सिकद मुफस्सल
العقد المفصل في قبيلة المجد المؤثل
ومن لطيف التعريض ما ذكره عبد الله بن سوار قال: كنّا على مائدة إسحاق بن عيسى بن علي الهاشمي فأتينا بخزيرة - والخزيرة شبه عصيدة بلحم وبلا لحم عصيدة - فقال: إنّها قد عملت بالسكّر والسمن والدقيق. فقال المعدّ بن عيلان العبدي: يا حبّذا السخينة! ما أكلت أيّها الأمير سخينة ألذّ من هذه. فقال: إلاّ أنّها تولد الرياح في الجوف كثيرًا. قال: ولا هكذا، إنّ المعائب لا تذكر على الخوان.
أراد المعدّ ما كانت العرب تعير به قريشًا في الجاهليّة من أكل السخينة، وأراد إسحاق بن عيسى ما تعير به عبد القيس من الفسو، قال الشاعر:
وعبد القيس مصفرٌّ لحاها ... كأنّ فسائها قطع الضباب
قال المبرّد: وقد يسير البيت في واحد ويرى أثره عليه أبدًا كقول أبي العتاهية في عبد الله بن معن بن زائدة:
فما تصنع بالسيف ... إذا لم تك قتّالا
فكسّر حلية السيف ... وصغها لك خلخالا
وكان عبد الله إذا تقلّد سيفًا ورأى من يرمقه بان أثره عليه فظهر الخجل منه.
ومثل ذلك ما يحكى أنّ جريرًا قال: والله لقد قلت في بني ثعلب بيتًا لو طعنوا بالرماح بعدها في أستاهم لما حكوا، وذلك قولي:
والثعلبي إذا تنحنح للقرى ... حكّ استه وتمثّل الأمثالا
وحكى أبو عبيدة عن يونس قال: قال عبد الملك بن مروان يومًا وعنده رجال: هل تعلمون أهل بيت قيل فيهم شعرًا ودّوا أنّهم افتدوا منه بأموالهم؟ فقال أسماء بن خارجة الفزاري: نحن يا أمير المؤمنين. قال: وما هو؟ قال: قول الحارث بن ظالم المزني:
وما قومي بثعلبة ابن سعد ... ولا بفزارة الشعر الرقابا
فوالله يا أمير المؤمنين! إنّي لألبس العمامة الصفيقة فيخيّل لي أنّ شعر قفاي قد بدا منها.
وقال هاني بن قبيصة النميري: ونحن يا أمير المؤمنين. قال: ما هو؟ قال: قال جرير:
إذا الله عادى أهل لوم وقلّة ... فعادى بني العجلان رهط ابن مقتل
قبيلته لا يغدرون بذمّة ... ولا يظلمون النّاس حبّة خردل
ولا يردون الماء إلاّ عشيّةً ... إذا صدر الوارد عن كلّ منهل
وما سمّي العجلان إلاّ لقوله ... خذا القعب واحلب أيّها العبد واعجل
فكان الرجل منهم إذا سُئل يقول: من بني كعب.
وكان عبد الملك بن عمير القاضي يقول: والله إنّ التنحنح والسعال يأخذاني وأنا في الخلا فأردّه حياءً من قول القائل:
إذا ذات دلّ كلّمته لحاجة ... فهمَّ بأن يقضى تنحنح أوسل
ولا غرو فلقد كان البيت من الشعر يضع الشريف ويرفع الوضيع، كما وضع من بني نمير قول جرير:
فغضّ الطرف إنّك من نمير ... فلا كعبًا بلغت ولا كلابا
وكما رفع من بني أنف الناقة قول الحطيئة:
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ... ومن يسوّي بأنف الناقة الذنبا
فأمّا قول جرير: فغضّ الطرف إنّك من نمير الخ فقد لقيت نمير من هذا البيت ما لقيت، وجعلهم الشاعر مثلًا فيمن وضعه الهجاء إذ قال وهو يهجو قومًا من العرب:
وسوف يزيدكم ضعةً هجاء ... كما وضع الهجاء بني نمير
ونمير قبيل شريف وقد ثلم شرفهم هذا البيت.
ومن التعريضات اللطيفة أيضًا ما روي أنّ المفضّل بن محمّد الضبي بعث بأضحية هزبلة إلى شاعر، فلمّا لقيه سأله عنها فقال: كانت قليلة الدم، فضحك المفضّل وقال: مهلًا يا أبا فلان، أراد الشاعر قول القائل:
ولو ذبح الضبي بالسيف لم تجد ... من اللؤم للضبي لحمًا ولا دما
وكانت فزارة تعير بأكل جردان الحمار، لأنّ رجلًا منهم كان في سفر فجاع فاستطعم قومًا فدفعوا إليه جردان الحمار - والجردان بالضم قضيب الفرس وغيره، كذا في الصحاح - فشواه وأكله، فأكثرت الشعراء ذكرهم بذلك، قال الفرزدق:
جهّز إذا كنت مرتادًا ومنتجعا ... إلى فزارة عيرًا تحمل الكمرا
إنّ الفزاري لو يعمي فيطعمه ... أير الحمار طبيب أبرأ البصر
وذكر أبو عبيدة أنّ إنسانًا قال لأسماء بن خارجة الفزاري: إقض ديني أيّها الأمير فإنّ عَلَيّ دينًا. قال: مالك عندي إلاّ ما ضرب به الحمار بطنه. فقال عبيد بن أبي محجن: بارك الله لكم يا بني فزارة في أير الحمار؛ إن جعتم أكلتموه، وإن أصابكم غرم قضيتموه به.
1 / 135