شخصيات المسرحية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
شخصيات المسرحية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
العبرة بالخواتيم
العبرة بالخواتيم
تأليف
ويليام شكسبير
ترجمة
عباس حافظ
موضوع القصة ومن أين اقتبسها شكسبير
بقلم عباس حافظ
استقى شكسبير موضوع هذه القصة من الأديب الإيطالي بوكاشيو، الذي ألف قصة «ديكاميرون»، وأجراها على نسق كتاب «ألف ليلة وليلة»، وجعلها نوادر تقص تباعا يوما بعد آخر. وفي اليوم الثالث يحكي المؤلف القصة التاسعة، وتكاد في جملتها وجوهرها تماثل مسرحية شكسبير.
وقد اقتبسها الشاعر من ترجمة لبوكاشيو، أصدرها «وليم بينتر» في عام 1566، مع قصص أخرى، جعل عنوانها «قصر اللذات».
وفيما يلي خلاصة القصة كما كتبها بوكاشيو:
كان «إيزناردو» كونت روسيليون، أحد أشراف فرنسا، رجلا اصطلحت العلل عليه، فدعا إليه طبيبا يدعى «جيرادودي ناربونا» ليلازمه ويشرف على تطبيبه. وكان له ولد لم ينجب سواه، فنشأ الغلام وترعرع بجانب ابنة الطبيب: وهي «جيليتا»، فأحبته الصبية ولكنها لم تكاشفه، بل كتمت حبها في صدرها؛ إذ أدركت الفارق الاجتماعي الكبير بينها وبين الأمير الصغير.
وقضى الكونت نحبه، فأصبح ابنه في رعاية ملك فرنسا، بحكم التقاليد؛ إذ كان أبناء الأشراف حين يموت آباؤهم، وهم بعد في سن الحداثة أو مطالع الصبا، يوضعون في حماية الملك ورعايته. فانتقل الفتى إلى باريس ليقيم في البلاط، ولم تستطع «جيليتا» أن تتبعه، ولكنها علمت أن الملك يشكو من «خراج» أليم في الصدر عجز الأطباء عن إبرائه منه، فانتوت الفتاة الاستعانة بوصفة دواء كان أبوها قد تركها من بعده، على علاج الملك من علته. فسافرت إلى باريس، وتمكنت من المثول بين يديه، وإقناعه بتجربة دوائها، فإذا برئ من المرض، كافأها، على جهدها. وقد اشترطت أن يأذن لها في اختيار زوج لها من بين الأمراء الشباب في حاشيته، فرضي الملك ووعدها إذا برئ من علته أن يكون لها ما طلبت.
وقد شفي الملك حقا، وبر الملك بوعده، فدعا إليه الشباب، واختارت «جيليتا» فتاها من بينهم، فغضب «بلترامو» - الكونت الصغير - واستعفى، ولكن الملك أصر على أن تكون له زوجا، فلم يجسر على مخالفة أمره.
ولم يكد يتم الاحتفال بالقران، حتى لاذ الشاب بالفرار إلى «تسكانيا» ليحارب في صف دوق فلورنسا، وكان في قتال حيال أهل مدينة إيطالية أخرى تدعى «سيينا»، بينما رجعت «جيليتا» إلى قصر «روسيليون» حيث استقبلت استقبال «الكونتة» الصغيرة، وعكفت على إدارة ضياع زوجها بحكمة بالغة حتى ظفرت بقلوب الزراع، واكتسبت إعجابهم وبعثت برسولين إلى «بلترامو» ترجو إليه أن يعود، فرد عليها مع الرسولين قائلا: «لتفعل ما تشاء لأني لن أعاشرها حتى تلبس هذا الخاتم في إصبعها، وتحمل بين ذراعيها ولدا تلده مني ...».
واشتد بها الأسى حين عرفت هذين الشرطين، واعتزمت أن تقضي بقية العمر بتولا ناسكة. ثم تزيت بزي الحجاج، وشخصت إلى فلورنسا، حيث عرفت أن «بلترامو» يحب فتاة فقيرة ولكنها طاهرة الجيث عفة، وتقيم مع أمها في المدينة. فذهبت إليهما وقصت عليهما القصص، ووعدت الفتاة مهرا سخيا إذا هي وأمها قبلتا ما هي عارضة عليهما قائلة: «أريد أن توفدا رسولا موثوقا به إلى الكونت لينبئه أن الفتاة تحت أمره، وأنها لكي تستوثق من أنه يحبها دون سواها ترجو أن يرسل إليها خاتما لتلبسه في إصبعها، وهو خاتم سمعت بأنه شديد الاعتزاز به، فإذا أرسله إليها، أخذته أنا منها، وتتولى هي إرسال كتاب إليه تقول فيه إنها لا تتردد في النزول على مشيئته، وتعين له في فحمة الليل موعدا للخلوة بها، فإذا جاء حللت أنا محلها. ومن يدري لعل الله مقبض لي ولدا منه، فيتم ما اشترطه، وهو الخاتم في إصبعي، والولد بين ذراعي، ولعلي بهذا مستردة زوجي بفضلكما ...».
ولكن والدة الفتاة ترددت في بداية الأمر متكرهة، ثم ما لبثت أن أقبلت الفكرة، وحقق الله للزوجة المقصية سؤالها، فولدت منه ولدين، وتكررت الخلوات على الأيام وهو في كل مرة لا يدري أنها زوجه، بل يحسبها المرأة التي أحبها.
وعلم الكونت «بلترامو» أن زوجه قد غادرت قصر أبويه فعاد إليه، في حين لبثت «جيليتا» مقيمة في فلورنسا حتى وضعت «توأميها»، فعادت وهي لا تزال في زي الحجيج إلى القصر في وقت كان الكونت يقيم فيه وليمة كبيرة، فدخلت إلى البهو، وتقدمت نحوه، فجاءت عند قدميه وشرحت له كيف نفذت شرطيه وانثنت قائلة: والآن فلترتضيني لك زوجا إن كنت لوعدك منجزا ...
وروت له ما جرى، فبهت مما سمع، وتأثر بما علم، وأقبل عليها معانقا راضيا.
وقد ختم بوكاشيو القصة بهذه الكلمات: «ومن ذلك اليوم أحبها وكرمها تكريم زوج لزوجة عزيزة وفية ...».
براعة شكسبير في صياغة القصة والزيادة عليها
ويقول الثقات: إن القصة، كما بدت في ترجمة «وليم بينتر»، لم تكن بارعة في التأدية، ولا رائعة من حيث الأسلوب، ولكن شكسبير التزم حوادثها من حيث هي، ومضى يتوسع في مشاهدها، ويدخل عليها أشخاصا من براعة ابتكاره، وحسن تأديته، وجمال شعره، وروعة حكمته: كشخصية «الكونتة» أم برترام، والأمير الشيخ «لافيه» الثرثار، و«لاهاش» المضحك المهذار، و«بارولس» الجبان الكذاب. فكانت هذه الزيادات التي «طعم» بها شكسبير القصة، تطعيم البستاني الثمار والعيدان والأزهار، أحلى شخصياتها، وأعذب مشاهدها، وأبدع أجزائها المليئة بالحكمة والكلمات الجوامع التي ذهبت مذهب الأمثال.
وقد وضع الشاعر هذه القصة، فيما يقول الرواة، خلال الفترة بين عامي 1958و1608، وهي الفترة التي دخلت فيها عبقريته دور النضوج، وأخرج خلالها طائفة من خيرة رواياته، وروائع آياته، وأكبر الظن أنه كان يريد بها أن تكون أختا لقصة «خاب معي العشاق»، حتى لقد سماها في بداية الأمر: «أفلح معي العشاق»، وإن كانت هذه أرفع من تلك إنتاجا، وأسمى مرتبة، ولا يدري أحد ما الذي حمله فيما بعد على تغيير عنوانها، وإن كان المرجح أنه وجد في عنوانها الحالي مثلا سائرا في أيامه، فاعتقد أنه أرعى للأنظار وأجلب للشهرة، فاختاره.
وقد رأيناه يجعل المحور الجدي في هذه الرواية «الفكهة»، يدور حول «هيلين» التي كرهها زوجها من ساعة قرانه بها، ترفعا عنها، وتساميا بمكانه الرفيع عن مكانتها، فاحتملت مرارة الخيبة. وما زالت بلطف حيلتها، وفضل ذكائها وفطنتها، حتى استعادته في النهاية، فكانت العبرة بالخواتيم كما آثرنا أن ندعو القصة بهذا العنوان.
وقد أراد شكسبير في تصويره لشخصية هيلين على هذا النحو أن يدلل على أن حب المرأة وصبرها ينتصران في النهاية على سوء استغلال الرجل لقوته وسلطانه. وإن شهدنا قصصا أخرى لا عداد لها، تذهب غير هذا المذهب، فتصور المرأة في صورة الماكرة، الخداعة، الخلية من الثبات والصبر والوفاء.
وكان خيرا لشكسبير أن ينسب ذلك الحوار الطويل الذي دار بين «بارولس» في الفصل الأول وبين هيلين عن «العذرة» واستمساك العذارى بعفافهن، وترددهن في أمر الزواج، إلى شخصية أخرى غير ذلك «الماجن» الكذوب الدعي. ولكنه مع هذا ضمنه كلاما بديعا، ومجونا بارعا، وفلسفة فكهة، ترضي السامعين والقارئين؛ وإن رأى بعض النقاد أنه كان أولى بحذف المشهد من الرواية بجملته.
أما شخصية الأم - وهي الكونتة العجوز - فقد أجاد الشاعر في رسمها أبلغ الإجادة، وقد رأيناه في أكثر من قصة يضفي على الأمهات وأمثالهن لونا من الوقار يأخذ بالألباب، ولا يجعل الفتنة والإعجاب وقفا على الغواني والشواب الحسان. وإن نصائح هذه الأم الرءوم لابنها قبل انتقاله إلى البلاط، لهي - على إيجازها - أدنى من حيث الحكمة والروعة إلى حديث الحكيم بولونيوس مع «لايرت» في قصة «هملت».
ويبدو الملك في روايتنا هذه مع مرضه فيلسوفا، صادق النظرة؛ فإن الحوار الذي دار بينه وبين الشاب «برترام» بسبيل اعتزازه برفعة المنبت، وعراقة المحتد، قطعة ملأى بالقوة وأصالة الرأي.
أما شخصية «بارولس»، فهي صورة فذة منقطعة النظير؛ فقد صوره الشاعر، رقيعا، كذابا، رعديدا، مدعيا ما ليس فيه، حتى ليستثير منا الرثاء له حين يفتضح أمره، وتنكشف خليقته، على فرط هذه المعايب التي تجتمع فيه، وتنتزع منا الضحك والسخرية منه، وحين يصفه الأمير الشيخ الماجن «لافيه» بقوله: «لا يمكن أن تكون في هذه البندقة حبة، فإن كل روحه هي ثيابه».
ولسنا ننسى شخصية «المهذار» في هذه القصة، فهو ناحية بمفردها من نواحيها الفكهة، ولا سيما حين يقول: «إن لديه جوابا يصلح لكل الأسئلة»، وحين ينطلق في نكاته البارعة، وتورياته المتقنة، ومجونه البديع.
وعند تقدير مفاتن هذه المسرحية، لا يصح أن نغفل الإشارة إلى ذلك المشهد الفاتن الذي يخلو فيه الشاب النبيل «برترام» بالفتاة «ديانا»؛ لإغرائها بالاستجابة إلى غزله، والاستماع إلى نداء شهوته. ولا نحسب ثمة مقالا في طهارة العذارى، والحرص على العرض والحفاظ، أروع ولا أبلغ من مقالها وهي تحاجه وتأبى مطاوعة رغبته. ولا نعتقد أن هناك نصيحة إلى الفتيات الحسان، والعذارى المليحات، أسدى ولا أحجى مما جرى على شفتيها، حتى ليتجاوز في جلاله كل ما كتبه الفلاسفة أو قاله الحكماء.
لقد كان شكسبير في جملة رواياته «معلم أخلاق»، فمن قرأه بغير نظر إلى هذه المزية فيه، لم ينتفع به، وفاته «المفتاح» الذي يفتح له الطريق إلى مغاليق هذه الحكمة المستترة في هزله ودعايته.
وقد لا تخلو هذه القصص الروائع من عبارات «مكشوفة» أو أفكار جافية، ولكن لا يستطيع أحد أن يعثر خلالهن على «مبادئ» خاطئة، أو نظرات تصطدم بكرائم الأخلاق ...».
شخصيات المسرحية
ملك فرنسا.
دوق فلورنسا.
برترام كونت رسيون.
لافيه:
لورد متقدم في السن.
بارولس تابع لبرترام.
رئيس الخدم في قصر الكونتسة روسيون.
مهرج.
السيد ج. ديمان.
السيد ب. ديمان.
وصيف.
الكونتسة روسيون:
أم برترام.
هيلين:
فتاة في رعاية الكونتسة.
أرملة عجوز:
فلورنسا.
ديانا:
ابنتها.
فيولنتا وماريانا:
من جيران الأرملة وصديقاتها.
الفصل الأول
المشهد الأول
روسيون - حجرة في قصر الكونتسة (يدخل برترام والكونتسة روسيون، وهيلين، ولافيه. وهم جميعا في ثياب الحدود.)
الكونتسة :
إنني بانتزاع ولدي مني - أدفن زوجا ثانيا.
برترام :
وأنا يا سيدتي بذهابي أبكي أبي مرة أخرى، ولكن يجب أن أمتثل لأمر جلالته؛ لأنني الآن تحت وصايته، بل أكثر من ذلك في خضوع لمشيئته.
1
لافيه :
ستجدين في الملك يا سيدتي زوجا، وأنت يا سيدي واجد فيه أبا. فمن كان مثله خيرا مكرما للناس أبدا، لا بد مظهر فضله نحوك، مكرم بالضرورة لك. وكونك العلا لهذا يدعو إلى تكريمك حتى من كان من الفضل خليا، فكيف وهو كثير الأفضال موفور المحامد والخلال.
الكونتسة :
وهل من أمل في برء جلالته ...
لافيه :
لقد يئس أطباؤه يا سيدتي، بعد أن بدد بالأمل الزمان، تحت علاجهم، ولم يجد منه نفعا، غير فقدان الأمل على الأيام.
2
الكونتسة :
لقد «كان» لهذه السيدة أب - أواه، من كلمة «كان» هذه. ما أقسى ذلك الحادث، وكانت براعة طبه تكاد في عظمتها تبلغ مبلغ صدقه ونزاهته، ولو امتد الأجل بها إلى أيامنا، لجعلت الطبيعة البشرية متأبية على الفناء، ولذهب الموت يرتع ويلعب، لتبطله من العمل وفراغه، ليته من أجل الملك كان حيا! ولو كان لكان في حياته في أغلب ظني، موت مرض الملك وهلك علته.
لافيه :
وماذا كان اسم الرجل الذي تتحدثين عنه يا سيدتي ...
الكونتسة :
لقد كان علما يا سيدي في مهنته، وله الحق كل الحق في أن ينال ما نال من الشهرة، لقد كان يدعى «جيرار دي ناريون».
لافيه :
لقد كان في الحق رجلا ممتازا، وقد ذكره الملك من عهد قريب بإعجاب به، وأسى عليه، ولو استطاع العلم أن يغالب الموت، لكانت براعته كافية لأن يبقى حيا أبد الدهر.
برترام :
ومم يشكو الملك وتذوى صحته يا سيدي الكريم ...
لافيه :
وددت أنك لم تسمع به الآن أو تعرفه، هذه السيدة ابنة جيرار دي ناريون.
الكونتسة :
وحيدته يا سيدي، وقد عهد بها إلى عنايتي، وإن تربيتها لتبشر بالخير الذي أرجوه لها، إن الميول والمنازع التي ورثتها لتجعل مواهبها الجميلة أكثر جمالا وبهاء، وتبدي السجايا الحسان أشد حسنا ورواء، وحيث يحمل العقل الخلي من النقاء، فضائل وحسن خلال، تكن المدائح أسفا لها ورثاء، وهي في هذه الحقائق تكون فضائل، وسجايا حسنة، وهي أيضا غوادر وخونة، أما عندها، فإن بساطة فضائلها، تزيدها فضلا، لقد ورثت الوفاء، واكتسبت بنفسها الطيبة.
لافيه :
إن مديحك يا سيدتي يسيل دموعها.
الكونتسة :
إن الدموع لهي خير ملح «تتبل» به العذراء المديح الموجه إليها، إن ذكرى أبيها لا تكاد تقترب من قلبها، حتى تستبد بها الأحزان فتنزع كل سمات الحياة من خديها. حسبك يا هيلين وكفى دمعا، لئلا يظن أنك تتصنعين الحزن تصنعا، لا أنك.
هيلين :
إني، حقا، أظهر الحزن ولكنني أكنه أيضا.
لافيه :
إن الحزن المعتدل حق للموتى، ولكن الأسى المفرط عدو للأحياء.
الكونتسة :
وإذا كان الأحياء للحزن أعداء، فإن الإفراط فيه لا يلبث أن يودي بالحياة.
برترام :
سيدتي، أتمنى دعواتك الطاهرة.
لافيه :
كيف نفهم هذا.
3
الكونتسة :
بوركت يا برترام، ولتخلف أباك خلقا وفضلا، كما خلفته صورة وشكلا، إن الدم الذي يجري في أعراقك، والفضيلة التي تزين أخلاقك، تتنازعان السلطان عليك، وطيبتك تتفق مع ما ورثته بمولدك، أحبب الجميع، ولا تثق إلا بالقليل، ولا تظلم أحدا ... ولتكن لك مثل قدرة عدوك، ولكن اجعل قدرتك عليه بأسا وسلطانا، ولا تستخدمها في إيذائه، وصن صديقك واحرص عليه، بقفل حياتك ومفتاحها، ولأن تعاب على الصمت، خير لك من أن تعاب على الكلام، وليكن لك ما تشاء السماء من زيادة في الفضل، وما في دعواتي من قطوف الأمل، وداعا يا سيدي، إنه سيكون في بلاط الملك غير مجرب فكن له ناصحا.
لافيه :
لن يعوزه خير ما يسديه الحب من نصح.
الكونتسة :
ليباركه الله ... وداعا يا برترام. (تخرج الكونتسة.)
برترام (لهيلين) :
لتكن أطيب ما في خاطرك من أماني، سعاة في خدمتك أرعى أمي مولاتك، وزيديها منك ولاء.
لافيه :
وداعا أيتها الغادة الحسناء، وصوني لأبيك الفضل وحسن الثناء. (يخرجان.)
هيلين (وحدها) :
لو كان هذا كل ما هنالك لما فكرت في أبي، وإن هذه العبرات الغزار لتزيد ذكراه جلالا، أكثر مما ذرفت من قبل من عبرات، ترى كيف كان سمته؟ وكيف كانت صورته، لست أدري فقد نسيته، ولم يعد في خيالي شيء من ملامحه، بل كل ما بقي فيه هو صورة برترام ... الويل ويلي، لا حياة لي، وبرترام بعيد عني، إن حبي إياه كحبي نجما متلألئا، إن علي أن أقنع بمشهد سنائه وخاطف ضيائه، دون المقام في أفقه والعيش في نوره الساطع، إن ما في حبي من طموح لهو سبب ما ألاقيه في هذا الحب من بلاء، فالغزالة التي تطمع أن تقترن بالليث، يقتلها حتما هذا الحب، وكان جميلا، وإن بدا أليما، أن أشهده في كل ساعة ، وأن أجلس فأنقش حاجبيه المقوسين وعينه الحديدة، كعين الصقر، وغدائره، على صفحة الفكر، ولوح القلب، ذلك القلب القدير على تصوير كل معالم محياه، ورسم كل فتنة من عذوبة حسنه، وها هو ذا الآن قد ذهب، وعن العين احتجب، فليقدس خيالي الوثني العابد، وخاطري الراكع الساجد، صوره وآثاره، أشد التقديس ... من هذا القادم؟ (يدخل بارولس.) (لنفسها)
أحد الذين سيرافقونه، إنني أحبه لأجل خاطره، وإن كنت أعرفه كذابا مشهورا بكذبه، وأحسبه مهذارا إلى حد كبير، وجبانا من كل نواحيه، وإن كانت هذه المساوئ هي جزء من كيانه، حتى لتبدو طبيعية فيه، وعلى حين يبدو التزمت في الفضيلة رياء ونفاقا، وكثيرا ما نشهد العاقل الرقيق الحال في خدمة الأحمق الظاهر الحماقة.
بارولس :
سلام لك أيتها الملكة الحسناء.
هيلين :
سلام عليك أيها الملك.
4
بارولس :
لا ...
هيلين :
ولا مثلها.
بارولس :
هل تعتزمين أن تبقي عذراء بلا زواج.
هيلين :
أجل - إن فيك شيئا من صبغة الجندي ولونه، فدعني أسألك إن الرجل عدو للعذرة، فكيف نحصنها من شره.
بارولس :
بإبعاده.
هيلين :
ولكنه أبدا مهاجم. وعذرتنا على شجاعتها، ضعيفة في الدفاع عن ذاتها، فهلا كشفت لنا عن شيء من وسائل المقاومة القوية.
بارولس :
ليس ثمة وسائل، إن الرجل منا ليرابط قبالتكن، فيقوض كيانكن وينسفكن نسفا.
هيلين :
حمى الله عذرتنا المسكينة من المقوضين والناسفين، أليس ثمة سياسة حربية مرسومة، تمكن العذارى من نسف الرجال.
بارولس :
لا تكاد العذرة تهوي حين ينسف الرجل حطاما، إن الاحتفاظ بالعذرة ليس من سياسة الطبيعة ولا صالحها، إن فقدانها ربح معقول، وزيادة حكيمة، وما من عذراء تولد، إلا بعد أن تضيع العذرة أولا وتفقدها، إنكن قد صنعتن من معدن يصنع بذاته العذارى، فإن فقدت العذرة مرة، فقد تسترد عشر مرات، والحرص عليها مضيعة لها، إنها لرفيق بارد، فلنتخل عنها.
هيلين :
سأحرص «قليلا» عليها، وإن مت عذراء.
بارولس :
لا يكاد يوجد ما يقال في الدفاع عنها، إنها ضد ناموس الطبيعة وشريعتها، إن امتداح العذرة هو اتهام منكن لأمهاتكن، وهو عقوق لا ريب فيه، إن العذراء التي تأبى الزواج هي كالرجل الذي يشنق نفسه، ذلك أن العذرة تقتل نفسها، وأولى بها أن تدفن في الطرق العامة بعيدة عن كل مكان مقدس
5
لأنها أجرمت إجراما شديدا في حق الطبيعة، إن العذرة دود في ذاتها، أشبه ما تكون بالجبن، وتأكل نفسها حتى القشرة، وهكذا تموت مالئة بطنها من غذاء لحمها وطعام جسمها، والعذرة إلى جانب ذلك كله شرسة، متعجرفة، متبطلة، صنعت من الأثرة وهي أشد الذنوب في الشريعة تحريما، فلا تمسكيها عليك، لأنك حتما بها خاسرة، اخرجي منها تجديها بعد سنة واحدة قد ضاعفت نفسها ضعفين، وهي زيادة كريمة، ولن تكون يومئذ أسوأ حالا مما هي ... تخلي عنها.
هيلين :
وكيف تفعل العذراء يا سيدي لكي تفقدها كما تحب؟
بارولس :
دعيني أفكر، في الحق أن من الشر أن ترضى بمن لا تحب، إن العذرة سلعة تفقد بريق جدتها بطول البقاء، وكلما طال أمد الاحتفاظ بها، قل قدرها، وبخس ثمنها، هلمي تخلصي منها وهي لا تزال قابلة للبيع. أجيبي الطلب في وقته، ولي السؤال في حينه، إن العذرة كرجل الحاشية المسن، ترتدي قبعة من طراز انتهى زمانه، وقدم حينه، ولئن صنعت من قماش جيد، فإنها مع ذلك غير مناسبة لزمانها، كمشبك الصدر وفرشاة الأسنان
6
لم يعودا يلبسان الآن، إنه لأفضل أن تكون تمرة
7
في كعكتك وفطرك، منها على خدك، وإن عذرتك إذا طال عليها الدهر لأشبه بالكمثرى الفرنسية الذابلة، تبدو في الشكل القبيح، وفي المذاق ممجوجة، وهي في الحق كمثرى ذاوية عفنة، وكانت فيما مضى خيرا مما هي، ولكنها في الحق كمثرى ذاوية، فماذا تصنعين بها؟
هيلين :
ولكن عذرتي لم تبلغ هذا الحد بعد، إنك لذاهب إلى بلاط
8
الملك حيث مولاك وأجد ألف حب، أما، وخليلة، وصديقا، وعنقاء، وقبطانا، وعدوا، ومرشدا، وربة، وملكا، ومشيرا، وخائنة، وغالية عزيزة، وطموحا ذليلا، وضعة متكبرة، ووفاقا متنافرا، وتنافرا موافقا، وإيمانا، ومرارة حلوة، وعالما من حسان غريرات، ذوات أسماء مختارة، وألقاب مصطفاة ينعم بها عليهم كيوبيد الأعمى الذي يرعاهن ويتبناهن،
9
والآن فلست أدري ماذا سيفعل ، فليحسن الله وفادته، إن البلاط معهد للتعلم، وهو ...
بارولس :
وهو ماذا بالله ...؟
هيلين :
من أتمنى له الخير للأسف ...
بارولس :
للأسف مم ...
هيلين :
إن أتمنى الخير لا شيء فيه يمكن أن يحس، وإننا معاشر المنحوسين من مولدنا، تحتجرنا كواكب نحوسنا في خوالج نفوسنا وأمانينا
10
وقد نتبع أصدقاءنا، من تأثير كواكبنا، ونبدي ما نحن وحدنا نفكر فيه ونراه، فلا نجد شكرا عليه ولا عرفانا. (يدخل غلام.)
الغلام :
إن مولاي يدعوك يا سيد بارولس. (ينصرف.)
بارولس :
وداعا يا هيلين الصغيرة، سأفكر فيك! إذا استطعت في البلاط أن أتذكرك.
هيلين :
يا سيد بارولس، لقد ولدت تحت كوكب سعد.
بارولس :
أنا كوكبي المريخ.
11
هيلين :
رأيي الخاص أنه كذلك.
بارولس :
ولم يكون المريخ كوكبي؟
هيلين :
لأن الحروب شغلتك إلى حد لا مفر معه من القول إنك ولدت تحت كوكب المريخ.
بارولس :
وهو في أوجه.
هيلين :
بل أظن في تراجعه.
12
بارولس :
ولماذا تظنين هذا؟
هيلين :
لأنك تتراجع كثيرا حين تحارب.
بارولس :
هذا مقصود لغرض.
هيلين :
وكذلك القرار حين يبشر الخوف بطلب السلامة، ولكن شجاعتك وجبانتك اتفقتا على فضيلة خفة القدم، وسرعة الخطى، وإني ليروقني جدا هذا المظهر.
13
بارولس :
إن لدي من المشاغل ما يجعلني عاجزا عن الرد عليك بما يفحمك، سأتخلق بأخلاق حاشية الملوك، وسيساعد علمي على تغيير طبعك، فتصبحين قديرة على أن تأخذي بنصيحة للبلاطي العتيد ومشورته وتدركي ماذا تفرضه المشورة عليك، وإلا مت في جحودك ونكرانك، وذهب بك جهلك، وداعا، وإن وجدت فراغا من العمل، فاعكفي على صلاتك، وإن لم تجدي فراغا فاذكري صحابك، واظفري لنفسك بزوج طيب وعامليه بمثل ما يعاملك، والآن وداعا. (يخرج.)
هيلين :
إن دوائنا كثيرا ما يأتي من أنفسنا، وإن عزوناه إلى السماء أحيانا، إن السماء التي يقال إنها تتصرف في أقدارنا قد أتاحت لنا المجال واسعا حرا، فلا تردنا عما نبغي من خطط متراخية، إلى حين تجدنا فاترين، أي قوة هذه التي تجعلني أحب من هو شأنه أعلى من شأني، وأنظر ولا أمتع بمن يطالع ناظري، إن الطبيعة، على بعد المسافة بين الحظوظ والأخطار، تجمع بين الأشباه والنظائر، حتى ليتراءوا أندادا، إن الفعال الجريئة لتبدو مستحيلة لمن يبالغون في الخوف من جهدهم، ويغالون بأخيلتهم في حساب متاعب سعيهم، فلا يحاولون أمرا لا يجدون أمثلة له أمام أعينهم، ويظنون أن ما كان لا يمكن أن يكون، ومن تلك التي تجاهد في إبراز مواهبها إذا كانت قد فشلت في الظفر بحبيبها، وقد يخدعني مشروعي بشأن مرض الملك وعلته ولكن عزيمتي ثابتة وطيدة فلن تخذلني. (تخرج.)
المشهد الثاني
دق طبول (يدخل ملك فرنسا - ممسكا برسائل في يده ومن خلفه رجال حاشيته.)
الملك :
إن أهل فلورنسا، وشعب سيينا قد عادوا إلى الشقاق والقتال وتماسكا بالآذان وكانت الحرب بينهما سجالا، ولا يزالان في حرب عناد وتحد.
الشريف الأول :
بهذا وردت الأنباء يا مولاي.
الملك :
أجل، إنها أنباء يرجح صدقها كل الرجحان، وقد أكدها لنا ملك النمسا ابن عمنا، ونبهنا إلى أن صاحب فلورنسا سيطلب إلينا عونا عاجلا، ولقد سبقنا أعز أصدقائنا برأيه في موقفنا ويبدو أنه يريد منا ألا نبعث مددا.
الشريف الأول :
إن حبه لجلالتك، وأصالة رأيه التي ثبتت لديك يدعوان إلى الثقة به.
الملك :
لقد أيد ردنا، فضننا بالعون قبل أن يطلب إلينا، ولكن من يريد من أشرافنا أن يشهد الحرب الناشبة في تسكانيا فهو حر في أن يذهب، للاشتراك مع أي جانب من جانبيها.
الشريف الثاني :
قد يكون ذلك بمثابة «معهد تدريب» لأشرافنا الذين يحنون إلى العمل وإتيان الفعال الجسام.
الملك :
من القادم علينا ... (يدخل برترام ولافيه وبارولس.)
الشريف الأول :
هذا هو الكونت روسيون أيها المولى الكريم، الفتى برترام.
الملك :
أيها الفتى، إن لك وجه أبيك، إن الطبيعة الصراح الصادقة بدقتها وأناتها، لا تعجلها وسرعتها، قد أحسنت صورتك وأرجو أن تكون قد ورثت خلق أبيك مع حسن صورته، مرحبا بك في باريس.
برترام :
لك شكري وطاعتي يا صاحب الجلالة.
الملك :
ليتني الآن سليم البدن موفور العافية كما كنت أنا وأبوك، حين جمعت المودة بيننا، نجرب لأول مرة فنون الحرب، لقد خدم طويلا في عهده وأبلى، وكان في مصاف أشجع الشجعان وامتد به العمر، ولكن الشيخوخة تسللت إلينا، كالعجوز الشمطاء في قبح صورتها، وتنكر هيئتها فأعجزتنا وأوهنت من بأسنا، وإنه ليروقني كثيرا الحديث عن أبيك الكريم، فقد كان له في شبابه هذه الفكاهة التي أراها اليوم في معاشر الشباب من أشرافنا، ولكنهم يتفكهون الآن حتى لترتد سخريتهم إليهم وهم لا يشعرون، قبل أن يستطيعوا إخفاء خفتهم في شرف البسالة، أما هو فكان مثال البلاطي الحسن فلم تكن السخرية ولا الموجدة من شيمه، ولا الحدة من خيمه، ولو بدرت يوما منه، فلا يكون ظهورها إلا أن أنداده هم الذين استثاروها فيه، وكان الشرف عنده كالساعة في دقتها، يعرف اللحظة التي يستوجب منه الغضب الكلام، فتطلق فيها لسانه، وأما الذين هم دونه فقد كان يعاملهم كأنداده، فكان ينحدر من عليائه إلى وهدتهم وينزل من أوجه إلى حضيضهم، فيجعلهم فخورين بتواضعه، مزهوين بانحناءته، وهو من مديحهم الذليل، يبدو المستحي، إن رجلا من هذا الطراز خليق بأن يكون قدوة لشباب اليوم وفتيانه، ولو اقتدوا به لأثبتوا أنهم للسلف خير خلف.
برترام :
إن طيب ذكراه يا مولاي في خاطري، وحسن أثره في تقديرك لأغلى مما هو مكتوب على قبره، وإن خير دليل على صفاته الطيبة لهو حديثك الملكي لا النقش الذي على قبره.
الملك :
ليتني كنت معه، لقد كان يقول على الدوام، وكأني الساعة أسمعه، لا ينثر كلماته السديدة نثرا في الأسماع، بل يغرسها، لتنمو حيث غرسها وتؤتي ثمارها، لا أود أن تطول حياتي - كان يقولها بعد أن يستمتع ببعض اللهو ويكتئب لذهاب عهد عبثه، لا أود أن تطول بي الحياة، بعد أن تخبو جذوة العمر، وينفذ الزيت من السراج، حتى يسخر مني الشباب، ويأنف مني الفتيان، الذين يحتقرون كل شيء، إلا ما كان جديدا، والذين لا يقدرون على شيء إلا ابتداع الثياب، وابتكار المطارف، ويذهب الوفاء عندهم قبل أن تتوارى الأزياء، هذا هو ما كان يتمناه، وهو ما أتمناه أيضا بعد، وما دمت متعطلا لا أخرج شمعا ولا شهدا، فليتني من خليتي الراحل المسرع، لأفسح مكانا لبعض العاملين والمنتجين.
الشريف الأول :
إنك محبوب يا مولاي، والذين هم أقل من سواهم حبا لك، سيكونون أول من يفتقدونك، ويعز عليهم ذهابك.
الملك :
إنني أعرف أني أملأ مكانا، نبئني يا كونت، متى قضى الطبيب الذي كان يقيم عند أبيك، لقد كان ذائع الذكر.
برترام :
منذ ستة أشهر أو قرابتها يا مولاي.
الملك :
لو كان حيا لجربت طبه، مد لي يدك ... لقد نهك الأطباء الآخرون قواي بما جربه في من طبه كل واحد منهم، إن الطبيعة والمرض يتنازعان الغلبة على مهل، مرحبا بك يا كونت إنك عزيز علي كولدي.
برترام :
شكرا لك يا صاحب الجلالة. (ينصرفون.)
المشهد الثالث (تدخل الكونتسة ورئيس الخدم والمهرج.)
الكونتسة :
سأسمع الآن ماذا أنت قائل عن هذه السيدة.
14
رئيس الخدم :
أرجو يا سيدتي أن يكون حرصي على إرضاء رغباتك تجدينه مذكورا في جهودي الماضية، ولو عملنا إلى نشر محامدنا، والإعلان عن حسناتنا، لأسأنا إلى حياتنا، وأفسدنا علينا جمال تلك المحامد والحسنات.
الكونتسة :
ماذا يفعل هذا الخبيث هنا؟ ... اذهب يا هذا عنا، إنني لا أصدق كل تلك الشكاوى التي سمعتها عنك، وما ذلك إلا لأني في الحكم وحلمي، لأني أعرف أنك لا تفتقر إلى الحماقة التي تدفعك إلى ارتكابها ولا تعوزك المقدرة على إتيانها.
المهرج :
غير خاف عليك يا مولاتي أنني رجل فقير.
الكونتسة :
حسن يا هذا ثم ماذا ...
المهرج :
كلا يا مولاتي، ليس حسنا أنني رجل فقير، وإن شقي خلق كثير من الأغنياء، ولكن إذا رضيت يا مولاتي لي الزواج استطعنا أنا وإيزابل
15
أن نعيش كما ينبغي.
الكونتسة :
هل لا بد لك أن تصبح «سائلا»؟
المهرج :
إنني «أسألك» الرضى في هذا الأمر.
الكونتسة :
في أي أمر.
المهرج :
في أمر إيزابل وأمري، إن الخدم لا يتركون ميراثا، وأحسبني لن أنال بركة الله، حتى أرزق البنين، لأنهم كما يقول الناس نعم وبركات.
16
الكونتسة :
قل لي ما سبب رغبتكم في الزواج.
المهرج :
إن بدني يا مولاتي يتطلبه، ومن يدفعه الشيطان إلى أمر ما فهو حتما مندفع.
الكونتسة :
أهذا هو كل ما لدى سيادتك من سبب لرغبتك في الزواج؟
المهرج :
يمينا يا مولاتي إن لدي أسبابا مقدسة أخرى.
الكونتسة :
هل للناس أن يعرفوها ...
المهرج :
لقد عشت يا مولاتي إلى اليوم شريرا، كما أنت وكما هو شأن كل من هو من لحم ودم، وإني أريد الزواج لكي أكفر عن ذنوبي.
الكونتسة :
ستكون على الزواج أسرع ندما مما ستكون على السيئات.
المهرج :
ليس لي صاحب يا مولاتي، وأرجو أن يكون لي صحاب من أجل زوجتي.
الكونتسة :
سيكون هؤلاء الصحاب أعداء لك يا أحمق.
المهرج :
أنت يا مولاتي قليلة الخبرة بالصحاب الكبار، إن أولئك الحمقى الذين سأصحبهم سيأتون ليؤدوا عني ما قد تعبت منه، إن من يحرث لي أرضي، يوفر لي سائمتي، ويمكنني من أن أجمع حصادي، وإذا كنت أنا ديوثه، فهو الكادح من أجلي، ومن يرح زوجتي يعزز لحمي ودمي، ومن يعزز لحمي ودمي يحبب لحمي ودمي، ومن يحبب لحمي ودمي فهو صديقي، أو بعبارة أخرى، إن من يقبل زوجتي هو صديقي، ولو قنع الناس بما هم فيه لما كان ثمة خوف من الزواج، إن الشاب المتزمت في دينه والبابوي الشيخ المحافظ على صومه، مهما اختلف قلباهما في المذهب، وتباينا في العقيدة، فإن في رأسيهما شيئا واحدا، وهو قرناهما، يتلاقيان فيه ويتماثلان، ككل الوعول في القطيع.
الكونتسة :
أتأبى إلا أن تكون سليط اللسان سافلا هجاء.
المهرج :
نبي يا مولاتي، أقول الحق من أقرب طريق، وأردد كالشادي ما الناس واجدوه، الحق لا ريب فيه، وهو أن الزواج من صنع القدر، وأن الوقواق يشدو بحكم الطبيعة.
الكونتسة :
اذهب يا هذا، سأواصل الحديث معك بعد لحظة وجيزة.
رئيس الخدم :
هلا سمحت يا مولاتي بأن يدعو هيلين إلى الحضور لأنني أريد أن أتحدث عنها.
الكونتسة :
قل يا هذا لوصيفتي، أعني هيلين، أنني أريد أن أتحدث إليها.
المهرج :
أكان هذا الوجه الجميل السبب الذي حمل الإغريق على تخريب طروادة، حماقة منهم، ونزقا وتباهيا به واعتزازا، وهل كان هذا سر اغتباط الملك بريام وابتهاجه، قالت هذا ثم تنهدت وهي قائمة، وقالت هذه العبارة: لو أن واحدة صالحة بين تسع طالحات، وبين تسع طالحات واحدة صالحة، لكفى أن تكون واحدة صالحة بين عشر طالحات.
17
الكونتسة :
ماذا تقول يا هذا، واحدة صالحة بين عشر، إنك تشوه الأغنية.
المهرج :
امرأة صالحة بين عشر نساء يا مولاتي، إن هذا تصحيح للأغنية ليت الله يحبو العالم بهذا طيلة العام! ولو أنني كنت قسيسا لما وجدت بأسا في المرأة العاشرة. يقول المرأة العاشرة ولو ظفرنا بمولد امرأة صالحة على مطلع كل كوكب سيار، أو هزة زلزال،
18
لتحسنت القسمة، وصلح النصيب،
19
واستطاع الرجل منا أن ينتزع قلبه، قبل أن يقتطف واحدة.
الكونتسة :
اغرب عنا أيها الشقي، وافعل ما أمرتك به.
المهرج :
إن خضوع الرجل لأمر امرأة، لا بأس منه ولا ضير ولئن لم يكن ثمة تزمت في الوقاء، فلن ينتج من هذا ضر ولا أذى بل إنها لترتدي الثوب البابوي المذل فوق الثوب الأسود الذي يرمي إلى تفهم الغالبية. (تضرب الكونتسة الأرض بقدمها.)
إنني منصرف، ومهمتي أن أدعو هيلين إلى الحضور.
الكونتسة :
الآن هات ما عندك.
رئيس الخدم :
أعرف يا مولاتي حق المعرفة حبك لوصيفتك.
الكونتسة :
يمين الله إني حقا أحبها، فقد عهد أبوها إلي بها وهي إلى جانب مزاياها الأخرى وحسناتها، جديرة بهذا الحب الذي هي عندي واجدته، إن ما يعطى إليها قليل إلى جانب ما تستحقه، وستعطى أكثر مما تطلب.
رئيس الخدم :
لقد كنت في الأيام الأخيرة يا مولاتي أقرب إليها مما كانت تود، فرأيتها وحدها تناجي نفسها، وتتحدث بلسانها، إلى سمعها، وإني لشهيد على أنها كانت تظن أن كلامها، وحديث نجواها، لم يسترقه سمع، لقد كان أمرها أنها تحب ابنك، وكانت تقول إن القدر ليس «إلها» رحيما، لأنه أقام فارقا بين مقامها ومقامه، وإن الحب ليس ربا ذا رحمة، لأنه لا يمد سلطانه إلا حين تتماثل السجايا، وتتشابه الصفات، وإن ديانا ليست ملكة العذارى، لأنها تتخلى عن فوارسها وأبطالها، وتدعهن بغير نصير، في الاقتحام الأول، أو في الفدية بعد ذلك، وكانت تقول هذا وهي في أشد مرارة الأسى والعناء، وأحزن ما سمعت في حياتي من عذراء، فرأيت من واجبي أن أبادر إلى إنهاء الأمر إليك، لأنه يهمك أن تكوني عليمة به، قبل أن يحدث ما لا تحمد عقباه.
الكونتسة :
لقد أديت واجبك مخلصا، فدع الأمر في أطواء نفسك ولا تبح لأحد به، وقد رأيت من قبل عليه شواهد، ولكنها بقيت مترنحة في كفة الميزان، بين الشك عندي واليقين، والآن أرجو أن تنصرف عني، واكتم الأمر في أعماق صدرك، وإني لشاكرة لك حرصك ووفاءك وسأتحدث إليك بعد قليل. (يخرج رئيس الخدم وتدخل هيلين.)
كذلك كان أمري حين كنت في شبابي، إن أجرينا على سنن الطبيعة، فهذا ما يصيبنا، وما دام الدم يجري في عروقنا فلا بد أن يكون الحب في دمنا فهو مظهر الطبيعة وخاتمها، حين تنطبع قوة الحب على صفحة شبابنا، ونحن حين نذكر أيامنا الخالية، نتبين أغلاطنا هذه وهفواتنا، أو أننا لم نفكر يومئذ في أنها أغلاط، وإني أراها الآن قريحة العين من فرط ما بها.
هيلين :
ماذا تشاءين يا مولاتي؟
الكونتسة :
أنت تعرفين يا هيلين أنني أم لك.
هيلين :
بل مولاتي المعظمة.
الكونتسة :
كلا. بل أم. ولم لا؟ ... يخيل إلي حين قلت أم كأنك شهدت حية تسعى، فماذا يخيفك من الأم؟ إني أقول لك إنني أمك وأضعك في مصاف من حملتهم في أحشائي، ولكم رأينا التبني
20
منافسا للبنوة، والاصطفاء يؤتينا ثمارا طبيعية نبتت من بذور أجنبية، وأنت ما أتعبتيني يوما كأم في أيام حملها، وأوجاع وضعها، ولكني أبدي لك حنوها، وأحس لك رفقها وعطفها، لك الله يا فتاة. أيجمد الدم في عروقك حينما أقول إنني أمك، ما خطبك حتى أرى هذا الرسول الندي على محياك، وهذا الطيف الشمسي حول عينيك. أذلك كله لأنك ابنتي
21 ...
هيلين :
لأنني لستها.
الكونتسة :
ولكني أقول إنني أمك.
هيلين :
عفوا يا مولاتي، لا يمكن أن يكون الكونت روسيون أخي، إنني من أصل وضيع، وهو من منبت باذخ ، وليس لأهلي ذكر، وأهله الأشراف الأماجد، هو مولاي العزيز وأنا خادمة أحيا وأموت تابعة له وموالية، فلا ينبغي أن يكون لمثلي أخا.
الكونتسة :
ولا أنا أمك؟
22 ...
هيلين :
أنت أمي يا مولاتي، ليتك كنت أمي حقا، حتى يكون مولاي ابنك أخي، حقا أنت أمي، وليتك كنت لنا نحن الاثنين أما، إن عنايتي بهذا الأمر لا تقل عن عنايتي بأن يكون مثواي الجنة، على ألا أكون له أختا، وإذا كنت أنا ابنتك ألا يستلزم هذا أن يكون هو أخي؟
الكونتسة :
أجل يا هيلين، قد تصبحين بنتي، حماك الله يا بنية، أنت لا تعنين هذا ولا تقصدينه، ولكن اضطربت أعصابك ما بين الحب والخوف من اسم الابنة، والأم تجهد خاطرك، ماذا أرى، أيعاودك الشحوب مرة أخرى، لقد عرف خوفي كيف يكشف حبك، والآن قد أدركت سر وحدتك وانطوائك على نفسك، واهتديت إلى باعث مرير عبرتك، لقد برح الخفاء، أنت تحبين ابني، وليس في وسعك أن تنكري حبك إياه، أمام ما أعلنت عاطفتك، ونادت به مشاعرك، فلتنبئيني إذن بالحق، لتقولي إن الأمر كذلك، ألا ترين إلى خديك، كيف يعترف أحدهما للآخر ويقر، وإلى عينيك كيف تنمان عليك، كما هو ديدنهما، وتتحدثان بلغتهما عن حبك، وإن كان الحياء الأليم والعناد الأثيم، يمسكان لسانك، تكلمي حتى لا تتهم الحقيقة أو يستراب بها، انطقي! أهو كذلك؟ ... فإن كان كذلك، فقد أوجدت لي مشكلة خطيرة، وإن لم يكن كذلك، فأقسمي. ومهما اتهمتك فليعاوني الله على خدمتك إذا نبأتني بالحق.
هيلين :
أستميحك يا مولاتي الكريمة مغفرة.
الكونتسة :
هل تحبين ابني؟
هيلين :
مغفرة يا مولاتي النبيلة.
الكونتسة :
هل تحبين ابني؟
هيلين :
ألا تحبينه يا مولاتي؟
الكونتسة :
دعك من اللف والدوران، إنني ملزمة بفطرتي أن أحبه، وهذا رباط معروف لكل الناس، هلمي، هلمي، اكشفي عن حبك، فقد نم عنك كل النم.
هيلين :
إذن أعترف، وأنا جاثية أمام السموات العلى وأمامك، أنني أحب ابنك حبا يزيد على حبي لنفسي ويقرب من حبي لله، لقد كان قومي فقراء، ولكنهم إخوان صدق ووفاء، وكذلك حبي ، فلا يسوءنك هذا، لأنه لا أذاة منه لمن أحب، ولست متبعة حبي بمطلب جريء، وليس لي من ورائه مأرب متبجح، وما أنا طامعة فيه، حتى أكون جديرة به، ولئن كنت لا أعرف كيف تتحقق تلك الجدارة، ولكني أعلم أن حبي بلا جدوى، وأنه مغالبة للأمل، وإن ظللت أسكب أمواه حبي في هذا الغربال الذي يتلقى كل شيء ولا يمسك قط بشيء، ولن أضن على هذا الضياع أبدا بمزيد. وما مثلي إلا كمثل الهندي - أعبد - على خطأ في الدين - الشمس التي تنظر إلى عابدها، ولا تدري عنه شيئا، أي مولاتي العزيزة، حاشاك أن يكون حبي لمن تحبين سببا في أن تقابلي هذا الحب بالبغض، فأرث إذن لمن حالها مثل حالي، لا حول لها إلا أن تقرض وتعطي، وهي واثقة من أنها الخاسرة، ولا تعمل في هذه الدنيا لأن تجد ما تسعى لنيله ولكنها كاللغز الخفي تجد الحياة الهنيئة حيث تلقى الموت.
الكونتسة :
ألم تكن في نفسك أخيرا نية الذهاب إلى باريس، قولي الحق.
هيلين :
بلى يا مولاتي.
الكونتسة :
وما الغرض، نبئيني بالحق.
هيلين :
سأقول الحق، وأقسم بالرحمن إني قائلته، أنت تعلمين أن أبي ترك لي من بعده وصفات طبية نادرة محققة التأثير مما اهتدى إليه من قراءاته، وأثبتتها تجاربه، وجمعها لتكون حاوية الدواء لكل علة، ووصاني أشد التوصية بألا أهبها إلا عند الضرورة القصوى ولذوي المقام الكبير، وهي أقوى مفعولا في سبيل البرء مما يعزى إليها في الكتاب، ومن بين هذه المجموعة دواء مقرر مخصص لشفاء الأوجاع الميئوس منها التي تذوى منها صحة الملك، ويوشك من أثرها أن يكون من الهالكين.
الكونتسة :
أكان هذا هو الباعث لك على سفرك إلى باريس - تكلمي.
هيلين :
إن مولاي ابنك هو الذي جعلني أفكر في هذا الأمر، وإلا فما كانت باريس ولا الدواء ولا الملك لتدور يوما في خاطري وما كان أسعدني بخلو خاطري من هذا التفكير.
الكونتسة :
ولكن هل تظنين يا هيلين أن الملك سيتقبل الدواء المسعف الذي تزعمين أنك متقدمة به لمعونته ، وهو وأطباؤه مجمعون على رأي واحد، فأما هو فيرى أنهم لن يستطيعوا إبراءه، وأما هم فيرون أنهم عن علاجه عاجزون، فكيف يصدقون عذراء فقيرة لم تصب علما، وهم قد أفرغوا كل ما في الطب من علم، ثم تركوا الخطر يستفحل يائسين ...
هيلين :
إن في هذا الدواء شيئا يوحي بأن فيه شيئا غير براعة أبي، وإن كان في المهنة أعظم الأساطين، وهو أن أسعد ما في السماء من الكواكب سوف تبارك تركة أبي من علمه، وتراثه من فنون طبه، ولو أذنت لي يا مولاتي في السفر لمضيت أحاول علاج جلالته وانطلقت أبذل حياتي المضيعة في تجربة برئه، في اليوم المحدود والساعة المعينة.
الكونتسة :
وهل أنت بذلك موقنة.
هيلين :
حق اليقين يا مولاتي.
الكونتسة :
لك يا هيلين الإذن والحب والوسائل والأساليب، والخدم والأتباع، فأقرئي السلام لذوينا في البلاط، وسأقيم أنا هنا داعية الله أن يبارك جهدك، ويحقق طلبتك، وليكن السفر غدا، وثقي أنني لن أضن عليك بكل ما في وسعي من مدد وعون ... (تخرجان.)
الفصل الثاني
المشهد الأول (يدخل الملك وفي رفقته عدة أشراف من الشباب للاستئذان في السفر ليشتركوا في الحرب الفلورنسية - برترام - بارولس وبعض الحاشية - دق طبول.)
الملك :
وداعا أيها الأشراف الشباب،
1
ولا تنسوا تلك المبادئ العسكرية التي تحدثت إليكم عن وجوب مراعاتها، وأنتم أيها الأمراء وداعا، وتقاسموا نصيحتي بينكم، فإن خرج الفريقان غانمين، سهما الغنم جميعا، وهو كاف لهما معا.
الشريف الأول :
نرجو يا مولاي حين نعود عودة الأجناد المدربين أن نجد جلالتكم بخير وعافية.
الملك :
كلا، كلا، هيهات، وإن كان قلبي يأبى أن يعترف بأنه يعاني العلة التي تهدد حياتي، وداعا أيها الأشراف الشباب. وسواء حييت أو مت فكونوا أبناء الفرنسيين الأمجاد، ولتشهدوا إيطاليا العليا، خلا الذين يفيدون من سقوط الملك السابق وذهابه، ولتظهروا أنكم ما جئتم لتخطبوا المحامد، بل جئتم لتبنوا بها، وحين ينزوي أشجع الشجعان عن طلب المجد ومناله، تقدموا لنيله وطلابه، حتى تكسبوا حمد الشرف وهتافه العالي، أهيب بكم وداعا.
الشريف الأول :
لتستجيب الصحة يا مولاي لأمرك، ولتكن في خدمة جلالتك.
الملك :
وأحذركم من بنات إيطاليا، إنهن يقلن إننا نحن الفرنسيين تنقصنا كلمة لا إذا طلبننا، واحذروا أن تكونوا «أسرى» قبل أن تدخلوا المعركة.
الشريفان :
إن قلوبنا لتعي تحذيركم يا مولاي.
الملك :
وداعا، تعالوا هنا إلي. (يذهب الملك إلى أريكة.)
الشريف الأول :
واحا لك أيها الشريف المحبب، إنك ستتخلف عنا.
بارولس :
ليس ذنب الفتى المتأنق أن يتخلف.
الشريف الثاني :
هذه حرب ضروس.
بارولس :
وأبدع ما تكون، وقد شاهدتها.
برترام :
وقد أمرت بالبقاء هنا لأكون موضوع القيل والقال، سيقولون إنه لا يزال فتى حدثا، وسيقول آخرون، دعوه إلى العام القادم، فلا يزال الوقت باكرا دونه.
بارولس :
إذا كنت مصرا على الذهاب يا غلام، فاخرج إلى الميدان خضه وكن شجاعا.
برترام :
أنا هنا ماكث تحت أمر الغواني، وهدف لعبث الغيد
2
أنفض نعلي على أديم القصر، حتى ينفذ الشرف، ولا يبقى مع المجد ذماء فلا يحمه من السيوف إلا سيف الرقص مع «الراقصات»، قسما لأتسللن إلى الحومة «مسترق» الخطوات.
الشريف الأول :
إن في هذا الاستراق شرفا لمقترفه.
بارولس :
ارتكبه يا كونت.
الشريف الأول :
أنا ملازم لك وقطعة منك، الآن وداعا.
برترام :
لقد نشأنا معا، فالانفصال أليم، كتقطيع الأوصال.
الشريف الأول :
إلى اللقاء أيها الرئيس.
برترام :
إلى اللقاء يا عزيزي بارولس.
بارولس :
أيها البطلان النبيلان، إن سيفي وسيفكما صنوان، حدة ومضاء، وبريقا وسناء، وتماثلا في المعدن الكريم والماء، وإنكما لواجدان في فرقة الإسبناي ضابطا يدعى «سبوريو» وعلى وجهه القبيح شارة حرب، ندبة من جرح إثر طعنة كان حسامي هو طاعنها، فإذا لقيتماه فقولا له إنني لا أزال حيا، واحفظا ما هو عني قائل.
الشريف الثاني :
سنفعل أيها الضابط الكريم. (يخرج الشريفان.)
بارولس :
ليرعاكما إله الحرب وليتخذكما تلميذيه المدللين، والآن ماذا أنت صانع ... (هنا يرتفع ستار فيبدو الملك في مقعده ويتقدم رجال الحاشية به محمولا عليه.)
برترام :
مكانك ... الملك قادم ...
بارولس :
كن أكثر احتفالا بالأشراف النبلاء، فقد رأيتك متحفظا معهم باردا في توديعك لهم، ألا زدهم قولا، وبيانا، لأنهم قوم يحرصون على أن يظهروا في أحسن طراز العصر، فامش مشية الجند المعلمين مثلهم، وكل واشرب وتكلم، واخط على هدي أكثرهم حظوة وأحسنهم قبولا، واتبعهم واقف على آثارهم، وإن كان الشيطان في الرقص رائدهم، وكن في وداعهم أكثر تبسطا وإسهابا.
برترام :
وإني لفاعل.
بارولس :
إنهم أمجاد وأكبر الظن أنهم سيثبتون بحسن البلاء، وأنهم من المجالدين الأشداء. (يخرجان.) (ينزل خدم الملك المقعد - ويدخل لافيه.)
لافيه :
اغفر لي يا مولاي ولما أحمله من أنباء. (يجثو أمام الملك.)
الملك :
انهض وارفع التكليف.
لافيه :
هاأنذا أنهض بعد أن نلت المغفرة، وددت لو أن مولاي جثا ليسألني المرحمة، ونهض بأمري من جثوته.
الملك :
وددت لو أني فعلت، لأكسر رأسك ثم أسألك المرحمة، ثم استطعت أن تقف حين آمرك في الوقوف.
لافيه :
في الحق أنك ضربت ولكن لم تصب،
3
إن الأمر وما فيه يا مولاي هو هل تريد البرء من علتك؟
الملك :
كلا.
لافيه :
يا عجبا، ألا تأكل عنبا أيها الثعلب الملكي
4 ... بل والله إنك لآكل من الأعناب الطيبة لو أن الثعلب العظيم استطاع الوصول إليها، لقد اهتديت إلى طبيبة تقدر على أن تنفخ الحياة في الصخر، وتجعلك ترقص رقصة الكروان وتملأك روحا وحرارة وحركة، وتكفي لمسة واحدة منها لتنهض من قبر الملك «بيان»، وتضع القلم في يد شارلمان ليكتب لها رسالة حب وهيام.
5
الملك :
ومن تكون هذه؟
لافيه :
هي طبيبة قدمت إلينا يا مولاي وليتك تراها، وأقسم بأيماني وشرفي، لو أنني أردت الجد في التعبير، بدون الهزل في قولي، لقلت إنني تحدثت إلى امرأة أجارتني بأنوثتها وسنها، وقدرتها، وحكمتها، وصدق عزيمتها، حتى استولت علي دهشة لا أستطيع أن أعزوها إلى ضعفي فهلا أذنت في مثولها بين يديك، (لأن لقاءك هو طلبتها) لتعرف ما تريد؟ بأن تعجب كيف استولى عليك هذا العجب.
الملك :
هات إذن يا لافيه موضع إعجابك، حتى نقاسمك العجب، أو نزيله عنك، وبأن نعجب لك كيف أعجبك.
لافيه :
وأنا سأصدع بأمرك، ولن يستغرق ذلك شيئا. (يخرج مسرعا.)
الملك :
من يكثر من المقدمات لا يأت بشيء .
لافيه :
والآن أقبلي. (يعود ويفتح الباب لهيلين فتدخل.)
الملك :
إن لهذه العجلة جناحين حقا.
6
لافيه :
أقبلي ... ها هو ذا جلالته، تحدثي إليه عما يجول في خاطرك، إنك لتلوحين دجالة، ولكن جلالته قلما يخشى هذا النوع من الدجالين، وأنا عم كريسيدا
7
لا أحجم عن أن أترك الاثنين في خلوة معا ... إلى الملتقى. (يخرج.)
الملك :
إيه أيتها الحسناء، هل لعملك صلة بنا.
هيلين :
أجل يا مولاي الكريم، لقد كان جيرار دي نارمون أبي الذي عرفت في المهنة براعته.
الملك :
إني كنت أعرفه.
هيلين :
حسبي معرفتك له فهي تغنيني عن إزجاء المديح إليه، وقد أعطاني وهو على فراش الموت عدة وصفات، أخصها وصفة جاءت أعز ثمرات عمله وأغلى نتائج تجاريبه، وأمرني أن أحتفظ بها، وأحرص عليها كأنها عين ثالثة، بل أوفر أمانا من عيني الاثنتين، فصدعت بأمره، وقد سمعت بما مس جلالتكم من علة قاسية، تعد عطية أبي فعالة الأثر في البرء منها، فجئت لأقدمها وأستخدمها بكل خضوع وخشوع.
الملك :
نشكرك أيتها العذراء، وإن كنا لا نصدق أنها الكفيلة لنا بالشفاء، بعد أن تركنا أكبر أساتذتنا علما، وأجمع معاشر الأطباء، على أن «الفن» مهما بذل لا يستطيع أن ينقذنا مما جرت به سنن الطبيعة ومن تلك الحال التي ليس منها شفاء - أقول إنه لا ينبغي أن نسيء إلى حكمنا وتقديرنا، أو نفسد أمنيتنا وأملنا، بتعريض دائنا العضال، للتجارب التي لا تقوم على أساس من العلم الصحيح، ولا نرضى لأنفسنا وكرامتنا أن نتعلل بدجل تافه سخيف، بعد أن عجزت كل معونة.
هيلين :
حسبي أنني أديت واجبي، فلا أحاول أن أرغمك على قبول خدمتي إرغاما، ولكني بكل خشوع ألتمس من خواطرك يا مولاي خاطرا متواضعا أعود به من حيث أتيت.
الملك :
لن أهبك أقل من شكري وعرفاني، فقد خطر لك أن تمدي إلي يد العون، وأني لشاكر لك شكر الميت للذين يرجون له الحياة، ولكني أعلم حق العلم ما لا تعلمين شيئا منه، أنا أعرف كل ما بي من سقم، وأنت لا تعرفين «فنا ».
هيلين :
لا بأس أن أحاول ما أستطيع، ما دمت مصمما على رفض العلاج، إن من يؤدي أخطر الفعال، ويتم أعظم الأعمال، كثيرا ما يستعين عليها بأضعف الأعوان، وقد رأينا في الكتاب المقدس الولدان قضاة أهل سداد ورجحان، وشهدنا القضاة في حكمهم كالولدان،
8
وإن أعظم الفيضانات قد ينبعث من أقل الموارد، وأصغر النبعات، وإن البحار نضبت حين أنكرت المعجزات وكذبت،
9
وكثيرا ما يخيب الذي كان متوقعا وأكثر ما يكون ذلك حيث يصبح الأمل أعظم ما يكون قوة، وغالبا ما يتحقق ما كان الأمل فيه واهيا واليأس منه قويا.
الملك :
لا ينبغي لي أن أستمع إليك، وداعا أيتها العذراء الحنون الكريمة، وستجزي نفسك بنفسك على جهودك التي لم تستثمر، ولئن لم أتقبل ما عرضته، ولم أستجب لما سألته، فليكن شكري لك هو الجزاء.
هيلين :
يا للكفاية المهملة حين تذار بالقول عن مرادها ... ليس هذا شأن العليم الخبير بكل شيء، ولكنه شأننا نحن ودأبنا نعتمد على المظاهر وحدها في كل حسنا وتفكيرنا، وندعي ما ليس من صنعنا، ونزعم أن ما فعله الله هو من فعلنا، أيها العزيز تقبل محاولتي، ومن السماء، لا مني، فلتجرب تجربتي، ما أنا بدجالة، ولا مدعية ما ليس لي، ولا بزاعمة شيئا أنا عنه عاجزة، ولكني أعرف ما أعتقد، وأعتقد يقينا أنني أعرف، إن فني ليس عاجزا، وإن مرضك ليس لحدود البرء متجاوزا.
الملك :
أأنت واثقة إلى هذا الحد، وفي أي فترة تؤملين لي البرء.
هيلين :
بعون الله، قبل أن تتم جياد الشمس التي تحمل مشعلها المتقد دورتها مرتين، وقبل أن تطفئ في بحر المغرب الأعظم مصباحها الناعس الخافت إطفاءتين، أو تنبئ ساعة الربان دقائقها المختلسة كيف تمضي أربعا وعشرين مرة، يزول كل ما بجسمك السليم من سقام، وتحيا الصحة فيه خلية من كل دواء، ويموت المرض موتا، وتفنى العلة فناء.
10
الملك :
وما الذي به تغامرين، إزاء هذه الثقة، وهذا اليقين؟
هيلين :
إذا لم يتحقق يقيني، فاعددني عديمة الحياء، جريئة جرأة العاهرات، معلنة العار، في أهجى القصائد والأشعار، وليبدل اسمي «العذراء»، بنقيضه في الصفات والأسماء، ولتنته حياتي بعذاب الهوان، وهو ما لا يمكن أن يكون أسوأ من ذلك السوء.
الملك :
يخيل إلي أن في كلامك روحا مباركة تتحدث، وفي ضعفك صوتا قويا ينبعث، وأن ما يبدو مستحيلا أن أنظر إليه في ضوء العقل العادي قد يكون مستطاعا أن أنظر إليه من نواح أخرى، إن حياتك غالية، لأنها استوفت فيك كل ما يتطلبه معناها، ويعز قدرها من قيم، الشباب، والجمال، والحكمة، والشجاعة، وكل ما في إمكان السعادة ونضرة الشباب، أن تسمياه سعادة، وأن تغامري بذلك كله ليدل على أنك حتما ذات مهارة بالغة، وحذقا متناهيا، أو يوحي بتهور شنيع، أيتها المتطببة الحسناء، سأجرب دواءك، فإن مت منه، فسيؤدي هذا إلى موتك.
هيلين :
إذا تجاوزت الوقت المحدد، أو أخفقت في أي جزء صغير مما وعدتك به، فدعني أمت بغير رحمة أو رثاء، لأنني للموت عندئذ مستأهلة، وهو لي في الحق جزاء، وليكن الموت على العجز أجري، ولكن بم أنت واعدي، إذا كان النجاح حليفي!
الملك :
اطلبي، توهبي.
هيلين :
أحقا أنت منجز ما تعد؟
الملك :
أجل، بسلطان صولجاني، وأملي في الله.
هيلين :
أتهبني عندئذ بيدك الملكية، أي زوج في مملكتك أشاء على أنني لن تبلغ بي الغطرسة أن أختاره من بيت الملك في فرنسا أو أن أقرن اسمي المتواضع الصغير، باسم أي فرع منه، أو من يمثله، بل إن هذا الذي أتحدث عنه من أتباعك، وأنا أعرف ألا ضير علي في أن أطلبه ولا يعز عليك أن تجيبني إلى طلبي.
الملك :
هذه يدي، موثق موعدي، وسيكون لك عندي، ما تشاءين، فعيني الزمن الذي تطلبين، لأني أنا مريضك الذي عقد نيته، سيضع ثقته فيك على الدوام، إنني سأسألك فوق ما سألت، ولا بد لي من ذلك السؤال، وإن كان الازدياد من طلب المعرفة لا يدل على زيادة في الثقة من أين أتيت، وكيف نشأت - ولكني مرحب بك بدون سؤال ومكرمك بدون أن تداخلني في أمرك ريبة - وإذا مضى عونك كعهدك، لم يكن ما أعمله لك أقل من عملك. (طبول - ينصرفان.)
المشهد الثاني (تدخل الكونتسة والمهرج.)
الكونتسة :
أقبل يا هذا فإني ممتحنتك لأرى إلى أي مدى تبلغ آدابك، وإلى أي حد يمكن أن يكون في المجتمع الرفيع مسلكك.
المهرج :
سوف أتراءى حسن التغذية، رديء التربية،
11
وأنا أعرف أن المهمة التي سأمتحن بها لن تتعدى الذهاب إلى البلاط.
الكونتسة :
لا تتعدى الذهاب إلى البلاط! أي مكانة خاصة تتبوأ، حتى تقول إلى البلاط بهذه السخرية؟
المهرج :
حقا يا مولاتي، إذا وهب الله إنسانا شيئا من الآداب، تيسر له أن يخلعها في البلاط، ومن لا يستطيع أن يطوي ساقا ويرفع قبعة، ويقبل يدا، ولا يقول شيئا، فليست له ساق ولا يدان، ولا شفة ولا قبعة، ومن كان هذا شأنه، فهو في واقع الأمر، إن شئت الدقة لا يصلح للبلاط، أما أنا، فإن عندي لكل الناس الرد الصالح.
الكونتسة :
حقا إنه لرد كريم يصلح لكل سؤال.
المهرج :
إنه مثل «كرسي» الحلاق، يصلح لكل الأعجاز، الناحل، والسمين، والمفتول، وأي عجز.
الكونتسة :
أيصلح ردك لكل الأسئلة.
المهرج :
كما تصلح عشرة قروش ليد وكيل مفوض، والريال الفرنسي للبغي ذات الثوب الحريري الخفيف، وخاتم زواج فلان في أصبع فلانة
12
وقطعة الفطير لثلاثاء الزفر، ورقص المغاربة لعيد الربيع،
13
والمسمار للشق الذي يدخل فيه، والديوث لقرنه، وكما تصلح الفاجرة اللوامة للوغد الشرس، وشفتا الراهبة لفم الراهب، والحشو للأديم الذي يحويه.
الكونتسة :
إني أسألك هل لديك رد يصلح لكل الأسئلة.
المهرج :
إن ردي يصلح لأي سؤال ممن هم دون «الدوق» عندكم إلى من هم تحت «الكونستابل».
الكونتسة :
لا بد أن يكون ردا ضخم الحجم حتى يصلح لكل المطالب.
المهرج :
ولكنه قد لا يكون إلى حد ما في الحقيقة، إذا تحدث العارفون عنه على حقيقته، ها هو ذا بكل ما يتعلق به، سليني هل أنا من رجال البلاط، ولا تخشي من الجواب ضيرا.
الكونتسة :
ليتنا نعرف كيف نعود إلى الشباب لنلهو، إنني في توجيه هذا السؤال إليك سأكون خالية من الفطنة، ولكني أرجو أن أصيبها من ردك ، قل لي من فضلك يا سيدي هل أنت من أهل البلاط؟
المهرج :
مولاي وسيدي،
14
هذا سؤال لا رد لي عليه غير تأجيله، اسألي سؤالا آخر، مائة من الأسئلة.
الكونتسة :
إنني صديقة لك مسكينة، صديقة تحبك.
المهرج :
مولاي وسيدي ... هذا كثير ... هذا كثير ... لا تتخلي عني
الكونتسة :
أظنك يا سيدي لا تأكل من هذا اللحم المنزلي ...
المهرج :
مولاي وسيدي، بل ها أنا أناشدك.
الكونتسة :
أحسبك يا سيدي قد ضربت بالسوط من عهد قريب.
المهرج :
مولاي وسيدي، لا تتركيني.
الكونتسة :
هل تصيح «مولاي وسيدي» عندما تساط، وهل تقول «لا تتركني»؟، حقا إن صيحتك «مولاي وسيدي» لأنسب لازمة لضربك، وخير رد على جلدك، إذا شد له وثاقك، وكان فيه قيدك.
المهرج :
لم أشهد في حياتي أتعس حظا مني في قولي «مولاي وسيدي» وأعتقد أن الأشياء قد تخدم المرء طويلا، ولكنها لا تخدمه دائما.
الكونتسة :
إنني أضيع وقتي عبثا كربة بيت في التفكه مع مهرج.
المهرج :
مولاي وسيدي ... ها هي ذي تخدم الآن مرة أخرى.
الكونتسة :
كفى هذرا يا هذا ... خذ هذا الكتاب إلى هيلين وقل لها تعجلي بالجواب، وأقرئي قومي وابني السلام وليس هذا بكثير.
المهرج :
ليس بكثير إقراؤهم السلام.
الكونتسة :
أنت فاهم مرادي. ليس بعمل كثير لك.
المهرج :
بكل إخلاص سأكون هناك قبل ساقي.
الكونتسة :
وعد بمثل عجلتك ذاهبا. (يخرجان.)
المشهد الثالث (يدخل برترام ولافيه الشيخ وبارولس.)
لافيه :
يقولون لقد مضى عهد المعجزات، ولا نزال نرى بيننا من «المتفلسفة» من يجعلون الخوارق والأحداث التي لا ترجع إلى علل ومسببات، شيئا مألوفا، وأمرا عاديا، ولم نعد نخشى الخوارق، بل نحاول تعليلها أحيانا، بظواهر الطبيعة ونواميسها،
15
وكان أولى بنا أن نرتضيها كما هي إيمانا، ونعدها خارقة يقينا.
بارولس :
إنها لأندر أعجوبة ظهرت في أيامنا هذه.
برترام :
إنها لكذلك.
لافيه :
أن ييأس من برئه الأساطين.
بارولس :
هذا ما أقول وجالينوس وباراسيلسوس كذلك.
16
لافيه :
وسائر العلماء والجهابذة.
بارولس :
حقا.
لافيه :
الذين حسبوا علته مستعصية عضالا.
بارولس :
هذا هو عين ما أقول.
17
لافيه :
ليس في وسعنا أن نقول غير ما قلنا.
بارولس :
حقا. وفي الواقع. كأن رجلا يؤكد له.
لافيه :
إن حياته في خطر وموته محقق.
بارولس :
قلت حقا، وهو ما كنت أنا قائله.
لافيه :
والحق أقول إنها لحدث جديد في العالم.
بارولس :
هو كذلك في الواقع، ولو عرض على الناس لقرأته فيما يدعونه.
لافيه : «بحث في المعجزات السماوية، على أيد بشرية».
18
بارولس :
تماما، وهو ما كنت قائله بعينه.
لافيه :
إن درفينك ليس أكثر بأسا
19
إنني أتكلم عن ...
بارولس :
إنه لغريب، بل جد غريب، هذا هو جملة الأمر وتكراره، وهو وإن كان ذا الروح الشريرة لا يريد أن يعترف بأنه ...
لافيه :
من صنع السماء.
بارولس :
نعم، هذا ما أقوله.
لافيه :
إن في أضعف الخلق.
بارولس :
وأوهنهم قوة عظيمة، وسموا بالغا، قد تنتفع بها في شيء آخر غير شفاء الملك من علته حتى ...
لافيه :
حتى يظفر بشكر الناس جميعا وعرفانهم. (يدخل الملك وهيلين والحاشية.)
بارولس :
كنت أريد أن أقول ذلك. لقد أحسنت القول، ها هو ذا الملك قادم.
لافيه :
شيء يفرح، ليتني أظفر بفتاة كهذه وأنا لي سن في فمي يا عجبا، إنه ليستطيع أن يتقدم بها إلى حلبة رقص.
بارولس :
عجبا ... أليست هذه هيلين.
لافيه :
إي والله، إني لأظنها هي.
الملك :
اذهبوا ادعوا إلي كل أشراف البلاط وساداته، واجلسي يا منقذتي بجانب مريضك. وبهذه اليد الموفورة العافية التي رددت إليها إحساسها الذاهب تلقي مرة أخرى توكيد وعدي لأنه لا ينتظر غير أن تعيني من هو ليكون لكي ما تشاءين. (يدخل ثلاثة أشراف أو أربعة ويقفون أمام الملك وينضم إليهم برترام.)
أيتها الحسناء أرسلي بصرك إلى هؤلاء الشباب، من الأشراف العزاب، ها هم أولاء يقفون ماثلين ينتظرون هبتي، وسيادة سلطاني، وصوت أبوتي، فمن حقك أن تختاري، وليس لأحد أن يرفض.
هيلين :
لكل منكم حسناء ذات خلق، إذا شاء الحب أن يجعلها من نصيبه، إلا واحدا.
لافيه :
إني لأنزل عن حصاني «كيرتال» بسرجه وعدته، لو كان لي أسنان كهؤلاء الفتيان، ولحية قصيرة كلحاهم.
الملك :
تأمليهم طويلا، لا من شاب بينهم إلا من أب ماجد. (تتقدم إلى أحدهم.)
هيلين :
أيها السادة، إن الله قد رد على يدي إلى الملك صحته.
الجميع :
لقد علمنا ذلك ونحمد الله إليك.
هيلين :
لست إلا فتاة خفرة، أعز ما تملك الحياء،
20
وأغلى ما عندها الخفر، وها أنذي يا صاحب الجلالة أستشعره، ولا أنكره، إن الحمرة التي علت الوجنتين تهمس لي «أن أستحي من أن تختاري، فترفضي، فليعد البياض إلى الوجنة أبدا، ولن أعلو لك صفحة ولا أصعد خدا».
الملك :
اختاري، وانظري، من يأب حبك، يأب حبي كله.
هيلين :
الآن من معبدك يا ديانا أطير،
21
وإلى الحب الجليل، ذلك الإله الرفيع، تتدفق زفراتي.
سيدي هل تستمع إلى خطبتي؟
الشريف الأول :
وأوافق عليها.
هيلين :
شكرا يا سيدي وهذا حسبي.
لافيه :
إني لأوثر أن أكون في هذا الاختيار، على أن أرمي النرد على الحياة أو الموت فأصيب الخسارة.
هيلين :
إن الشرف يا سيدي الذي يتقد في عينيك الجميلتين يجيبني قبل أن أتكلم متوعدا، مهددا، إن الحب يجعل قدرك فوق من تريدك، عشرين مرة، وفوق حبها المتواضع.
الشريف الثاني :
لا أرجو مزيدا.
هيلين :
إن رغبتي هي أن تتلقى ما يمنح الحب العظيم، وبهذا أنصرف.
لافيه :
أكلهم رافض سؤالها، لو كان هؤلاء أولادي، لأمرت بجلدهم أو لبعثت بهم إلى التركي ليجعل منهم خصيانا.
هيلين (إلى شريف آخر) :
لا تخش أن أتناول يدك، لأني لا أريد أن أسيء إليك إكراما لك وإنما أدعو لك بالبركات، وأن يسعدك الحظ فتجد في فراشك خيرا مني إذا تزوجت.
لافيه :
كأن هؤلاء فتيان من الجليد، لأن كلهم لا يريدها، لا شك عندي في أنهم ليسوا من أبناء الإنجليز، ولا هم من أصلاب الفرنسيين.
22
هيلين :
أنت من حداثة السن، ونقاء الخاطر، ووفرة الطيبة بحيث لا تصلح أن تأتي بولد من دمي.
الشريف الرابع :
لا أظن ذلك أيتها الحسناء.
لافيه :
لا يزال هنا واحد يجري في عروقه دم طيب من أبيه، فإذا لم تكن أنت حمارا، فأنا غلام في الرابعة عشرة، لقد عرفتك من قبل.
هيلين (لبرترام ) :
لا أجرؤ على القول بأني آخذك، بل أقول أعطيك، نفسي وإخلاصي ما دمت حية، أسترشد بعونك، وأستلهم قوتك، هذا هو الرجل الذي أريده.
الملك :
إذن أيها الشاب برترام، خذها إنها زوجك.
برترام :
زوجتي يا مولاي؟ إني ألتمس من جلالتك أن تأذن لي في هذا الأمر أن أستعين عيني، وأستوحي فيه ناظري.
الملك :
ألا تعلم ماذا صنعت لي؟
برترام :
أجل، يا مولاي الكريم، ولكني لا أرجو يوما أن أعرف لم ينبغي أن أتزوج بها.
الملك :
أنت تعلم أنها أنهضتني من فراش مرضي.
برترام :
ولكن أيستلزم هذا يا مولاي أن تعرضني للمهانة والعار، أفهل من واجبي أن أتحمل أنا نتيجة برئك؟ ... إنني أعرفها حق المعرفة، لقد كان أبي هو الذي تولى تنشئتها، أفأتخذ ابنة طبيب فقير لي زوجا، سيلحقني بذلك عار لا ينمحي أبدا.
الملك :
إن ما تحتقره من شأنها مرده إلى القلب وحده، وفي وسعي أن أهبها إياه، ومن عجب أن لا نفترق في الدم، ولا في اللون، ولا في الوزن، ولا في حرارة البدن، ولكنا مع ذلك كله لا نزال في أمر الألقاب جد مختلفين، وإذا كانت الفتاة ربة فضائل (ولا ينقصها إلا ما تكرهه فيها وهو أنها فتاة فقيرة ابنة طبيب)، فإنك إذن تكره الفضيلة من أجل المحتد واللقب، ولكني أربأ بك أن تفعل، وإذا أتت المكارم من المكان الأوهد، شرف المكان بما يفعله شاغله، أما إذا ضخمت الألقاب، وازدهينا بها، بغير خلال، فشرفها أجوف، والمجد بها مزيف، إن الخير وحده هو الخير بغير لقب، وكذلك شأن الشر، لا يؤخذ بلقبه وخطره، وإنما يؤخذ بفعله وأثره، إنها فتاة، حكيمة، جميلة، ورثت كل هذه المحامد من الفطرة ذاتها، وحسب ذلك للشرف الرفيع بانيا، وعن اللقب الكبير مغنيا، وما يتراءى شرفا موروثا، ويدعي أنه جاء من المنبت مغروسا، هو من الشرف سخرية، إذا لم يكن مماثلا لمن ورث منه، إن الشرف لينمو بأعمالنا ويبذخ ويسمو بفضل فعالنا، لا بأسلافنا، وألقاب آبائنا، إن كلمة «شرف» مزدراة على كل قبر، وهي نصب كاذب على كل حدث، وكثيرا ما تكون نصبا أخرس أصم، فوق تراب يهال ويركم ونسيان وعدم، فوق العظام الشريفة حقا، وماذا عساك أن تقول؟ ... إذا لم تستطع أن تقبل هذه المخلوقة فتاة عذراء، فإني بالباقي لزعيم، بائنتها هي ذاتها وفضيلتها، أما الشرف واليسار فأنا كفيل بهما.
برترام :
لا أستطيع أن أحبها، ولا أن أحاول أن أحبها.
الملك :
إنك لظالم لنفسك إذا حاولت أن تختار.
هيلين :
حسبي يا مولاي أنك استرددت عافيتك، ودع ما دون ذلك.
الملك :
إن شرفي أصبح مهددا، فلأفزع إلى سلطاني، دفاعا عنه وذودا، اسمع أيها الغلام المتكبر المتعجرف، تناول يدها، إنك بهذه الهدية الكريمة غير خليق، وأنت بهذه السخرية المنكرة تنتقص من حبي ومن قدرها، ألا تدري أننا لو وضعنا قدرنا معها في الكفة المرجوحة، لشالت كفتك، ألا تعلم أننا نحن الذين ننبث شرفك حيث نشاء أن ينمو وينضر، دع عنك هذا الازدراء، وأطع مشيئتنا، لأنها تعمل لخيرك، ولا تصدق زهوك وخيلاءك، وبادر إلى إيتاء نفسك حقها الذي يفرضه الواجب عليك، ويتطلبه سلطاننا منك، وإلا لفظتك من عطفي إلى الأبد، وألقيت بك إلى التيه، والتشرد، وتركتك لفراغ الشباب والجهل، وأطلقت موجدتي وكراهيتي تفترسانك افتراسا، باسم العدالة، بدون رحمة، تكلم، قل ما جوابك؟
برترام :
عفوا أيها المولى الكريم، إني أعرض ولائي وحبي على عينيك، وبعد أن شهدت كيف تنفذ في العظائم مشيئتك، ويطير الشرف الباذخ حيث تأمره أن يطير، رأيت التي كانت بالأمس في خاطري أحقر المخلوقات، تصبح اليوم موضع إطراء الملك، فكأنها بهذا التشريف ولدت شريفة، وجاءت من المنبت من المكرمات.
الملك :
خذها باليد وقل لها إنها صاحبتك، وإني لواعدها عدل ذلك عطاء، فإذا لم يكن بقدر ما أوتيت، فأكثر منه، ولدينا مزيد.
برترام :
أتقبل يدها.
الملك :
الحظ السعيد، وحظوة الملك يباركان هذا القران وسيتلوه الزفاف على الأثر، فيقام الليلة بالذات، بعد توقيع الأوراق القانونية وقد أعدت من قبل، أما الاحتفال الرسمي فسيؤجل حتى يقدم الصحاب الغائبون، وإذا أحببتها كان حبك في عيني فريضة مقدسة، وإلا كان النقيض خطيئة وإثما. (يخرجون عدا لافيه وبارولس للتعقيب على هذا القران.)
لافيه :
هل سمعت يا سيد؟ أريد كلمة معك.
بارولس :
أمرك يا سيدي.
لافيه :
لقد أحسن مولاك وسيدك في تراجعه عن إبائه.
بارولس :
تراجعه؟ مولاي ... سيدي؟!
لافيه :
نعم، أليس هذه لغة مفهومة وكلاما واضحا؟
بارولس :
أغلظ لغة وأخشن كلام، ولا يمكن أن يفهم، بغير سفك دم،
23
أتقول عنه أنه سيدي؟
لافيه :
أأنت إذن رفيق للكونت روسيون وند له ...
بارولس :
ند لأي كونت، ولكل كونت في العالم، ولكل رجل.
لافيه :
لكل رجل في خدمة الكونت، أما سيد كونت فمن طراز آخر.
بارولس :
أنت شيخ هرم، فلتقنع بهذا الذي أنت فيه.
لافيه :
لتعلم يا هذا أنني رجل، وهي صفة لن تكسبك الشيخوخة منها شيئا.
بارولس :
إن ما أجرؤ على فعله وأحسنه، لا أفعله. (يضع يده على مقبض سيفه.)
لافيه :
لقد ظننتك بعد جلستين إلى العشاء إنسانا أريبا عاقلا، لأني سمعتك تتحدث بإسهاب عن رحلاتك، فقلت جائز، ولا بأس، ولكن ثيابك وشاراتك صرفتني كثيرا عن اعتقادي أنك وعاء ثقيل الحمل، كبير الوزن، لقد اكتشفتك الآن، فلا أراع إذا أنا عدت ففقدتك، إنك مخلوق لا تصلح إلا لأن تكون نفرا في الجندية وإن لم تكن بهذا خليقا.
بارولس :
لولا أنك طاعن في السن، لما ...
لافيه :
لا تستسلم كثيرا للغضب، فتعجل بنفسك، رحمة الله عليك، إنك لدجاجة «قواقة»، إلى اللقاء إذن يا نافذة ذات قضبان متقاطعة،
24
لا حاجة بي إلى أن أفتح إطارها، لأني أخترقك بناظري، هات يدك. (يمد إليه يده.)
بارولس :
يا سيدي إنك لتزدريني أبشع ازدراء.
لافيه :
أجل من كل قلبي، وأنت به جدير.
بارولس :
لا أستحق هذا يا سيدي منك.
لافيه :
بل يمين الله أنت مستحق لكل درهم منه، ولن أنقصك مثقال ذرة.
بارولس :
سأزداد عقلا.
لافيه :
أسرع قدر جهدك، لأنك لن تلبث أن تذوق طعم النقيض وتدرك بعد هذا الفعل الذي تدعيه أنك أحمق، ولو قدر لك يوما أن يشد وثاقك بملفعتك، وتضرب، لعرفت عندئذ كيف تفاخر وتزهي بمهانتك ورباط مذلتك ، إنني لأود أن أمتنع عن معرفتك أو بالحري عن علمي بك، حتى أستطيع إذا احتاج الأمر أن أقول إنني عرفت رجلا.
بارولس :
إنك يا مولاي تغضبني غضبا لا يحتمل مطلقا.
لافيه :
لوددت أن يكون عذاب الجحيم لك، وأن يبقى عملي هذا القليل قائما إلى الأبد، لأني فت زمان العمل وتجاوزته، كما أفوتك الساعة وأتجاوز عنك مسرعا قدر ما تسمح به سني المتقدمة. (يخرج.)
بارولس :
إن لك ابنا سيحمل هذه المعرة عني أيها الشريف الشيخ القذر الأجرب، ولكني لآخذن نفسي بالصبر والتجلد، فلا جدوى من منازعة أهل السلطان، ومجادلة ذوي الجاه والنفوذ، وحق حياتي إذا لقيته في وقت مناسب لضربته ولو كان مائة شريف في بعضهم البعض، ولن تأخذني بسنه رحمة، سأضربه إذا أنا لقيته مرة أخرى. (يدخل لافيه.)
لافيه :
يا هذا، إن مولاك وسيدك قد تزوج، هذا نبأ جديد لك ... ستكون لك مولاة وسيدة جديدة.
بارولس :
أرجوك يا مولاي مخلصا أن تقلل من إهاناتك، وتترفق قليلا في غلوائك، إنه مولى كريم، أما سيدي الذي أدين له بالطاعة فهو الذي فوقنا.
لافيه :
من ... الله؟
بارولس :
أي نعم يا سيدي.
لافيه :
بل الشيطان مولاك، لماذا أراك تربط ذراعيك في هذا الثوب الرحيب الكم، أتجعل من كميك جوربا، وهل يفعل الخدم الآخرون هذا، لخير لك لو أن جزءك الأسفل كان حيث يقف منخارك، وشرفي لو أني كنت أصغر سنا مني بساعتين اثنتين لضربتك، ليخيل إلي أنك إهانة للناس عامة، وأن على كل إنسان منهم أن يضربك، وأعتقد أنك إنما خلقت لينفس الناس فيك صدورهم.
بارولس :
هذه معاملة أليمة لا أستحقها يا مولاي.
لافيه :
حسبك يا سيد لقد ضربت في إيطاليا لأنك سرقت حبة رمان، وأنك لشريد عيار،
25
لا أخو رحلات حقا ولا صاحب أسفار، وليس لك حق في الانتساب إلى السادات الكبار، والانتماء إلى الأشراف وذوي الأقدار، لأنك عديم النسب، غير مذكور في دفاتر الشرفاء ولا مدون في القوائم والسجلات،
26
ولا أحسبك تستحق كلمة أخرى وإلا لقلت لك إنك وغد، إنني تاركك. (يخرج - ويدخل برترام.)
بارولس :
بديع ... بديع جدا، لقد تم الأمر إذن ... بديع، بديع جدا، دع الأمر مكتوما إلى حين.
برترام :
لقد قضي علي، وتركت للهموم والمتاعب إلى الأبد.
بارولس :
ما الخبر، يا حبيبي؟
برترام :
لن يحتويني فراش بجانبها، وإن كنت قد أقسمت بين يدي الكاهن.
بارولس :
ماذا تقول، ماذا تقول يا حبيبي؟
برترام :
أواه يا بارولس، لقد زوجوني مكرها، إنني منطلق إلى حروب تسكانيا، ولن أعاشرها.
بارولس :
إن فرنسا جحر للكلاب ولا تستحق أن يطأها الإنسان بقدميه، فإلى الحرب إذن.
برترام :
لقد جاءت رسائل من أمي، ولكني إلى الساعة لا أعلم ماذا تحوي.
بارولس :
لا بد من معرفة ما فيها، إلى الحرب يا بني ... إلى الحرب، إن من يقيم هنا مع زوجة لينعم بالعناق والأحضان، كمن يحتجز الشرف في صندوق خفي لا يراه إنسان، مستنفدا رجولته بين ذراعيها، وأولى بهذه الرجولة أن تدخر لوثبة الحصان في سعرة الحرب، وحومة الميدان ... فهلم إلى إقليم غير هذا الإقليم، إن فرنسا إسطبل، ونحن الذين نقيم فيها خيل لا بالكرام المطهمات، ولا بالجياد الصافنات، فإلى الحرب.
برترام :
ليكونن هذا، وسأردها إلى دارنا، وأنبئ أمي عن كراهيتي لها، وإلى أني أنا فازع لاجئ، وأكتب إلى الملك ما لا أجرؤ على قوله، إن عطيته ستدفع بي إلى الميادين الإيطالية التي يصول فيها الفتيان الكرام ويجولون، إن الحرب لأهون من بيت مظلم، وزوج مكروه.
27
بارولس :
هل أنت واثق من أن هذه النزعة الفجائية ستستقر في نفسك؟
برترام :
تعال معي إلى مخدعي، لأستنصحك، سأردها بغير توان، وغدا إلى النزال والطعان، أما هي فإلى الأشجان وحدها والأحزان.
بارولس :
إن هذه الكرات الوثابة
28
تحدث أصواتا، وإن هذا الأمر ليحز في نفسي، إن الشاب المقترن، هو بالبلية مقرن،
29
فانطلق إذن واتركها بشجاعة وكرم، اذهب، لقد ظلمك الملك بهذا القران، ولكن عليك بالكتمان. (يخرجان.)
المشهد الرابع (تدخل هيلين والمهرج.)
هيلين :
إن أمي لكريمة في تحياتها وسلامها، أهي بخير؟
المهرج :
ليست بخير، وإن كانت بصحتها، وهي في أشد المرح، ومع ذلك فليست بخير، والحمد لله والشكر، على أنها بخير، وليست بها إلى الدنيا حاجة، بيد أنها ليست بخير.
هيلين :
إذا كانت بخير، فما يسقمها حتى لا تكون بخير؟
المهرج :
إنها في الحقيقة بخير تام إلا من أمرين.
هيلين :
وما هما هذان الأمران؟
المهرج :
أولهما أنها ليست في السماء، إلى حيث يرسلها الله عاجلا، والآخر أنها في الأرض، من حيث يرسلها الله سريعا.
30 (يدخل بارولس.)
بارولس :
بوركت أيتها السيدة السعيدة الحظ.
هيلين :
أرجو يا سيدي أن يكون لي إخلاصك ويكون لك سعادة حظي.
بارولس :
لقد دعوت لك من قبل أن تحتفظي بها، فإن الاحتفاظ بها معناه أنها لا تزال باقية،
31
وأنت أيها الشقي كيف «تفعل» مولاتك العجوز.
المهرج :
لكي تكون لك غضونها، ويكون لي مالها، وددت لو أنها «فعلت» كما تقول.
32
بارولس :
أنا لم أقل شيئا.
المهرج :
والعذراء إنك لحكيم، لكم من رجل أوتي لسانا يسبب هلاك مولاه، إنك ستقضي الجزء الأكبر من حياتك لا تقول شيئا ولا تعرف شيئا، ولا تفعل شيئا، ولا تملك شيئا، وإن حياتك هذه لتقرب كثيرا من لا شيء.
بارولس :
بعدا لك إنك لوغد.
المهرج :
أولى بك أن تقولها أما وغد إنك وغد، أي أنك أمامي وغد، وهذه هي الحقيقة يا سيدي.
بارولس :
حسبك، إنك لمهذار أحمق، وقد اكتشفتك.
المهرج :
هل اكتشفتني في نفسك يا سيدي، أو هل علمت أن تكتشفني. إن البحث كان لك مغنما، ولعلك مكتشف حمقا كثيرا فيك، فيلهو الناس بك ويزداد بك الضحك في هذا العالم.
بارولس :
أنت والله لوغد طيب، ناعم بغذاء حسن،
33
سيدتي إن مولاي سيسافر الليلة في مهمة خطيرة تستوجب رحيله، وهو لحقك العظيم، والحب الذي تقتضين مقر معترف، ولكنه مرجئه لظروف قاهرة، وسيتركز النعيم كله في هذه الفترة وتقطر المتعة خلالها، وتنقى طيلة هذه المهلة، وبسبب هذا التأخير الذي لا معدى عنه، حتى إذا حانت الساعة للقاء، استفاض الفرح وامتلأ الإناء، وبلغ السرور الخافقين.
هيلين :
وماذا يبغي أيضا؟
بارولس :
أن تستأذني الملك في الحال، وتجعلي هذه العجلة من تلقاء نفسك، وثمرة تفكيرك ، معززة بأسبابه، وبما ترين من حسن المعذرة، التي تظهر معها حقيقية.
هيلين :
وبماذا يأمر أيضا.
بارولس :
أن تنتظري بعد الحصول على الإذن ما يطلبه إليك.
هيلين :
إنني منتظرة في كل شيء أوامره.
بارولس :
سأبلغه ذلك. (يخرج.)
هيلين :
أرجو أن تأتي يا هذا. (تخرج.)
المشهد الخامس
حجرة أخرى في القصر (يدخل لافيه - وبرترام.)
لافيه :
ولكني أرجوك يا مولاي ألا تعتقد أنه جندي.
برترام :
بل إنه لكذلك يا مولاي، وقد ثبتت بالشواهد والأدلة بسالته.
لافيه :
لقد جاءتك هذه الشواهد من كلامه هو وأقواله.
برترام :
إلى جانب أدلة أخرى وشهادات صحيحة.
لافيه :
إذن لم تكن شواهدي دقيقة، لقد حسبت هذه القنبرة درسه.
34
برترام :
أؤكد لك يا مولاي أنه على علم واسع، وأن شجاعته لا تقل عن علمه.
لافيه :
لقد أخطأت إذن في حق حنكته، وتعديت على شجاعته، فأنا إذن مقترف خطيئة مجترح إثما، ما دمت لا أجد في نفسي نزوعا إلى تكفير، ولا رغبة في ندامة، ها هو ذا قادم، فأرجوك أن تصالحنا، وعلي أنا أن أتابع الصلح بالمودة. (يدخل بارولس.)
بارولس :
ستسير الأمور كما تريد يا سيدي.
لافيه :
قل لي من يكون حائكه ...
بارولس :
سيدي؟
لافيه :
إنني أعرفه حق المعرفة، إنه عامل ماهر، وحائك بارع.
برترام :
هل ذهبت إلى الملك.
بارولس :
نعم.
برترام :
وهل هي الليلة راحلة ...
بارولس :
إذا شئت.
برترام :
لقد كتبت رسائلي، وحزمت أمتعتي، وأمرت بإعداد جيادنا، والليلة حين أملك العروس، أنتهي منها قبل أن أبدأ.
لافيه :
إن المسافر الأريب يستمع إليه في آخر العشاء، يكذب في ثلاثة أمثال ما يرويه، ويتكلم عن حقيقة معروفة ليغطي بها ألف عبارة تافهة فيجب ألا يسمع إلا مرة وأن يضرب ثلاث مرات، نجاك الله أيها القائد.
برترام :
هل وقع جفاء بين مولاي وبينك يا سيدي؟
بارولس :
لست أدري كيف استحققت أن أقع لديه في غير موقع الرضا.
لافيه :
أنت الذي حاولت الوقوع بحذائك ومهمازك وكل شيء لديك، كالذي قفز في الحلوى، وأنك لتفضل أن تخرج منها على أن تبرر بقاءك فيها.
برترام :
لعلك وهمت فيه يا مولاي.
لافيه :
وسأظل كذلك أبدا وإن كنت قد أجبت طلبه إلى الملتقى يا مولاي، وصدقني ليس في هذه البندقية الخفيفة شيء، إن روح هذا الرجل هي ثيابه، فلا تركن إليه في الأمور الخطيرة، فقد اقتنيت هذه الحيوانات الأليفة وعرفت طباعها، وداعا يا سيد، لقد تكلمت في حقك خيرا مما استحققت أو مما ستستحق مني، ولكنا مضطرون أن نفعل الخير لنقاوم الشر. (يخرج.)
بارولس :
أقسم إنه لمولى تافه.
برترام :
لا أظن ذلك.
بارولس :
ألا تعرفه.
برترام :
بلى، أعرفه حق المعرفة، وهو معروف على الأفواه بسمعة حسنة، ها هي ذي الرباط المقيد رجلي قادمة. (تدخل هيلين.)
هيلين :
لقد تكلمت يا سيدي كما أمرتني مع الملك واستأذنته فأذن في هذا السفر العاجل، ولكنه يريد أن يتحدث إليك حديثا خاصا.
برترام :
سأمتثل لأمره، لا تعجبي يا هيلين لهذا المسلك الذي لا يناسب الظرف الحاضر، ولا يلائم عروسين في يوم زفاف، ولا يتفق وما تنتظرينه مني خاصة، لأنني لم أكن متأهبا له ولا مستعدا ولا مترقبا، فلا عجب إذا رأيتني مرتبكا مضطربا، وهو أمر يدفعني إلى التوسل إليك أن تبادري بالعودة إلى البيت لتفكري في سر توسلي إليك على هذا النحو وباعث تضرعي، ولا تسأليني فإن ما لدي من الأسباب أقوى مما يبدو لك، ورحيلي ينطوي على أمر أعظم من أن ينكشف لعينيك وأجل من أن يتراءى لك لأول وهلة، وأنت لا تعرفين عنه شيئا، واحملي هذا إلى أمي (يعطيها رسالة)
وسينقضي يومان قبل أن أراك، ولهذا أتركك لحكمة تصرفك.
هيلين :
سيدي، لست واجدة ما أقول إلا أنني خادمتك المطيعة.
برترام :
حسبك، حسبك، لا تزيدي.
هيلين :
وسأظل أبحث كيف أخفقت كواكب زواجي في أن تتفق مع كواكب سعدي.
برترام :
دعي عنك هذا، إنني في عجلة بالغة، وداعا!، أسرعي إلى البيت.
هيلين :
أستميحك معذرة يا سيدي.
برترام :
ماذا تريدين أن تقولي؟
هيلين :
إنني لست للنعمة التي أملكها مستحقة، ولا أجرؤ أن أقول إنها نعمتي، وإن كانت كذلك، ولكني كاللص الخائف المتهيب أود أن أسرق ما هو شرعا مالي، وأختلس ما هو في نظر القانون ملك يميني.
برترام :
ما الذي تريدين؟
هيلين :
شيئا، يسيرا، بل في الواقع لا شيء، ولست أقول لك يا مولاي ما أريد، إن الغرباء والأعداء يفترقون ولا يتبادلون القبلات.
برترام :
أرجوك ألا تتريثي، بل أسرعي إلى الخيل.
هيلين :
لن أعصي لك أمرا يا مولاي الكريم، أين رجالي الآخرون يا سيدي، الوداع. (تخرج.)
برترام :
اذهبي إلى البيت الذي لن أعود يوما إليه، ما استطعت أن أمتشق حساما، وأسمع طبولا، هيا بنا ... ولنهرب.
بارولس :
شجاعة وثباتا ... (يخرجان.)
الفصل الثالث
المشهد الأول (طبول - يدخل دوق فلورنسا والأميران الفرنسيان مع جمع من الجنود.)
الدوق :
لقد سمعتم الآن تفصيل الأسباب الأساسية التي دعت إلى قيام هذه الحرب، واقتضت أحداثها الجسام إراقة غزير الدماء، واستثارة العطاش إليها والظماء.
الشريف الأول :
إن هذه الأسباب يا مولاي من جانبكم شريفة مقدسة، ومن جانب عدوكم منكرة دنسة.
الدوق :
ولهذا أنا لفي عجب بالغ من ابن عمنا ملك فرنسا كيف يصم أذنيه في أمر عادل كهذا عن سماع طلبنا المعونة، والاستجابة لنداء النجدة.
الشريف الأول :
أيها المولى الكريم، لست أعرف الأسباب التي بنت عليها دولتنا خطتها، ولكني كرجل عادي لا خبرة له بالسياسة أحاول بالحدس الضعيف وحده إدراك اتجاهات المجلس وأوضاعه المستغلقة على الأفهام، كأوضاع الكواكب، وحركات الأجرام، ولهذا لا أجرؤ أن أقطع فيها برأي، إذ وجدتني أحيانا كثيرة مخطئا في حدسي وتخميني كلما بدا لي أن أفعل ذلك.
الدوق :
لتكن مشيئته.
الشريف :
ولكني على يقين أن الشباب ممن هم على شاكلتنا، والذين أتخمتهم الدعة، وسئموا الإسراف على أنفسهم، سيهرعون إلى هنا انتجاعا للدواء من الداء.
الدوق :
مرحبا بهم يوم يجيئون، وسينالون كل ما نستطيع أن نحبوهم به من شرف وتمجيد، إنكم لتعرفون مكانكم حق المعرفة، فإن خلت أماكن أفضل وأعز، فمن أجلكم تخلو لتملأ بكم وتعتز، إلى الميدان غدا. (يخرج - طبول.)
المشهد الثاني
حجرة في قصر الكونتسة (تدخل الكونتسة والمهرج.)
الكونتسة :
لقد جرى كل شيء كما كنت أريد أن يجري ، إلا أنه لم يأت معها.
المهرج :
يمينا يا سيدتي إنني أحسب مولاي الفتى في حزن شديد.
الكونتسة :
أرجو أن تخبرني عن الذي جعلك تظن هذا الظن.
المهرج :
إنه لينظر إلى حذائه ويغني، ويصلح من الطرف الأعلى لهذا الحذاء ويغني، ويسأل أسئلة ويغني، وينظف أسنانه ويغني، وأعرف رجلا هذه صفته باع قصرا منيفا بأبخس الأثمان.
الكونتسة :
دعني أرى ماذا يقول في كتابه ومتى ينتوي مآبا.
المهرج :
لم أعد أطيق الوصيفات، منذ كنت في البلاط، إن سمكنا وحيتاننا ونساءنا في الريف، يختلفن كل الاختلاف عن جواري البلاط وطعامه، إن مخ «كيوبيدي» انشرخ وانفدخ، فبدأت أحب كما يحب العجوز المال، ولا معدة له.
1
الكونتسة :
ماذا أرى هنا؟
المهرج :
حتى هذا ترينه فيه. (يخرج.) (الكونتسة تقرأ الكتاب.)
الكونتسة :
لقد أرسلت إليك كنة، شفت الملك وأضاعتني، لقد تزوجتها ولكني لم أبن بها، وأقسمت ألا أفعل أبدا، وستسمعين أنني هربت، فاعلمي النبأ قبل أن تتلقيه، فإذا كان لهذا العالم كتابة من العرض، فسأبتعد فيه إلى أقصى حد، وتقبلي احترامي ... ولدك المنكود ...
برترام
ليس هذا عملا صالحا أيها الفتى الجموح المطلق العنان، أتخسر رضا ملك كريم وتستهدف لجام غضبه، لازدراء فتاة بلغت من الفضيلة حدا، لا يزدريه رب جاه ولا صاحب سلطان.
2 (يدخل المهرج.)
المهرج :
مولاتي، نبأ خطير، بين جنديين ومولاتي الصغيرة.
الكونتسة :
ما الذي جرى؟
المهرج :
لا تراعي ... إن في النبأ بعض ما يرضي، نعم بعض ما يرضي، إن ابنك لن يقتل بالسرعة التي كنت أعتقدها.
الكونتسة :
ولماذا يقتل؟
المهرج :
هذا ما أقوله أنا يا مولاتي إذا هو هرب، وقد سمعت عن هربه، إن الخطر كل الخطر في البقاء، ففيه يضيع الرجال وإن كانوا يأتون بالأطفال، ها هم أولاء قادمون ليزيدوك علما بما جرى، أما أنا فلم أسمع إلا بهرب فتاك. (يخرج.) (تدخل هيلين والشريفان.)
الشريف الثاني :
سلاما أيتها السيدة الكريمة.
هيلين :
مولاتي، إن مولاي ذهب، ولن يعود أبدا.
الشريف الأول :
لا تقولي هذا.
الكونتسة :
أرجوكما أيها السيدان صبرا علي ورفقا بي، لقد تعاقب على نفسي من الأفراح والأتراح ما جعلني لأول مطالعها وبوادرها أحس ضعف المرأة وخورها، أرجوكما أن تخبراني أين ولدي ...
الشريف الأول :
لقد ذهب ليخدم دوق فلورنسا وقد التقينا به هناك، لأننا جئنا، وسنعود إليها بعد تأدية مهمة لنا في البلاط.
هيلين :
انظري يا مولاتي إلى كتابه، إنه جواز سائل،
3
فهو يقول لي فيه: «إذا استطعت أن تظفري بالخاتم الذي في إصبعي والذي لن يخرج منه إلى الأبد، وإذا أمكنك أن تقدمي إلي ولدا من أحشائك وأصلابي، أكون أنا له الوالد، وهو لي الولد، فلتسمني يومئذ لك بعلا، وإلا فلا إلى الأبد ... يا لها من كلمات مروعة.
الكونتسة :
هل أنتما اللذان جئتما بهذا الكتاب أيها السيدان ...
الشريف الأول :
أي نعم يا سيدتي، ونحن لما حوى آسفان لما نقلناه.
الكونتسة :
أرجوك أيتها السيدة أن تخففي من حزنك، وتسري قليلا عنك، لأنك إذا احتكرت الأحزان كلها لنفسك، تركتني منها خلية، بغير نصيب، لقد كان لي ابنا، ولكني ماحية اسمه من دمي، وأنت وحدك كل ولدي ... أتقولان إنه ذهب إلى فلورنسا؟
الشريف الأول :
أجل يا سيدتي.
الكونتسة :
ليكون جنديا؟
الشريف الأول :
هذا هو مقصده النبيل، وثقي أن الدوق سيخلع عليه كل الشرف الذي يستحقه.
الكونتسة :
أعائدان إلى هناك؟
الشريف الثاني :
نعم يا سيدتي على جناح السرعة.
هيلين (تقرأ) : «لن يكون لي بفرنسا شأن، ما بقي لي فيها زوج»، إنه لقول أليم ...
الكونتسة :
أوجدت هذا أيضا في الكتاب؟
هيلين :
نعم يا مولاتي.
الشريف الثاني :
لعلها جرأة من يده، على ما لم يقره قلبه لحسن الحظ.
الكونتسة :
لا شأن له بفرنسا، ما بقي له فيها زوج ... «ليس له هنا من ولي ولا عزيز غيرها، إنها لخليقة بمولى في خدمته عشرون فتى من أمثاله شراسة، يقولون لها في كل ساعة «مولاتي» ومن كان معه؟
الشريف الثاني :
خادم واحد وسيد عرفته في وقت ما.
الكونتسة :
أليس هو بارولس؟
الشريف الأول :
بلى يا سيدتي الكريمة، إنه هو.
الكونتسة :
مخلوق فاسد، امتلأت بالشر نفسه، أفسد بالتحريض طهارة ابني وأخلاقه الكريمة.
الشريف الأول :
أجل أيتها السيدة الكريمة، إن لهذا المخلوق أسوأ الأثر في نفس ولدك الذي يقدره كثيرا ويحسن الرأي فيه.
الكونتسة :
مرحبا بكما أيها السيدان، وأرجو أن تقولا لولدي حين تريانه: إن سيفه لن يكسب الشرف الذي خسره، وسأرجو إليكما أن تحملا إليه مني كتابا.
الشريف الأول :
نحن في خدمتك يا سيدتي في هذا وفي كل ما تأمرين به من الشئون الهامة.
الكونتسة :
أستغفر الله، ولن تكونا في خدمتي إلا إذا أذنتما لي بأن أقوم بخدمة أؤديها لكما من واجب الوفادة والتكريم. (تخرج هي والشريفان.)
هيلين : «لن يكون لي بفرنسا شأن، ما بقي لي فيها زوج ...»، لن يكون لك في فرنسا يا روسيون زوجة، لن يكون لك أحد يا روسيون في فرنسا، وإذن سيعود إليك كل ما كان لك فيها، واها لك يا مولاي، أأنا التي تطردك من وطنك، وتعرض طراءة بدنك لأحداث الحرب وأهوالها، وهي لا تبقي ولا تذر؟ أأنا التي تبعدك عن البلاط ومباهجه، حيث الغيد يثأرنك بأعينهن والحسان يرسلن إليك سهام لواحظهن، لتكون هدفا لقذائف النيران، المنبعثة وسط ذوائب الدخان؟ أيتها المقاذيف الرصاصية التي تمرق في مثل سرعة الشهب، انطلقي غير مسددة، وانبعثي غير مصوبة ولا مؤكدة، ومزقي الفضاء ودوي في أرجائه مخترقة، ولا تمسي مولاي بسوء، وكل من يسدد الرمية إليه، أنا غريمته، وكل من يرسل الطلقة إلى صدره، أنا ملاحقته، ولئن لم أقتله، كنت السبب في قتله، وعلة منيته، إني لأوثر أن ألقى الأسد وهو يزأر من فرط الجوع، وأن تتناهبني مجتمعة كل ما في العالم من مصائب، وما في الخليقة من خطوب ... كلا، يا روسيون، عد إلى وطنك، من حيث لا تصيب من الشرف بتعرضك للخطر غير جرح وندبة، ولكن قد يكون الهلاك نصيبك والخسارة، لأذهب أنا، ما دام مقامي هنا، هو الذي يحول دون رجعاك، أفأقيم هنا لتظل أنت بعيدا، وعن وطنك مصروفا مذودا؟ كلا، ثم كلا! ولو كان نسيم الجنة على هذا البيت مطلقا هابا، والملائكة فيه حاشدين، سأذهب لعل نبأ فراري ينزل على سمعك مواسيا، ويطالع أذنيك معزيا أيها الليل أقبل، لتختم النهار، لأني مع الظلام المسترق، سأسترق الخطى هاربة، أنا اللصة المسكينة ... (تخرج.)
المشهد الثالث
أمام قصر الدوق (طبول - يدخل دوق فلورنسا وبرترام وضباط وجنود - وبارولس وغيرهم.)
الدوق :
أنت قائد فرساننا، وإن لنا لأملا كبيرا فيك، وواضعون أصدق حبنا وثقتنا بمستقبلك الباهر، وغدك المجيد.
برترام :
مولاي. إنه لعبء فادح تنوء به قواي، ولكني سأجتهد في حمله، لمرضاتك إلى أبعد حد.
الدوق :
إذن انطلق، وليخفق التوفيق فوق هامتك، وليكن الحظ السعيد في خدمتك.
برترام :
أي إله الحرب، إنني من اليوم سالك نفسي في أجنادك فحقق أملي، واستجب لما في خاطري، حتى أثبت أنني لطبولك محب، وللحب كاره. (يخرجون.)
المشهد الرابع
حجرة في قصر الكونتسة (تدخل الكونتسة ورئيس الخدم.)
الكونتسة :
وا حزني! هاك كتابها، ألم يكن في إمكانك أن تعرف من إرسالها لي خطابا ما هي فاعلته قبل أن تقدم فعلا عليه؟ اقرأ كتابها مرة أخرى.
رئيس الخدم (يتلو الكتاب) : «إنني ذاهبة لأحج مزار سان جاك
4
بعد أن أزري بحبي الطموح وأستنكر، وسأسعى إليه أطأ الأرض حافية القدمين، معاهدة الله على التكفير عن خطاياي، ضارعة إليه أن يرد مولاي العزيز، وولدك المحبوب، من حومة الحرب الدامية إلى وطنه بسلام وعافية، قانعة من بعيد بتقديس اسمه، مخلصة الدعاء، صادقة النداء، سائلة إياه الصفح عما كبدته من متاعب، وجشمته من مكاره ونوائب، فأنا زوجه المزدراة، قد فعلت ما فعلت جونو
5
ببعلها العظيم، إذ نزعته من صحابه في البلاط وخلطائه، وأسلمته للمقام بين خصومه وأعدائه، في مضارب القتال وشدة بلائه، حيث المنايا رصد للشجعان، وهو أكرم وأجل من أن يستهدف لها ويكون لي، وأنا من الموت مفتديته، ولمقدم المنون ملاقيته، لينطلق هو بالحياة ناجيا ...».
الكونتسة :
بالله ما أشد اللذعات في أرفق الكلمات، وما أحد السنان في لغة الحنان، أي رينالدو، ما عهدتك يوما أشد افتقارا إلى الحكمة منك اليوم، إذ تركتها تفر، ولو أني تحدثت إليها، لاستطعت أن أثنيها عن نيتها، ولكنها حالت دون ذلك بفرارها .
رئيس الخدم :
مغفرة يا مولاتي، لو أني قدمت إليك هذا الكتاب في الليلة البارحة لكان من الجائز اللحاق بها، ولكنها تقول إن تعقبها ذاهب سدى.
الكونتسة :
أي الملائكة مبارك هذا الزواج الغادر! إنه لن يحالفه التوفيق ما لم تنجه دعواتها الذاهبة إلى السماء مسموعة، صاعدة إلى الله مقبولة، من غضب العدالة الإلهية، اكتب يا رينالدو، اكتب إلى هذا الزوج الذي يستحق زوجته، ودع كل كلمة في مثل زنة فضلها، الذي استخف به، وصف له بدقة حزني الشديد، وإن كان به مستهينا، وأوفد إليه أنسب الرسل، لعله حين يسمع برحيلها عائدا إلينا، وإني لأرجو حين تعلم بما جرى أن تبادر إلى الأوبة، يحدوها حبها الطاهر، فلست أدري أيهما أعز عندي وأغلى قدرا، وأنا العاجزة عن التفرقة، هلم اكفل للرسول حاجته، إن قلبي لمحزون، وسني واهنة متقدمة، والحزن يطلب دمعا، والأسى يقتضي بالكلام متنفسا. (يخرجان.)
المشهد الخامس
خارج أسوار فلورنسا (صوت طبول من بعيد.) (تدخل أرملة عجوز من نساء فلورنسا وابنتها ديانا وفيولنتا وماريانا وغيرهن من أهل المدينة.)
6
الأرملة :
تعالين، حتى لا نحرم من المشاهدة إذا هم اقتربوا من المدينة.
ديانا :
يقولون إن الكونت الفرنسي قام بعمل حربي جليل.
الأرملة :
وإنه أسر القائد الأكبر وبيده ذبح شقيق الدوق ... لقد ذهب جهدنا سدى فها هم أولاء يتخذون طريقا آخر غير هذا الطريق، ألا تسمعن دق الطبول من مكان بعيد.
ماريانا :
لنعد من حيث أتينا قانعات برواية الخبر، وأنت يا ديانا احذري هذا الأمير الفرنسي، وأمسكي عليك حفاظك، إن شرف الفتاة في نقاء اسمها، وحسن سمعتها، وليس ثمة شيء أشرف من العفاف، ولا أغلى من الطهر والنقاء.
الأرملة :
لقد قلت لجارتنا كيف راح سيد من رفاقه يتعلق بأذيالك.
ماريانا :
أعرف هذا الوغد لعنة الله عليه، إنه يدعى بارولس، وهو ضابط قذر، دأب على إغواء الأمير الشاب والوسواس في سمعه، فاحذريهما يا ديانا، ولا تستمعي إلى وعودهما وكيدهما وأقسامهما ومراوداتهما، وسائر ما تصطنعه الشهوات من وسائل وأدوات، لأنها وعود كاذبة، وأماني باطلة، فكم من فتاة انخدعت بها، وكان الشقاء جزاءها، وراحت عبرة لمن تعتبر، وشر ما في الأمر أن الشقاء وسوء المغبة الرهيب الذي يؤدي إليه فقد العذارى شرفهن لا يحول برغم هذا بينهن وبين تكرار المأساة، بل إنهن ليقعن في الشراك التي تنصب لهن، وما هذه الحبائل إلا أشبه بالفروع والأفنان التي تجتذب الأطيار، وتحتبلها في القنيصة، وأرجو ألا أحتاج إلى إسداء نصيحة أخرى إليك، بل أملي أن يصونك عفافك، فتظلي كما أنت، ولئن لم يبد للعين خطر، فقد تفقد العذراء الحياء، ويذهب عنها الخفر.
ديانا :
لن أدعك تخافين علي، فاطمئني. (تدخل هيلين في زي الحجاج.)
الأرملة :
أرجو ذلك، انظرن، ها هي ذي حاجة قادمة، إنني أعرف أنها ستقيم في بيتي، إن هؤلاء الحاجات ينبه بعضهن بعضا، واحدة ترسل الأخرى، سأسألها ... يا حاجة سلاما لك، إلى أين؟
هيلين :
إلى مزار القديس جاك الأكبر، نبئيني بالله عليك أين ينزل الحجيج.
الأرملة :
في سان فرنسيس هنا بجوار باب المدينة.
هيلين :
أهذا هو الطريق إليه؟
الأرملة :
نعم هو وأيم الله (تسمع مواقع أقدام الجنود من بعيد ...)
ألا تسمعن. إنهم قادمون من هذا الطريق، هلا انتظرت يا حاجة ريثما يأتي الجنود فأسير بك إلى حيث تأوين، لأني أعرف ربة المأوى، فهي صورة مني.
هيلين :
أأنت هي؟
الأرملة :
إذا رضيت بذلك يا حاجة.
هيلين :
شكرا لك، وسأنتظر حتى يتسع لك الوقت.
الأرملة :
أظنك قادمة من فرنسا؟
هيلين :
منها أتيت.
الأرملة :
ستشهدين هنا فتى من أبناء بلدك أتى أعمالا مجيدة.
هيلين :
وما اسمه إذا سمحت ...
الأرملة :
الكونت روسيون، أتعرفين أحدا بهذا الاسم ...
هيلين :
لا أعرفه إلا بالسماع، فقد سمعت أطيب الثناء عليه، ولكني لا أعرف وجهه.
ديانا :
مهما يكن من أمره، وهو يعد هنا من أظرف الناس، ويقال إنه فر من فرنسا لأن الملك أرغمه على الزواج بمن لا يحب ... أتظنين الأمر كذلك؟
هيلين :
هذه هي الحقيقة بعينها، إنني أعرف زوجه.
ديانا :
إن في خدمة الكونت سيدا يروي السوء عنها.
هيلين :
وما اسمه؟
ديانا :
مسيو بارولس.
هيلين :
آه ... إنني متفقة معه ، فهي من حيث الفضل، وإذا قورنت بقدر الكونت العظيم وشأنه، أقل كثيرا من أن يذكر اسمها بجانبه، وكل ما فيها من خير حرصها على عفافها، فلم أسمع عنها من هذه الناحية شائبة.
ديانا :
وا أسفا لهذه السيدة المسكينة، إنه لرباط أليم أن تكون زوجا لسيد يكرهها.
الأرملة :
إنني أراها مخلوقة طيبة فاضلة، ومهما تكن فإن فؤادها لمحزون بلا ريب، وفي شجن بالغ، إن هذه الشابة تستطيع أن تنتقم لها إذا شاءت.
هيلين :
ماذا تعنين بقولك هذا؟ ... أترى الكونت الغزل يراودها لمقصد غير شريف؟
الأرملة :
نعم، إنه ليعرض عليها كل ما في مكنته أن يعرض، ليفسد عليها شرف العذراء، ولكنها تتقيه، وعلى حذر منه، منتبهة إلى الذود عن شرفها. (طبول وأعلام، يدخل الكونت روسيون وبارولس وكتيبة من جيش فلورنسا.)
ماريانا :
حمتها الآلهة وعاذتها منه.
الأرملة :
ها هم أولاء قد أتوا، هذا أنطونيو أكبر أبناء الدوق، وهذا إسكالوس.
هيلين :
وأيهم الفرنسي؟
ديانا :
ذاك صاحب الريشة، إنه لأشجع الشجعان، ليته كان لزوجه محبا، ولو وفى لكان أحسن البعول، أليس هو بالسيد الجميل؟
هيلين :
إنه يروقني كثيرا.
ديانا :
ولكن من دواعي الأسف أنه ليس مخلصا، وها هو ذا الوغد الذي يقوده إلى تلك الأماكن، لو أنني كنت زوجه لوضعت السم لهذا المجرم الشرير.
هيلين :
أيهم هو؟
ديانا :
ذلك القرد المقفع الكثير الثياب، لماذا يبدو مكتئبا؟
هيلين :
لعله جرح في المعركة.
بارولس :
أنفقد طبولنا! حسن.
ماريانا :
إنه غضبان مغيظ من شيء ما، انظرن إنه قد لمحنا.
الأرملة :
لعنة الله عليك.
ماريانا :
وعلى تحيتك أيها الديوث. (ينصرف برترام وبارولس والضباط والجنود.)
الأرملة :
لقد مر الجنود فهلمي أيتها الحاجة، أذهب بك إلى حيث تنزلين، ففي بيتي الساعة من طلاب التوبة والتكفير أربعة أو خمسة من الحجيج إلى مزار سان جاك.
هيلين :
أشكرك بكل خضوع، فهلا تكرمت يا ربة الدار وهذه العذراء الرقيقة بقبول تناول الطعام معنا الليلة وستكون النفقة والشكر علي، وجزاء آخر سأهب هذه العذراء بعض وصفات طبية، خليقة بالذكر.
الأرملة وماريانا :
نتقبل هذه المكرمة شاكرين . (ينصرفن.)
المشهد السادس (يدخل الكونت روسيون والشريفان الفرنسيان.)
الشريف الثاني :
إي والله يا مولاي الكريم جربه ودعه يمضي في هواه.
الشريف الأول :
وإذا لم تجده يا مولاي مخلوقا لا قيمة له ولا قدر، فأسقطني من عينيك، ودع عنك احترامي.
الشريف الثاني :
وحياتي يا مولاي إنه «فقاعة».
برترام :
هل تظنان أنني كنت مخدوعا فيه.
الشريف الثاني :
صدقني يا مولاي إنه في اعتقادي، بعد معرفتي الشخصية به، وبدون حقد أو موجدة في نفسي عليه، كأنه أحد أقاربي، جبان بادي الجبانة، كذاب لا حدود لكذبه، حناث في كل ساعة بأيمانه، نكاث في كل لحظة بوعوده، لا سجية فيه أن تقبله في خدمتك.
الشريف الأول :
يخلق بك أن تعرفه على حقيقته، لئلا تسكن إلى فضل ليس له منه حظ، فيخذلك في موطن جلل، أو أمر يستوجب خطره البالغ الثقة والاطمئنان.
برترام :
وددت لو أنني عرفت في أي أمر خاص به أجربه.
الشريف الأول :
ليس ثمة سبيل إلى تجربته أفضل من أن تكلفه أن يحمل الطبلة في القتال،
7
كما سمعته يتحدث عن ثقة بأنه لا يتردد في حملها.
الشريف الثاني :
وسأفاجئه أنا وجماعة من الجنود الفلورنسيين، ممن أثق بأنه لا يميز بينهم وبين الأعداء، فنشد وثاقه، ونعصب عينيه، حتى ليذهب الظن به إلى أنه محمول إلى مضاربهم، على حين نأتي نحن به إلى خيامنا، وما عليك يا مولاي إلا أن تكون حاضر أمرنا، فإذا لم تشهده عندئذ في سبيل النجاة بحياته، ودافع الخوف الخسيس، يعرض من تلقاء نفسه الغدر بك، وإفشاء كل ما في جعبته من الأنباء عنك، وحلف الأيمان المغلظة على صدق قوله، إنه إن لم يكن صادقا في قوله غضب الله عليه، فلا تركن بعد اليوم إلى رأيي ولا تثق بحكمي وتقديري.
الشريف الأول :
حبا في الضحك، ورغبة في التسلية، دعه يحضر طبلته، ما دام هو القائل إنه البارع الحاذق في حملها، لترى يا مولاي مبلغ براعته في ذلك، ومدى مقدرته، وتتبين إلى أي حد ستذوب هذه القطعة من المعدن المزيف، فإذا لم تضربه حينئذ ضربا مبرحا، فلا شيء بعدئذ ينتزع منك ميلك لهذا الإنسان. (يدخل بارولس.)
الشريف الثاني :
حبا في الضحك، ورغبة في الفكاهة، لا تحل دون شرف مقصده، دعه يستنقذ طبلته، مهما يكن الأمر.
برترام :
كيف الحال الآن يا سيد ... إن هذه الطبلة تحز في جسدك، وتثقل على صدرك.
الشريف الأول :
إنها كالجدري، فدعها، إن هي إلا طبلة.
بارولس :
أتقول إن هي إلا طبلة، هي طبلة نعم ذهبت خسارا، وجلبت عارا، لقد كانت القيادة بارعة حقا في الهجوم بخيلنا على جناحينا، وتمزيق صفوف جنودنا بأيدينا.
الشريف الأول :
لا ملامة على القيادة ولا معاب، لقد كانت نكبة من نكبات الحرب يعجز قيصر نفسه عن منعها، لو أنه كان في مركز القائد وموضعه.
برترام :
لا يمكن أن نتهم فوزنا، ونعيب نصرنا، نعم لقد مسنا بعض الشين من فقداننا هذه الطبلة، ولكن لا سبيل إلى استردادها.
بارولس :
لقد كان من الجائز أن نستردها.
برترام :
كان من الجائز، ولكن لا سبيل إليه الآن.
بارولس :
لا بد أن تسترد، ولولا أن حسن البلاء قلما ينسب إلى صاحبه ومؤتيه، لاسترددت هذه الطبلة أو غيرها، وإن قضيت في هذه السبل وتخطفني الردى.
برترام :
هلم إذن، إذا كانت في نفسك يا سيد رغبة، وإذا كنت ترى أن خبرتك بفنون القتال كفيلة برد هذه الشارة الرائعة من شارات الشرف إلى مكانها، هلم تقدم عظيما فحاول استعادتها، ولك علي أن أشهد لك بحسن البلاء، وعلو المكارم، وجميل الأثر، فإذا مضيت في هذا الأمر موفقا، فسوف ينوه الدوق بك، ويشيد بذكرها، ويزيدك من فضله، قدر ما يليق بعظمتك، ويناسب مقامك، ويجزي كل ذرة من قدرك.
بارولس :
قسما بيد جندي إني لفاعل.
برترام :
ولكن لا ينبغي أن تنام الآن عنها.
بارولس :
سأحاولها في هذا المساء، أما الساعة فسأتدبر الأمر وأتروى فيه، وأنادي إلى شجاعتي وأنا المطمئن الواثق وأعد العدة للردى، وأوطن النفس على لقائه، وعند منتصف الليل ترقب أنباء عني وانتظر أخبارا.
برترام :
هل أجرؤ على إبلاغ سمو الدوق أنك معتزم المضي في هذا الأمر؟
بارولس :
لا أعرف يا مولاي كيف سيوافيني النجاح، ولكني على المحاولة مقسم، وببذل الجهد مرتبط.
برترام :
أعرف أنك باسل، وبمدى جنديتك شاهد ... إلى الملتقى.
بارولس :
لا أحب الإكثار من القول، ولا أنا في الكلام الكثير راغب. (يخرج.)
الشريف الثاني :
لا يحب كثرة الكلام إلا كما يحب السمك الماء، أليس هذا المخلوق يا مولاي عجيبا، في هذا الاطمئنان الذي يبديه إلى إتيان عمل كهذا، وهو يعلم أنه أمر هيهات أن يتم؟ أليس عجيبا منه أن يلعن نفسه ليفعله، وكان خيرا له أن يكون ملعونا، من أن يفعله.
الشريف الأول :
إنك لا تعرفه يا مولاي كما نعرفه، إنه بلا شك لا يفتأ يتسلل إلى قلب إنسان ما ويسترق الخطى إلى رضاه وحظوته، ويظل أياما متجنبا كثيرا من الأشياء التي تكشفه، متحاميا جهده ما يفضح أمره، ولكنك حين تكشفه، تملك بعدئذ أن تفضحه.
برترام :
ما الذي يجعلك تظن أنه لن يقدر على شيء مما يتطوع لإتيانه، ويتقدم بنفسه إلى إنجازه بكل ما في إمكانه؟
الشريف الثاني :
ليس هو على شيء في هذا العالم بقادر، ولكنه عائد بأكذوبة يختلقها وشفاعة يبتدعها، ويلقي إليك بأكذوبتين أو ثلاث مجتملات أو مرجحات ولكنا قد أجهدناه أو كدنا، وسترى الليلة سقطته، وهو في الحق ليس باحترامك جديرا.
الشريف الأول :
سنلاعب لك هذا الثعلب قليلا قبل أن تسلخ جلده، فقد استراب به من قبلنا الشريف لافيه الشيخ، فما زال به حتى كشف ستره، وإنك لمنبئ برأيك فيه، حين تشهده الليلة بالذات.
الشريف الثاني :
إنني ذاهب لأعد الحبائل له، وإنه لمحتبل.
برترام :
وسيذهب أخوك معي.
الشريف الأول :
كما تريد يا مولاي، إنني تارككما. (يخرج.)
برترام :
والآن، أذهب بك إلى البيت وأريك الفتاة التي تحدثت إليك عنها.
الشريف الثاني :
ولكنك تقول إنها عفة.
برترام :
هذه هي المصيبة كلها، لقد كلمتها مرة واحدة فوجدتها باردة أعجب البرودة، ولكني بعثت إليها، مع هذا المأفون الذي نريد الإيقاع به، بهدايا وكتب، فردتها ولم تتقبلها، هذا كل ما فعلته، إنها لحسناء، ألا تأتي لنراها؟
الشريف الثاني :
من كل قلبي يا مولاي. (يخرجان.)
المشهد السابع
حجرة في منزل الأرملة (تدخل هيلين والأرملة.)
هيلين :
إذا كنت في ريب مني، ولا تصدقين أنني هي، فلست أدري كيف أزيدك يقينا، إلا إذا فقدت الأساس الذي أبني عليه عملي.
الأرملة :
لئن كانت حياتي في المجتمع متداعية، فقد كنت كريمة المنبت، طيبة الأعراق، لا أعرف من هذه الأمور شيئا، فلست أرضى بتعريض سمعتي لفعلة سوءى، ولا أقبل عملا مشينا.
هيلين :
وأنا لا أرضاه لك ولا أرجوه، ولكني إنما أطلب إليك أن تثقي أن الكونت هو زوجي، وكل ما طلبت إليك أن تقسمي على كتمانه صحيح بجملته وتفاصيله، ولن تأثمي إذا أنت وهبتني العون الكريم الذي سألتك إياه.
الأرملة :
لا بد أن أصدقك بعد أن ثبت لي أنك ذات ثراء عظيم.
هيلين :
خذي هذا الكيس المليء ذهبا، ودعيني أشتر معونتك الصادقة به، وسأزيدك أجرا وأضاعفه لك، إذا وجدتها لديك، إن الكونت يغازل ابنتك، ويضرب حصاره الدفين حول حسنها، ويعتزم الظفر بها، فدعيها تظهر الرضا، وسنشير عليها بما ينبغي أن تفعله، وهو في لهفته، وحرارة شهوته، لن يضن عليها بشيء تطلبه، إنه يضع في إصبعه خاتما موروثا من بيته كابرا عن كابر، منذ بضعة أجيال، حين كان جده الأول يلبسه، وهو بهذا الخاتم لمعتز، وعليه حريص، ولكنه من سعير شهوته، لن يأبى النزول عنه، لشراء طلبته، وإن ندم عليه بعد ذلك.
الأرملة :
الآن فهمت غرضك.
هيلين :
وعرفت أنه حلال مشروع، فكل ما هو مطلوب أن تطلب ابنتك هذا الخاتم منه قبل أن تتظاهر له بالرضا، وتضرب له موعدا للقاء، وقصارى القول دعيني أحل محلها، وهي غائبة طاهرة، وسأضيف إلى ما قد دفعت ثلاثة آلاف دينار لتزويجها وتجهيزها.
الأرملة :
وأنا موافقة، فاشرحي لابنتي كيف تسلك، وبيني لها كيف السبيل، حتى يتم المطلوب في المكان المعين، والموعد المضروب، تحقيقا لهذه الخدعة المشروعة، والحيلة التي يجانبها الإثم، إنه يأتي كل ليلة بمختلف الموسيقات والألحان، وينشدها الأغاني ويمنيها الأماني، ليراودها عن عفافها، ولا نجد شيئا يرده عن دارنا، لأنه الملح الدءوب، كأن في هذا الأمر حياته.
هيلين :
لنحاول الليلة إذن حيلتنا، ولننفذ خطتنا، فإن أفلحنا فذلك شر يراد به خير، وحلال يراد به حلال، كلاهما لا إثم فيه، وإن ظل الواقع أثيما، فلنمض فيه. (تخرجان.)
الفصل الرابع
المشهد الأول
في خارج معسكر الفلورنسيين (يدخل أحد الشريفين الفرنسيين مع خمسة جنود أو ستة بمثابة «كمين».)
الشريف الثاني :
ليس أمامه طريق يسلكه غير هذا السياج، فإذا أقبل، فانقضوا عليه، وبادروه بلسان مخيف، ولغة منكرة، لا تفهمون منها شيئا، فذلك أمر لا يهم، إذ لا ينبغي أن نتراءى كأننا نعرفه أو نفهمه، ما لم ينبر أحد فيكون ترجمانا بيننا وبينه.
جندي :
يا حضرة الضابط، لأكن أنا الترجمان.
الشريف الثاني :
أليست بينك وبينه معرفة، هل يعرف صوتك؟
جندي :
كلا، يا سيدي، أؤكد لك.
الشريف الثاني :
ولكن ما هي الرطانة التي ستكلمنا بها؟
جندي :
عين التي ستكلمونني بها.
الشريف الثاني :
يجب أن يحسبنا عصبة من الغرباء، في خدمة الأعداء، وهو يعرف قدرا قليلا من لغات الأقاليم المجاورة كلها، فليتحدث كل واحد منا باللسان الذي يخترعه لنفسه، حتى نبدو كأننا لا نعرف ما يتحدث به كل منا للآخر، فإذا بدا أننا نعرف شيئا فهو غرضنا المباشر، فيكون كلامنا كالغربان نعيقا، وليكن ثرثرة متقنة وصياحا وزعيقا، أما أنت أيها الترجمان، فلتستعن السياسة، ولتحذق الوساطة، هلموا اختبئوا، ها هو ذا قادم، إنه سيقضي ساعتين نائما، ثم يعود فيقسم على الأكاذيب التي يخترعها أنه لمن الصادقين. (يدخل بارولس.)
بارولس :
الساعة العاشرة، في هذه الساعات الثلاث فسحة كافية للذهاب إلى البيت وما سأقول إنني قد فعلته؟ ينبغي أن يكون ما يؤيده اختراعا بارعا، وتلفيقا متقنا يؤدي إلى المراد منه، لقد بدءوا يشتمون رائحتي، ويبصرون دخاني، وأخذت الفضيحة في هذه الأيام تدق بابي، وأرى لساني مفرطا في الجرأة والبيان، ولكن قلبي لا يزال يواجه مخاوف النزال والطعان، فلا يجسر على ما يرويه اللسان.
الشريف الثاني :
هذه أول كلمة حق أجرم لسانك فنطق بها.
بارولس :
أي شيطان هذا الذي دفعني إلى التعهد باسترداد هذه الطبلة وأنا العليم بأن استردادها ضرب من المحال، وما دمت أعلم أن هذا المطلب ليس هدفي؟ لا معدى عن إصابة نفسي ببعض الجراحات، لأقول إنني تلقيتها في المعارك، ولكن الجروح اليسيرة لن تؤدي المراد، فسيقولون ألم تخرج منها إلا بهذه الخدشات؟ ولست على الجروح النجل بقادر، ولا على الأذى البالغ بالجسور، فما الحجة إذن وما الحيلة؟ ... أيها اللسان ... لا بد لي من أن أضعك في فم بائعة زبد
1
أو أبتاع بغلة بايزيد
2
إذا أنت ورطتني في هذه المهالك، ودفعت بي إلى هذه المآزق.
الشريف الثاني :
أيمكن أن يكون على بينة من نفسه، ثم يتراءى في هذه الصورة التي يبدو بها؟
بارولس :
أود لو أن تمزيق ثيابي يؤدي الغرض، أو كسر سيفي الإسباني يفي بالمراد.
الشريف الثاني (لنفسه) :
ولكننا لن نتيح لك ذلك، ولن نتركك تفلت بهذه السهولة.
بارولس :
أو أحلق لحيتي وأقول إنها خدعة حربية.
الشريف الثاني (لنفسه) :
ولا هذا يغني.
بارولس :
أو إغراق ثيابي لأقول إنني جردت منها تجريدا.
الشريف الثاني (لنفسه) :
ولا هذا يكاد يجدي.
بارولس :
ولو حلفت بأنني ألقيت بنفسي من نافذة القلعة.
الشريف الثاني (لنفسه) :
من أية مسافة؟
بارولس :
ثلاثون قامة.
3
الشريف الثاني (لنفسه) :
لن يصدقك أحد ولو أقسمت ثلاثة أيمان مغلظة عليه.
4
بارولس :
ليت لي طبلة من طبول العدو لأقسم أنني استرددتها.
الشريف الثاني (لنفسه) :
ستسمع في الحال قرع واحدة.
بارولس :
الآن أسمع قرع طبول العدو. (صيحات من الداخل.)
الشريف الثاني :
تروكا موفساس، كارجو، كارجو، كارجو.
الجميع :
كارجو، كارجو، فيلياندا، باركاريو، كارجو.
5 (يمسكون به ويعصبون عينيه.)
بارولس :
الفداء، الفداء، لا تحجبوا عيني.
الترجمان :
بوسكوس ترومالدو بوسكوس.
بارولس :
أعرف أنكم من فرقة المسكوس، وأنني سأفقد حياتي لجهلي بلسانكم، وإذا كان منكم ألماني هنا أو دانمركي أو هولندي أو إيطالي أو فرنسي، فليكلمني فإني كفيل بأن أكشف عما سوف يؤدي إلى هلاك الفلورنسي.
الترجمان :
بوسكوس فوفادو، إني أفهمك، وأستطيع أن أتكلم لغتك - كريلينبتو - ارجع إلى دينك، واستقبل منيتك، إن سبعة عشر خنجرا مصوبة إلى صدرك.
بارولس :
آه.
الترجمان :
صل لله، صل لله، صل لله، مانكا رافيانيا دولشي.
الشريف الثاني :
أوسكوربيدولشي فوليفاركو.
الترجمان :
إن القائد ليرتضي الإبقاء عليك وسيساق بك وأنت معصوب العينين على هذا النحو ليعرف معلومات منك، فلعلك قائل شيئا تنقذ به حياتك.
بارولس :
أبقوا على حياتي أقل لكم أسرار معسكرنا جميعا، وأنبئكم بقواتنا، وأهدافنا، بل إني لقائل لكم ما فيه العجب العجاب.
الترجمان :
ولكن أقائل أنت صدقا؟
بارولس :
اللعنة علي إن لم أفعل.
الترجمان :
أكوردو لنتا، هلم، لقد منحت مهلة. (يخرج مع بارولس تحت الحراسة، صيحات قليلة من الداخل.)
الشريف الثاني :
اذهب قل للكونت روسيون وأخي إننا قد قبضنا على الحجل، وسنبقيه معصوبا مكمما حتى نسمع منهما.
جندي :
طاعة يا حضرة الضابط.
الشريف الثاني :
وسيكشف أمرنا كلنا لأنفسنا، قل لهما ذلك.
الجندي :
سأفعل يا سيدي.
الشريف الثاني :
وقل لهما إنني سألقي به في غيابة السجن وأعتقله إلى أن يفعل هذا. (يخرجان.)
المشهد الثاني (يدخل برترام والفتاة «ديانا».)
برترام :
لقد أنبئوني أنك تسمين فونتيبل.
ديانا :
كلا يا مولاي الكريم! بل ديانا.
برترام :
أنت الربة ذات اللقب، وإنك لجديرة به وبأكثر منه. ولكن أيتها الإنسانة الجميلة أليس للحب في هيكلك الجميل موضع؟ إذا لم يكن تشغل نار الشباب الشريفة المندلعة خاطرك فلست فتاة، من لحم ودم، بل أنت تمثال جامد، ولحين تموتين يجب أن تكوني كما أنت، باردة هامدة عبوسا لا تتحركين، أما الآن فيجب أن تكوني كما كانت أمك حين ولدتك، أيتها المخلوقة الحسناء.
ديانا :
لقد كانت يومئذ مخلصة وفية.
برترام :
فلتكوني أنت مثلها.
ديانا :
كلا، إن أمي أدت الواجب عليها، وهو يا مولاي ما أنت مدين به لزوجك.
برترام :
حسبك لا تزيدي في هذا الموضوع ولا تحاولي أن تقولي شيئا ضد إيماني، لقد أرغمت على زواجها إرغاما، ولكن قسما برباط الله المحبب أني سأؤدي إليك كل ما يوجبه ذلك الحب ويتطلبه من خدمات.
ديانا :
إي والله، إنك تخدمنا حتى نخدمك، ولكن إذا قطفت ورودنا، لم تترك لنا غير أشواكنا، لتشكنا، وتسخر من عرينا وخلاء وعودنا.
برترام :
لكم أقسمت، ولكم حلفت!
ديانا :
لا تحق الحق كثرة الأيمان،
6
ولكن القسم الأوحد الصريح هو الذي يشهد بالحق، وتحق الشهادة به، ونحن نذكر اسم الله نفسه حين نقسم يمينا، ولكن اسم الله نفسه لا يجعل الناس أكثر تصديقا للقسم إذا كان مغايرا للحقيقة. أرجو أن تنبئني هل تصدق أقسامي إذا أنا أقسمت بحقه وعظمة صفاته، أنني أحبك وأعزك، في حين أنني لا أستشعر حبا لك ولا إعزازا. لا خير في يمين بالله إذا عقدت النية على اقتراف عمل يغضبه، وارتكاب فعل لا يرضيه، إن أيمانك إذن ألفاظ سقيمة، وصفات وشروط - في رأيي على الأقل - غير مؤكدة ولا مضمونة.
برترام :
غيريها وبدليها، ولكن لا تكوني هكذا قاسية، في التمسك بالنقاء والقدسية، إن الحب مقدس، وأنا في صدق فطرتي لم أعرف يوما الخدع التي تتهمين الرجال بها، فلا تتباعدي، ودعي عنك الجفاء، وهبي نفسك لشهواتي «المريضة» حتى يتوانى لي البرء منها والشفاء،
7
قولي إنك لي، تشهدي أن حبي كما يبدأ، لن يكون له انتهاء.
ديانا :
أرى الرجال يحاولون أخذنا على غرة منا، أملا في إيقاعنا، في أثناء غفلتنا وطيشنا،
8
أعطني هذا الخاتم.
برترام :
أعيرك إياه يا عزيزتي، ولكن لا قدرة لي على النزول عنه.
ديانا :
أتأبى يا مولاي أن تعطينيه؟
برترام :
إنه شرف يتصل ببيتنا، توارثناه من أسلافنا ولو تخليت عنه لكان ذلك أكبر وزر في هذا العالم.
ديانا :
وشرفي أنا هو كهذا الخاتم، وعفافي هو درة بيتنا، توارثناها عن كثير من آبائنا، ولو تخليت عنه لاقترفت أكبر وزر في هذا العالم، وهكذا ترى أن منطقك نفسه يجعل بطولة الشرف في جانبي ضد عدوانك الباطل.
برترام :
ها هو ذا الخاتم خذيه، وليكن بيتي وشرفي وحياتي ملك يمينك، فانظري بماذا تأمرين.
ديانا :
إذا انتصف الليل فأطرق نافذة مخدعي، وسأحتاط للأمر حتى لا تسمع أمي، والآن عاهدني حقا أنك حين تغزو فراشي الذي كان حتى تلك اللحظة طاهرا عفيفا لن تمكث فيه غير ساعة واحدة ، وألا تكلمني خلالها، إن لدي أسبابا قوية، ستعرفها حين يرد هذا الخاتم إليك، وسأضع تحت جنح الليل في إصبعك خاتما سواه، ليبقي على الأيام رمزا لما أتيناه، وتذكارا لما فعلناه، فإلى الملتقى ولا تخلف الموعد، فقد ظفرت مني بزوج وإن كان أملي قد تحقق أو «أخفق».
9
برترام :
بل لقد نلت منك بالعشق جنة الأرض.
ديانا :
إذن فلتطل بك الحياة لتشكر رب الجنة وإياي، ولعلك في النهاية فاعل. (يخرج برترام.)
لقد نبأتني أمي كيف سيغازلني ويتودد، كأنها في صميم قلبه وتقيم وتتردد، لقد قالت لي إن الرجال في الأقسام والأيمان سواسية، وها هو ذا قد أقسم أن يتزوج بي، إذا ماتت زوجته وقضت، إذن سوف أعاشره في المهجع وأشاركه في المرقد، حين أدفن تحت الثرى وأوسد، وما دام الفرنسيون هكذا أهل خداع وتغرير، فإني أقسم أن سأعيش وأموت عذراء، وأحسب أن لا إثم في هذا التنكر للاحتيال على من يريد الفوز ظلما وبهتانا. (تخرج.)
المشهد الثالث (يدخل الشريفان الفرنسيان وجنديان أو ثلاثة.)
الشريف الأول :
أولم تسلم إليه كتاب أمه.
الشريف الثاني :
سلمته إليه منذ ساعة، وإن فيه لشيئا جارحا لشعوره، فقد كاد يستحيل إلى رجل آخر عند قراءته.
10
الشريف الأول :
إن عليه لتثريبا شديدا، أن ينفض عنه زوجا كريمة، وسيدة جميلة.
الشريف الثاني :
ولا سيما أنه استهدف لغضب مقيم من الملك، ونقمة لن تزول، برفض الهناءة التي عرضها عليه، وإباء السعادة التي اصطفاها له، وسأنبئك بأمر أرجو أن تطوي صدرك عليه.
الشريف الأول :
إن نطقت به كان هو الميت وأنا له القبر.
الشريف الثاني :
لقد غوى هنا في فلورنسا سيدة شابة عرفت بالعفاف، وسينفذ الليلة لأول مرة غرضه باستلاب شرفها، وقد أعطاها خاتمه التذكاري وهو يحسب أنه قد عوض عنه في مساومته الأثيمة.
الشريف الأول :
حمانا الله من الثورة على أنفسنا والغدر بذواتنا، فإنا نحن كما نريد أن نكون.
الشريف الثاني :
لسنا إلا غدرة خونة لأنفسنا، فلا نزال كدأب كل غدر، وشأن كل خيانة، نراها تتكشف، حتى تنال جزاءها الحقير الدنيء ، فمن يسيء إلى حسن سمعته، ويكيد كيده ليطيب أحدوثته، يغرق في تيار شهوته.
الشريف الأول :
أليس من نقمة الله علينا أن نكون المعلنين لمآربنا المحرمة، إذن لن نكون الليلة في صحبته.
الشريف الثاني :
حتى ينقضي منتصف الليل، لأنه الحريص على موعده، الحفيظ لساعته.
الشريف الأول :
إن الموعد يقترب بسرعة، ويسرني أن يرى صاحبه على المشرحة، حتى يتبين مدى الخطل في أحكامه، وفساد الرأي عنده، إذ يصر على تقدير هذا المحتال الذي اصطنعه لنفسه، أكثر من قدره.
الشريف الثاني :
لن نتدخل في أمره حتى يحضر، لأن حضوره سيكون السوط الذي يهوي على صاحبه.
الشريف الأول :
وإلى أن يأتي لنتحدث عن الحرب، ماذا لديك من أنبائها ...
الشريف الثاني :
سمعت أن هناك مفاتحة في الصلح.
الشريف الأول :
بل أؤكد لك أن صلحا قد أبرم.
الشريف الثاني :
وماذا ترى الكونت روسيون إذن صانعا؟ أتراه سيواصل أسفاره، ويوغل في ترحاله، أم سيعود إلى فرنسا.
الشريف الأول :
يبدو لي من سؤالك هذا أنك لست صاحب سره وأخا لمشورته.
الشريف الثاني :
لا قدر الله يا سيدي، حتى لا أكون شريكا له في أفعاله.
الشريف الأول :
اسمع يا سيدي، إن زوجه منذ شهرين فرت من بيته، وغرضها هو الحج إلى مزار سان جاك الكبير، وقد أدت هذا العمل المقدس على أتم وجهه، وجلال قدسيته، ثم أقامت بذلك الموضع ما شاءت أن تقيم، وهي فريسة للأحزان، لرقة طبيعتها، نهب للأسى من فرط لوعتها، حتى فاضت روحها وجادت بآخر أنفاسها، فهي اليوم تغني في السماء، وتشدو في الجنة.
الشريف الثاني :
وبأي شيء تؤيد النبأ؟
الشريف الأول :
إن أقوى البينات على صدقه كتبها، التي تؤيد قصتها بما فيه موتها نفسه، وإن موتها نفسه، وهو ما لا تستطيع هي أن ترويه، قد أيده قسيس الجهة.
الشريف الثاني :
أعند الكونت بكل هذا علم؟
الشريف الأول :
أجل ... بكل دقائقه، وجملة حقيقته.
الشريف الثاني :
يحزنني حقا أنه سيسر بها ويستريح إليها.
الشريف الأول :
لكم نجد السلوة والراحة في مغارمنا وخسائرنا أحيانا.
الشريف الثاني :
وكم أحيانا أخرى نغرق مغانمنا في لجة دموعنا؟، إن الشرف الباذخ الذي كسبه هنا ببسالته، سيقابل في وطنه بعار يعدل هذا الشرف في قوته.
الشريف الأول :
إن نسيج حياتنا مصنوع من خيوط جيدة وخيوط رديئة معا، وإن حسناتنا لتزهى وتفخر إذا لم تؤذها أغلاطنا، ولم تعلها بالسوط سيئاتنا، كما أن جرائمنا وخطايانا ستهوي بنا إلى الحضيض إذا لم تترفق بها فضائلنا. (يدخل رسول.)
ماذا وراءك، أين مولاك ...
الرسول :
لقي الدوق في الطريق يا سيدي، فاستأذن منه في السفر وسيرحل مولاي غدا إلى فرنسا، وقد حمله الدوق كتب توصية إلى الملك.
الشريف الثاني :
لن تجدي وإن بالغت في التوصية. (يدخل الكونت برترام روسيون.)
الشريف الأول :
ولن تخفف مهما تكن حلاوتها من مرارة غضب الملك وموجدته، ها هو ذا الكونت. كيف هذا يا مولاي، ألم ينقض منتصف الليل.
برترام :
لقد أنقذت الليلة ست عشرة مهمة، كل منها طولها شهر، فقد شرحت للدوق باختصار جملة فوزي في المعارك وانتصاراتي، ثم استأذنته في عودتي، وودعت المقربين منه، ودفنت زوجا، وحددت عليها، وكتبت إلى والدتي أنني عائد إليها، واستأجرت مطاياي، وبين هذه المهام الكبيرة قضيت أوطارا، أقل منها أخطارا، كان آخرها أكبرها، وإن لم أنته بعد منه.
الشريف الثاني :
إذا كانت هذه المهمة شاقة، وأنت غدا راحل من هذه الديار، فإن المهمة إذن تقتضيك العجلة والبدار.
برترام :
أريد بقولي أنها لم تنته أني أخشى أن أسمع عنها بعد، ولكن لنسمع هذا الحوار بين المهرج والجندي، هاتوا هذا المزيف المحتال، الذي خدعني، كالعراف الذي يجعل قوله على حرف، ويدع كلامه يحتمل معنيين، ويفتح على تفسيرين.
الشريف الثاني :
أحضروه إلينا. لقد قضى الليل كله مقيدا، هذا الوغد الجسور المسكين. (يخرج الجنود.)
برترام :
لا بأس، لقد أخذ بذنوبه، وساقت به رجلاه إلى الموضع الخليق به، بعد أن وضع المهماز في حذائه،
11
اغتصابا، وزعم الشجاعة والفروسية زورا وكذبا، وكيف كان سلوكه؟ ...
الشريف الثاني :
لقد نبأتك آنفا يا مولاي، بأن القيد في رجليه، فهو فيه مسلوك، ولكن إن شئت أن أرد عليك بالأسلوب الذي تفهمه أقول إنه يبكي كالمرأة التي سكبت لبنها، واعترف بكل ما اجترح من ذنوب لمرجان الذي ظنه قسيسا، فلم يغادر شيئا من عهد بداية وعيه إلى هذه اللحظة التي وضع فيها القيد في رجليه، إلا باح به، فماذا تظن أنه قال في اعترافه؟
برترام :
لا شيء فيه عني، أليس كذلك؟
الشريف الثاني :
لقد دونا اعترافه، وسيتلى عليه في محضره، فإن جاء فيه ذكرك، يا مولاي، وأعتقد أن ذكرك فيه وارد، فاصطبر لسماعه. (يدخل بارولس والترجمان.)
برترام :
اللعنة عليه، هذا المكمم، إنه لا يقدر أن يقول عني شيئا ... اغضض من صوتك، اغضض من صوتك.
الشريف الأول :
المعصوب جاء ... بورتو تروتوروسا.
الترجمان :
إنه يطلب لك آلة التعذيب، فماذا أنت قائل بغير حاجة إليها.
بارولس :
سأعترف بما أعرف، بغير إكراه، أما إذا شككتموني كما تشك الفطيرة، فلن أقول شيئا.
الترجمان :
بوسكو شمسرشو.
الشريف الأول :
بوبليبندو شكرموركو.
الترجمان :
إنك لقائد رحيم ... إن قائدنا يأمرك بأن ترد على أسئلتي المدونة.
بارولس :
سأرد صدقا، وأقول حقا، لأني أريد الحياة.
الترجمان :
يسأل أولا، كم عدد فرسان الدوق، ما قولك في هذا؟
بارولس :
خمسة آلاف أو ستة، ولكنهم ضعاف ولا يصلحون والجنود موزعون مبعثرون، والقواد محتالون مساكين، هذا هو قولي أغامر فيه بالسمعة والمهابة، وأرجو أن أوهب الحياة.
الترجمان :
هل أدون هذا الرد كما هو ...
بارولس :
افعل، إني مستعد أن أقسم بالسر المقدس عليه،
12
كيف وبأي طريقة تشاء.
برترام :
كلاهما سيان عنده، يا له فيه من عبد خسيس غير خليق بالنجاة.
الشريف الأول :
أنت مخطئ يا مولاي، هذا هو مسيو بارولس المحارب المقدام، كما اعتاد أن يصف نفسه، والجندي الذي جمع كل فنون الحرب ونظرياتها في عقدة ملفعته، والتمرس بها في جفن خنجره.
الشريف الثاني :
لن أثق بعد اليوم بإنسان، لأنه يحتفظ بسيفه نقي النصل نظيف السنان، ولن أصدق أنه قد حوى كل شيء ووعى، لأنه يرتدي ثيابا أنيقة.
الترجمان :
انتهينا من تدوين هذا الذي قلت.
بارولس :
لقد قلت خمسة أو ستة آلاف من الفرسان، ولقد أضفت أو نحوها اكتب هذا لأني أريد أن أقول الحق.
الشريف الأول :
إنه في هذا جد قريب من الحق.
برترام :
ولكني لا أشكره عليه، لطبيعة الأسباب التي دفعته إليه.
بارولس :
محتالون مساكين من فضلك اكتب هذا عني.
الترجمان :
لقد دونته.
بارولس :
شكر الخاضع يا سيدي، الحق حق، فإن أولئك المحتالين المساكين بشكل عجيب.
الترجمان :
اسأله وكم مشاتهم ... ماذا تقول في هذا؟
بارولس :
يمين الحق يا سيدي، سأقول الحق إذا قضي لي أن أعيش في الساعة الراهنة، دعني أتذكر، سبوريو مائة وخمسون وسباستيان مثلهم، وكوركيباس مثلهم وجاك مثلهم، وجوليتان وكوزمو ولورديك وجراتاي، مائتان وخمسون لكل منهم، وسريتي، التي تحت إمرتي، وسرايا شتوفر وفوموند، وبنتاي مائتان وخمسون كذلك، أعني أن الجملة، بين معطوب وسليم لا تتعدى، وحياتي، خمسة عشر ألفا، نصفهم لا يقوى على نفض الثلج عن قلانسهم، خشية أن تنتفض أجسامهم من هذا الجهد انتفاضا.
برترام :
ماذا يصنع به.
الشريف الأول :
لا شيء، ليتلق منا شكورا، سله عني وما مكاني عند الدوق.
الترجمان :
هذا مدون لدينا، سله هل في المعسكر ضابط فرنسي يدعى الكابتن ديمان،
13
وما منزلته عند الدوق وما مدى بسالته ونزاهته وخبرته بالحروب، وهل يعتقد أنه لا يمكن بالمال الطائل، والذهب الكثير، أن يرشي لينتقض ويتمرد، ما قولك في هذا وما علمك به.
بارولس :
أرجو أن تدعني أجيب عن كل سؤال من هذه الأسئلة على حدة، اسألنيها منفردة.
الترجمان :
هل تعرف هذا الضابط - ديمان؟
بارولس :
أعرفه، لقد كان صبي مرقع للملابس القديمة في باريس، فضرب بالسياط وطرد من خدمته لإغرائه بنتا بلهاء مسكينة من البنات اللاتي يتولى المختار رعايتهن، وهي ساذجة خرساء لم تستطع أن تقول له لا. (ديمان يرفع يده عليه وهو غاضب.)
برترام :
لا ترفع من فضلك عليه يديك، إني أعرف أنه سيلقى يوما حتفه.
الترجمان :
وهل هذا الضابط في معسكر دوق فلورنسا؟
بارولس :
نعم، على قدر علمي، وهو خسيس حقير.
الشريف الأول :
لا تنظر إلي هكذا، سنسمع عن مولاك حالا.
الترجمان :
وما مكانته عند الدوق؟
بارولس :
الدوق لا يعرف عنه إلا أنه ضابط حقير عنده، وقد كتب إلي منذ يومين يطلب إلي أن أطرده، وأظن أن كتابه معي في جيبي.
الترجمان :
سنفتشك.
بارولس :
في الحق يحزنني أن أقول إنني لا أعرف هل هو في جيبي أم هو في ملف مع كتب أخرى تلقيتها من الدوق، والملف في خيمتي.
الترجمان :
ها هو ذا، هذه ورقة، هل أتلو عليك ما فيها؟
بارولس :
لا أدري هل هي أم لا.
برترام :
إن ترجماننا يحسن قراءتها.
الشريف الأول :
كل الإحسان.
الترجمان :
يا ديانا ... إن الكونت أبله عنده ذهب كثير.
بارولس :
هذا ليس كتاب الدوق يا سيدي ... بل هو تحذير لفتاة عفة في فلورنسا تدعى «ديانا»، حتى لا تنخدع بإغراء كونت يدعى الكونت روسيون وهو غلام أحمق عاطل، ولكنه إلى جانب ذلك كله داعر عاهر، أرجوك يا سيدي أن تعيد الورقة إلى مكانها.
الترجمان :
كلا، سأقرأها أولا بعد استئذانك.
بارولس :
إن الغرض الذي أردته من ذلك الكتاب شريف، من ناحية الفتاة ومصلحتها، فقد عرفت هذا الكونت الشاب غلاما خطرا فاجرا كالحوت في افتراس العذارى، يلتهم كل ما يجده من لحم طري.
برترام :
لعنة الله عليك من نصاب محتال ظاهرا وباطنا.
الترجمان (يقرأ) : «فإذا أقسم لك قسما، فأمريه أن يلقي في إثره ذهبا، وما يلقيه خذيه، فهو إذا ابتاع شيئا نسيئه لا يؤدي أبدا ثمن ما يبتاع، إن من تحسن المساومة فقد أخذت نصف مكسبه. فساومي إذن وأحسني المساومة قبل أن تعطيه ما يريد، وقولي يا ديانا إن جنديا نبأك بهذا عنه، وحذرك هكذا منه، خليك مع الرجال، وإياك وقبلات الغلمان، وإذا كنت تريدين الحقيقة، فاعلمي أن «الكونت» مجنون وأنا بذلك عليم، يدفع قبل أن يملك، ولا يدفع وهو مدين ... المخلص إليك، في همسة في أذنيك ... بارولس».
برترام :
سيساط أمام الجيش، وعلى جبينه هذه الأبيات من الشعر.
الشريف الثاني :
هذا هو صديقك المخلص يا سيدي، واللغوي العريف بعديد الألسن، ومختلف اللغات، والجندي «القدير على كل شيء» في المعارك والساحات.
برترام :
لقد كنت من قبل أحتمل أي شيء إلا الهررة، والآن إنه لهر في عيني.
الترجمان :
يلوح لي يا سيد من نظرات قائدنا أننا سنضطر إلى شنقك.
بارولس :
حياتي أولا يا سيدي بأية حال، لا لأنني من الموت خائف، بل لأني كثير الذنوب، وأريد أن أكفر عنها بقية العمر، فدعني يا سيدي أعش في محبس، مقيدا أو في أي مكان، إذ حسبي أن أحيا، ويكفيني أن أعيش.
الترجمان :
سنرى ماذا يمكن أن نفعل، إذا كنت تعترف بكل شيء، فلنعد إلى الضابط ديمان، فقد رددت على السؤال الذي يتصل بمكانته عند الدوق، وعن مدى بسالته، فما قولك في نزاهته وأمانته؟
بارولس :
إنه لا يتورع عن سرقة بيضة من الدير يا سيدي،
14
وهو يحكي نيسوس
15
في اختطاف الفتيات وسلب عفتهن، ويعلن أنه الحناث بالأيمان، الناكث بالمواثيق والأقسام، وهو في الحنث بها أقوى من هرقل وأشد بأسا، وإنه في الكذب لذلق اللسان، فياض البهتان، حتى ليزري كذبه بالصدق، ويجعل الحق أشبه بالهذيان، والسكر هو أفضل صفاته، وأحسن سجاياه، فهو يشرب كالحلوف،
16
وفي نومه لا يحدث غير أذى يسير، إلا في الفراش والغطاء، وقد عرفوا هذا عنه، فجعلوا فراشه من القش، وليس عندي يا سيدي ما أزيده بسبيل أمانته، غير قولي إن لديه كل ما ينبغي للرجل الأمين ألا يكون لديه، أما ما ينبغي أن يتوافر عند الرجل الأمين، فليس عنده منه شيء.
الشريف الأول :
بدأت لهذا أحبه.
برترام :
لهذا الوصف الذي يصف به أمانته؟ اللعنة عليه، إنه يزداد عندي إمعانا في أنه الهر؟
الترجمان :
وما قولك عن خبرته بالحرب؟
بارولس :
يمين الله يا سيدي، لقد حمل الطبلة في طليعة فرقة الممثلين الإنجليز،
17
ولست أريد أن أكذب عليه، ولكني لا أعرف عن جنديته غير ما قالت، إلا أنه كان له في تلك البلاد الشرف يوما في العمل ضابطا في موضع يقال له «مايل أند»
18
للتدريب على ازدواج الصفوف، وكان بودي أن أضفي على هذا الإنسان من الأمجاد والمكارم كل ما في الإمكان، ولكني لست من هذا كله على يقين .
الشريف الأول :
لقد تجاوز في خسته الخسة ذاتها حتى بات منها كالعلم الفرد، والفذ الأوحد، فلا جناح عليه ولا تثريب.
برترام :
اللعنة عليه، إنه هر أبدا.
الترجمان :
إذا كانت صفاته بهذا القدر البخس فلا حاجة بي إلى أن أسألك هل يفسده الذهب، فيتمرد؟
بارولس :
إنه يا سيدي من أجل بضعة دراهم ليبيع عمره، ويتنازل عن إخلاصه، وميراثه ويحرم الوارث من تراثه أبد الآبدين.
الترجمان :
وما قولك في أخيه، الضابط ديمان الآخر؟
الشريف الثاني :
لماذا يسأله عني؟
الترجمان :
من يكون؟
بارولس :
غراب في العش ذاته، لا يماثل كثيرا أخاه في الطيبة والخير، ولكنه يفوقه كثيرا في الخبث والشر، ويجاوزه جبنا، وإن كان أخوه مشهورا بأنه من أجبن الجبناء، وهو في التقهقر أسرع من أي خادم فرارا، وفي التقدم إلى الحومة ينكل نكولا.
الترجمان :
إذا أنقذت حياتك هل تتعهد بخيانة دوق فلورنس؟
بارولس :
أي نعم، وقائد فرسانه الكونت روسيون.
الترجمان :
سأتحدث همسا مع القائد لأعرف بماذا يأمر. (على انفراد.)
بارولس :
لا طبول بعد الآن، اللعنة عليها جميعا، يخيل لي أنني أستأهل كل ما جرى، أمن أجل نيل رضاء ذلك الغلام الشهواني الذي يدعى الكونت ومخادعته أعرض نفسي لهذا الخطر، ولكن من كان يظن أن هناك كمينا وأنني واقع فيه.
الترجمان :
لا مفر يا سيد غير الموت، فالقائد يقول، إن مخلوقا مثلك، كشف بخيانة وغدر أسرار الجيش الذي يعمل فيه، وعرض بأناس لهم مكانتهم الرفيعة، وأقدارهم السامية، هذا التعريض الشنيع، لا يمكن أن يخدم الدنيا خدمة صادقة، ولا رجاء للعالم فيه، فلا مفر لك من الموت، أقبل أيها السياف اقطع رأسه.
بارولس :
يا مولاي وسيدي، أبق علي حياتي، أو دعني أرى بعيني مماتي.
الترجمان :
ليكن ما تريد فودع جميع أصحابك (يرفع العصابة عن عينيه)
انظر حولك هل تعرف أحدا هنا؟
برترام :
نعمت صباحا أيها الضابط الكريم.
الشريف الثاني :
بركات الله عليك يا ضابط بارولس.
الشريف الأول :
سلمت أيها الضابط النبيل.
الشريف الثاني :
أية تحية أحملها عنك إلى مولاي لافيه، لأنني عائد إلى فرنسا .
الشريف الأول :
هلا أعطيتني أيها الضابط الكريم نسخة من الأنشودة التي كتبتها إلى ديانا في حق الكونت روسيون، ولولا أنني جبان كما وصفت، لأرغمتك على إعطائي إياها إرغاما، ولكن وداعا. (يخرج برترام والشريفان.)
الترجمان :
لقد ضعت أيها الضابط، وذهبت حياتك، ولم تبق إلا ملفعتك هي وحدها التي لا تزال معقودة.
بارولس :
ومن ذا الذي لا يتحطم، إذا دبر له كيد؟
الترجمان :
إذا استطعت أن تلتمس لك بلدا لم يصب فيه بمثل هذا العار غير نسائه، جاز لك أن تنشئ فيه أمة قليلة الحياء، وداعا يا سيدي، إنني سأمضي إلى فرنسا أيضا، وسنتحدث فيها عنك أبدا. (يخرج.)
بارولس :
ولكني مع ذلك كله شاكر، ولو أني أوتيت قلبا كبيرا لانفجر من هول هذا انفجارا، لن أكون بعد اليوم ضابطا، بل سأكل وأشرب وأنام ككل عبد من عباد الله ضباطا أو أنفارا، ولألزم قدري، وأعرف شأني وخطري، فذلك وحده هو الكفيل لي بالحياة، فقل لمن يرى نفسه متفاخرا، «تقاجا» خف يوما كهذا، وسيأتي يوم يبدو كل تقاج فيه حمارا، وأنت أيها السيف اصدأ في جرابك، ويا أيها الحياء ابرد من أحرارك، ولتحيا يا بارولس آمنا مطمئنا بعارك، وما دمت بالعبث والتهريج قد هزئ بك، فليكن في الهزء توفيقك ونجاحك فإن لكل إنسان حي مكانا، ووسائل وأعوانا ... وإني للاحق بهم. (يخرج.)
المشهد الرابع
فلورنسا - حجرة في بيت الأرملة (تدخل هيلين والأرملة وديانا.)
هيلين :
أحسبك قد أدركت أنني لم أسئ إليك، والله على ما أقول شهيد، وأمام عرشه أجثو، قبل أن أتم القصد، وأبلغ المراد، لقد أديت إليه المأرب المطلوب، عزيزا لديه كالحياة، مما يجعل الوفاق، يطل من صدر التتري الصلد كالحجر الصوان، ويحدو إلى الشكر والامتنان، وقد نبئت أنه الآن في مارسيليا، ولدينا وسائل نقل مريحة إليها، فاعلمي أنهم يحسبونني ميتة، ذهبت من هذه الدنيا، وقد سرح الجيش، وأسرع زوجي عائدا إلى الوطن متهافتا، فبعون الله العلي العظيم، وبعد استئذان مولاي الملك الكريم، لا نلبث أن نلاقي الترحيب قريبا.
الأرملة :
أيتها السيدة الرفيقة ، لم تجدي في يوم من الأيام خادما يقبل أمرك بأحسن مما تقبلناه.
هيلين :
ولا سيدة، بل لا صديقة، أصدق الخاطر جهدا في العمل على مجازاة صنيعك، ومكافأة محبتك، وثقي أن الله أرسلني لكي أكون لابنتك بائنة، كما قدر لها أن تكون لي على زوجي ظهيرا ونصيرا، ولكن لكم الله أيها الرجال! ما أغرب شأنكم، حتى ليتسنى بلطف الحيلة، الاستعانة عليكم بما تكرهون، والانتفاع بما تغضبون، حين تخدعون في ظلمة الليل، فيمسي ما تكرهونه محببا، ويبيت ما تنفرون منه مشتهى مجتبى، كذلك هي الشهوة، تلهو بما لا ترضاه، وتعبث بما لا تهواه، وتستعيض بالحاضر عما هو بعيد، ولكنا إلى هذا الحديث عائدون وله على الأيام مزيد، وأنت يا ديانا، لا بد من أن تعاني بعض العناء، من أجلي، وتنفيذا لتعاليمي الأليمة.
ديانا :
اجعلي الموت والوفاء، مقترنين بما تأمرين، فإني طوع أمرك، متحملة ما تريدين.
هيلين :
لا يزال أمامك من العناء ما أرجو أن تحتمليه، وأنا عند كلمتي، بارة بعدتي، وسيدور الزمان فيأتي بصيف، يصبح للشجر فيه ورق وشوك، وجمال وأذى، وعذوبة ووخز، فلنرحل، إن مركبتنا على الأهبة، والوقت يدعونا أن نعجل، ولا ضير من البداية، إذا سعدت النهاية، والمثل الذي يقول خواتيم الأمور تيجانها صحيح على الدوام، والخاتمة هي تاج الأمور، ومهما تكن الوسيلة فإن الغاية هي التي تشتهر بين الناس.
المشهد الخامس
حجرة في قصر الكونتسة (تدخل الكونتسة ولافيه والمهرج.)
لافيه :
كلا، كلا، كلا، إن ابنك قد أضله مخلوق أفاق مهرج، خبثه لأن يفسد شبان أمة بأسرها، ويضل فتيان قوم بضلاله وأفنه، ليت زوج ابنك كانت حية إلى الساعة وابنك الآن هنا، أقرب إلى حظوة الملك منه إلى هذه النحلة الحمراء الذيل
19
الحقيرة التي أتحدث عنها.
الكونتسة :
وددت لو أني لم أعرفه، لقد كان في عيني ممات أفضل سيدة تحمد الطبيعة على خلقها، لو أنها كانت من لحمي ودمي، وكبدتني أعز أنين الأم، وأحب أوجاع الوالدة، لما كان لها عندي من الحب ما هو أقوى جذورا، ولا هو أشد تأصلا .
لافيه :
لقد كانت سيدة صالحة، لقد كانت سيدة صالحة، لا نظفر باقتطاف عشبة مثلها قبل أن ألف بقلة من غير نوعها.
المهرج :
حقا يا سيدي، لقد كانت السعتر الحلو الذي يوضع في «السلطة» أو قل هي العشب الإلهي.
20
لافيه :
إنها ليست أعشاب السلطة أيها الوغد، بل أعشاب الشميم
21
ذات شذى وعطر.
المهرج :
أنا لست بختنصر يا سيدي في علم الحشائش، ولا خبرة لدي بالأعشاب.
22
لافيه :
أيهما تقر أنك هو، أوغد شرير، أم ماجن مهرج؟
المهرج :
ماجن يا سيدي في خدمة امرأة، ووغد في خدمة رجل.
لافيه :
وما حد براعتك، ومدى امتيازك؟
المهرج :
أنزع من الرجل زوجته، وأؤدي أنا عمله.
لافيه :
فتكون وغدا في خدمته فعلا.
المهرج :
وأعطي زوجته عصاي يا سيدي لأخدمها.
23
لافيه :
أشهد لك، فأنت وغد ومهرج حقا.
المهرج :
في خدمتك.
لافيه :
كلا، كلا، كلا.
المهرج :
ولماذا يا سيدي؟ إني إذا لم أستطع خدمتك، استطعت خدمة أمير عظيم مثلك.
لافيه :
ومن يكون؟ أفرنسي هو؟
المهرج :
يمين الله يا سيدي إن له اسما انجليزيا، ولكنه أحر وجها في فرنسا منه في إنجلترا.
24
لافيه :
ومن هو هذا الأمير.
المهرج :
الأمير الأسود يا سيدي، أو أمير الظلام، أو بعبارة أخرى الشيطان.
لافيه :
خذ هذا الكيس فهو لك، ولست أعطيك إياه لكي أغريك بترك مولاك هذا الذي تتحدث عنه، بل لتظل في خدمته.
المهرج :
إنني حطاب يا سيدي أحب دائما النار العظيمة، وهذا المولى الذي أتحدث عنه يوقد نارا حامية، وهو بلا شك أمير العالم، فلتدع سموه، مستويا على ملكوته، أما أنا فحسبي الدار ذات الباب الضيق، لأنها في نظري خلو من الفخفخة والرواء، لا يدخلها ذوو الفطرة والجلال، وقد يدخلها بعض من القانعين أما الأكثرون فمن البرودة والوهن ورقة البدن بحيث يؤثرون الطريق المزدهر المؤدي إلى الباب الفسيح والنار الموقدة.
لافيه :
اذهب حيث شئت، فقد بدأت أمل منك، أقول لك هذا مقدما، لأني لا أحب أن أتشاجر معك، اذهب في سبيلك، واحرص على رعاية جيادي وحسن خدمتها، ولكن إياك والألاعيب والحيل في معاملتها .
المهرج :
إذا استخدمت الحيل معها، فهي بعض عاداتها ولازماتها، فهي من طبعها بمقتضى ناموس الطبيعة وشرعتها.
25 (يخرج.)
لافيه :
وغد ماكر، وخبيث.
26
الكونتسة :
إنه لكذلك، وكان دأب زوجي الراحل أن يلهو كثيرا به، ويستروح غالبا إليه، فهو هناك باق بأمره، ملازم القصر بحق توصيته، وهذا هو ما يجعله يعتقد أن له الإذن في قلة الحياء، والتصريح بالمجون والبذاء، والواقع أنه لا يخطو خطوا، بل يعدو عدوا أين يشاء.
لافيه :
إنني أستلطفه كثيرا، فليس ثمة من بأس، وكنت أهم بأن أنبئك، منذ علمي بوفاة السيدة الكريمة، وقرب مقدم ابنك إلى وطنه، أنني تكلمت مع مولاي الملك فرضي جلالته أن يتحدث بشأن زواج ابنتي، وتفضل بسبب حداثتهما، وصغر سنهما، ورضوانا منه، أن يكون هو أول من يقترح، ووعد جلالته أن يفعل، وينسى ما كان في نفسه من الموجودة على ولدك، فالأمر إذن مهيأ، والظرف مناسب، فما تقولين يا مولاتي؟
الكونتسة :
بكل سرور يا مولاي، وأتمنى من كل قلبي أن يتم ذلك.
لافيه :
إن جلالته سيأتي رأسا من مارسيليا، سليما معافى كما كان في الثلاثين، وسيصل إلى هنا غدا إن لم يكن الذي نبأني بهذا النبأ قد خدعني، ولكنه قلما تكذب أنباؤه في مثل هذه الأمور.
الكونتسة :
يسرني أن أرجو لقاءه قبل مماتي، وقد تلقيت كتبا تقول إن ابني سيكون هنا الليلة، فأرجو يا مولاي أن تبقى معي حتى تلتقيا.
لافيه :
سيدتي، لقد فكرت من قبل فيما يصح أن أعلل به المثول في حضرته.
الكونتسة :
سل تجب يا مولاي، حسبك شرفك الرفيع شفيعا.
27
لافيه :
مولاتي، لقد اتخذته أبدا مرشدا هاديا، وأحمد ربي على أنه لا يزال مجديا. (يدخل المهرج.)
المهرج :
أي مولاتي ... هنا عن كثب مولاي ابنك، وعلى وجهه قطعة من القطيفة،
28
ولا تعلم إلا القطيفة ذاتها، هل من تحتها ندبة من جرح، ولكنها قطعة كبيرة
29
جعلت خده الأيسر منتفخا متضخما، وتركت خده الأيمن حاسرا وعاريا.
لافيه :
إن الجرح النبل، أو الجرح الذي ينال بنبل، ميسم الشرف، فليكن جرحه كذلك.
المهرج :
ولكنه وجهك المقطع للشي والتحمير ...!
لافيه :
هيا نذهب يا مولاتي لنرى ابنك، إنني مشتاق إلى الحديث مع هذا الجندي الشاب النبيل.
المهرج :
يمين الله إنهم كثر، على رءوسهم قلانس رقاق فخمة، وريش جميل، تنحني بها الهامات، وتومئ لكل إنسان بالتحيات. (يخرجون.)
الفصل الخامس
المشهد الأول
شارع في مارسيليا (تدخل هيلين والأرملة وديانا وتابعان.)
هيلين :
لا بد من أن يكون هذا السفر السريع ليلا ونهارا، قد أجهدكما كثيرا! ولكن لم يكن لنا معدى منه ولا مفر، وما دمتما قد وصلتما الليل بالنهار، ورضيتما الجهد من أجلي وتجشم الأسفار، فثقا أن ديني لكما يزداد على الأيام، حتى لا يستطيع شيء أن ينزعكما من مودتي. (يدخل مدرب البزاة.)
إن هذا الرجل إذا سنحت الفرصة يستطيع بنفوذه وشفاعته أن ينهي أمرنا إلى مسامع جلالته، سلام الله عليك يا سيدي.
1
مدرب البزاة :
وعليك السلام.
هيلين :
سيدي، لقد رأيتك في بلاط فرنسا.
المدرب :
كنت أحيانا هناك.
هيلين :
أظن يا سيدي أنك لا تزال على شأنك من طيب الأحدوثة، وكريم الخلال، ولهذا تدفعني ظروف ملحة إلى الجرأة عليك، والانتفاع بفضلك، متخطية بذلك آداب اللياقة، وسأظل شاكرة لك ما حييت.
المدرب :
بماذا تأمرين؟
هيلين :
أن تتفضل فترفع إلى الملك هذا «المعروض» المتواضع وتعينني بكل ما أوتيت من جاه على المثول بين يديه.
المدرب :
إن الملك ليس هنا.
هيلين :
أتقول يا سيدي إنه ليس هنا؟
المدرب :
نعم، فقد سافر الليلة الماضية في عجلة لم تكن يوما من عادته.
الأرملة :
رباه ... ذهبت جهودنا سدى؟
هيلين :
لا تزال الأمور مرهونة بخواتيمها، ولكني يا سيدي وإن لم تكن الظروف مواتية، والوسائل غير ملائمة ولا مجدية، أسألك أين تراه ذهب؟
المدرب :
أكبر ظني أنه قصد إلى «روسيون»، وأنا إليها الساعة متجه.
هيلين :
رجائي يا سيدي ما دمت على الأرجح ستقابل الملك قبل أن يتاح لي المثول لديه، أن ترفع إليه هذا الملتمس وتزكيه، وهو أمر لا أحسبه ملقيا عليك ملاما، بل سوف يفيك على ما بذلت من جهد شكرا وعرفانا، وسألحق بك بكل سرعة في إمكاننا ، وعلى قدر ما تواتينا الوسائل.
المدرب :
سأفعل ذلك من أجلك.
هيلين :
وستجد نفسك مشكورا مهما يحدث بعد، فلنعد إلى خيلنا ولنذهب هيا بنا. (يخرجون.)
المشهد الثاني (يدخل المهرج، وبارولس.)
بارولس :
يا سيد لافاش،
2
خذا هذا الكتاب إلى السيد لافيه، لقد كنت فيما مضى يا صاح معروفا لديك أحسن من هذا وأجمل منظرا، حين كنت في ألفة وحسن الثياب، وروعة الهندام، ولكنني يا سيد «موحل» في مزاج «الحظ» وتقلبات «أحواله»
3
وتبدو علي أمارات تنكره لي وتغيره، ظاهرة جميلة.
المهرج :
حقا إن تنكر الحظ لقذر إذا كانت رائحته كما قلت تزكم الأنوف كما أرى، ولن آكل بعد اليوم من سمك الحظ ومقالاته، من فضلك دع الهواء يدخل.
4
بارولس :
كلا، لا حاجة بك يا صاح إلى إمساك أنفك، وحبس نشيقك، فإن ما قصدت بقولي إلا الاستعارة ...
المهرج :
فعلا يا سيدي، وإذا كانت استعارتك كريهة الرائحة أمسكت أنفي لأحمي شميمي منها، أو من استعارة أي إنسان آخر، من فضلك ابتعد عني.
بارولس :
أرجوك يا سيدي أن تسلم كتابي هذا.
المهرج :
أف، أرجوك أن تبتعد، هل تريد مني أن أسلم كتابا من «كرسي» الراحة،
5
إلى سيد نبيل من ذوي السماحة، انظر ها هو ذا قادم بنفسه. (يدخل لافيه.)
6
هذا يا مولاي وغد محظوظ أو هو قط الحظ، ولكنه ليس قط زيد
7
يهب شذى المسك منه، بل هو سقط في بركة إدباره الكدرة، وترعة أمواهه القذرة، فعلته كما يقول الأوحال، وساءت منه الحال، ورجائي يا مولاي أن لا تتناول من السمك غير «المبروك» الذي ينمو في المياه الرائقة،
8
لأنه يبدو رديئا، عفنا، خبيثا، ووغدا شقيا، وإني في بسمة حظي وإقبالي، أرثي لتنكره له وإدباره، وأتركه الآن لمولاي. (يخرج.)
بارولس :
مولاي، إنني رجل قسا عليه الحظ فخدشه.
لافيه :
وماذا تريد مني أن أفعل، لقد فات، وقت تقليم أظفاره، فما الذي فعلته في المكر بالحظ حتى خدشك، عهدي به السمح الكريم لا يخدش، والعدل لا يبقى طويلا على كل وغد أو خسيس، لقد لقيت جزاءك، خذ هذه لك (يعطيه قطعة من النقود) ، فالتمس من الكنيسة التوفيق بين الحظ وبينك.
9
فإن لدي عملا آخر.
بارولس :
أتوسل إليك أن تستمع إلى كلمة واحدة مني.
لافيه :
إنك ترجو درهما واحدا آخر، فخذه ووفر كلمتك عليك.
بارولس :
إن اسمي يا مولاي الكريم هو «بارولس».
10
لافيه :
أنت إذن تطلب أكثر من كلمة، يمين الله،
11
هات يدك، كيف حال طبلتك.
12
بارولس :
آه يا مولاي الكريم، لقد كنت أول من كشفني.
13
لافيه :
أحقا، وقد كنت أيضا أول من فقدك.
بارولس :
إن سماحتك يا مولاي لكفيلة بأن ترد إلي شيئا من الكرامة لأنك أخرجتني منها.
لافيه :
اخسأ أيها الوغد، أتطلب إلي أن أعمل عمل الله والشيطان معا؟ أحدهما يدخلك في رحمته، والآخر يخرجك منها (يسمع صوت النفير) ، ها هو ذا الملك قادم، كما يبدو من صوت النفير، سل عني بعد يا هذا، فقد كنت أتحدث عنك في الليلة الماضية، ولئن كنت أحمق ووغدا فلا نحرمك من طعامنا، أبدا، هلم اتبعني.
بارولس :
أحمد الله إليك. (يخرجان.)
المشهد الثالث
حجرة في قصر روسيون (طبول - يدخل الملك والكونتسة ولافيه والشريفان الفرنسيان والحاشية.)
الملك :
لقد فقدنا بموتها درة يتيمة وقد انحطت سمعتنا بذلك ولكن ابنك بحماقته وجنونه لم يدرك قيمتها، ولم يعرف لها قدرها كاملا.
الكونتسة :
قضي الأمر يا مولاي، وأرجو إلى جلالتك أن تعده فورة طبيعية من وقدة الشباب حين يتغلب الزيت والنار على قوة العقل فيكتسحانه ويظلان مخترقين مشتعلين اشتعالا.
الملك :
أيتها السيدة الجليلة لقد صفحت ونسيت كل شيء مع أن انتقامي منه كان مريش السهام، يرقب اللحظة الملائمة ليطلق رمياته، ويرسل قذيفاته.
لافيه :
أجد لزاما علي أن أقول ... ولكني أبدأ أولا باستماحة جلالتكم عفوا وغفرانا ... إن الأمير الشاب أساء إلى جلالتكم، وإلى أمه، وزوجه، إساءة بالغة، ولكنه أساء إلى نفسه أشد الإساءات كلها، وظلمها ظلما مبينا، لقد فقد زوجا كان جمالها قبلة أوسع الأعين خبرة بالحسان، وكلامها يأسر الآذان، ويفتن الأسماع، وكمالها يخضع لها القلوب الأبية، ويحملها على أن تدعوها في خشوع مولاتي.
الملك :
إن مدح ما فقدناه، يعزز ذكراه، والآن ادعوه إلينا، فقد رضينا عنه وصفحنا، وأول لقاء كفيل بإزالة ذكرى كل ما مضى من إساءات، فلا تدعوه يسألنا غفرانا، فقد نسينا ما كان منه، بل أكثر من النسيان، لقد دفنا كل مخلفاته، وبقية تذكاراته فليمثل في حضرتنا جديدا علينا، كأن لم يأثم من قبل ولم يسئ، وأبلغوه أن هذه هي مشيئتنا.
أحد السادات :
سمعا وطاعة يا مولاي. (يخرج.)
الملك :
وما قوله في ابنتك، هل تحدثت في الأمر؟
لافيه :
إن أمره كله رهن بمشيئة جلالتكم.
الملك :
إننا إذن أمام خطيب كفء، فقد تلقيت كتابا تنوء به وترفع من ذكره. (يدخل الكونت برترام.)
لافيه :
إنه يبدو جديرا به.
الملك :
أنا لست بالنهار الرائق فقد تشهد عيناك في شمسا ساطعة، والبرد من سمائي منهمرا في وقت واحد، ولكن على مطلع الأشعة الباهرة، تتراجع السحب المتكاثرة، فلتقم حيث أنت فقد عاد الزمان صفوا.
برترام :
أيها المولى العزيز مغفرة لما فرط مني، وندمت عليه أشد الندامة.
الملك :
انتهى كل شيء، فلا تذكر الماضي بكلمة أخرى فقد انقضى، ولك الساعة التي أنت فيها، فلنمسك بالفرصة من جدائلها، فقد أدبر العمر بنا، وقدم الزمان، في دبيبه الخافت وخطوه الصامت، متسللا، إلى أعجل ما نقرر قبل أن ننفذه، وأسرع ما تشاء، قبل أن ننجزه ...
أذاكر أنت ابنة هذا الشريف؟
برترام :
بإعجاب يا مولاي، فقد وقع اختياري أولا عليها، قبل أن يجسر فؤادي على أن يتخذ لساني رسولا، أو يوفد مقولي إليها بشيرا، ولم يلبث أثر جمالها في ناظري أن جعل الإزراء بكل جمال سواه يعيرنه مرآته، فبدا كل وجه آخر منكور المعارف، مسفوع اللون، غير متناسب القسمات، دميما تنبو عنه النظرات، ومن ثم كانت، التي تلهج ألسنة الناس بمديحها، والتي أحببتها منذ أن فقدتها، تبدو قذى في عيني، وأذى لناظري.
الملك :
أحسنت التشفع، وأجدت التبرير، فإن حبك لها يمحو بعض المفردات من الحساب، ولكن الحب الذي يأتي متأخرا هو أشبه بالعفو الرحيم الذي يأتي وانيا، بعد تنفيذ العقاب، ويصبح من الحسرة أنه أقبل بعد ذهاب، وأن من تولى كان طيبا، ومن توارى كان كريما لا يعاب، إن طيشنا ليبخس أخطر الأشياء لدينا أثمانها، ويقلل من أقدارها وموازينها، فلا نعرف خطرها حتى نخسرها، ولا ندرك فضلها، حتى نوسدها في قبرها، وإنا لنظلم أنفسنا كثيرا بمطاوعة نفورنا، فنقضي على أصحابنا، وندمر أحبابنا، ثم نبكي على ترابهم، ويصحو حبنا فجأة من غفوته، لينوح ندامة على فعلته، في حين ينام كرهنا المستهتر نومة الظهيرة مستخفا بجريمته، فليكن هذا بمثابة ناقوس الممات، لهيلين الجميلة الكثيرة الحسنات، والآن فانسها وابعث بأمارات حبك لمجدلين الحسناء، وقد تم الاتفاق على القران، بين ذوي الشأن، وسنقيم هنا حتى تحضر يوم الزفاف الثاني لأرملتنا.
الكونتسة :
ليجعله الله أسعد من الأول وأوفر بركات، وأن يتمه بخير قبل أن يدركني الممات.
لافيه :
هلم يا بني، يا من سيقترن اسم عشيرتي باسمه على الزمان، هلم قدم رمز حب منك إلى ابنتي يتلألأ في روحها، ويملأ جوانحها بريقا وسناء، فتسرع في القدوم إلينا (يقدم برترام خاتما)
وحق لحيتي هذه، وكل شعرة من شعراتها، إن هيلين التي قضت كانت مخلوقة محببة، وكان هذا الخاتم في إصبعها، آخر مرة زرت فيها البلاط.
برترام :
لم يكن خاتمها.
الملك :
دعني أشهده، فكثيرا ما كانت عيني تستقر عليه حين كنت أتكلم (يتناوله من لافيه ويدخله في إصبعه) ، هذا كان خاتمي أعطيته لهيلين وقلت لها إذا خانها الحظ واحتاجت إلى المعونة، فليكن هذا الرمز مذكرا لي فأبادر إلى معونتها، فهل أوتيت من الدهاء ما استطعت به أن تحرمها مما كان لها أعز سناد وأكبر نصير.
برترام :
مولاي المعظم، مهما يسرك أن يكون الأمر كما قلت، فلم يكن هذا الخاتم يوما خاتمها.
الكونتسة :
أي بني، إني أقسم بحياتي أني رأيتها تلبسه، وكانت تعتز به اعتزازها بالحياة ذاتها.
لافيه :
إنني واثق أنني رأيتها تلبسه.
برترام :
أنت واهم يا مولاي، فما وقعت عينها يوما عليه، لقد ألقي إلي وأنا في فلورنسا من شرفة، ملففا في ورقة تحوي اسم التي ألقته، لقد كانت كريمة نبيلة النفس ، وقد ظنت أنني خطبتها، ولكني لما أفصحت لها عن شئوني، ونبأتها صراحة أنني لا أستطيع الاستجابة إلى هذا الشرف الذي فاتحتني فيه، كفت عني آبية آسية، ورفضت أن تسترد الخاتم ثانية.
الملك :
إن بلوطس
14
نفسه العليم بطبائع المعادن وخواصها، لم يؤت من أسرار الطبيعة مثل علمي بهذا الخاتم وقيمته، إنه خاتمي، بل خاتم هيلين، أيا كانت من أعطتك إياه، فإن كنت واثقا من نفسك فاعترف أنه خاتمها، وقل بأية وسيلة من وسائل العنف حصلت عليه منها، لقد أقسمت أمامي بكل القديسين ألا تخلعه من أنملتها أبدا، إلا إذا أعطتك إياه في فراشها الذي لم تذهب إليه، أو تبعثه لنا إذا حلت بها أعظم كارثة.
برترام :
إنها لم تره في حياتها.
الملك :
وحق شرفي الذي أغلو به، إنك لتقولن كذبا، وتدخلن في روعي مخاوف وهواجس أود لو أني سددت عليها السبيل، فإذا ثبت لي أنك مجرد من كل شعور إنساني ... وهو ما لن يثبت، وإن كنت إلى الآن لا أعلم - لقد كنت تكرهها كراهية مميتة، وهي اليوم ميتة، وليس ثمة شيء أدعى إلى تصديق مماتها، من رؤيتي هذا الخاتم الذي كان في أنملتها، إلا أن أكون أنا الذي توليت بيدي إغماض عينيها ... اغربوا به عني ... إن ما جربته فيما مضى من أمرك، مهما تكن نتيجة هذه المسألة التي ننظر فيها، تجعلني الملوم على أنني من حماقتي لم أسترب بك إلا قليلا، وكانت الحكمة تقتضيني أن أستريب كثيرا، اذهبوا به ... فسوف نبحث في هذا الأمر فيما بعد ونتقصى وجه الحق فيه.
15
برترام :
إذا أثبت أن هذا الخاتم كان يوما خاتمها، فقد دللت على أنني عاشرتها في فلورنسا، وهي لم تطأ أرضيها بقدميها. (يخرج.) (يدخل أحد السادات.)
الملك :
لقد استولت على نفسي أفكار أليمة وخواطر قاتمة.
السيد :
إي مولاي العظيم، لست أدري هل تراني أخطأت أم لم أخطئ، هذه عريضة من امرأة فلورنسية، لم تستطع لكثرة تنقلات مولاي ورحلاته، أن تقدمها بنفسها إلى سدتك، فتعهدت لها، وقد غلبني جمالها، وحسن قولها، وكثرة توسلاتها أن أقدمها لجلالتك، وقد علمت الآن أنها هنا في انتظار أمرك، ويبدو لي أن الأمر خطير، فقد أنبأتني في حديثها العذب وشرحها اليسير أن أمرها يهم مولاي.
الملك (يقرأ الخطاب) : «... يخجلني أن أقول إنه استطاع بعد توكيداته، وكثرة توسلاته، في سبيل الزواج بي، بعد ممات زوجته، أن يغلبني على أمري، وها هو ذا الكونت روسيون قد ترمل، فحنث في عهوده، ونال من شرفي بكنوده، متسللا من فلورنسا غير مودع ولا مستأذن، وقد جئت في أثره إلى وطنه أنشد العدالة، فامنحنيها أيها الملك، لأنك خير ممثليها، وأعلى منارها، وألا يصبح الكاذب الغواء موفقا مظفرا، ويذهب شرف فتاة مسكينة مطلولا مهدرا».
ديانا كابليت
لافيه :
إني لأوثر أن أشتري لابنتي زوجا من السوق وأبيع هذا، لن أرضى به نسيبا.
الملك :
لقد كانت السموات عليك حانية، يا لافيه!، فكشفت عن هذا الأمر النقاب، إيتوني بهؤلاء الطالبين، أسرعوا ولتعيدوا الكونت إلى حضرتنا. (يدخل برترام.)
أخشى أيتها السيدة أن تكون حياة هيلين قد اختطفت غيلة وغدرا.
الكونتسة :
الآن لتأخذ العدالة الآثمين بإثمهم.
الملك :
عجبي لك يا فتى، تكره النساء أزواجا، وتتخلص منهن حين تقسم اليمين على قبولهن، ثم لا تزال تطلب قرانا، من تكون هذه المرأة ... (تدخل الأرملة وديانا وأحد السادات.)
ديانا :
أنا يا مولاي فلورنسية منكودة، من أسرة كابليت القديمة، وقد فهمت أنك عرفت بأمر قضيتي، وعرفت أن حالتي تستحق الرثاء ...
الأرملة :
وأنا أمها يا مولاي، تعرض كبرها وشرفها للمساءة، وقد شرحناها في هذا الكتاب الذي رفعناه، فإذا لم تعالج الأمر يا مولاي بحكمتك ورحمتك، قضي على حياتي وشرفي معا.
الملك :
أقبل أيها الكونت، هل تعرف هاتين المرأتين؟
برترام :
ليس في وسعي يا مولاي أن أنكر معرفتي إياهما، ولن أنكر هذه المعرفة، فهل لديهما غير هذه التهمة؟
ديانا :
لماذا تنظر إلى زوجك هكذا مستغربا؟
برترام :
إنها ليست زوجا لي يا مولاي.
ديانا :
إذا أنت تزوجت بعدي، نقضت هذه اليد، وهي يدي، ونقضت اليمين، وهي يميني، ونزعت نفسي، وهي بين جنبي، لأنني بحق اليمين جزء لا يتجزأ منك، ومن تتزوج بك، لا بد أن تتزوجني، فإما نحن معا، أو لا.
لافيه :
إن سمعتك لا تلائم ابنتي، وأنت لست لمثلها أهلا.
برترام :
إن هذه المخلوقة يا مولاي فتاة حمقاء مستيئسة كنت أحيانا ألهو بها وأعبث، فأحسن بي الظن يا مولاي، ولا يخامرك في شرفي سوء، فتظن أنني إلى مثل هذا الدرك نزلت به.
الملك :
لن أحسن بك الظن، حتى تكسب فعالك حسن ظني حقا، فأثبت شرفك، وأزل ما علق به في خاطري.
ديانا :
تفضل يا مولاي فسله أن يقسم هل تراه لم يمسس عذرتي، وينل من عفتي.
الملك :
ماذا تقول لها؟
برترام :
إنها وقحة يا مولاي، وكانت ألعوبة عامة يلهو بها المعسكر.
ديانا :
إنه يظلمني بهذا القول يا مولاي، فلو أني كنت كما يصف لاشتراني بثمن المرأة العامة، فلا تصدقه، ألا انظر إلى هذا الخاتم الذي لا مثيل له في غلو قدره، ورفعة جوهره، ومع ذلك لقد أعطاه إلى «ألعوبة عامة» يلهو بها المعسكر، لو أنني كنت كما وصف.
الكونتسة :
لقد علاه الخجل، إذ أصابته في الصميم، إن هذا الخاتم الذي ظل ستة أجيال تراثا يتوارثه الخلف عن السلف، وقد أعطي إليها فلبسته، هي إذن زوجه، وهذا الخاتم على الزواج يقوم مقام ألف دليل.
الملك :
أحسبك قلت إنك رأيت في البلاط أحدا يصح أن يكون شاهدا.
ديانا :
أجل يا مولاي، وإن كرهت أن ألجأ إلى هذه الأداة السيئة، إن هذا الشاهد يدعى «بارولس».
لافيه :
لقد رأيت الرجل اليوم، إذا تجاوزت فوصفته بأنه رجل.
الملك :
ابحثوا عنه وأتوا به إلينا. (يخرج الخدم.)
برترام :
أمثله يصلح شهيدا، وهو المعروف بأنه أسوأ عبد ختلا وغدرا، وأكثرهم في هذه الدنيا معابا ونكرا، لتأبى خليقته الدنسة أن تقول الحق، فهل يقضى علي بهذا أو ذاك حسبما يقوله هذا الإنسان الذي لا يأبى أن يقول أي شيء؟
الملك :
إن لديها خاتمك.
برترام :
أظن ذلك، ففي الحق لقد راقتني، فاستمتعت بها في نزوة من نزوات الشباب، لقد عرفت كيف تناضل، فاتخذتني صيدا، وراحت تتأبى لتزيدني لهفة، وتوقا ووجدا، لأن الحوائل حين تقوم في طريق الرغبة تزيد الراغب شوقا وسعيرا، وجملة القول إنها عرفت بمكرها الذي لا حد له، وجمالها العادي كيف تخضعني لمشيئتها، فظفرت مني بالخاتم، وظفرت منها بما كان من دوني ظافرا به بسعر السوق إذا طلبه.
ديانا :
سأصبر على هذا، أنت الذي نبذت زوجا كريمة، كزوجك الأولى، لا تتورع من أن تنكرني إنكارا، ولكني أرجوك - ما دمت من المروءة مجردا، فإني لن أكون لك زوجة - أن تبعث في طلب خاتمك، لأرده إليك، واردد علي خاتمي.
برترام :
ليس لدي خاتمك.
الملك :
وما هو خاتمك هذا؟ أرجوك أن تفصحي.
ديانا :
إنه يا مولاي يشبه كثيرا الخاتم الذي في إصبعك.
الملك :
أتعرفين هذا الخاتم؟ لقد كان خاتمي من عهد غير بعيد.
ديانا :
وهو الذي أعطيته إليه ونحن في الفراش.
الملك :
أهذه إذن قصة كاذبة؟ لقد ألقيت به إليه من النافذة.
ديانا :
لقد قلت الحق يا مولاي. (يدخل بارولس.)
برترام :
مولاي، إنني أعترف بأنه خاتمها.
الملك :
ما بالك تضطرب هكذا، وتفزع من كل ربشة (إلى ديانا)
أهذا هو الرجل الذي تحدثت عنه؟
ديانا :
أجل يا مولاي.
الملك :
نبئني يا هذا، وإني آمرك أن تقول الحق، ولا تخف غضب مولاك، لأني منه إذا صدقت أحميك، ماذا تعرف عنه وعن هذه المرأة الماثلة أمامنا؟
بارولس :
لتكن مشيئتك يا مولاي، لقد كان سيدي رجلا شريفا؟ وله حيل وألاعيب ككل السادة.
الملك :
حسبك، حسبك، وليكن كلامك في الموضوع، هل أحب هذه المرأة؟
بارولس :
حقا يا مولاي، لقد أحبها، ولكن كيف؟
الملك :
كيف؟ قل من فضلك.
بارولس :
لقد أحبها يا مولاي كما يحب كل سيد امرأة.
الملك :
وكيف ذلك.
بارولس :
أحبها يا مولاي ولم يحببها.
الملك :
كقولنا أنت وغد ولست وغدا، أي مغالط مماحك هذا المخلوق.
بارولس :
إنني رجل فقير تحت أمر جلالتكم.
لافيه :
إنه طبال بارع يا مولاي، ولكنه خطيب لا قيمة له.
ديانا :
هل تعرف أنه وعدني بالزواج؟
بارولس :
والله إني أعرف أكثر مما أريد أن أقول.
الملك :
ولكن هلا قلت كل ما تعرف؟
بارولس :
أمرك يا مولاي ... لقد كنت وسيطا بينهما كما قلت، ولكنه كان يحبها، بل كان بها محبا مستهاما، وكان يتحدث عن الشيطان والجحيم، وآلهة الانتقام، وما إلى هذا مما لا أعرف شيئا عنه، ولكني كنت موضع رضاهما في تلك الأيام، ومناط ثقتهما، فعرفت نبأ ذهابهما إلى الفراش، وأشياء أخرى كالوعد بالزواج، وغيره مما تنفر منه نفسي إذا تكلمت أنا عنه، ولهذا لا أقول ما أعرف.
الملك :
لقد قلت الآن كل شيء إلا إذا كنت لا تستطيع أن تقول إنهما متزوجان، ولكنك في شهادتك داهية لبق، قف جانبا، أتقولين إن هذا الخاتم خاتمك؟
ديانا :
أجل يا مولاي.
الملك :
ومن أين اشتريته؟ أو من هو الذي أعطاك إياه؟
ديانا :
لم أعط إياه ولم أشتره.
الملك :
ومن أعارك إياه؟
ديانا :
ولم يعرنيه أحد أيضا.
الملك :
أين وجدتيه إذن؟
ديانا :
لم أجده.
الملك :
إذا لم يؤل إليك بإحدى هذه الوسائل، فكيف أعطيته إياه؟
ديانا :
لم أعطه إياه.
لافيه :
إن هذه المرأة قفازة سهلة يا مولاي، تدخل في الكف وتخرج كما تريد.
الملك :
إن هذا الخاتم خاتمي، أعطيته زوجه الأولى.
ديانا :
لا أدري هل هو خاتمك أم خاتمها.
الملك :
انصرفوا بها، لم أعد أطيقها، اذهبوا إلى السجن بها، وأبعدوه من هنا، إذا لم تقولي لي من أين جاءك هذا الخاتم، فأنت هالكة الساعة.
ديانا :
لن أقول لك.
الملك :
اذهبوا بها.
ديانا :
سآتي بكفيلي يا مولاي.
الملك :
أحسبك الآن امرأة عامة.
ديانا (موجهة القول إلى لافيه) :
والله إن كنت عرفت في حياتي رجلا فهو أنت.
الملك :
علام ظللت تلقين التهم عليه كل هذا الوقت؟
ديانا :
لأنه مذنب وليس مذنبا، إنه يعرف أنني لست عذراء ولا يتردد في أن يقسم على ذلك، ولكني أقسم أنني عذراء، وهو لا يعرف، أيها الملك العظيم أنني لست بغيا، بل وحياتي إنني إما أن أكون عذراء، أو لهذا الشيخ زوجا.
16
الملك :
إن كلامها يؤذي أسماعنا، اذهبوا بها إلى السجن.
ديانا :
أماه العزيزة هاتي كفيلي. (تخرج الأرملة ) ، مهلا يا صاحب الجلالة، فقد أرسلت في طلب الجوهري الذي يملك الخاتم وهو سيؤيد قولي، ويعزز بياني، أما هذا الأمير الذي ابتذلني كما يعرف، وإن لم يؤذني، فإني أبرئ ذمته، وأقيله من تهمته، إنه يعرف أنه قد دنس فراشي وفي الوقت ذاته أولد زوجه ولدا، ولئن كانت قد ماتت، فلا تزال تحس وليدها يرفس بساقه، هذا هو لغزي، إن الميتة على قيد الحياة، فانظر يا مولاي، في معناي، وتدبر المقصد والمراد. (تدخل هيلين والأرملة.)
الملك :
وي، ألا يوجد صاحب رقى وتعاويذ يعيد إلى ناظري وظيفتهما الحقة، هل أبصر حقا، وأرى يقينا ...
هيلين :
كلا، يا مولاي الكريم، إن تبصر إلا ظل زوج، ولا ترى منها غير الاسم.
برترام :
الاسم والمعنى معا ... مغفرة وصفحا.
هيلين :
أواه، يا مولاي الكريم، لقد وجدتك ودودا إلى أبعد حد حين كنت شبيهة بهذه الفتاة، ها هو ذا خاتمك، وها هو ذا كتابك، وأنت القائل فيه: «إذا استطعت يوما أن تظفري بهذا الخاتم من أصبعي، وتأتيني بولد من صلبي وأضلعي» ... إلخ، وقد تحقق الآن ما قلت، فهل أنت لي، بعد أن ظفرت بك مرتين؟
برترام :
إذا استطاعت يا مولاي أن تشرح لي هذا الأمر جليا، أوليتها الحب عزيزا غاليا.
هيلين :
إذا لم يبد هذا جليا، أو كان أمرا فريا، فليفصل الطلاق المميت بيني وبينه أبديا ... من ذا أرى ... أمي العزيزة حية؟
لافيه :
لقد هجم الدمع في عيني (إلى بارولس)
أعرني يا ذا الطبلة منديلا، شكرا لك، وانتظروني في دارنا، سألهو بك، ولكن كف عن هذه التحيات والانحناءات، إنها ذليلة مهينة.
الملك :
دعونا نعرف القصة بحذافيرها، ليستفيض الصدق الصراح من معالمها وصورها، فتفرح بها نفوسنا، وإن كنت لا تزالين زهرة صبيحة لم تقتطف (يخاطب ديانا)
فاختاري زوجك وعلي مهرك، ويذهب بي حدسي إلى أنك بجهدك الصادق الشريف، حرصت على أن تكوني زوجا، وأن تظلي عذراء، وسنفرغ لجلاء هذا الأمر في مختلف أدواره، كل ما جرى كان خيرا، فإذا كان الخير في النهاية، كان الماضي في مرارته، أحلى وأعذب في خاتمته. (طبول.)
نشيد ختامي
أصبح الملك متسولا، بعد اختتام المسرحية، وما دامت القضية قد اكتسبت، فقد انتهى الأمر كله بسلام، فلتعلنوا عنها رضاكم، تجدوا عليه منا اجتهادا في إرضائكم، وفي كل يوم بعد الآخر مزيد، فليكن لنا صبركم علينا، وليكن لكم مثل أدوارنا، مدوا إلينا أيديكم، وخذوا منا قلوبنا. (يخرجون.)
अज्ञात पृष्ठ