّا في طليعة الصفوة الممتازة منهم، غير أني ترجمت له بين الشعراء؛ لأن الشعر بطبيعته أطول حياة من النثر، وأشد قهرًا للدهر من حيث البقاء والخلود. وقد تحدثت في نفس الترجمة عن نثره وقيمته وما يقدم فيه من غذاء عقلي بديع.
واللهَ أسألُ أن يلهمني السداد في القول والإخلاص في الفكر والعمل، وهو حسبي ونعم الوكيل.
القاهرة في أول يونية سنة ١٩٦١
شوقي ضيف
1 / 6
مقدمة الطبعة الأولى:
أخذ الباحثون في الأعوام الأخيرة يُعْنَون عناية واسعة بدراسة أدبنا العربي الحديث؛ فقلما يمضي عام دون أن تُنْشَر فيه أبحاث جديدة، تترجم لشاعر معروف أو كاتب مشهور، أو لجيل بأجمعه من الشعراء أو الكُتاب، أو تصور نزعة وطنية أو قومية أو اجتماعية سرت بين أدبائنا، أو تصف فنًّا بعينه من فنوننا الشعرية أو النثرية.
وبفضل هذه الأبحاث التي تتكاثر يومًا بعد يوم، وما تُلقي من أضواء على أدبنا العربي المعاصر؛ أصبح من الممكن أن يُكْتَب تاريخه كتابة تستوعب أطرافه وأطواره وآثاره وأعلامه. وأدركت الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية حاجة الدارسين والمثقفين في العالم العربي إلى مؤلَّف جامع لهذا التاريخ، يستقصي العوامل الفعالة في تكونه وتطوره، ويحقق الصلات بينه وبين عصره وبيئاته، ويحلل شخصيات شعرائه وكُتابه وآثارهم الأدبية. وندبتْ إلى النهوض بهذا العمل طائفة من المتصلين بهذه الدراسات في بلادنا العربية؛ ليكتب كلٌّ منهم القسم الخاص بالأدب المعاصر في وطنه، على أن يكون مجملًا غير مبسوط، بمقدار ما يسد الحاجة ويجلب الكفاية.
وحاولت جاهدًا أن أؤرخ لأدبنا المصري المعاصر، وأن أربط حلقاته ربطًا متناسقًا، يكشف عن المؤثرات والدوافع المختلفة التي عملتْ في حياته، ويصوِّر تطور شعرنا واتجاهاته التي نشأت فيه، وما يمتاز به كل اتجاه من خصال وخصائص، كما يصور تطور نثرنا وحركاته ومعاركه التي احتدمت فيه بين المجددين والمحافظين، وما عبر عنه من صور وفنون أدبية مستحدثة مثل: المقالة، والقصة، والمسرحية. وتحوَّلتُ إلى المبرزين من شعرائنا وكُتابنا الذين شادوا بجهودهم الخصبة صَرْحَ
1 / 7
أدبنا الشامخ، فدرستُ شخصياتهم الأدبية وأعمالهم الفنية القيِّمة دراسة مجملة، تتفق والغرضَ من تأليف هذا الكتاب.
ولا أزعم أن هذا البحث الموجز تاريخٌ شاملٌ أو وافٍ لأدبنا المصري المعاصر، إنما هو خطوة في سبيل كتابة هذا التاريخ. وقد توخيت الإيجاز في عرض حقائقه ومسائله، وأغفلت من أجل ذلك ذكر مصادره ومراجعه. وكل ما آمله ألا أكون قصرت، وأن أكون حقًّا استطعت أن أؤدي الغاية التي إليها نزعتُ، والله الهادي إلى سواء السبيل.
القاهرة في أول يونية سنة ١٩٥٧
شوقي ضيف
1 / 8
فهرس الموضوعات:
صفحة الموضوعات
٥-٦ مقدمة الطبعة الثانية
٧-٨ مقدمة الطبعة الأولى
١١-٣٧ الفصل الأول: مؤثرات عامة
١١ ١- أحداث كبرى
١٩ ٢- تياران: عربي وغربي
٣٠ ٣- المطبعة والصحف
٣٨-٨٢ الفصل الثاني: الشعر وتطوره
٣٨ ١- استمرار التقليد
٤١ ٢- نهضة وإحياء
٥٨ ٣- جيل جديد
٧٠ ٤- جماعة أبولو
٧٥ ٥- شعر الوجدان الاجتماعي
٧٩ ٦- الشعر التمثيلي
٨٣-١٦٨ الفصل الثالث: أعلام الشعر
٨٣ ١- محمود سامي البارودي
٩٢ ٢- إسماعيل صبري
١٠٠ ٣- حافظ إبراهيم
١١٠ ٤- شوقي
١٢١ ٥- خليل مطران
١٢٨ ٦- عبد الرحمن شكري
1 / 9
صفحة الموضوعات
١٣٦ ٧- عباس محمود العقاد
١٤٥ ٨- أحمد زكي أبو شادي
١٥٤ ٩- إبراهيم ناجي
١٦١ ١٠- على محمود طه
١٦٩-٢١٧ الفصل الرابع: تطور النثر وفنونه
١٦٩ ١- تقيد بأغلال السجع والبديع
١٧٢ ٢- حركة تحرر وانطلاق
١٨٨ ٣- بين الجديد والقديم
١٩٦ ٤- تجديد شامل
٢٠٣ ٥- فنون مستحدثة: المقالة، القصة، المسرحية
٢١٨-٣٠٧ الفصل الخامس: أعلام النثر
٢١٨ ١- محمد عبده
٢٢٧ ٢- مصطفى لطفي المنفلوطي
٢٣٤ ٣- محمد المويلحي
٢٤٢ ٤- مصطفى صادق الرافعي
٢٥١ ٥- أحمد لطفي السيد
٢٦١ ٦- إبراهيم عبد القادر المازني
٢٧٠ ٧- محمد حسين هيكل
٢٧٧ ٨- طه حسين
٢٨٨ ٩- توفيق الحكيم
٢٩٩ ١٠- محمود تيمور
1 / 10
الفصل الأول: مؤثرات عامة:
١- أحداث كبرى:
نحتاج في دراستنا لأدب أي أمة من الأمم إلى معرفة الأحداث الكبرى التي أثرت في حياة منشئيه؛ لأن الأدب في حقيقته مرآة ناصعة صافية تنعكس عليها حياة أهله وما تأثروا به من أحداث عامة وظروف خاصة.
ولما كنا سنتحدث عن الأدب المصري منذ القرن الماضي، فإننا مضطرون إلى أن نرجع إلى الوراء لنربط الأحداث بعضها ببعض. ولعل أكبر الأحداث السابقة اقتحام الحملة الفرنسية لمصر في آخر القرن الثامن عشر، واصطدامها بهذا الشعب الذي كان يَرْزَحُ تحت أثقال الحكم العثماني منذ غزاه الترك في القرن السادس عشر، وأنزلوا بأهله البؤس والضنك والإعسار، ومن أهم خصائص الترك أنهم كانوا غزاة فاتحين، ولم يكونوا أصحاب حضارة ولا نظام في الحكم والسياسة.
وقبل ذلك هدموا الحضارة البيرنظية في القرن الخامس عشر بفتحهم القسطنطينية؛ ولكن هذا الهدم لم يكن شديد الضرر؛ بل كان شديد النفع؛ فإن أصحاب هذه الحضارة هاجروا إلى أوربا، وساعدوا مساعدة فعالة في نشأة نهضتها الحديثة، بما نشروا فيها من الآثار اليونانية والرومانية.
أما في مصر والشام -وكانا قد أصبحا مَوْئِلَي الحضارة الإسلامية منذ غزوات التتار للشرق العربي وغزوات المسيحيين الشماليين للأندلس- فقد هدم الترك
1 / 11
ما فيهما من حضارة بفتحهما، وحطموا كل ما وجدوه فيهما من صروح العلم والأدب والفن، ولم يُتَحْ لعلمائهما وأدبائهما وطن جديد يهاجرون إليه؛ بل نُفيت جماعة منهم إلى القسطنطينية، وبقيت جماعة في عقر ديارها خاملة، لا تستطيع أن تنتج علمًا ولا أدبًا، فقد فقدت حريتها، ولم تعد تجد ما تسد به رمقها، وبذلك انهارت الحياة العقلية والأدبية في مصر، لولا نشاط ضئيل ظل في الأزهر، وكان يحفه ظلام مطبق من الفقر والبؤس والحكم الظالم الغاشم.
وفي هذه الأثناء نزلت الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت في مصر عام ١٧٩٨، ومكثت نحو ثلاث سنوات، كانت جميعها جهادًا عنيفًا وصراعًا مريرًا قاسيًا بين الشعب المصري والمعتدين. ولم يُجْدِ نابليون نفعًا ما أنشأه من مجالس شورى سميت باسم الدواوين، ألفها من طبقة المثقفين الأزهريين ومن كبار الأعيان والتجار، وجعل لها حق البحث في بعض شئون الحكم، وخاصة الضرائب؛ فقد كانت مجالس صورية لتنفيذ مآربه الاستعمارية في السياسة والإدارة. وقد ظل الشعب المصري يقاومه ويثور ضده وضد حملته ثورات متعاقبة، بذل فيها الدماء وعزيز الفداء.
وكان لهذه المقاومة الباسلة وهذا الكفاح المرير أثرهما في نشأة الشعور القومي عند المصريين، وإحساسهم العميق بحقوقهم المشروعة في حكم بلادهم. فلما أقلعت الحملة عن ديارهم، وعادوا إلى حكم العثمانيين، رأوا أن من حقهم اختيار الوالي الجديد، واختاروا محمد علي، ووافقهم الباب العالي.
وقد اطلع الشعب المصري من خلال هذه الحملة على بعض وجوه الحياة الأوربية؛ فقد رأى المصريون أفرادها يتناولون حياتهم المادية بصور لم يكونوا يألفونها، سواء في أكلهم وشربهم، أو في لهوهم وما كانوا يقيمون من حفلات التمثيل والغناء والرقص والموسيقى، وكانوا يرون نساءهم يمشين متأبطات لأذرعهم -كما يقول الجبرتي في الجزء الثالث من تاريخه- "وهن حاسرات الوجوه، لابسات الفُسْتانات ومناديل الحرير الملونة، يَسْدلن على مناكبهن الطُّرَح
1 / 12
الكشميري والمزركشات المصبوغة، ويركبن الخيول والحمير، مع الضحك والقهقهة ومداعبة المكارية معهم وحرافيش العامة".
ولفتت الحملةُ المصريين إلى ما أصاب الغربيون من تقدم في العلم؛ فإن نابليون استقدم معه طائفة من العلماء البارعين المتخصصين في مختلَف العلوم التاريخية والطبيعية والرياضية، ولم يلبث حين نزل مصر أن أسس المجمع العلمي المصري على غرار المجمع العلمي الفرنسي، وانبعث العلماء الذين جاءوا معه يدرسون مصر من جميع أطرافها، وكانت ثمرة ذلك تسعة مجلدات طبعت في فرنسا "١٨٠٩-١٨٢٥" باسم "وصف مصر"، وهي أساس كل المعلومات التي عُرفت في أوربا عن مصر الحديثة.
وأنشأ نابليون بجانب هذا المجمع العلمي معامل ومكتبة ومطبعة، وكانت المعامل تُعْنَى بالبحث العلمي التجريبي، وكان الفرنسيون يستدعون المصريين لرؤية ما يُجْرون من تجارب كيمائية لا عهد لهم بها، فيعجبون وينبهرون. يقول الجبرتي في أثناء وصفه لمعمل الكيمياء الذي أقاموه: "ومن أغرب ما رأيته في ذلك المكان أن بعض المتقيدين لذلك أخذ زجاجة من الزجاجات الموضوع فيها بعض المياه المستخرجة، فصب منها شيئًا في كأس، ثم صب عليها شيئًا من زجاجة أخرى، فعلا الماء، وصَعِدَ منه دخان ملون، حتى انقطع وجف ما في الكأس، وصار حجرًا أصفر، فقلبه على البرجات حجرًا يابسًا، أخذناه بأيدينا ونظرناه. ثم فعل كذلك بمياه أخرى، فجمدت حجرًا أزرق، وبأخرى، فجمدت حجرًا ياقوتيًّا. وأخذ مرة شيئًا قليلًا جدًّا من غبار أبيض، ووضعه على السندال، وضربه بالمطرقة بلطف، فخرج له صوت هائل، انزعجنا منه، فضحكوا منا". ومن غير شك كان ذلك يدعو المصريين إلى التفكير في علمهم النظري، وأن وراءه علمًا في الغرب ينبغي أن يقفوا عليه.
ورأى المصريون المطبعة التي جلبها نابليون معه، وكانت تطبع بالحروف العربية منشوراته وبعض الصحف الدورية؛ بل أخذت تطبع بعض الكتب.
1 / 13
ولم يكن للمصريين عهد لا بالمطبعة ولا بما تطبع من منشورات وكتب وصحف، فكان ذلك كله جديدًا عليهم.
وقد ظن المصريون حين أقلعت الحملة عن ديارهم أنهم يبدءون تاريخًا جديدًا لأمة مجاهدة متحررة، فاختاروا محمد علي واليًا عليهم؛ ولكنه لم يَجْرِ معهم إلى آخر الشوط الذي كانوا يحلمون به؛ إذ نكَّل بمن اختاروه منهم. وقد أقام -مثل نابليون- مجموعة من الدواوين، سلبها حقوقها، فقضى بذلك على آمال المصريين ومطامحهم في اشتراكهم مع الحكام في حكم أنفسهم وتدبير شئونهم.
وهو إن كان قد حطم آمال المصريين في هذا الاتجاه، فإنه بعثها في اتجاه آخر؛ إذ عُنِيَ بالجيش، وأراد أن يكون مثل جيوش الدول الكبرى عُدة واستعدادًا، فاضطُر اضطرارًا إلى الاستعانة بالأساليب الأوربية والمعلمين الأوربيين. وكانت مصر قد تهيأت لتفتح صدرها للعلم الأوربي، ووجد طريقه إلى المدارس التي أُنشئت من حربية وصناعية وهندسية وطبية. ولما كان المعلمون في هذه المدارس من الفرنجة، وكان لا بد للمصريين أن يحسنوا اللغات الأجنبية ليفهموا عنهم؛ وُجدت الحاجة إلى مدرسة الألسن وإلى بعوث ترسل إلى الغرب؛ حتى يتقن المصريون اللغات الغربية، وأنشئ في أثناء ذلك كثير من المدارس الابتدائية والثانوية.
وكل هذا ساعد فيه محمد علي ليوجد جيشًا قويًّا لنفسه، يحقق به أحلامه في إمبراطورية ضخمة، فلم يكن غرضه التعليم من حيث هو، أو رد الحياة العلمية الخصبة إلى مصر من حيث هي؛ وإنما كان غرضه شخصيًّا لنفسه ولأحلامه، فلما لم تتحقق أحلامه انصرف عن التعليم، وأغلق ابنه عباس المدارس من بعده. ولكن الصلة بين مصر وأوربا أو بين الحياة العقلية المصرية والحياة العقلية الأوربية قامت، ولم يعد من الممكن أن يُقْضَى عليها لسببين؛ هما:
أولًا: وجود طائفة من العلماء المصريين الذين بُعثوا إلى أوربا، وعادوا ليثبِّتوا حركة المزج
1 / 14
الحديثة بين حياتنا العقلية وحياة الأوربيين.
وثانيًا: مهاجرة كثير من الأوربيين إلينا، وتأسيسهم للشركات والمدارس في ديارنا، وزار مصر كثير من أدبائهم، وأخذت تؤثر بتاريخها القديم والحديث في أدبهم والأدب الأوربي عامة.
لذلك لم يلبث سعيد أن فتح المدارس، وأخذت الحركة تنمو وتؤتي أكلها في عصر إسماعيل؛ فإنه استجاب للروح المصرية، ودعم الصلة بأوربا؛ فأنشأ "دار الأوبرا" و"المكتبة الخديوية"، وأكثر من المدارس الابتدائية والثانوية، وأقام مدرسة للبنات، وبذلك أصبح العلم للعلم، ولم يعد العلم للجيش، كما كان الشأن في أوائل القرن.
وهنا نقف عند حادث مهم؛ وهو فتح قناة السويس في عهد إسماعيل، وكان لهذا الفتح آثار عملية واضحة؛ إذ قرَّبت القناة المسافات المادية بين الشرق والغرب، كما قربت المسافات المعنوية بين الشعوب الشرقية والغربية في اتجاهات تفكيرها وحضارتها، وكان لهذا الفتح أيضًا آثار سياسية بعيدة في العَلاقات الدولية؛ مما نشأ عنه -فيما بعد- احتلال الإنجليز لمصر.
ففَتْحُ هذه القناة أثَّر في مستقبل مصر السياسي وفي العَلاقات بين الدول، وهو كذلك أثر في العلاقات العقلية على اختلاف أنواعها، سواء فيما يتصل بنا أو فيما يتصل بالأوربيين بعضهم ببعض؛ لأن العَلاقات العقلية والمادية جميعًا متشابكة متفاعلة. وكَثُرَ إقبال الأوربيين على مصر كما كثر أو زاد إقبال المصريين على أوربا، وأخذت تُرفع الحواجز التي تفصل بين الحياتين المتقابلتين: حياة المصريين وحياة الأوربيين. وقد أنشأ إسماعيل مجلس الوزراء ومجلسًا نيابيًّا، ووضع كثيرًا من القوانين على النمط الأوربي.
ونحن لا نصل إلى عصر إسماعيل حتى نلاحظ ما يمكن أن نسميه "نمو النزعة القومية"؛ فقد كان الشعب المصري في عصر محمد علي وعباس لا وجود له سوى الوجود الآلي، فهو آلات أو أدوات تُستغل لمجد محمد علي وأسرته وبطانته من الترك، على الرغم من أنه لم يكن
1 / 15
تركي الأصل؛ بل كان ألبانيًّا، إلا أنه وأسرته صبغوا أنفسهم بالصبغة التركية. وخير ما يمثل ذلك مسجده الذي بناه على طراز مساجد الآستانة. وقد أنشأ مطبعة بولاق، وعُنيت في أكثر الأمر بطبع الكتب التركية، ولما أصدر "الوقائع المصرية" كان يصدرها بالعربية والتركية، وكانت أساليبه الإدارية أساليب تركية خالصة.
ومعنى ذلك أن أعمال محمد علي لم يكن فيها نزعة قومية ولا مصرية واضحة، وقد وَأَدَ بذور طموح المصريين لحكم أنفسهم -كما قدمنا- فلم يؤتِ ثماره؛ بل قضى عليه في مهده، ولكن أنَّى له! إن هذا الطموح لا يموت موتًا نهائيًّا؛ وإنما هو كالنار تبقى جذوته ضئيلة؛ ولكنها عاملة نشيطة.
فلما ولي سعيد ومن بعده إسماعيل أخذ هذا الطموح ينمو في الأرض الطيبة، وساعد على ذلك دخول أبناء الفلاحين في الجيش، ووصول بعضهم إلى المناصب الكبيرة في الإدارة المدنية من مثل: رفاعة الطهطاوي، وعلي مبارك، ومحمود الفلكي. وزار مصر جمال الدين الأفغاني سنة ١٨٧١، وظل بها نحو ثماني سنوات، دعا فيها دعوته المشهورة في الإصلاح الديني، والإفادة من ثقافة الغرب في الدفاع عن الإسلام، كما دعا إلى التحرر من تدخل الأجانب في شئون البلاد الإسلامية، والثورة عليهم وعلى من يمهد لهم من الحكام المستبدين، والتفَّ حوله الشيخ محمد عبده وغيره. وكانت سياسة إسماعيل المالية قد تراءى فشلها وخطرها أمام الأنظار.
فكل ذلك نَمَّى الرأي العام والنزعة القومية، وسُرعان ما ظهرت صحف مصرية -مثل: جريدة مصر والوطن- تنقد في صراحة سياسة إسماعيل، وتنادي: مصر للمصريين. وسقطت وزارة نوبار سنة ١٨٧٩، وتطورت الحوادث، ونهضت هذه الروح نهوضًا قويًّا كان من نتائجه ثورة الجيش بقيادة عرابي ضد الضباط الأتراك الجراكسة لعهد توفيق سنة ١٨٨٢. واستعان توفيق ضد الحركة بحراب الإنجليز التي أغمدوها في صدور الشعب، ومن حينئذ أصبحت مصر خاضعة
1 / 16
لاحتلال إنجليزي بغيض، وبدا للعِيَان أن حاكمها من أسرة محمد علي لا يمت إليها بصلة جنسية ولا قومية، فهي ليست أكثر من بقرة حلوب يمتصها الأجنبي عن طريقه. وحُكمت مصر بالمستشارين الإنجليز، وكان يتولى وزارتها مصريون؛ ولكن أكثرهم كان من أصول تركية. وكانت سياسة الإنجليز أن يحكموا هؤلاء الوزراء بمستشارهم وموظفيهم في الوزارات أو النظارات المختلفة. وأنشئوا مجالس تشريعية؛ ولكنها كانت مغلولة السلطان، ولم يكن لها من الأمر شيء.
على أن هذا الاحتلال التعس لم يقضِ على الحركة الوطنية قضاء مبرمًا، فقد خمدت ولكن إلى حين؛ إذ كانت قد نشأت طبقة المصريين المستنيرة، وأخذت تشارك في الحكم وتتقلد مناصبه الكبرى، ورجع المنفيون إلى مصر في عهد عباس الثاني، ونشطت الحركة الوطنية ممثَّلة في الزعم الخالد مصطفى كامل، فأصدر في سنة ١٨٩٩ صحيفة اللواء، واتخذ منها ومن خُطَبه النارية أداة لإلهاب عواطف المصريين ضد الإنجليز، وأسس الحزب الوطني، وزار كثيرًا من عواصم أوربا يعرض قضية مصر، ويندد بالاحتلال الإنجليزي غير المشروع.
ثم كانت حادثة دنشواي المعروفة سنة ١٩٠٦، وهي تلك التي تُوفِّي فيها ضابط إنجليزي كان يصطاد الحمام بهذه البلدة إثر ضربة شمس. وظن الإنجليز أن أهل هذه البلدة قتلوه، فأنزلوا بهم عقابًا وحشيًّا فظيعًا؛ إذ نصبوا المشانق في البلدة، فشنقوا طائفة، وسجنوا أخرى، ونزلوا بالسياط على ثالثة، وكانوا جميعًا أبرياء؛ ولكنه طغيان الباغي الذي لا يعرف رحمة ولا شفقة، وقابل الشعبُ هذا الحادث -ومعه زعيمه مصطفى كامل- بالاستياء الشديد، وبدا لرأي العين أن المصريين لا يزيدهم الإرهاب إلا حقدًا وسخطًا على المحتل الغاصب.
وتمادى الإنجليز في عنتهم وظلمهم وسجونهم وتضييق الخناق على حريات المصريين، حتى كانت الحرب الأولى فأعلنوا الأحكام العرفية، ووضعت الحرب أوزارها فثار عليهم المصريون ثلاث سنوات طوالًا، ولم يفل من عزمهم نفي ولا تشريد ولا سجون؛ بل ظلوا يحادُّونهم ويعاندونهم، حتى اضطروهم
1 / 17
إلى تصريح ٢٨ من فبراير سنة ١٩٢٢، وفيه احتفظوا ببعض المسائل؛ كمسألة السودان، ومسألة الدفاع عن مصر.
ولم يُضعف هذا التصريح من حدة الثورة المصرية على الإنجليز؛ بل ما زالت مصر تضطرب بعوامل الثورة حتى وقَّعت إنجلترا معاهدة سنة ١٩٣٦؛ ولكنها لم تحقق غاية مصر؛ فظلت نيران الثورة تموج في صدرها، حتى جاءها البشير بثورة الجيش المباركة، فتحقق حلمها القديم، وعادت القوس إلى باريها، وما هي إلا عشية أو ضحاها حتى طردت ثورتنا المستعمر من دارنا، وتبعته تنكل به في كل دار عربية؛ بل أيضًا في كل دار إفريقية وآسيوية، وهو ترتعد فرائصه وفرائص جماعته موليًا الأدبار، وبذلك تزعزع بنيانه، وهَوَتْ أركانه في كل مكان.
ولا بد أن نشير إلى أنه في أثناء الاحتلال الإنجليزي حاول الإنجليز جاهدين أن يَعْلوا ثقافتهم بديارنا فوق الثقافة الفرنسية وغيرها من الثقافات الأوربية، فحينًا يجعلونها لغة العلم والتعليم، وحينًا يجعلون البعثات جميعًا إلى بلادهم. وقد أقبلت على ديارنا طائفة من البعوث الدينية الغربية المختلفة، وأسست كثيرًا من المدارس في القاهرة والإسكندرية وغيرهما من عواصم القطر المصري، وكان لها أثرها في حياتنا الثقافية.
وهذه البعوث الدينية كانت أكثر نشاطًا في سوريا ولبنان، سواء منها الكاثوليكية الفرنسية والبروتستانتية الأمريكية، إلا أن الأُولى كان مدى عملها أوسع بفضل اليسوعيين الذين عُنوا باللغة العربية وحياتها الأدبية. وقد أخذت طوائف لبنانية وسورية كثيرة تهاجر إلى مصر منذ عصر إسماعيل؛ فرارًا من ظلم الأتراك، أو سعيًا وراء الرزق، ولم تلبث هذه الطوائف أن شاركت في حياتنا الأدبية عن طريق الصحف مثل: الأهرام، وطريق الكتب والمؤلَّفات والمترجمات.
1 / 18
٢- تياران: عربي وغربي:
يجري في أدبنا منذ القرن الماضي تياران: عربي وغربي، أما التيار العربي فكان يمثله الأزهر وتعليمنا فيه. ومعروف أن الأزهر هو الذي حافظ على تراثنا الإسلامي والعربي أيام محنتنا بالحكم العثماني؛ فإن المدارس المختلفة التي أنشأها الأيوبيون والمماليك أغلقت أبوابها، ولم يعد يضيء في حياتنا العقلية سوى هذه المصابيح الضيئلة التي كانت ترسل من الأزهر نورًا شاحبًا خافتًا.
ولم تكن هذه المصابيح تقتصر على الدين؛ بل كانت تشمل العلوم اللغوية والطبية والفلسفية، وإن كانت العناية بالعلوم الأخيرة ضعيفة؛ بل إن العلوم الدينية نفسها كانت قد تخاذلت وتضاءلت تحت تأثيرا الظلم الذي أرهق به العثمانيون أهل مصر. وكلنا نعرف أن مصر استطاعت قبل الحكم العثماني أن تُسْهم في الحضارة الإسلامية في أثناء العصرين: الفاطمي والأيوبي، وانفردت في أثناء عصر المماليك بالنهوض بتلك الحضارة، واتخذت لذلك طريقًا واضحًا أن تجمع التراث الإسلامي العربي، وتضعه من جديد في كتب كبرى تشبه دوائر المعارف على نحو ما نعرف في صبح الأعشى للقلقشندي، ونهاية الأرب للنويرى، ولسان العرب لابن منظور.
وعلى حين كانت مصر معنيَّة بجمع التراث العربي والمحافظة عليه نزل بها طوفان العثمانيين، فإذا هو يأتي على هذه الجهود العقلية الخصبة؛ بل إنه يصيبها بعطل شديد، فيتوقف في مصر كل شيء، ويعم العقم والجمود، وتتراجع هذه النهضة الذهنية، حتى تصبح شيئًا ضئيلًا جدًّا لا نكاد نتبينه إلا في متون وملخصات يبدئ فيها الأزهريون ويعيدون، وكل ما يستطيعون عمله أن يشرحوها، وقد يشرحون الشرح، وقد يعلقون عليه، وهم بذلك لا يضيفون إلى العلم شيئًا ذا خطر؛ بل لقد عقَّدوا العلم تعقيدًا بكثرة متونهم وشروحهم وتقريراتهم
1 / 19
وتعليقاتهم وما حشدوا فيها من عُقَد وألغاز؛ فقد تحولت العبارات نفسها إلى أحاج مغلقة، وأصبح هَمُّ العلماء أن يحلوا هذه الأحاجي، وحلها لا يضيف علمًا؛ إنما يضيف فسادًا لغويًّا.
وانقطعت الصلة بينهم وبين الكتب العلمية الأولى التي أُلِّفَتْ في العصر العباسي؛ بل التي ألفت في العصر القريب منهم عصر المماليك، فكنت قلما تجد من يعرف شيئًا عن كتب الأئمة مثل الشافعي، أو الفلاسفة مثل الفارابي، أو المفكرين الاجتماعيين مثل ابن خلدون.
لم تعد العلوم شيئًا سوى متون مثل متن المنهج للشيخ زكريا الأنصاري الذي جَمَعَ فيه كل مسائل الفقه الشافعي، وكان الأزهريون إلى قريب من عصرنا يحفظون ما يسمى مجموع المتون، وهو مجموع يُحصي كل أنواع العلم العربي ويحيله جُمَلًا مبهمة في شعر أو نثر للحفظ والتسميع. وكأن العلماء شعروا أنه لم يعد هناك شيء يقال، فهَمُّ الواحد منهم أن يتناول المتن الذي لُخِّص فيه العلم -أو بعبارة أدق: لُغِّز- ليحله، وقد يكتب في الحل شرحًا مبهمًا، ليس في كثير من الأمر خيرًا من المتن، فيعمد عالم آخر إلى حل الشرح بشرح ثانٍ يسمونه حاشية، ويتبين عالم ثالث أو رابع أن شرح الشرح ليس كافيًا فيعمد إلى التعليق عليه بما يسمى تقريرًا.
وبهذا أصبح العلم العربي الذي كان يملأ المجلدات الضخمة شيئًا ضئيلًا جدًّا لا يتجاوز صفحات معدودة، وران على الحياة العقلية ضَرْبٌ من الجمود الشديد، وأصبح لا بد من هزة عنيفة لتعيد إلى ينابيع حياتنا العقلية دوراتها الأولى.
ولم تكن حياتنا الأدبية خيرًا من حياتنا العقلية؛ فقد وقف النشاط الذي كنا نراه في عصر المماليك وقبله، والذي كان يتيح لنا بعض الأزهار الفنية، فنجد عندها بعض المتاع وبعض الراحة؛ إذ لم تعد مصر تحت تأثير العثمانيين وما أشاعوا فيها من فساد في النظم السياسية والاجتماعية صالحة لأن تخرج أزهارًا أو ما يشبه الأزهار، فقد غلوها وغلوا أدباءها، وحالوا بينهم وبين حرياتهم الفردية، كما حالوا بينهم وبين الرخاء المادي؛ فانهارت حياتهم، أو بعبارة أخرى:
1 / 20
انهارت حياتنا الأدبية كما انهارت حياتنا العقلية، وأصبحتَ لا تجد كاتبًا ولا شاعرًا تستطيع أن تقرأ له شيئا يلذ عقلك أو يلذ روحك. وعلى نحو ما أصبحت حياتنا العقلية تلخيصًا للتراث الماضي، وإفسادًا له، أصبحت كذلك حياتنا الأدبية تلخيصًا؛ بل تقليدًا مملًّا لبعض القصائد القديمة، يحاكيها الشعراء ويتناولونها بالتخميس والتسبيع أو التشطير، ولا يضيفون إلى ذلك إلا عُقدًا من البديع المتكلَّف الممقوت، وكأن الغرض من القصيدة تطبيق أنواع البديع لا أكثر ولا أقل. ومن المستحيل أن تجد في أثناء ذلك عاطفة أو شعورًا حقيقيًّا. وبالمثل أصبحت الكتابة شيئًا سقيمًا، أصبحت سجعًا ولكنه سجع ضعيف ركيك، لا يؤدي شيئًا سوى ألوان البيان والبديع المعقدة.
وفي هذا الوقت الذي قُضِيَ فيه على حياتنا العقلية والأدبية بالخمود والركود، قُضِيَ على أوربا أو قُدِّر لها حياة عقلية وأدبية نشيطة، وهي حياة تناولت مناحي الفكر الإنساني جميعه من علم وفلسفة وأدب.
واستعانت أوربا أول الأمر بالتراث اليوناني، فتطورت حياتها الفكرية تحت تأثير هذا التراث الوثني القديم، ونشأ حينئذ صراع هائل بين الأدبين: المسيحي والوثني، وظهرت حركات البروتستانت، وأخذت أوربا طريقها إلى إحداث آدابها الحديثة. وعلى نحو ما كشفت الآثار اليونانية والرومانية كشفت أمريكا، وأخذت في استغلالها على نحو ما استغلت تلك الآثار.
وأخذت تندفع في حركتها العلمية، وتكتشف القوانين الطبيعية وغير الطبيعية التي تسيطر على الحياة والناس، مستشعرة ضروبًا واسعة من الحرية العقلية. وكان من أهم مميزات هذه الحرية نقد كل شيء من دين وغير دين. وقد نقدوا الفلسفة القديمة، وأسسوا لأنفسهم فلسفة حديثة أقامها لهم ديكارت على أسس علمية، ثم تطوروا بها نحو التجريد ونحو الطبيعة والعلم الوضعي؛ بل نحو الإنسانية بمعناها الواسع. وكل ذلك دون أن يقطعوا صلتهم بفلسفة اليونان وتشريع الرومان.
وعلى نحو ما تطوروا بحياتهم العقلية تطوروا بحياتهم الأدبية، فاستحدثوا
1 / 21
لأنفسهم بتأثير التراث اليوناني والروماني أدبًا جديدًا يخالف أدبهم في العصور الوسطى، وكانوا في أول الأمر يقلدون الآثار اليونانية واللاتينية، ثم أخذوا يستقلون في حياتهم الأدبية كما استقلوا في حياتهم العقلية، وإذا هم يحدثون آثارًا رائعة لا تقل روعة وبراعة عن الآثار القديمة عند شعراء التمثيل من الإغريق، وعند هوميروس اليوناني وفرجيل الروماني.
وكان ذلك جميعه ثورات عقلية وأدبية لم تلبث أن عاونتها ثورات دينية وأخرى سياسية واجتماعية على نحو ما هو معروف في الثورة الفرنسية.
ولما نزلت بمصر حملة بونابرت تنبَّه المصريون إلى أن وراء حياتهم حياة أخرى في أوربا، وأنه حري بهم أن يفقهوا هذه الحياة الجديدة حتى يتسلحوا لأهلها بمثل سلاحهم. ومن المؤكد أن الفترة القليلة التي قضتها الحملة الفرنسية بمصر لم تتح لنا تأثرًا بالحضارة الأوربية للفوارق الواسعة بين حضارتنا الأوربيين؛ ولكن من المؤكد أيضًا أننا أخذنا بعد خروج الحملة من ديارنا نتجه إلى أوربا، ونحاول أن نفيد منها في الحياة العقلية والأدبية، فقد أدارت مصر وجهها إلى الشمال، وأخذت تفتح أنهارها الذهنية والفكرية لاستقبال جداول الحياة العقلية الأوربية.
وتصادف أن اجتمع مع هذه الرغبة في نفوس المصريين رغبة محمد علي في أن يُعِدَّ جيشًا على نمط جيوش الدول الأوربية الكبرى، ورأى أنه لا يستطيع أن يعد هذا الجيش إعدادًا حسنًا إلا إذا أنشأ له المدارس، واستقدم له أساتذة أوربيين يعلمونه في هذه المدارس، ويزودونه بما يحتاج إليه من وسائل، فأنشأ المدرسة الحربية، وأنشأ لها معاهد صناعية وطبية، وأخذ في تأسيس مدارس ابتدائية وثانوية.
ومنذ هذا التاريخ وُجِدَ في مصر نوعان من الحياة العقلية: نوع تقليدي محافظ في الأزهر، وهو نفس هذا النوع الذي وصفناه آنفا بما فيه من قصور وجفاف، ونوع مدني أوربي يعتمد اعتمادًا على الحضارة الأوربية وما عرف الأوربيون من علم لم يسبق للمصريين أن علموه أو عرفوه.
وهنا نلاحظ أشياء: فأولًا: انتقلت إلينا في هذا التعليم المدني الحياة العلمية
1 / 22
الأوربية، وما يتصل بها من حياة عملية وفنية تطبيقية. وثانيًا: لم تنتقل إلينا في هذا التعليم طوال النصف الأول من القرن الماضي الحياة الأدبية الأوربية؛ لأن والي مصر لم يكن يُعْنَى بها، فلم يَبْدُ لها أي أثر في شعرنا ونثرنا.
وقد يرجع ذلك إلى طبيعة النوعين من العلم والأدب؛ فإن العلم من السهل نقله ونقل قوانينه وقضاياه، أما الأدب فمن الصعب أن ينقل أو أن تفيد منه أمة، إلا إذا وضحت بينها وبين الأمم التي تنقل عنها علاقات أدبية تساعد على النقل وأن تتبادل معها آدابها التي تعبر عن روحها وبيئتها ومزاجها وذوقها؛ إذ الآداب تخضع لهذه العناصر كلها خضوعًا شديدًا، ومن هنا كان عسيرًا أن يتذوق المصري مع نهضته العلمية حينئذ الأدبَ الغربي وأن يصدر عنه في أدبه، فذلك يحتاج إلى آماد وجهود أوسع، ولا بد أن نتأنَّى حتى تصطبغ طبقة من المصريين بالأدب الغربي والروح الغربية، أو حتى تصطبغ حياتنا نفسها بهذا الأدب وتلك الروح.
ولم تنتظر مصر طويلًا؛ فقد عُنِيَ محمد علي منذ سنة ١٨٢٦ للميلاد بإرسال البعوث الكبيرة، فاختلطت طائفة من الشباب المصري -على رأسها رفاعة الطهطاوي- بحياة الغربيين، وأخذت تقرأ هناك في الأدب الغربي، وتفيد وتجتني اللذة الفنية الخالصة.
وعاد رفاعة فشارك في حركة الترجمة العلمية التي أوجدتها الضرورة المدرسية؛ حتى يعرف المصريون العلم الأوربي. ثم أنشأ محمد علي مدرسة الألسن؛ لتخدم هذه الحاجة، وعيَّن رفاعة ناظرًا لها، ولم يلبث أن تأسس قلم للترجمة سنة ١٨٤٢، وتولى رفاعة رياسته.
ولكن هذا كله كان في سبيل خدمة التيار العلمي الغربي، ولم تؤثِ الثمرة المرجوة من البعوث أكلها في ميادين الأدب والحياة الأدبية؛ بل ظلت مصر طوال النصف الأول من القرن الماضي لا تُعْنَى إلا بالعلم الأوربي، سواء فيما تدرس وفيما تترجم؛ بل لقد استمرت على ذلك طوال عصر سعيد.
ولم يأتِ عصر إسماعيل حتى خطت مصر خطوات واسعة نحو الامتزاج
1 / 23
بالحضارة الأوربية، وأخذ كل شيء فيها يصبطغ صبغة حقيقية بتلك الحضارة، فمن ناحية السياسة والتشريع أخذتْ مصر بنظام نيابي وقضائي مشبه للنظام الفرنسي، ومن ناحية التعليم أنشئت المدارس العالية المختلفة، وتأسَّس كثير من المدارس الابتدائية والثانوية، كما تأسست مدرسة للبنات، فالتعليم أصبح غاية لنفسه، ولم يعد يراد به الجيش؛ وإنما أصبح يراد به الشعب. وأخذت مصر في تحضر واسع؛ فتأسست الأوبرا، وأنشأ يعقوب صنوع فرقة ثمثيلية كان يترجم لها، ويؤلف تمثيليات مختلفة، وهي إن تكن بالعامية فإنها تدل على أن مصر أخذت في التحول؛ بل أخذت تبدأ دورة حضارية جديدة.
واشتد الاتصال بيننا وبين أوربا منذ فُتحت قناة السويس، فالأوربيون يفدون على مصر يؤسسون بها الشركات والمصارف، ونحن نكثر من البعوث إلى أوربا لنطلع على ثقافات القوم الكبرى التي مكنتهم من السيطرة على الحياة والمتعة بها، ويعود المبعوثون إلينا وقد حملوا لنا أزوادًا من الحضارة الأوربية.
وأحسَّ القائمون على الثقافة والتعليم أن الأزهر في عزلة عن هذه الحركة، وأنه لا يقوم بواجبه في تعليم اللغة العربية وتبسيطها وعرض آثارها عرضًا حسنًا على هذا الشباب المدني، فقد أصاب لغتنا فيه من الجمود ما جعلها غير صالحة لتتحمل أعباء هذه الثقافة الأوربية من ترجمة وتأليف. فأنشأ علي مبارك مدرسة دار العلوم؛ لتنهض في تعليم لغتنا بما لم يستطع الأزهر النهوض به.
فإنشاءُ دار العلوم إنما هو رمز إلى ما كانت تبتغيه مصر حينئذ من المزاوجة بين الآداب الأوربية والآداب العربية، فإنها حين رأت قصور آدابنا عن تأدية آثار الفكر والشعور الغربيين أداء واضحًا صريحًا بسبب ما علق بها من أعشاب السجع والبديع انبرت تُغيِّر الوسائل التعليمية لتلك الآداب، وأنشأت هذه المدرسة التي نهضت بتعليم لغتنا وتبسيطها حتى تستطيع أن تحمل آثار الغرب الرائعة في العلم والأدب.
وكان ما قدمنا سببًا في أن نتهيأ حقًّا للتأثر بالآداب الغربية، فمن جهة أخذنا نمرن لغتنا على أن تفي بما نريد التعبير عنه من ألوان الفكر وصور الشعور،
1 / 24